| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأربعاء 30/7/ 2008

 

لنتعلم الحكمة من الذين وقعوا معاهدات قبلنا

صائب خليل

إن التصور بأن ألإتفاق على قواعد أمريكية شأنه كشأن أي اتفاق أخر ينتهي بسلاسة بانتهاء العقد، أو متى شاءت الدولة المضيفة أن تنهيه إذا خرج الجانب الآخر على الإتفاق مثل استعمال تلك القواعد لضرب البلاد، تصور لايستند إلى الواقع وغير مضمون على الإطلاق.
لا شك أن كوبا خير مثال على الدولة التي طالما استعملت القواعد الأمريكية المتواجدة فيها للتآمر على حكومتها، ومازالت تصرخ منذ نصف قرن مطالبة بخروج القوات وتصفية القواعد، دون جدوى. لقد ورث الحكم تلك القواعد ولا يعلم إلا الله متى سيمكن لكوبا التخلص منها.

لكن الأمر لايقتصر على كوبا بالطبع، فالتحرش بالقواعد العسكرية الأمريكية وقواعد الـ "سي آي أي" خطر داهم تفكر حكومات البلدان ألف مرة قبل التحرش به. ولعل آخر ظواهر هذا الخطر مقالة نشرت مؤخراً تتساءل إن كانت الـ "سي آي أي" ستقتل رئيس الإكوادور المنتخب "رافاييل كوريا" أم ستزيحه من منصبه؟ والسبب في ذلك حسب جاكوب هورنبرغر هو أن الرئيس الأكوادوري قد أقال وزير دفاعه ورئيس مخابرات الجيش وقيادات في الجيش والقوة الجوية وآخرين، بسبب اكتشافه أن الجهاز الأمني الأكوادوري قد اخترق تماماً ويسير من قبل السي آي أي. ويشير الكاتب إلى أن مثل هذه الخطوات تعتبر تابوا خطيرا تعلمه قادة البلدان في كل أنحاء العالم، وقد يؤدي إلى انقلابات وأغتيالات.
"ولزيادة الطين بلة" يمضي الكاتب "فأن الرئيس كوريا وعد بطرد القوات العسكرية الأمريكية عند انتهاء عقدها للقاعدة العسكرية في مانتا عام 2009" فلقد صرف الجيش الأمريكي 60 مليون دولار لبناء تلك القاعدة عام 1999 التي لايتطلب عقدها دفع إيجار للأكوادور. السبب الرسمي للقاعدة هو محاربة تجار المخدرات، لكن الحكومة اكتشفت أنها هربت مؤخراً معلومات إلى كولومبيا ساعدت الأخيرة في القيام بغارة تستهدف مطاردة ثواراً كولومبيين في داخل حدود الإكوادور، في تشابه مدهش مع ما حدث مع حزب العمال الكردستاني في العراق!
وينتهي الكاتب قائلاً انه لحسن حظ الأكوادور فإن شعبها يقف مع رئيسه بقوة للتخلص من قاعدة السي آي أيه والجيش الامريكي في بلاده، وتمنى لو أن الشعب الأمريكي هو الذي تخلص من قواعد بلاده العسكرية. (1)

