د. عبدالخالق حسين
الخميس 3/ 4 / 2008
صعود وسقوط جيش المهديد.عبدالخالق حسين
بمثل ما صعد جيش المهدي بسرعة البرق فاق كل التصورات، كذلك بدأ العد التنازلي بسقوطه الذي سيكون سريعاً أيضاً. وهذه نتيجة حتمية لمثل هذه الحركات التي تفرضها ظروف آنية خاصة ولأغراض آنية. مرة أخرى نذكِّر القراء الكرام بما قلناه مراراً وتكراً، وكما وصفه عدد من الأصدقاء في تعليقاتهم على مقالة سابقة لي بهذا الخصوص، أن ما يسمى بالتيار الصدري هو عبارة عن " لملوم، أي تجمع، غير متجانس لا في الهدف ولا في الوسيلة". والصعود السريع لهذا التيار هو انعكاس للانحطاط القيمي والحضاري الذي خلَّفه نظام الأيديولوجية القومية العربية الشمولية وبنسختها البعثية المتطرفة التي تحكمت بمصير الشعب العراقي لأربعين عاماً. إذ يضم هذا التيار في صفوفه وبغطاء ديني مذهبي شيعي، فئات مهمشة من الفقراء المعدمين، وضحايا النظام الساقط، والعاطلين عن العمل، وعصابات الجريمة المنظمة، بل وحتى من رجال حرس الثورة الإيرانية واستخباراتها. والأخطر من كل هؤلاء، هو انضمام فلول البعثيين وفدائيي صدام من الشيعة المغضوب عليهم من الشعب لهذا التيار.
وجد هؤلاء ضالتهم في تنظيم التيار الصدري، وكل له سببه الخاص به، وتحت زعامة شخص ملائم ومناسب لخدمة الأغراض المختلفة، وهو السيد مقتدى الصدر لما يتصف به من بساطة وسذاجة وجهل، إضافة إلى انحداره من عائلة عراقية عريقة تتمتع بمكانة دينية مرموقة وتاريخ مجيد حافل بالتضحيات في عهد النظام الساقط. ونظراً لما يمتلك البعثيون من خبرة تنظيمية وعسكرية عالية، وتجربة طويلة في الإجرام وممارسته لعشرات السنين، وقدرتهم على استثمار الظروف المختلفة لصالحهم، كانت لهم اليد العليا في السيطرة على هذا التنظيم وتوجيهه بالشكل الذي يريدون، وتوظيفه لأغراضهم.
وقد تطابق الغرض البعثي في التيار الصدري مع غرض التحالف الإيراني-السوري في إفشال العملية السياسية في العراق. فاستغلت إيران جهل وسذاجة مقتدى الصدر، ومكانة عائلته المرموقة لدى الشعب العراقي كما أسلفنا، فجاءت به إلى الواجهة وحققت له الزعامة وساعدته في تشكيل مليشياته التي أطلقوا عليها اسم (جيش المهدي) الذي له تأثير عميق في نفوس الشيعة. والمقصود بهذا الاسم هو المهدي المنتظر، الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإمامية الإثنى عشرية، والذي سيظهر في آخر الزمان، وفق العقيدة الشيعية، ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً. وهذه لعبة بعثية- إيرانية بامتياز في توظيف الأسطورة والمعتقدات الدينية في التلاعب بمشاعر الجماهير المغيب وعيها قسراً، وتوجيهها لخدمة أغراضهم السياسية. فقامت إيران بتمويل هذه المليشيات بمليارات الدولارات، ورعتها بالتدريب العسكري والتخريب، ومدتها بأكداس من الأسلحة المتطورة لمحاربة أمريكا وبريطانيا وقوات التحالف نيابة عنها، وعلى الأرض العراقية بدلاً من أراضيها، وبدماء العراقيين بدلاً من دماء أبناء شعبها، وبذلك تطابق الجانبان، البعثي والإيراني في هذا التنظيم في الأغراض والأهداف وفق المثل العربي القائل (وافق شن طبقة).
