آداب

 

| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأثنين 23/1/ 2012

 

مصير الشيطان

هيثم نافل والي
 

في نفس تلك الليلة... دخلَ أثنان من السارقين وهم جياع، إلى أحد المنازل...
- أرى المنزل مظلماً كالقبر( قالَ أحدهم ).
- أجابهُ الآخر مرتبكاً، نعم، ورائحته نتنة كرائحة جثة متفسخة.
- يرتطم الأول بشيء في الأرض، ويقول ما هذا؟ كأنه صرة مليئة بالخشب.
- لنحملها إلى الخارج، لعلنا نجدُ فيها كنزٌ ثمين أو شيءٌ يأكل؟!
- يحملونها، وعندَ عتبة الباب الخارجي من المنزل، ينظرون لها، وإذا بهم يفاجئون بجثة امرأة، يتلفتون حولهم بهلع، لا يعرفون ماذا يفعلون... شاهدتهم الجارة أم عماد، فزعت صارخة في وجههم، ماذا أرى؟ من هناك؟ ماذا تحملون دعوني أتأكد بنفسي...!
قبلَ وأثناء حرب الخليج الأولى، عاشَ عزيز سلام، معَ زوجته إلهام عواد، في مدينة بغداد، لا يملكون في حياتهم، سوى كرامتهم وعزة نفسهم التي توارثوها بجدارة عن أجدادهم .
كانَ يحيى وحيدهم، عاشَ وشّبَ على الدلال المفرط، خاصةً من أمه، لا يرفض له طلباً مهما كان، ومرات قبلَ أن يشير إليها بأصبعه الصغير، يعمل أبيه الصائغ بورشة تابعه له، في نفس المنطقة التي يسكنها، يصوغ فيه خواتم الزواج الرجالية، التي يصنعها من مادة الفضة، وينقشها من الداخل أسم الزوجة وتاريخ الزواج، بيده الخشنة، التي يظهر عليها آثار جراح قديمة مازالت لم تندمل بعد، لاستعماله أدوات الصياغة البدائية التي لا يفكر بتغييرها لنقص المال، لذلك كانَ يصوغها بطرقها ومعالجتها حرارياً في نفس الوقت، بينما ينقش الأسماء والتواريخ بقطعة حديدية مدببة من طرف واحدة، غالباً ما تنزلق أثناء النقش جانباً، فتأكل من لحم يده أكثر مما تحفره في فضة الخواتم، بينما كانت أمه ربة بيت وعلى قدر بسيط من التعليم، تتعامل مع من يحيطون بها بالفطرة، لا تطمح إلا لإسعادهم لتعيش لأجلهم، كراهبة.
عاشَ يحيى بلا كفاءه تذكر، واستمرَ يأخذُ مصروفه اليومي من أبيه، وفي إحدى الأيام التي كانَ يقضي فيها عطلته الربيعية في منطقة الحبانية، معَ أصدقائه، للترفيه عن نفسه، بعد فصل دراسي منهك! وعلى شاطئ البحيرة الجميلة آنذاك، تعرفَ على طيف قاسم، والتي تعتنق نفس ديانته، وهذا ما شجعه أكثر، ليقدم على الخطوة التالية، وهو يعلم علم اليقين، بأن في مجتمعه الضيق، لا يعترفون ولا يسمحون، بالعلاقات التي تسبق الزواج، فطيف كانت بالنسبة له، حلم يراه في الحقيقة، تلك الشابة الجميلة، ذات العيون الخضراء، بلون الشجر، أنجذبَ لها، لتبادله الشعور ذاته، ليكونا بعد ثلاثة أشهر من تعارفهما خطيبين، دونَ تخطيط مسبق لحياتهم القادمة، بعد أن أقنع ذويه بخبث وحيلة ومكر الثعلب، بجدوى الزواج المبكر! سمعهُ الأب وهو صامت لا يعرف ماذا يجيب، بينما فرحت الأم بطيبتها الساذجة بقرار أبنها الوحيد.
