آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 28/12/ 2009

 

أصابع الحنّاء

ميسون يوسف  *

فتحت الصندوق العتيق فأنبعثت منه روائح العشب الرطب والقصب والبردي, قلّبت حوائجها وأشياءها الصغيرة ففاحت رائحة كيس الحنّاء الذي مكث في قعره طويلاً, فقد رفضت أن تتخضّب بهذه الصبغة المباركة , كما تركت جدائلها الطويلة السوداء كما هي , لحين أن يكتب لها القدر العودة ثانية .

الجميع يعرف ( خضرة ) ويعرف أنها عاهدت نفسها أن تفي بنذورها الكثيرة إذا ما عادت , مذ حملت صندوقها الخشبي العتيق وغادرت الهور مرغمة وقد جمعت فيه كلّ عالمها الصغير .. مفردات حياتها .. ذكريات ليلة عرسها .. مرآتها الخشبية المؤطّرة والملونّة بألوان البسط الشعبية ..وحتى صرخة وليدها الأولى .

رفع سائق التكسي الصندوق الخشبي ووضعه فوق سطح السيّارة , وقد أحكم لف وربط الحبل حوله لتفادي سقوطه خاصة أثناء المنعطفات الحادّة للطريق , وكانت هي تراقبه بصمت وحذر شديدين , وبعد أن أطمأنّت لذلك رفعت ساعديها لتعيــــد ترتيب عباءتها على رأسها فبان الوشم الذي اعتبرته طيلة حياتها العلامة الجميلة الفارقة التي تميّزها عن بنات الهور الأخريات .

صعدت السيّارة وأخذت موقعها خلف السائق وكأنّها تضع نفسها موضع الأستعداد للدفاع في حالة صدور أية حركة من أحد الراكبين يراد بها التحرّش , فهي لازالت في اواسط العمر ولا زالت تحمل بقايا فتنة دعكتها الأيام بقساوتها . صعد بقيّــــة الركاب وانطلقت السيّارة بإتجاه الجنوب , تناول الراكب اللصيق بها سيجارة وسحب نفساً عميقاً منها , إنتابتها رغبة شديدة تلك اللحظة في التدخين , بحيث اوشكت ان تطلب منه واحدة , الاّ أنها أستدركت خشية أن يكون ذلك معيباً وسط مجموعة من الرجال .

لا زالت السيّارة تلتهم الطريق مسرعة نحو الجنوب مروراً بمنطقة الأهوار التي عرفت ( خضرة ) مؤخّراً إنها عادت مجددّاً وأن الماء بدأ يغمر تلك التربة التي مزّقتها سكاكين الجفاف , وأن الخضرة راحت من جديد تتسلّق سيقان القصب وأعواد البردي , ويقال أن حتّى أصوات الطيور التي اعتادت أن تلعب فوق سطوح الماء بدأت تسمع من بعيد , وأن الحمريّات رحن يتقافزن كعهدهن بين المشاحيف المتعبة .

راحت الذكريات تحتشد في رأسها ضاغطة بأتجاه عينيها فنزّت دمعتان ساخنتان على وجنتيها التي جففتهما الحرارة المنبعثة من قلب التنور وهي تقوم بدور الخبّازة طيلة فترة هروبها .. تذكّرت ( محيسن ) وكيف اختفى هو وولدها ذو العشر سنوات من أمام عينيها أثناء مداهمة عسكر السلطة لهم و وكيف قاوم ( محيسن ) ذلك الفحل الذي أمتلك قوة وشجاعة كتيبة بكاملها . لقد أختفى مع ابنها مثلما اختفى معظم رجال القرية , ولم يتبق سوى عويل النساء وصراخ الأطفال والذي راح يخبو يوماً بعد يوم , وبعض المشاحيف اليتيمة التي راحت تقترب شيئا فشئ الى أن مسّت القاع , وقد هربت كل الأسماك والطيور ونفقت كل الماشية وانكسرت حتى اعواد القصب , ولم يبق على سطح اليابسة سوى بقايا بعض البيوت المحترقة وسوى صدى إطلاقات لنار كثيف ومرآى لنيران إلتهمت كل شيء ما عدا الأصرار الذي ترسّخ في القلوب بأن العودة لا بد آتية يوما ما .

لا زالت السيارة تسير وعينا ( خضرة ) مسمّرةٌ خلف النافذة وثمّة أغنيات راحت تتلو على شفتيها بصوت خفيض يكاد لا يسمع , هي نفس الأغنيات التي كنّ يصدحن بها أثناء ما كنّ يتمايلنّ في مشاحيفهنّ وهنّ يجمعن القصب , وراحت المواويل والأبوذيات التي كان رجالهنّ يتبارون بها في حلقاتهم تتوالى على ذاكرتها , لقد أستهدف القتلة حتى الأغنيات والقصائد الجميلة , كنّ يتساءلنّ أثناء هروبهنّ لماذا كل هذا ؟ لماذا كانوا يستهدفون الحياة, لو انهم جاؤونا كضيوف .. اما كنّا فتحنا لهم أذرعنا وقلوبنا .. لكنهّم جاؤوا كأرتالاً الجراد واكلو كل شيء ولم يتركوا غير الدمار والخراب .

تذكّرت ليلة فرّت لوحدها مع النساء بعد أن فقدت (محيسن) وولدها , كيف كان القمر مكتملا وساطعاً وكيف أختلفن فيه , فبعضهنّ تمنيّن لو كان غائباّ حتى لا يكتشفنّ أثناء الفرار , والأخريات تمنيّن لو أن سطوعه كان أشد كي يعينهنّ على تلمّس مواضع الطريق تسهيلاً للهرب .

أستقرّ المقام ب (خضرة) بعيداً في مدينة كبيرة لا تعرف فيها احد ولا تشمُّ فيها رائحة القصب ولا تسمع فيها خفق أجنحة الطيور وهي تتراقص حولها , لقد نذرت أن تترك جدائلها دون ان تمسّها أصابع الحنّاء الاّ إذا تكحّلت عيناها بمرآى الهور وقد عادت الحياة اليه .

توقّفت سيارة الأجرة كي ينزل أحد الراكبين , وقد شعرت (خضرة) بأن ثمّة رائحة تعرفها جيّداً هي مزيج بين رائحة مخلّفات الماشية والرائحة التي تدفع بها حمريّات الهور نحو شواطىء اليابسة .. ارتسمت أبتسامة عريضة على وجهها وصاحت :
ــ أنا انزل أيضاً .
كانت تعلمُ ان المكان الذي تقصده بعيد , الاّ ان شوقها الكبير للوصول دفعها الى ان تنزل في ذلك الموضع وأن تحملُ الصندوق الخشبي العتيق على رأسها وقد ساعدها أحّد الركّاب على ذلك .

في صباح اليوم التالي , ظهرت (خضرة) من بين بقايا حزم من قصب قديم كان يوماً بيتها , وقد بانت جدائلها المحنّاة .



 * قاصــــــــة عراقيـــــــة


 

free web counter