اعترض عدد من الأخوة القراء في تعليقاتهم على مقالتي السابقة الموسومة (التيار الصدري يعيد لعبة عمرو بن العاص برفع المصاحف) كما واستلمت عدداً من الرسائل، قائلين أن هذا التيار يضم فقراء العراق المهمشين ومن أشد المتضررين من نظام البعث الساقط، لذا فمن الخطأ ضربهم وإيقاف نشاطهم. وجوابنا على هذه الاعتراضات هو: في الوقت الذي نؤكد فيه وقوفنا إلى جانب تحقيق العدالة الاجتماعية وإنصاف الفقراء والمظلومين، ولكن ما يعمله هؤلاء هو على الضد تماماً من مصلحتهم. فبعملهم هذا ونشرهم الفوضى العارمة في العراق لخمس سنوات مضت، أعاقوا عمليات الإعمار وعطلوا حياة الشعب، وشلوا نشاطات الدولة في خلق الوظائف للعاطلين ومعالجة المشاكل الاقتصادية، وبذلك كانت أعمالهم مطابقة للأعمال الإرهابية التي قام بها التحالف البعثي-القاعدي في العراق وخدمة أغراضهم. وكونهم فقراء معدمين، لا يعني يجب السكوت عنهم، إذ كما تقول الحكمة: "يفعل الجاهل بنفسه كما يفعل العدو بعدوه".
لقد حقق هذا التيار الصدري شعبية واسعة وفي فترة زمنية قياسية ما لم يحققه أي حزب سياسي عريق في العراق، مما أصاب قيادة التيار بالغرور والغطرسة. إذ كما قال الأستاذ عادل حبه عن هذا التيار في مقال له: (فهم ينظرون إلى الكتلة البشرية التي تساندهم الآن وبشكل أعمى، ككتلة أزلية لا يهزها أي تغيير. وهذا هو الخطأ الكبير لقادة التيار الصدري، وما ينجم عن هذا الخطأ من غرور وغطرسة وتعالي على الآخرين، والظن بأنهم هم وحدهم يملكون عصا الحقيقة وشؤون الدين وغير ذلك. إن قادة التيار الصدري الآن أشبه بسائق سيارة تسير بأقصى سرعتها وفي جو من الهوسات والانفعال والتشجيع ولبس الأكفان وقعقة السلاح من قبل مناصريه، ولكن بدون فرامل. وهذا يعني أنهم لا يستطيعون التحكم في ادارة السيارة، وبذلك يصبحون عرضة للوقوع في الهاوية، كما وقع آخرون من قادة حركات سياسية في درب الهاوية ممن ساروا على نفس الدرب وجلبوا الإفلاس لحركاتهم والكوارث لأنصارهم والمشاكل لبلدانهم.)
أعتقد أن السقوط في الهاوية قد حدث مؤخراً، وبعد الصدامات الدموية مع القوات الحكومية في عملية (صولة الفرسان) في البصرة، والتي قادها السيد رئيس الوزراء نوري المالكي بنفسه بصفته القائد العام للقوات المسلحة، وحقق انتصارات ساحقة على الخارجين على القانون، مما اضطر السيد مقتدى الصدر إلى أن يأمر مليشياته، وبنصيحة من المخلصين في تياره وخارجه، بوقف المواجهة مع الحكومة حقناً للدماء، فـ [دعا مقتدى الصدر أنصاره يوم 27 آذار/مارس 2008 إلى إلقاء السلاح والتفاوض مع الحكومة العراقية. كما وطالب كافة أفراد جيش المهدي إلى عدم مقاتلة الجيش العراقي والقوات الأمنية، ووصف الخارجين عن أوامره بالمتمردين ودعاهم الى الالتزام بالصمت والصبر.] (مقتدى الصدر يدعو أنصاره الى القاء السلاح والالتزام بالصمت والصبر). كما وأعلن (براءته) من كل من حمل السلاح ضد الحكومة. وهذا موقف جيد، يجب تقييمه بالإيجاب.
