د. عبدالخالق حسين
الأثنين 31/ 3 / 2008
التيار الصدري يعيد لعبة عمرو بن العاص برفع المصاحفد. عبدالخالق حسين
ذكرنا في مقالنا السابق الموسوم بـ(عملية "صولة الفرسان" اختبار للمالكي والجيش العراقي) أن فلول البعث رأوا في التيار الصدري ومليشياته (جيش المهدي) ملاذهم الآمن لينجوا من انتقام الشعب لهم، ولمواصلة جرائمهم ضده وباسم الشيعة والتيار الصدري في هذه المرة. لذلك رأينا أساليب وتكتيكات البعث واضحة في نشاطات هذا التيار، خاصة في استثمار التراث العربي-الإسلامي وما فيه من مصطلحات تؤثر على مشاعر العامة من المسلمين وخاصة من أبناء المذهب.
عجيب أمر أتباع التيار الصدري، فهم يعيثون بأمن البلاد والعباد بحجة طرد المحتل، والكل يعرف أته لولا هذا "المحتل" لما سمع بهم أحد. ففي ظل هذا "الاحتلال" أجريت أنزه انتخابات في تاريخ العراق والبلاد العربية. إذ قبل هذا الاحتلال كانت نتائج الانتخابات معروفة مسبقاً بـ (99.99%) لحزب السلطة. فعن طريق هذه الانتخابات استطاع التيار الصدري أن يحتل 31 مقعداً في البرلمان و6 مقاعد في الحكومة. ومن كل هذا نعرف أنه ليس هناك أي مبرر شرعي لإعلان التمرد على الحكومة خاصة من جهة مشاركة فيها. وإذا كان حقاً هدفهم من هذه المذابح هو طرد المحتل، كان عليهم مساعدة الحكومة على استتباب الأمن، لأنه كلما أمعن هؤلاء في عدم استتباب الأمن، أطالوا مدة بقاء قوات التحالف.
ولكن من الواضح للعالم كله أن معظم ضحايا عدوان هذا التيار هم من أبناء الشعب الأبرياء، من النساء والمسيحيين والصابئة المندائيين والطلبة والكسبة الفقراء، وأبناء الأقليات الدينية والأثنية، بل وحتى من أبناء طائفتهم الشيعية، ولم يسلم من شرورهم حتى الأطباء والعلماء والأدباء والفنانين والرياضيين والحلاقين وباعة الأقراص الليزر المدمجة وأشرطة الموسيقى والغناء وغيرها. فما علاقة كل هؤلاء بالمحتل؟ ومن هنا نعرف أن الغرض من هذا التمرد هو ليس طرد المحتل كما يدعون، بل العملية كلها ما هي إلا لعبة قذرة من قبل إيران وسوريا، يدفعون لهم المال والسلاح لإفشال العملية السياسية ومحاربة الذين أنقذوا الشعب العراقي من أسوأ نظام مستبد غاشم عرفه التاريخ. إنهم عبيد للأجانب من أعداء شعبنا ينفذون أجنداتهم ضد مصلحة الشعب العراقي. ولكن نؤكد لهؤلاء أن في نهاية المطاف سوف لن يصح إلا الصحيح، ويكون مكانهم في مزبلة التاريخ.
كذبة الاعتصام المدني
من التكتيكات التي اتبعها البعثيون الجدد في التيار الصدري هو إعلانهم لما يسمى بـ (العصيان المدني). ولكن يبدو أنهم، إما لم يعرفوا ماذا يعني العصيان المدني، أو يعرفوه ولكنهم يستثمرون جهل أتباعهم فيسلكون سلوكاً مضاداً للعصيان المدني. فالعصيان المدني هو سلاح حضاري ديمقراطي اتبعه قادة من المفكرين والمناضلين السياسيين الكبار من دعاة اللاعنف في العالم المتحضر، من أمثال غاندي وبرتراند راسل ومارتن لوثر كنغ وغيرهم، في تحقيق أغراض إنسانية نبيلة وبأساليب متحضرة طوعية دون اللجوء إلى القوة. بينما الذي قام به التيار الصدري هو فرض أوامرهم على الناس بحرمان تلامذة المدارس وطلاب الجامعات من الدراسة، وغلق الأسواق، ومنع الموظفين من مزاولة أعمالهم، فرضوا كل هذه القرارات القرقوشية بقوة السلاح. إن ما قام به جيش المهدي في بغداد والمناطق الجنوبية هو ليس العصيان المدني، بل هو تعطيل حياة الناس بالقوة الغاشمة والتهديد بالموت ونشر الذعر بين الناس، تماماً على طريقة البعثيين.
