| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

هذا الكتاب

 

 


 

قصة تعطيل فتاوى كادت تهدر دماء آلاف الخُصَماء السياسيين

الشيخ العلواني في كتابه «إشكالية الردة والمرتدين»: الإسلام دين تزكية وتطهير لا دين تكفير

 

رشيد الخيُّون

لكتاب الشيخ طه العلواني «لا إكراه في الدين.. إشكالية الردة والمرتدين»، أو تفكير الشيخ بأمر الردة قصة تعود أحداثها إلى انقلاب حزب البعث في 8 شباط 1963، ومحاولتهم تطبيق الشريعة في خُصَمائهم السياسيين من الشيوعيين وغيرهم. لذا سعى البعثيون عند كبار فقهاء المذهبين، السُنَّة والشيعة، بالعراق للحصول على فتاوى تقضي بهدر دماء الآلاف من المعتقلين العراقيين، وقد طُلب مثلها من الشيخ العلواني في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، أي قبل التنفيذ بخمس ساعات، علماً أن العديد من الشيوعيين كانوا من طوائف العراق الأخرى من مسيحيين، وصابئة مندائيين، وأيزيديين وغيرهم. وقد تزامن مع أخذ هذه الفتاوى إصدار قانون من الحاكم العسكري العام، وكان آنذاك رشيد مصلح التكريتي، عُرف ببيان 13، القاضي بإبادة الشيوعيين. قال الشيخ العلواني متأثراً بما حدث: «لقد كتبتُ دراسات عديدة في الردة وأحكامها. أُعد بعضها لنيل درجات علمية، ماجستير، ودكتوراه، وبعضها دراسات أُعدت في إطار دراسة الحدود الشرعية. وكل تلك الدراسات كانت تمر على عجل على مذاهب المخالفين في حكم الردة من الصحابة وغيرهم، على جلالة أقدار أولئك المخالفين، وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وقد لفت ذلك نظري خاصة بعد أن ابتليت باستفتاء في قضية ردة. كان أخطر ما مر بي في حياتي، وكان له أثر كبير في عقليتي ونفسيتي، بل وفي حياتي كلها»(ص40-41).
وقصة ذلك، حسب ما أوردها الشيخ العلواني، أن الضابط عبد الغني الراوي، أحد قادة انقلاب شباط من القوميين، أتى إلى منزله الملاصق لمسجده، مسجد الحاجة حسيبة البابججي، بمحلة أبو أقلام من الكرادة الشرقية جنوبي بغداد، في الساعة الثانية من صباح يوم تنفيذ حكم الشريعة بالشيوعيين وأتباعهم كافة. وقد كلف الضابط الراوي بالتنفيذ، وأخذ فصيل الإعدام مع أموال لتوزيعها على الجنود الذين يطلقون النار، ومعدات لحفر أخاديد لدفن المقتولين. وبما أن الراوي كان متديناً عروبياً، وغير بعثي، طلب أخذ فتاوى من زعماء المذهبين. فأخذ فتوى من مفتي بغداد السُنَّي نجم الدين الواعظ (ت 1975)، وفتوى من الشيخ الشيعي محمد مهدي الخالصي (ت 1963) بالكاظمية، ومن المرجع الأكبر الشيعي السيد محسن الحكيم (ت1970) بالنجف. وقد اشترط السيد الحكيم «التأكد من عدم اشتباه هؤلاء في انتمائهم أو انخداعهم في ذلك.. أما الشيخان الخالصي والواعظ فقد أفتيا بوجوب قتلهم جميعاً، وبدون تحفظ أو قيد أو شرط»(ص42).
حاول الراوي أن يجعل الفتاوى بالمناصفة، اثنان من فقهاء الشيعة واثنان من فقهاء السُنَّة، وقد طلب الفتوى السُنَّية الثانية من الشيخ العلواني. اعتذر له الشيخ. فبماذا ستنفع فتوى إمام مسجد صغير؟ لكن الراوي كان يثق بآرائه. لذا جاء يقطع الشك باليقين، فالأمر يتعلق بإعدام الآلاف من البشر. بينَ الشيخ العلواني لطالب الفتوى أنها قضية سياسية، لا علاقة للإسلام بها، وأن تحمس البعثيين لهذا القتل يتعلق بخلاف سياسي لا ديني. فلماذا يزج الدين بالسياسة بهذه الطريقة؟ وقال له: «إن هذا حرام شرعاً. أتستطيع أن تتوقف عن التنفيذ، وقد اتخذتم سائر الإجراءات اللازمة لذلك؟». أجابه الرواي بالقول: «لا يستطيعون إجباري على تنفيذ هذه المهمة إذا رفضت».