لم يعش بعدَ زواجه أكثر من تسعة شهور في منزلهم القديم، ليقرر فجأةً السفر إلى خارج العراق برفقة زوجته، على الرغم من أنه مازالَ طالباً جامعياً. صعقت الأم بالخبر، وبدأت توسلاتها المكوكية أولاً مع الزوجة، وعندما لم تصل معها إلى أي أتفاق، ولم ترى فيها إذنٍ صاغية، استغفرت ربها، وقالت في سرها: مسكينة لا تعلم ماذا ينتظرها هناك في الغربة. ثمَ حاولت معَ أبنها تترجاه بقلب يعصرهُ الألم، في كل كلمة تنطقها:
يا بني لا تجعل حسرتي عليك تأكلني، فأنا لم أعش إلا من أجلك، لا تفكر بأنانية الطفل، فكر بأبيك المريض الذي أصبح نظره ضعيفاً جداً، لا يرى الخواتم التي يصوغها إلا بشق النفس، وأنا ماذا تظنني؟ كيفَ سأعيشُ بدونك؟ هل فكرت بنا؟ لا تكن قاسياً كالصخر، أتوسل إليك بأن لا ترحل وتتركنا، لا تقتلنا في الحياة، أرجوك، وأجهشت في البكاء المر الذي يقطع أوصال من يراها، إلا أبنها الجامد كقالب من الثلج، يسمعها ويراها تبكي وتنتحب، وهو يتأفف من الضجر!
سمعَ الأب بالخبر، فأوصى أبنه بأن يزوره في ورشته، بعد انتهاء دوامه الرسمي، كي لا تسمع الأم ما سيدور من حديث، فيؤذيها، أنتظر الأب طوال النهار، ولم يأتيه! وفي المساء كررَ طلبه، بعدَ أن تعذر يحيى بأسباب وجدها والده بأنها واهية وغير مقنعة، لكنه لا يملك الكثير من الأوراق في يده، وهو يعلم بأنه يستطيع السفر دونَ الرجوع إليهم، رغم ذلك أصّرَ على مفاتحته بالموضوع لعله يتراجع فيغير رأيه، لكن انتظار الأيام القادمة لم تجدي نفعاً، وفهم الأب تلك النوايا على أنها أجوبة صريحة، لا يريد المواجهة في موضوع قد حسم وأصبحَ في حيز التنفيذ، فأجبرهم على الخضوع، وهم صاغرون.
ودعتهم الأم بالدموع، والأب بالأحضان والقبل، بينما يحيى يستعجل الوقت ويأمر زوجته صارخاً، هيا يا طيف، سنتأخر على موعد الطائرة، ألم تنسي شيئاً؟ هلً أخذتِ معك كل أشياءك الثمينة؟ لأننا قد نحتاجها هناك، من يعلم؟ وأنتَ يا أبي لا تنسانا، فأننا هناك سننتظر ما ستبعثه لنا من مال، سأتصل بكم، كلما احتجتُ إلى شيء، أعدكم بذلك، هيا يا طيف فالطائرة...
- معَ السلامة يا أبني، كن حذراً، وأعتني بنفسك وبزوجتك جيداً، وأتصل بنا كلما سمحت الظروف بذلك، أرجوك، وهي تودعه أجهشت بالبكاء، تجعل من يراها يموت آلاف المرات، إلا أبنها.
سافرَ يحيى وهو مازال بعد لم ينهي دراسته الجامعية، بينما كانت زوجته قد أنهت دراستها الإعدادية، لتبدأ حياتهم الجديدة في مدينة نيويورك الأمريكية، وسط انبهار وتعجب استمرَ لعدة أسابيع، فالحضارة الحديثة، والبنايات الشاهقة، والشوارع المزدحمة. بدت المدينة لهم وكأنها تدور، كل شيء فيها يجري بسرعة حتى الأطفال الذين مازالوا يحبون.
اضطروا للعيش على ما تقدمه لهم بلدية المدينة من معونات ، تلك التي تقدم للذين هم تحت خط الفقر،
بالإضافة إلى دعم الكنيسة، ذلك بتزويدهم بالمواد الغذائية التي نفذ تاريخ صلاحيتها، ولكنهم يوزعونها للفقراء، حتى تعود يحيى بالوقوف في طابور طويل مرة كل بداية أسبوع للتزود بما يفيض من تلك المواد.