لعبة رفع المصاحف
كما وخرج أتباع التيار الصدري بمظاهرات ادعوا أنها سلمية، وزعوا فيها أغصان الزيتون والمصاحف على الناس وأفراد القوات المسلحة مدعين أنهم سلكوا سلوكاً حضارياً!!! نسي هؤلاء إن أغصان الزيتون لا تنسجم مع لعلعة الهاونات والمفخخات والتفجيرات. أما عملية رفع المصاحف فهي خدعة مكشوفة تثير الغثيان والاشمئزاز في النفوس، فهي تثير في ذاكرة المسلمين ذكريات تاريخية أليمة بقيت آثارها المدمرة لحد الآن. هذه اللعبة تذكرنا بحرب صفين بين جيش الخليفة الشرعي الإمام علي، وجيش معاوية ابن أبي سفيان المتمرد على إمام زمانه وهو واحد من الطلقاء الذين لا يحق لهم تبوئ الخلافة. ولما صار النصر قاب قوسين أو أدنى لجيش الإمام، لمعت فكرة جهنمية في ذهن الداهية عمرو بن العاص، المساعد الأول لمعاوية، برفع المصاحف على أسنة الرماح والمطالبة بالتحكيم وطرحوا شعار (لا حكم إلا للقرآن). وكما توقع ابن العاص، فبمجرد طرح هذا الشعار ورفع المصاحف تم شق أتباع الإمام إلى مؤيدين ومعارضين له. فنجحت اللعبة وانطلت الحيلة على الكثيرين الذين طالبوا بالتحكيم. ورغم نصيحة الإمام لهم بأنها خدعة، وأن القرآن مداد على ورق بين دفتي كتاب لا ينطق ولا يحكم إلا من خلال البشر، وأنه "حمالة أوجه" وأطلق قولته المشهورة: "إنه قول حق يراد به باطل" إلا إنه لم يصغ إليه أحد من أتباعه، فأدت الخدعة مفعولها المدمر، وكان ما كان من تحكيم تم خلاله خدع ممثل الإمام (أبو موسى الأشعري) والضحك عليه ونجحوا في إجهاض النصر. واليوم تعاد لعبة عمرو بن العاص برفع المصاحف، ولكن من قبل أناس يدعون أنهم من شيعة الإمام علي. فهذه الجماعة تسلك ذات السلوك الثنائي معاوية وابن العاص، ولكن تحت اسم (المهدي المنتظر). إنه تقليد أعمى مثير للقرف. إنه لدليل على أن عمرو ابن العاص مازال يعش بيننا، إذ كما قال الشاعر العراقي مظفر النواب:
أنبيك عليّاً
مازلنا نتوضأ بالذل
ونمسح بالخرقة حد السيف
ما زلنا نتحجج بالبرد وحر الصيف
ما زالت عورة عمرو العاص معاصرةً
وتقبح وجه التاريخ
ما زال كتاب الله يعلَّقُ بالرمح العربية
ما زال أبو سفيان بلحيته الصفراء ،
يؤلب باسم اللات
العصبيات القبلية
ما زالت شورى التجار، ترى عثمان خليفتها
وتراك زعيم السوقية
لو جئت اليوم ،
لحاربك الداعون إليك
وسموك شيوعية
هدف التيار العبث بأمن البلاد
منذ أن سمعنا عن التيار الصدري وجدناه يتحين الفرص لإفشال خطط الحكومة في استتباب الأمن وفرض حكم القانون. فكلما نجحت قوات الحكومة والتحالف الدولي في تحقيق الأمن وإلحاق الهزيمة بفلول البعث وحلفائهم من أتباع "القاعدة" في بلدة ما، قام هذا التيار بالتمرد وإشعال الفتن في مناطق أخرى من العراق من أجل إفشال جهود الحكومة. فقبل عامين وعندما قامت الحكومة وقوات التحالف بضرب معاقل الإرهابيين في الفلوجة، أعلن جيش المهدي التمرد في النجف الأشرف فقام باحتلال الضريح الحيدري، مما تسبب في سفك دماء غزيرة. ولما أعدَّ رئيس الوزراء الدكتور أياد علاوي آنذاك خطة محكمة لضربهم وإلحاق الهزيمة بهم، تدخل رجال الدين في النجف وأجهضوا الخطة وضمنوا نجاة هذه الشراذم وخروجهم من الصحن بأسلحتهم سالمين ليعاودوا نشاطهم التخريبي في وقت آخر. فلولا هذا التدخل من رجال الدين لأمكن القضاء على عصابات جيش المهدي منذ ذلك الوقت وأراحوا الشعب. وهذا دليل على أن هذه الأعمال تنفذ بتنسيق مركزي من إيران للحفاظ على حصان طروادة لينفذ أجندتهم في العراق.
