الخميس 8 /3/ 2007
 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

هذا الكتاب

 

 



مهاجرو دنى غالي في (عندما تستيقظ الرائحة)
خراب المنفى القديم في المنفى الجديد



رضا الظاهر

منذ البداية، وفي أول صفحة من روايتها، تصدم دنى غالي القاريء وهي تدخله الى عالم الحزن والخراب وحكايات المنفيين .. عالم العراق إن شئتم.
"نرجس إلهة سومرية لم تكن على درجة من الجمال، ولأن الناس هناك يعشقون الجمال كانت نرجس منسية في حياتها، ولكن بعد أن حل الخراب بموتها، أخذ الناس يسجدون لها وينذرون النذور". ونرجس هذه "إلهة القهر والحزن والخراب والحكايات، ويقال بأنها طيلة فترة صمتها كانت ناقمة على شعبها، لذا آل الحال بنا الى ما آل".
ولاستخدام الأسطورة هنا دلالات تضيء خراب المنفى القديم (العراق) الذي نقلت منه شخصيات الرواية خرابها الروحي الى منفاها الجديد (الدنمارك). وبين المنفيين نشم رائحة الضياع على مستويين: ضياع المكان وضياع الشخصيات.
وفي رواية الكاتبة العراقية دنى غالي الموسومة (عندما تستيقظ الرائحة)، والصادرة، مؤخراً، عن دار المدى، يشيّد الفصل الأول من الرواية، الذي يحمل عنوان (المحللة النفسانية)، المعمار الذي تقوم عليه بنية الرواية، ويضيء سعي الكاتبة الى إعادة اكتشاف الأماكن الضائعة والأحاسيس المدفونة منذ الطفولة.
والحرب التي تدور هذه الرواية حول عواقبها لم تكن ما استحوذ على الكاتبة بقدر ما استحوذ موضوع الزمن والذاكرة عبر معاناة الانتقال من منفى قديم الى منفى جديد.
وتستخدم الكاتبة في هذه الرواية ذات الفصول الثلاثة، وعلى مدى صفحاتها الـ 233، فكرة الماضي الذي يتسرب الى الحاضر من دون أن يُنجَز بالكامل. فالزمن في (عندما تستيقظ الرائحة) لحظة حاضرة أبداً. ويتحول هذا الزمن الذي يبطيء في الذاكرة من تيار متدفق الى شيء لزج لا يمكن التنبؤ به، مثل الدم الذي راح يتخثر حول أحداث مرعبة ليوقف جريانها. غير أن دنى غالي عازمة على النظر في وجه الواقع مباشرة، ولا تجفل من عرض المخاوف والأحزان، وهي إرث عراقي. ومن هنا نوستالجيا البحث في الذاكرة، وتعاطف الروائية العميق مع من يعانون الدمار السايكولوجي.
ومن بين الأشياء التي تدهش المرء في هذه الرواية تلك العزلة التي هي نتاج الحرب والاستبداد وما يخلقانه من محنة للروح الانسانية. وتكاد جميع شخصيات الرواية أن تكون جزراً منعزلة. فهم مغلقون إزاء الآخرين، حتى وإن حاولوا اجتياز الحواجز التي تفصل بينهم، الى حد أن محللة نفسانية تعجز عن اكتشاف أعماق مروى البصري، المهاجرة من البصرة الى المنفى الاسكندنافي.
وعلى امتداد الرواية تقدم الكاتبة سرداً روائيا عبر حكايات قاسية من زمن الحرب تكشف عن حقائق الماضي المروعة. فالحرب لا تدور حول المجازر التي ترتكب فيها حسب، وإنما، أيضاً، والى حد كبير، حول آثارها المأساوية. ومن بين هواجس دنى غالي، في هذه الرواية، الكشف عن سلطة الاستبداد وتدميرها للانسان عبر الحروب وإشاعة ثقافة الخوف.