ولما سأل عبد الغني الراوي الشيخ العلواني بالقول: كيف أفتى الفقهاء الآخرون بالقتل إذا كان الأمر هكذا؟ أجابه: «لقد صيغ لهم السؤال بخبث لينحصر نظرهم في الجانب التكفيري! أما أنا فأعرف أن الإسلام دين تزكية وتطهير لا دين تكفير»(ص45). كما قال الشيخ: «إن البعثيين يعرفون أنك من المصلين، ووالدك من العلماء القضاة، ولأسرتك تاريخ ديني معروف، وأنت معروف بين ضباط الجيش باندفاعك، فحين اختاروك أحسنوا الاختيار. لأنهم يريدون أن يلبسوك والعناصر المتدينة والإسلامية في الجيش تهمة الدموية والوحشية، وإبادة العناصر التقدمية«(ص45). ومَنْ يدري فربما سيأتي الدور على الراوي، وسيقتله أحد الجنود بعد تنفيذ الإعدام بآخر مرتدٍ حسب زعمهم. بهذا الكلام حذر الشيخ العلواني الراوي، طالباً منه ألا يتفوه بكلمة مما دار بينهما، فلن يرحموه إن عرفوا أنه كان وراء تعطيل المشروع. انتهى الأمر عند هذا الحد، ولم تنفذ فتاوى القتل بفضل مشورة الشيخ العلواني. لكن استمر القتل، وحدث ما عُرف بقطار الموت.
أكدت الأيام صحة رأي الشيخ العلواني في أن الأمر لا علاقة له بالدين. فالبعثيون، الذين طلبوا فتوى القتل من مرجعيات الدين، حاربوا هذه المرجعيات وقتلوا أبناءها وبالغوا في قمعها وحصارها منذ 1968 وحتى 2003. وأقاموا جبهة مع الشيوعيين، ثم انقلبوا عليهم. وتغيرت الأحوال فاقترب الشيوعيون من أتباع المرجعيات، حتى جلس على طاولة واحدة سكرتير الحزب الشيوعي العراقي وزعماء المجلس الأعلى، وحزب الدعوة، والمنظمات الإسلامية الأخرى، في مؤتمرات المعارضة. ولم يغلق المرجع الأعلى السيد علي السيستاني الباب بوجه سكرتير الحزب الشيوعي حميد مجيد موسى. والشيوعيون المتدينون بالأمس واليوم ليسوا بالقلائل. إذاً ما شأن الدين وما شأن حد الردة لو نفذت تلك الفتاوى؟
كتب تفاصيل الحادث أيضاً عبد الغني الرواي، كجزء من مذكراته في صحيفة يومية تصدر بلندن. لكنه أغفل ذكر فتوى مفتي بغداد السُنَّي نجم الدين الواعظ، وركز فقط على فتويي فقهاء الشيعة.. آية الله السيد محسن الحكيم، والشيخ محمد مهدي الخالصي. فلربما في الأمر غاية أخرى. كذلك أغفل ذكر العنصرين المتحمسين للقتل الجماعي، وهما: رئيس الجمهورية آنذاك عبد السلام عارف، ورئيس الوزراء أحمد حسن البكر. وبعد أن أنكرت جماعات عديد أمر فتويي فقهاء الكاظمية والنجف، واعتبرتها دساً طائفياً من عبد الغني الراوي، قمتُ بالاتصال بمكتب الشيخ العلواني بأميركا، لأتبين حقيقة ما أورده الراوي في مذكراته. فأجاب الشيخ مصدقاً الرواية، وأنه سجلها كاملة في الكتاب الذي بين أيدينا، وقد قام مشكوراً ببعث الكتاب، الذي استحال عليَّ الحصول عليه بمكتبات لندن.
أورد الشيخ العلواني في كتابه مجمل الآيات القرآنية الخاصة بأمر الردة أو الارتداد، بعد تفسير الردة لغة واصطلاحاً، وأنها تدخل في معنى الارتداد. وقد وصل إلى نتيجة مفادها: أن كل العقوبات الخاصة بأمر الردة هي عقوبات غير دنيوية. ومثلما قلنا لا يسري هذا الأمر على مَنْ أرتد أو خرج عن الجماعة رافعاً سيفه. قال: «فكل هذه الآيات صريحة لم تذكر مرة واحدة حداً للردة أو عقوبة دنيوية لها، وحاكمية تقرير لحرية العقيدة وحمايتها وحفظها، وحاكمية تؤكد أن الإيمان والكفر شأن قلبي بين العبد وربه، وان العقوبة على الكفر والردة بعد الإيمان إنما هب عقوبة أخروية موكولة لله، تبارك وتعالى، وهو سبحانه صاحب الحق الأخير والأول في هذا الأمر»(ص63).
