الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأحد 9/4/ 2006

 

 

المناظر الوسيم - يوم عرفته

 

عبد العزيز عسير
الإعدادية المركزية - 1965

الزمان ضمنا ومضى .. أما المكان فقد مضينا نحن عنه، عن ذلك الممر الطويل لمداخل الصفوف العالية.
على جدار أحد الصفوف نشرة أدبية تعاون على إصدارها مجموعة طلاب الصف الرابع الأدبي، ولم يحضر للقراءة من طلاب الفرع العلمي إلا طالب واحد … تجمهر الواقفون برؤوس تشرئب الى أول نشاط أدبي طلابي .. ثم بدأ أثنان من الطلبة يتجادلان بمناظرة حادة حول احدى المقالات المنشورة، اختار أحدهما أن يكون حفيداً للقرد النازل من الغصن العالي على أرض منحت قامته الاستقامة، بينما ظل الآخر وفياً لجده (آدم) الذي أنفلق الطين له بأحسن تقويم، وما للأغصان فضل في انتصاب قامته … لم ينته الحوار الساخن - وكانت الرمانات لا تستخدم فيه وقتها - لكنه انقطع بعد أن أبتعد الأصولي الآدمي عن اليساري الداروني الذي أستشهد بنكته أضحكت نصف الحاضرين على رجل يرفض حفادة القرد ويقبل بحفادة (الطوفة) - الجدار الطيني- عندها بادرته قائلاً: نسيت أن تذكر المصدر انها من طرائف تروى عن أستاذنا محمود عبد الوهاب فأستحسن مداخلتي مصدقاً وهو يقول: نعم أنها كذلك ثم تابع الداروني الوسيم قراءة مادة أخرى وحين سئل عن رأيه أجاب: قصيدة تقريرية، والفكرة مطروقة، او على ما أذكر أنه قال: (الفكرة طريقة). ثم أعتذر بعد أن عرف أنها لأحد الواقفين بدون أن يغير رأيه، فقد كانت كما وصفها فعلاً!
أحسست بأن ثمة سبباً يشدني الى الصوت الدافئ والوجه الوسيم المكذب لموضوع البشر من (أصل الانواع) .. عيناه الملونتان الواسعتان (الشهل بمرثية سعدي يوسف)، وجبهته البيضاء، وشاربه الاشقر المحدد بدقة تعزله عن الذقن الحليق، وما تحت غمازتيه من أبتسامة تشف عن خفة دم وطلعة بهيه آسرة .. ومرح عابث يمازج النكتة المباغتة المنطلقة من تقوس الحاجبين المتعمد وتكور (البوز) الجميل الجذاب … نظراته برسم الدهشة المفاجئة بإنفراج ثناياه المشبعة بالظرافة … جميعها لا تنبئ بانحدار جده من غصن الشجرة، قلت: أنك أوسم من أن تكون سليل التقرد. فواصل الحديث قائلاً : ليس المهم اليوم ماضي الإنسانية إن كنا قد سقطنا من الغصن على التراب أو نبعنا من التراب لنمسك بالغصن.. المهم اليوم جدلية العلاقة بيننا وبين هذا التراب وذلك الغصن .. كيف ننمي الأغصان لتكون شائعة للجميع، كيف نمنع المستأثرين بثمارها من الانفراد بها … كيف نكتفي بحاجاتنا دون أن نختزن ما يقطع من الشفاه الناشفة عطشاً وهي تشق التراب .. أو جسد جدكم التراب .. كيف نتخلص من هذا القرد المصر على التكاثر تحت جلودنا جذبني بلغته الضاربة في عمق فلسفي تأملي .. سالته ألست من الفرع العلمي؟ قال: بلى ثم عرفت منه أنه من قضاء أبي الخصيب وقد آثر الإعدادية المركزية على ثانوية أبي الخصيب، ولبعد الطريق أقام في بيت أحد أقاربه في محلة (الكزارة) القريبة من الإعدادية المركزية.
توثقت العلاقة بيننا ونحن نستقل أسبوعياً السيارة المتجهة الى أبي الخصيب، فأنزل في ربع الطريق بعد نهر السراجي وكم كنت ارغب لو أكملت معه الطريق الى مركز القضاء (محلة جلاب) حيث يسكن .. ولكن أكثر اللقاءات كانت قرب كشك بائع الصحف (عبد هزاع مقابل الاعدادية المركزية). كنا نلتقي احياناَ بالاساتذة المنفتحين قلوباً لطلابهم مثل الاستاذ قصي سالم علوان والمرحوم كاظم خليفة. وكان ممن توطدت بهم العلاقة يوسف السالم وعبد الرزاق حسين وحسين عبد اللطيف ومحمد سهيل أحمد وشاكر العاشور وعبد الجبار الحلفي وعبد الصاحب محمد إبراهيم، يلتقون مساءاً في كازينو (هاتف) المسماة بعد ذلك (الشناشيل) منهم أستاذنا جميل الشبيبي المولع وقتها بالفلسفة، والقاص إسماعيل فهد إسماعيل المولع بالتنظيرات النقدية والمهتم بالرواية في أمريكا اللاتينية، والمرحوم جليل المياح الذي منح الاولوية للنضال والتثقيف بأتجاه (المادية الديالكتيكية) .. كنا نصغي لأحاديثه ونتنبه من خلالها الى ما ينبغي أن نقرأ، ولعل مصطفى عبد الله كان أكثرنا جرأة في اقتحام أمهات الفكر الإنساني لا يتردد عن قراءة أي كتاب حتى أنه أخبرني يوماً أنه قد أقتحم عالم سارتر في (الوجود والعدم) وأنه فهم الكثير من الكتاب الذي لم يستطع معظمنا تخطي صفحتين منه، وكان فينا من يتهم مصطفى بالمبالغة والحقيقة أنه كان من أصفى المجايلين ذهناً وأمكنهم قدرة على الالتقاط والنفاذ الى النقطة الابعد عمقاً في الصفحة.
فوجئت في البداية بتفضيله يوسف أدريس على نجيب محفوظ وسعدي يوسف على السياب وصلاح عبد الصبور على نازك والشعر المنثور على الموزون مع كونه يكتب شعر التفعيلة، وقد أدركت بعد ذلك أنه كان محقاً في بعض ما خالفته فيه، و لكني مازلت أرى بعض ميوله الثورية متطرفة فعلاً و خاصة قضية الالتزام في الادب. بقي أن بعض اساتذتنا قد شخصوا مواهبه العلمية بوقت مبكر، قال لي كاظم خليفة - وكان مصطفى قد غادرنا بعد مسير بحديث عملي -: مصطفى عقلية علمية ومواهبه العلمية لم تجد رعاية أو تربة صالحة. تذكرت هذا يوم وصل خبر وفاته في المغرب، ولم أفاجأ حين علمت أنه قد ترك بعد وفاته مؤلفات علمية كانت موضع أعتزاز الحكومة المغربية، إذ كان حفل تأبينه برعاية أحد وزراء المغرب كما قيل .. ذاك الذي عبر الظلمة البعثية والحدود العراقية .. مشرداً!!.