فكرَ يوماً بالاتصال بأهله، عندما بدأ الجوع ينهش بطونهم، بعد أن فشلت كل محاولاته للحصول على فرصة عمل يعيشون منها، خاصة وأنه لم يكمل دراسته الجامعية، أنتظرَ ذلك اليوم لحين قدوم المساء في توقيت بغداد:
- الو... مرحباً يا ماما، أنا يحيى.
- نعم يا حبيبي، كيفَ هي صحتك، وكيفَ حال زوجتك ، ألم تصبح زوجتك حامل بعد؟ هل تأكلُ جيداً؟ قل لي بصراحة ولا تخبئ شيء على أمك يا ولد...
- نحنُ... نحنُ بخير يا ماما، وكيفَ حالَ أبي، قولي له أرجوكِ بأننا نحتاج إلى بعض المال، والعنوان قد أرسلته في رسالتي الأخيرة لهذا الغرض، أرجو أن يعجل الإرسال يا ماما.
- الو... الو... أنقطع الخط ، ولم يقل أي كلمة وداع، لا أحبك يا ماما، ولا أي كلمة اشتياق. استطردت تدافع عنه : قد لا يملك حق الاتصال؟ لذلك أنقطع الخط. ثمَ أردفت متألمة: لم يعطني الفرصة للكلام، كي أخبره بما حصل، ولكنه كيف سيقع الخبر عليه؟ لا، لن أخبره، آه يا ربي، ماذا يمكن لي أن أفعل، أنه رجل وعليه أن يتصرف أيضاً كالرجال، لكنه وحيدي وأخافُ عليه، لم أعد أملك في الحياة سواه، آه رأسي يكاد ينفجر، يا ألهي( هكذا كانت تكلم نفسها كالمجنونة )
بعدَ ثلاثة أسابيع، عاودَ الاتصال مجدداً:
- الو... مرحباً يا ماما، نحنُ مازلنا ننتظر المساعدة، ألم يرسل أبي شيئاً؟
- ... سكون، كصمت القبور، بلا جواب.
- الو، ماما هل تسمعينني؟
- نعم يا أبني أسمعك جيداً، ولكن... فضحها صوتها المرتبك، بكت بصوت موجع، كمن تقطع يده دونَ مخدر.
- ماما، ماذا حدث؟ تكلمي أرجوك، هل أبي بخير؟
- ( بصوت مرتجف كرنة الجرس، وبنبرة حزن عميق كمن يؤذن، وبحسرة خانقة كالمرء الذي يشعر بأنه سيموت بعد ساعة) أردفت: أبوك يا بني... قد... قد ماتَ قبلَ خمسة وعشرونَ يوماً، ودفن في مقبرتنا، وقد تصرفت بورشته كي أسدد تكاليف الدفن، حتى أنها لم تكفي، ولم يسوى قبره سوى بحفنة من التراب، دون زهور يا يحيى، هل سمعت دون زهور... وأجهشت في البكاء مجدداً.
- الو... ماما، أرجوكِ أن تتحلي بالصبر، وأن تمسكي أعصابك فالوقت يجري، والمكالمة تكلفني كثيراً، أرجو أن تركزي معي، وقولي لي بسرعة، ماذا ترك لنا أبي؟
- نعم يا بني، أنا أتفهم ظروفكم جيداً، لكن أبوك لم يترك لنا ما هو ثمين، وأنتَ تعلم بأنَ الفضة التي كانت بحوزته، لا تساوي شيئاً يذكر الآن، وأدوات الصياغة التي يمتلكها كلها قديمة والصدأ يملأها، فكل هذه الأشياء لا تساوي اليوم حق كيس من الطحين الأسمر المخلوط بالنخالة، آه يا بني ماذا أقول لك، الأمور لم تعد كما كانت عليه في السابق، وعلى الرغم من أنك لم تتركنا سوى ستة أشهر، ولكن كل شيء قد تغير هنا وبسرعة مذهلة...
- ماما، سأضطر لغلق الخط... ينقطع الخط، دون أن يودعها، وهي مازالت تتحدث...