ثم أورد الأحاديث النبوية الخاصة بهذه القضية بالذات، فتوصل إلى النتيجة نفسها، وهي لا حكم أو حد ردة خاص بتبديل القناعة، لأن الأصل هو «لا إكراه في الدين». لكن لم يقتصر أمر حكم الردة على المسلمين فقط، بل مارسها فقهاء أديان أخرى، من قبل الإسلام، وكان الديانة اليهودية في مقدمتها. وهنا يشير المؤلف إلى ما سماه بالاختراق والتطبيع الثقافي. وكان حد الردة أحد تلك المخترقات الثقافية. أما مَنْ قتلوا في العهد النبوي فلم يقتلوا بحد الردة، بل بحدود جرائم أخرى، منها ارتكاب جرائم قتل، أو بجريمة تحريض على قتال المسلمين. ويختم المؤلف فصل «السُنَّة النبوية وقتل المرتد» بالسؤال: هل قتل رسول الله (ص) مرتداً؟ ويجيب على لسان ابن الطلاع في أحكامه: «لم يقع في شيء من المصنفات المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم قتل مرتداً ولا زنديقاً»(ص80). ويتعرض الشيخ إلى فتاوى ردة صدرت ضد كُتاب وباحثين معاصرين، منهم مَنْ قُتل بها مثل فرج فودة، والتي أيدها الشيخ محمد الغزالي رغم الاعتدال المعروف عنه، ونفذت كعملية اغتيال من دون أمر شرعي. وقتل بقوانين الشريعة بحد الردة أيضاً رجل الدين السودان الشيخ محمود محمد طه، وكان حسن الترابي نائباً عاماً ولم يرد حكم المحكمة. ثم جاءت فتوى آية الله الخميني ضد سلمان رشدي. وكان من نتائج هذه الفتوى شهرة كتاب «آيات شيطانية»، وأخذت قضيته شهرة دولية، وأعتبر الغرب الإسلام معتدياً على قيمة الحرية. وبالتالي جعلت الفتوى من رشدي رمزاً عالمياً للحرية. في «حين أنه لم يكن سوى أجير رخيص جعل من كتابه وسيلة اشتهار وبالون اختبار»(ص 8).
ويسأل الشيخ العلواني: «لو طبق هذا الحد عبر فترات التاريخ بشكل كامل، هل كانت مجتمعات المسلمين اليوم خالية من أولئك الذين تبنوا تيارات فكرية إلحادية ونحوها، وتجاهلوا هويتهم الإسلامية وعقائدهم الإسلامية؟». ولو قُلب السؤال: لو طبق حد الردة في بلاد المسلمين كلها، هل كان الذين أمضوا فترات مهمة من حياتهم بعيدين عن الإسلام، أحياء ليمارسوا الدفاع عن الإسلام وتزكية تراثه؟ وقد شهد الشيخ، ونزلت دمعة عينه تأثراً، نوال السعداوي، التي طاردها حد الردة، تدافع عن الإسلام أمام مئات الأساتذة من المختصين في دراسات الشرق الأوسط بأميركا(ص10).
لا يتفق الشيخ مع الإجماع الحاصل بين الفقهاء في أمر قتل المرتد. فهو ليس من موجبات حدود الإسلام الدنيوية. «لقد أغلق جمهرة العلماء باب الحديث في هذه القضية بسيف الإجماع، بدعوى الإجماع منذ وقت بعيد اتخذت وسيلة للحيلولة من دون مراجعة بعض القضايا الخطيرة، مثل هذه القضية، فمع وجود الخلاف في حكم الردة في القرون الثلاثة الأخيرة، وعدم تحقق الإجماع في تلك العصور على حكمها. لكن القائلين بوجود حد القتل للمرتد في شريعتنا ادعوا الإجماع»( ص 40). لم تحسم قضية الردة وسط مستجدات تجوب العالم، ومتغيرات تتخذ من حرية المعتقد مرتكزاً للتعبير والممارسة. الحرية التي «أحيطت بسائر الضمانات القرآنية». والحل الأمثل هو الامتثال لـ«لا إكراه في الدين»، كعقيدة ثابتة، لا تقبل التكهنات والتفسيرات التي تحجبها في زمن تشتد الحاجة إليها.
وإذا كانت قصة طلب فتوى، بعد منتصف الليل، لهدر دم أكثر من ثمانية آلاف إنسان بعد تحضير المقابر الجماعية لهم، حافز خريج الأزهر الشيخ العلواني في البحث عن إشكالية الردة، فإن عشوائية فتاوى شيوخ الجهاد اليوم، لقتل عشرات بل مئات المدنيين، وتغليف الخصومات السياسية بالدين كانت الدافع الأهم أن يصدر البحث في هذه الأيام. كانت العقلانية منهجاً للشيخ العلواني في دراسة حكم الردة، وغيرها من الدراسات التي ركز فيها على مد جسور التعايش بين الغرب والشرق. وأن موقفه في نشر التسامح، لم يأتِ كما يعتقد البعض من معايشة طويلة مع الليبرالية الغربية، بل أشارت قصة معارضة مشروع تلك المذبحة إلى أُصول عميقة في ذهنية صاحبها، وقد بدأ متفقهاً بفقه «لا إكراه في الدين»، ومسترشداً بمدرسة تسامح إمامه الأعظم أبي حنيفة النعمان.

الشرق الاوسط