ولكن رغم بيان السيد مقتدى هذا، فالعمليات المسلحة في مدينة البصرة وغيرها من المدن العراقية استمرت. ولم يكتف المسلحون بعدم الطاعة لأوامر "السيد القائد، حفظه الله ورعاه"، بل تلقيت اليوم في بريدي الإلكتروني بياناً من جهة أطلقت على نفسها (أحــرار فيـحـاء الصـدر FIHAAALSADER@yahoo.com) تدين فيه بيان السيد مقتدى الصدر، وتصفه بنقض العهد، حيث افتتحت بيانها بالآية الكريمة: (الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ. - الانفال56 -). ويواصل البيان قوله: [ تفاجئ الأحرار من أبناء الجنوب بالبيان الصادر من سماحة السيد مقتدى الصدر بتاريخ 22 ربيع الأول 1429 والقاضي بإعلان الانسحاب (من طرف واحد) بعد الضربات الموجعة التي وجهها أبناء الجنوب والفرات الأوسط وبغداد الحبيبة في انتفاضتهم الشعبية المشروعة ضد حكومة الاحتلال والتي أوشكت أن تلفظ أنفاسها الأخيرة] (كذا). ثم يتهكم البيان على طلب مقتدى باحترام حكم القانون متسائلاً: "وإن كان المقصود قانون حكومة الاحتلال... ألم تكن مذكرة إلقاء القبض على سماحة السيد مقتدى الصدر في قضية الخوئي قانونية !؟"
والجدير بالذكر أن منظمة باسم (كتائب أحرار الصدر في عموم العراق) أصدرت بياناً في شهر آب 2007، مماثلاً للبيان الأخير، بعد قرار الصدر تجميد نشاطات جيش المهدي، أعلنت فيه "انها غير مشمولة بقرار زعيم التيار الصدري تجميد جيش المهدي لمدة ستة اشهر، وإعادة هيكلته بدون استثناء. وقالت المنظمة إنها ستستمر في ممارسة دورها الذي كفلته لها كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية والإنسانية، حتى يعود العراق بلدا حرا عزيزا خاليا من كل مظهر من مظاهر الظلم والهيمنة والوصاية والعمالة." ويلاحظ في البيان النفس البعثي بكل وضوح، كما يخلو من أي إشارة لإنصاف الفقراء والعاطلين والمهمشين.، إضافة إلى اهتمام مواقع البعث على الإنترنت بنشر مثل هذه البيانات ودعمها. لقراءة التقرير عن البيان المذكور راجع: (منظمة "كتائب احرار فيحاء الصدر" تستثني نفسها من قرار تجميد جيش ...) الرابط أدناه..
وهكذا نرى أن التيار الصدري هو ملغوم بكثافة بالبعثيين وجماعات الجريمة المنظمة التي تعتبر قوانين حفظ الأمن هي قوانين حكومة الاحتلال، والخروج عليها والعبث بأمن البلاد والعباد أمر مشروع "كفلته لها كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية والإنسانية". كما ويلمح بيان "أحرار فيحاء الصدر" بأن القرار الأخير الذي أصدره مقتدى الصدر هو إملاءات إيرانية لإثبات الوجود الإيراني- الأمريكي في العراق.
وعليه، فهذا الشرخ بين عصابات الجريمة المنظمة المنضوية وفلول البعث تحت مظلة التيار الصدري، يبشر بالخير لأنه بداية النهاية في التحالف البعثي- الإيراني الذي عقد تحت هذه المظلة. وهذه علامة مهمة من علامات انهيار جيش المهدي وانتصار حكومة المالكي على فلول الجريمة المنظمة، وتحقيق الأمن والاستقرار للعراق الحبيب. لذا نهيب بالمخلصين في التيار الصدري بتطهير تنظيمهم من عصابات الجريمة المنظمة وفلول البعث وفك ارتباطهم بإيران، وحل مليشياتهم وتحويل تيارهم إلى حزب سياسي ديمقراطي يضم في صفوفه المخلصين من أبناء العراق الساعين بإخلاص فعلاً لخدمة الفقراء والمهمشين من المجتمع، وللمساهمة الإيجابية الفعالة في بناء وطنهم وتحقيق الأمن والرفاه فيه، وإنجاح العملية السياسية في العراق الجديد.
مواد ذات علاقة بالموضوع:
1- مقتدى الصدر يدعو أنصاره الى القاء السلاح والالتزام بالصمت والصبر
http://www.aafaq.org/news.aspx?id_news=4780
2- منظمة ( كتائب احرار فيحاء الصدر ) تستثني نفسها من قرار تجميد جيش ...
http://almalafpress.net/?d=143&id=41270