- معَ السلامة يا بني، اعتنوا بصحتكم أرجوك، أفعل ذلك لأجلي، وأعلم بأني أحبكم كثيراً جداً، أجهشت في البكاء المتواصل، كما يبكي الطفل، وأردفت:
لقد أصبحت وحيدة يا بني، لا أحد باتَ يتكلم معي أو يسمعني، سوى الجدران، حتى أنني بتُ أصدقُ... إنها فعلاً تتحدث معي، وتعيد عليّ كل ما أقوله، أشعر بأنها تتألم لآلامي، بل حتى أنها تبكي معي، فأشعر بدموعها ندية ورطبة عندما ألمسها بحنان أم... براحة يدي. ثمَ واصلت وهي تتنهد: إلا تصدقني؟ ماذا دهاك يا بني؟ لقد باتت كلماتك قاسية كضربات السوط، وثقيلة كالحجر على قلبي، أريد أن أتكلم معك إلا تشعر أنت بهذه الحاجة، أأصبحَ قلبك إلى هذا الحد صلداً كحجر الصوان؟ لا أريد منك شيئاً سوى التحدث معك، هل هذا كثير، أنا أمك يا يحيى، هل تفهم ما يعني هذا؟ حتى أني ترددتُ في رفض عرض جارتي الطيبة أم عماد، لأنَ هذا لا يرضي الله ولا أحداً، فهي مسئولة عن أسرة كبيرة، ولها طفلٌ مريض بالربو، قد يختنق في أي لحظه، حتى أبنها عماد الموجود في إيطاليا، تأخر عن إرسال الأدوية الضرورية له، وهي قلقة جداً هذه الأيام وتكاد تجن، كيف يمكن لي قبول عطفها؟! حينَ قالت: لو أحببتِ أستطيع أن أبقى معك أثناء الليل.
(تتحدثُ معَ نفسها، كأنها تحضر روح لعزيزٌ لها، أدركها النعاس، فغفت معَ حزنها ووحشتها، ببراءة طفل وهي جالسة بلا ظل)
بدأت الأم تعاني الوحدة القاتلة، سماعها الأصوات ليلاً جعلها قلقة، لا تستطيع النوم، حتى أنها بدأت تصدق الأوهام، كأنها حقيقة تنظر لها كالمرآة، قطع عنها النور، بسبب تأخر الدفع، استعاضت عنه بوهج الشموع، حتى ثقب الباب بدا لها في الليل، مثل عين وحش يترصد حركاتها، باتت تتقلب في السرير وكأنها نائمة على جمر، أصبحت هزيلة، كبالونه أفرغت تواً من الهواء، وعيونها ملتهبة حمراء بلون الدم، أنهكها السهد، لتنهض في صباح اليوم التالي تستقبله، كي تبيع فيه قطعة أخرى من أثاث منزلها، بعدَ أن بدأت ببيع جهاز التلفاز ومن ثم كانت قد تصرفت بطاولة الطعام والكنبة والأسرة واحداً تلو الآخر وحتى المذياع الكبير المستقر على الرف، الذي شاطرهم حياتهم . استقطعت جزء من المال الذي باعت به تلك الأشياء لتشتري فيها بطاقة كي تتصل بابنها...
- الو... نعم يا ماما إني أسمعك.
- حبيبي، كيف صحتك وكيفَ هي زوجتك، لم تعد تتصل بي؟ هل نسيتني يا بني؟ أرجوك أبقي الخط مفتوحاً ليلاً، فأنا بدأت أشعر بالخوف هنا بمفردي، أريد أن أسمع شهيقكَ وزفيرك، كي أشعر بالأمان، وأعدُ نبضات قلبك لأنام، أرجوك أنا سأتحمل تكاليف المكالمة، لا تقلق من ذلك، لن أكفلك شيئاً. ثمَ دمدمت بتهالك: يا حبيبي أريدك فقط أن تكون معي، فالوضع هنا قد تغير كثيراً، هناك من يريد سرقتي أو قتلي، أراهم في كل ليلة يحومونَ حول المنزل، صدقني يا ولدي... ترتجف وتتلوى كطير مذبوح.