والآن تعاد اللعبة ذاتها من جديد، فبعد أن نجحت القوات الحكومية وقوات التحالف الدولي في ضرب الإرهاب في مناطق بغداد وما يسمى بالمثلث السني، حيث انتفاضة صحوة العشائر السنية ضد القاعدة، وعلى وشك تحقيق النصر النهائي على فلول الإرهاب البعثي-القاعدي، أعلنت عصابات التيار الصدري تمردها في البصرة ومدن عراقية أخرى، وصعدت من صداماتها الدموية مع الأحزاب الأخرى، والتعرض إلى مؤسسات الدولة، مما اضطر السيد المالكي إلى محاربتهم في العملية التي أطلق عليها بـ (صولة الفرسان). مرة أخرى، وبعد أن تأكد من هزيمته، لجأ التيار الصدري إلى فكرة عمرو بن العاص في استخدام المصاحف، ولكن في هذه المرة، وبدلاً من رفعها على أسنة الرماح راحوا يوزعونها على البسطاء من الناس ليخدعوهم بها أنهم مع حكم القرآن، وأنهم أناس مسالمون والحكومة هي التي تريد سفك الدماء!!!
كما وتزامنت لعبة المصاحف هذه بدعوات البعض من قادة القوى السياسية بمطالبة السيد المالكي رئيس الوزراء بحل الصراع عن طريق المفاوضات، وهي تشبه إلى حد ما المطالبة بـ(التحكيم) في حرب صفين. في حقيقة الأمر إن مطالبة هؤلاء بـ"الحل السلمي" ما هو إلا مزايدة على الوضع واستثماره لإفشال السيد المالكي في مهمته الأمنية، وإجهاض النصر النهائي على هذه الشراذم التي وصفها المالكي بأنها "أسوأ من القاعدة"، وبالتالي إسقاطه سياسياً لتحقيق مآربهم الشخصية في السلطة على حساب المصالح الوطنية.
وأخيراً وبعد أن قتل ما لا يقل عن 275 شخصا وأصيب المئات بجروح خلال هذه الاشتباكات، وبعد أن تأكد مقتدى الصدر أن السيد المالكي مصر على السير قدماً حتى النصر التام، وأن أتباعه يقومون بانتحار جماعي، [أمر أتباعه ب"الغاء المظاهر المسلحة"، مؤكدا في الوقت ذاته "براءته" ممن يحمل السلاح ضد "الاجهزة الحكومية"]. ولكن هل يستجيب المسلحون لأوامر "السيد القائد، حفظه الله ورعاه"؟ كل المؤشرات تدل على أن التمرد مازال مستمراً وهذا دليل يؤكد على ما ذهبنا إليه أن التيار الصدري ملغوم بالبعثيين.
ولكن مع ذلك، كان تجاوب السيد المالكي عقلانياً وإيجابياً ودليل على حرصه على حقن الدماء، فاعتبر دعوة مقتدى الصدر انصاره الى الغاء مظاهر التسلح "خطوة في الاتجاه الصحيح"، مؤكدا ان "العملية الأمنية في البصرة لا تستهدف انصار الصدر" بالتحديد.
مرة أخرى، نهيب بجميع المخلصين من القادة السياسيين وغير السياسيين، أن يدعموا الحكومة في حربها الوطنية العادلة على الإرهاب ومن أي مصدر كان هذا الإرهاب، وأن يتركوا خلافاتهم الفئوية جانباً ويركزوا على المصلحة الوطنية. فالجميع في زورق واحد، ونجاة هذا الزورق من مسؤولية الجميع ونجاة للجميع، وغرقه هلاك للجميع.