وتحاول الكاتبة أن تجمع شظايا الحياة الضائعة لشخصيات هي ضحايا الحروب والمنافي، حيث نجد أكثر من شبح تتصارع معه هذه الشخصيات، وبينها تلك الأشباح التي تلاحق الذاكرة.
أمامنا ثلاث شخصيات رئيسية: مروى البصري، نهلة صباح، ورضا المولاني، هم ضحايا الاستبداد العراقي والمنفى الدنماركي. ثلاثتهم يعانون من قلق الانتقال من منفى قديم كانوا فيه على صلة مع بعضهم، الى منفى جديد، وما يرافق ذلك من مخاوف وكوابيس والتباسات وانفعالات حادة، تتخذ صيغاً مختلفة، أكثرها جلاء صيغة الاعترافات أمام المحللة النفسانية الدنماركية. ويتجلى أمامنا عالمان: عالم المحللة النفسانية التي هي (الآخر) بالنسبة للمنفيين الثلاثة، وهم (الآخر) بالنسبة لها. وبين العالمين ترسم الكاتبة خطوط الصراع والهوية الضائعة والتصادم الثقافي، حيث يبهت المكان القديم لصالح الشخصية، بينما نجد توصيفاً أدق وأوسع للمكان الجديد، الى حد التبرير الفني المقنع لوجود شخصية المحللة النفسانية، الذي يتحول الى جزء من بنية الرواية ووسيلة الكاتبة لإثارة الأسئلة.
وعبر حوارات المنفيين يضيء تشتت الشخصيات نتائج استبداد المنفى القديم، ونتائج ضياع المنفى الجديد، حيث هذا المنفى أنهى رضا المولاني في اتجاه الاحساس باللاانتماء والتشبث بالعودة اليائسة، وأنهى نهلة صباح (زوجته السابقة) التي غيرت اسمها الى (هيلينا سابا) كمجاز لقطع صلتها بالماضي، وأنهى مروى البصري بوضعها في حالة صراع مرير بين ماضٍ يسحبها وحاضر يهرب منها.
إذن فقد ضاع المكان القديم وبات شبحاً في الذاكرة، ويصعب على المهاجر أن يعثر على وطن آخر. ويكشف ذلك الحوار في الصفحات الأخيرة من الرواية بين مروى البصري ورضا المولاني من ناحية عن أوهام العودة الى وطن لم يبق من مقوماته شيء، ويضيء، من ناحية ثانية، قدرة الكاتبة على الجمع بين الاحساس النسوي والمصير الانساني على مستوى الشخصية والذاكرة.
وفي (عندما تستيقظ الرائحة) نرى القدرة على التأمل والتداعي، والتقاط التفاصيل الصغيرة، واستخدام الانتقالات في المنظور، وتوقف السرد التلقائي المتأني، أحياناً، حتى ينفسح المجال للاستطرادات في التواريخ والذكريات والأجواء العائلية، والتنقيب في آثار المحن.
هذه رواية حزن عراقي ينتقل عبر الأجيال مثل صفات وراثية، ترويها كاتبة هي ذاتها مهاجرة واقع ومهاجرة مخيلة. فدنى غالي عانت الحرب والاستبداد وغادرت بصرة العراق أوائل التسعينات الى المنفى الدنماركي حيث تقيم. والمكان في هذه الرواية جزء أساسي من البناء الفني، واستيقاظ الرائحة مرتبط بذلك المكان الذي تسعى الكاتبة الى إضاءة جمالياته.
يقال، عادة، إنه إذا أراد المرء أن يكون روائياً فان عليه أن يكتب حول ما يعرفه. وهذا هو، على وجه التحديد، ما تفعله هذه الكاتبة التي تعود في روايتها الى الجذور، وتدرس فيها المدى الذي يمكن أن يكون فيه الآخرون منطقة لم يجرِ اكتشافها.
ويبدو أنها تكتب لأن المكان تخلى عنها، فراحت تضيء اضطراب الجسد والروح، وانتزاعهما من المكان، وهي المحنة الحقيقية للمنفي.