- ماما، أرجوكِ وصلي لي سلامي إلى صديقي جبار، أنتِ تعرفينه، أنه زميل الدراسة، قولي له أنني مشتاق جداً لتلك الأيام التي قضيناها معاً، أنها أيام لا يمكن نسيانها، سأحاول الاتصال به قريباً، حين يكون لدي بعض المال، لا تنسي يا ماما؟ لأجلي... وينقطع الخط مجدداً دونَ مؤاساة أو كلمة حب أو حتى وداع.
- سأذهب إليه اليوم بعد الظهر يا ولدي، لا تقلق، سأفعل ذلك من أجلك، ما دامَ هذا الأمر يجعلك سعيداً وراضياً. لكنك لم تقل لي، هل أستطيع أن أكون بجانبك ليلاً؟ فأنه سيأتي وسيجلب معه الخوف، هل تعلم ماذا يعني الشعور بالخوف لامرأة بسني؟ أراك كالصنم بلا عواطف، ماذا جرى لك؟ نسيت اهتمامي بك وسهري الليالي؟ أجبني بالله عليك ولا تجعلني أكلم نفسي كالمجنونة، ماذا... ها... ؟ لماذا لا ترد؟ هل أنت شيطان بجسد إنسان؟ ثمَ تهتفُ دونَ وعي: لا أنت يحيى أبني، حبيبي، تنتحب، ترتجف، تبكي بلا صوت، تغمض عينيها، تنكسُ رأسها فتغفو وهي جالسة كالميت.
كبرت في الستة أشهر الأخيرة، كما لو أنها ستينَ عاماً، أنتشر الشيب في رأسها فجأةً، وبسرعة غريبة، كما تنتشر الغيوم الملبدة بالأمطار في شهر نيسان، أنحنى ظهرها، ليصبح كقوس الرماية، فتبدو للناظر ذابلة، كزهرة قطفت قبلَ أيام.
كبَر القلق في داخلها، كما يكبر الجنين في رحم أمه، باعت أبريق الشاي الذي كانت تحتفظ به، وقالت تحدثُ نفسها وهي منهكة: ماذا يعني أبريق الشاي بالنسبة لي؟ لا شيء. فأنا لم أحضر الشاي منذُ موت زوجي، ولا أرغب باحتسائه من دونه، إذن لا جدوى من الاحتفاظ به. واشترت بثمنه بطاقة لتتصل بابنها الذي لم تسمع صوته منذ مدة:
- الو، بصوت متثائب، منْ هناك؟
- أنا أمك يا نظر عيني.
- أه يا أمي، هل تعلمين كم الوقت الآن؟
- لا يا ولدي، فعندنا هنا مازالت الشمس تلعب معَ الأطفال، فالطفل يحاول أن يهرب من ظله، لكن الأخير يلاحقه بإصرار لا يعرف التعب، مثلي يا ولدي!
- نعم يا أمي، نعم، ولكني متعبٌ جداً الآن، لأنني قضيت اليوم بطوله في المستشفى مع زوجتي، لقد سقط الجنين للمرة الثالثة، هل عرفت الآن لماذا أنا متعب؟ وأرجوكِ يا أمي لا تلاحقينني كالظل، فأنا لم أعد طفلاً، سأتصلُ بكِ غداً، أعدكِ بذلك، يغلق الخط...
- انتظرتُ مكالمتك طويلاً يا بني، وبعتُ آخر أبريق احتفظتُ به ذكرى من أبيك، كي أتصلُ بك. أن داخلي يا ولدي قد حطمته، كما يتحطم الزجاج، والجراح في داخلي تنزف شوقاً لك، هل تسمعني يا ولدي؟ أن حبك يأكلُ قلبي، كما تأكل آفة السرطان جسم الإنسان، فأنا لم أطهي الطعام منذُ أيام، ولا أرغب في الأكل بمفردي، لا أريد إلا أن أكون بجانب أبيك، لقد اشتقت إليه كثيراً، لم أعد أطيق الانتظار، ما رأيك أنت، هل تسمعني؟
باعت فراشها، لتفترش الأرض، وتلتحف الفراغ، كي تشتري بإصرار مرة أخرى بطاقة، فتعاود مجدداً ودونَ ملل الاتصال... وهي تشعر بأنها لم تعد تقوى على الحركة أو حتى الكلام، ونهايتها باتت مجرد لحظات، ولكنها تريد سماع صوت أبنها، قبل أن ترحل وإلى الأبد.