وحتى عندما يحالف البلاد الحظ وتخرج هذه القوات فإنها تترك في الغالب "الغاماً" خطرة على مستقبل تلك البلاد. يكتب وليام بلوم في "قتل الأمل" ص 290: "عندما غادرت القوات الأمريكية نيكاراغوا للمرة الأخيرة عام 1933 تركت خلفها هدية سيذكرهم بها شعب نيكاراغوا: "الحرس القومي" بقيادة أناستاسيو سوموزا مثلما تركت عام 1924 تروخيلو لشعب الدومنيكان. وبعد ثلاث سنوات استولى سوموزا على السلطة بمساعدة الحرس القومي ليؤسس سلالة حكم عائلية لنيكاراغوا أداروها وكأنها ملك شخصي لهم لمدة 43 عاماً."
وبالطبع ذاقت الدومنيكان من دكتاتورها الدموي تروخيلو ونيكاراغوا من سوموزا طعم الدماء والدمار سنين طويلة، وهو ما ذاقه شعب العراق منذ ساعدت أميركا حزب البعث في الوصول إلى السلطة كما اعترف قادته، وأسس "حرسه القومي" أيضاً بنفس الفكرة ونفس الأسماء مما يشير إلى أن المعلم كان في الحالتين واحداً. ولم يقتصر تشابه مؤامرات الـ سي آي أي والجيش الأمريكي على الأسماء، فمن المعروف في العراق أن الأمريكان قدموا للمتآمرين من الحرس القومي قوائم بأسماء الشيوعيين الذين يجب قتلهم، وقد فعلت قاعدة السي آي أي في أندونيسيا نفس الشيء بعد عامين، في الإنقلاب الدموي على سوكارنو والذي قدر عدد ضحاياه بمليون قتيل. يكتب وليم بلوم في "قتل الأمل" ص 194 بأن مساعد رئيس قاعدة الـ سي آي أي في أندونيسيا جوزيف لازارسكي والدبلوماسي ادوارد ماسترز أكدا أن ضباط الـ سي آي أي شاركوا في كتابة "قوائم الموت"، ويستند بلوم إلى ما كتبته كاثي كادان في عام 1990 ومقابلات مع دبلوماسيين أمريكان، لكن السي آي أي أنكرت تورطها.

يمكننا أن نمضي طويلاً في أمثلة لدول من العالم الثالث تورطت بالتحرش بالقواعد العسكرية الأمريكية وتجرأت على محاولة إغلاقها بعد نفاد مدتها أو بعد اكتشاف تدخل تآمري منها على البلاد، لكني سأكتفي بإضافة مثال لعله أكثر إثارة، فهو من العالم الأول، العالم الحر، من أستراليا!

في ك1 من عام 1972، استلم غوف ويتلام (
Gough Whitlam) السلطة في استراليا بعد أن فاز حزبه "حزب العمل" ولأول مرة منذ 23 عاماً، وكان من أهدافه إثبات خطل مقولة اليمين بأن "حزب العمل في السلطة أمر غير مسؤول وخطير" . وكان من خطواته الأولى اعادة القوات الإسترالية التي كانت تشارك في حرب فيتنام آنذاك وإطلاق سراح المحتجزين من الجنود الذين رفضوا القيام بتلك الخدمة لأسباب تتعلق بالضمير، كذلك وجه بعض وزرائه نقداً لاذعاً لحكومة نكسون.

تبين للحكومة في هذه الأثناء بأن "قسم الخارج" في وكالة الأمن الأسترالية (
ASIS) كان يتعاون مع الـ (CIA) في التآمر على حكومة اليندي في تشيلي، فأمر الرئيس ويتلام بالتوقف فوراً عن هذا "التعاون". (تبين فيما بعد أن مسؤولي وكالة الأمن الأسترالية قد تجاهلوا أمر الرئيس واستمر التعاون حتى الإطاحة باليندي).
بعد ذلك اعترض الرئيس على تفتيش موظفي إدارته من قبل الأمن الإسترالي وقال انه يثق بهم، مما أدى إلى انكماش وكالة الأمن الإسترالي من هذا الأمر غير الإعتيادي وأبلغت فرع الـ (
CIA) في أستراليا به، وتم تبادل البرقيات مع واشنطن، وتم أيصال تعابير وصلت إلى نوع من التهديد الى الحكومة الإسترالية مما دفع بالرئيس الإسترالي إلى التراجع عن موقفه وسمح باستمرار التفتيش لموظفيه!

بعد فترة وجيزة ظهر موظف كبير في السلطة القضائية الأسترالية في زيارة مفاجئة تفتيشية لأروقة منظمة الأمن الأسترالية (
ASIO) واستولى على ملفات محددة لأنه كان بعتقد أن المنظمة كانت تحجب المعلومات عنه. ومن المعلوم أن المؤسسات الأمنية تقوم بمثل هذه التصرفات في مختلف انحاء العالم، إلا أن الحكومة الأسترالية الجديدة رفضت مثل هذه الممارسات غير الشرعية.
على إثر ذلك هددت الـ (
CIA) بقطع التعاون الأمني مع استراليا. لكن مثل هذا الموقف لم يكن سهلاً خاصة وأن للوكالة التي كانت تمتلك مواقع وأجهزة عسكرية وتجسسية ومحطات متابعة ونظام إنذار مبكر لمراقبة الإتحاد السوفيتي وجزءا أساسيا من النظومة الأمريكية لمراقبة الأقمار الصناعية في العالم موظفة ألاف الموظفين فيها، ومحطة إتصالات بحرية متخصصة بالغواصات الذرية ومركزاً هائلاً لمراقبة الإتصالات الداخلة والخارجة من أستراليا ومنطقة المحيط الهادي بمختلف أنواعها من تلفون وفاكس وتلكس وغيرها، تابع لوكالة الأمن القومي الأمريكية (NASA).

لعل القارئ الكريم يقول: وهل من المعقول أن يترك الأمريكان كل هذا الذي بنوه يضيع منهم؟ طبعاً لا، ولهذا السبب بالذات فلا يجب على دولة تحرص على سيادتها أن تسمح بمثل هذا. وهنا يثار السؤال المنطقي: ماذا لو توترت العلاقات مع الولايات المتحدة غداً وأرادت الحكومة العراقية التي تتولى السلطة حينها إغلاق السفارة الأمريكية؟ هل ستتخلى الحكومة الأمريكية عن كل هذا الكيان الهائل؟ إنها بلا شك ستفعل المستحيل لكي تمنع أية حكومة عراقية قادمة من حتى إيقاف نشاط "قاعدة القيادة" تلك، فمن يعرف أية عمليات تجري فيها ومدى أهميتها للمخططات الأمريكية وخطورتها على البلاد التي تتواجد فيها؟ وهذا "المستحيل" الذي ستقوم به الحكومات الأمريكية لا يستبعد أن يشمل سياسة وقائية لتحديد نوع الحكومات العراقية القادمة فلا تأتي من تحرجها مثل حكومة ويتلام، وإن جاءت مثل تلك الحكومة رغم "الإجراءات الإستباقية" فسيكون التخلص منها بأي شكل هدفاً معقولاً جداً للـ والحكومة الأمريكية. لذلك فأن الرفض العراقي لإقامة القواعد العسكرية الأمريكية يجب أن يشمل السفارة الحالية. إن كتابة لوحة "سفارة" على قلعة قيادة عمليات عسكرية لايغير من صفتها، مثلما لاتغير علامة "بنسلين" من محتوى قنينة السم.

تم بناء معظم تلك المؤسسات في الستينات وتمت إدارتها بشكل سري للغاية ولم يتم إبلاغ الحكومة الأسترالية عن نوعية أعمالها وما يجري في داخل بناياتها. لم يرق هذا لأعضاء حكومة العمل التي كانت ترى في ذلك بلا شك انتقاصاً لسيادتها وعدم رغبتها في التدخل في شؤون لاتهمها، وأبدت تلك الحكومة ميلها إلى مبدأ "عدم الإنحياز".

إكتشفت بعد ذلك علاقات للمخابرات الإسترالية ليس في موضوع شيلي فقط وإنما في ملفات تخص فيتنام وكمبوديا واندونيسيا. وكشفت الحكومة الأسترالية وجود منظومة باسم "إدارة الإشارات الدفاعية الأسترالية"، أحدى العاب الحرب الباردة للـ (
CIA) والتي كانت تعمل من سنغافورة، ومهمتها التجسس على الإتصالات العسكرية في آسيا.