- الو، نعم يا أمي لقد عرفتكِ مباشرةً ما وراءك؟
- إني جائعة يا ولدي، وخائفة، أشعر بالهزال الشديد، لم أعد أقوى على الوقوف، بالله عليك لا تغلق الخط، بالله عليك... ينقطع الخط.
فتسقط سماعة الهاتف من يدها الصغيرة المرتعشة، تتوقف الحياة في قلبها، كوردة قطعت من غصنها.
في هذه اللحظة، كانت زوجته تنظر له جامدة مثل عمود ملح، كزوجة لوط... تنظر له بعيون ثاقبة، مثل عيون الصقر، فأدارَ رأسهُ نحوها وسألها بنبرة مشفقة:
لا تتأثرين يا زوجتي العزيزة على سقوط الأجنة، نحنُ ما زلنا شباباً، والحياة ما زالت أمامنا طويلة، لا تيئسين من رحمة الله... وعندما لم تبد أي حركة، تقرب منها، رفعَ يدها فسقطت من تلقاء نفسها، كجلدة السوط، وأحسَ ببرودة جسدها جامدا كالثلج! رجعَ إلى الوراء مذهولاً، يشد شعره بقوة دون شعور، وبدأ بنبحُ كالكلب:
ماذا يا حبيبتي، هل سترحلين وتتركيني... هكذا؟ لا لن أسمح لكِ، ها... لن أسمح لكِ، ماذا... أين الهاتف؟ يلتفَ حول نفسه كالمجنون، يصرخ عالياً، تباً، أين الهاتف؟ لقد كانَ للتو هنا! يجده ويطلب أمه...ما من أحد يجيب.
يفقد أعصابه، يرمي السماعة بقوة على الحائط، فتتحطم، يبكي بهستيريا وكأنه في كابوس يرى رأسه في يده... وهو يعوي كالذئب، لماذا لا تردين علي يا أمي... ها... لماذا؟ ثمَ صرخَ بتهالك:
أنا خائف يا أمي، فزوجتي تنظر لي، لكنها يابسة وصلبة كصارية مركب، ماما أجيبيني... قولي لي بأنكِ مازالت تحبينني؟ قولي أي شيء، أريد أن أسمع صوتك الملائكي كي أشعر بالراحة، أني أجن يا أمي، أجن... وأجهش في البكاء وهو يضرب رأسه بالجدار المقابل له بقوة، ينزف... فتنزلقُ الدماء سريعاً على وجه، يفضُ ملابسه دون فتح أزرارها، كالسكران، ويخرجُ إلى الشارع عارياً، يصرخ بتضرع أماه، أماه أجيبيني، أنني خائف، أني وحيد، أنني شيطان، نعم يا أمي أنا شيطان، لكنني أبقى أبنكِ، هل تسمعينني...؟!
- تتقدم أم عماد نحو السارقين ببطيء شديد كالضرير، فتصعق صارخة، وهي تضربُ صدرها بيدها، فتنوح بصوتٍ موجع:
- إلهام يا عزيزة قلبي، ومهجة عيني، لقد كنتِ ظلاً لأجسادنا وصدى لكلماتنا، هكذا تكون نهايتك على يد الشيطان؟
ماتت الأم العظيمة الصابرة.
بعدَ معاناة كبيرة، نتيجة حب عظيم، منحته إياه، استحقت عليه الموت الذليل، بعد رحلة عذاب وجوع ومهانة تلقتها من فلذة قلبها، ولو كانَ صدرها قد أنفجر، لأغرقَ الدنيا بالوحشة، اشتياقاً لأبنها الوحيد.
روت أم عماد للسارقين الجياع، الحكاية... وهي في حالة من الذهول، بقلب يعصرهُ الألم وعيون حمراء تملأها الدموع.
يطبقُ صمتٌ عميق ورهيب للحظات، يتفرس كل منهم الآخر، تكاد تنطقُ نظراتهم بسؤالٍ واحد:
جثة إلهام؟ فاتفقوا على دفنها بجانب زوجها في مقبرتهم غرب بغداد، دونَ الشيطان!








 

free web counter