"عند نهاية عام 1974" كتبت جوان كوكسيدج من البرلمان الأسترالي، "كانت كل حركة من كل شخص في حكومة ويتلام وكل شخص في حزب العمل، كل إجتماع للموظفين، وكل برقية دولية أو تلكس او اتصال تلفوني او رسالة شخصية، تصل إلى وسائل الإعلام وكان هناك حملة لم يسبق لها مثيل للتشهير واتهامات بعدم الكفاءة والفساد والفضائح الشخصية لكل من في الحكومة"

هكذا استمرت قصة الصراع بين الحكومة المنتخبة التي ترفض التنازل عن حقوقها في قيادة بلادها للمنظمات الأمنية السرية وتعاونها غير المصرح به مع الـ سي آي أي، حيث طالبت الحكومة بقائمة كل من يعمل في الـ (
CIA) في أستراليا! وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر الجمل.

كان هناك في الدستور الإسترالي ثغرة بدت غير مهمة في سلطة الملكة البريطانية، لكنها كانت بلا شك تهديداً للديمقراطية الإسترالية يمكن استعمالها وقت الحاجة لوقف هذه الديمقراطية عندما تتجاوز حدودها، وهناك مثلها في معظم الديمقراطيات الأوربية لمن يهمه متابعة الأمر. كان هناك موظف تحت عنوان "الحاكم العام" (
Governor -General) باسم السير جون كير، يتم تعيينه نظرياً من قبل ملكة بريطانيا (حين كانت استراليا تابعة لبريطانيا العظمى، واستمر النظام).

وفي حيلة لاتخلو من العديد من التجاوزات على الدستور في تفاصيلها، وبالتعاون مع مجلس الشيوخ الذي رفض توقيع توزيع الخزانة الإسترالية لذلك العام، تم حل الحكومة وأبلغ كير، الذي وصفته الـ (
CIA) بأنه "رجلنا"، أبلغ الرئيس المنتخب حل حكومته المنتخبة من قبل شخص ليس له اية شرعية شعبية انتخابية، في سابقة لم تحدث في تأريخ أستراليا! (2)

تقول إحدى الحكايا إن أسداً وحماراً وثعلباً خرجوا للصيد فعادوا بأرنب وغزال وكوة عسل، وجلسوا ليقسموها فطلب الأسد من الحمار ان يقسمها فقال له: ألغزال لك يا سيدي وللثعلب الأرنب والعسل لي. فما كان من الأسد إلا أن ضرب الحمار فقطع رأسه، ثم التفت إلى الثعلب وقال له: أقسم أنت بيننا. فقال الثعلب: الأرنب لفطورك والعسل لغدائك وأما الغزال فتتعشى به يا مولاي. أعجب الأسد بقسمة الثعلب فامتدح عدالته وسأله: من أين تعلمت كل هذه الحكمة أيها الثعلب؟ فقال الثعلب: من الحمار ياسيدي!

لحسن حظ وحكمة الثعلب أنه خسر صيده فقط ولم يخسر رأسه. والحكمة التي يمكننا أن نتعلمها من كل الذين قبلوا وضع القواعد الأمريكية في بلادهم، إن كان له خيار في ذلك، هي: إن كنت ثعلباً فلا تخرج إلى الصيد مع الأسود!


هوامش:
(1)
http://www.fff.org/blog/jghblog2008-04-22.asp
(2) أعتمدت المعلومات عن حكومة ويتلام على كتاب ( Killing Hope ) لـ (William Blum) الفصل 40 وفيه إشارات إلى مصادر خارجية كثيرة.
* مقالات اخرى للكاتب حول المعاهدة: http://www.bermanah.com/my-articles.htm#_%C7%E1%E3%DA%C7%E5%CF%C9


30 تموز 2008
 


 

free web counter