الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الجمعة 9/6/ 2006

 

 

هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .

Abdulbakifaraj@hotmail.com


عبدالكريم كاصد

تباين التجربتين بين الديوانين : الأول والأخير
 


عبدالعزيز عسير

كتبتً عن تجربة الشاعر عبدالكريم كاصد دراستين منفصلتين ، الأولى عن المجموعة الشعرية الأولى ( الحقائب) والثانية عن تجربته في ( الزهيريّ بلغة القريض ) سأستل باختصار قضية واحدة من كلا البحثين. أبدأ بديوان ( زهيريات ) الذي ضمّ اوزاناً أو أشكالاً متماهية مع أشكال الشعر الشعبي ( الزهيري ، الأبوذية ، الميمر ، الدارمي ، وغيرها ) . ولا مجال للخوض في أسباب هذه التجربة التي كانت - على عذوبتها – مفاجأة حادة الانقطاع عن مسار شاعر خطا نحو الحداثة خطوات تميّزه وتحدّد موضعه ما بين شعراء جيله .
أقف فقط عند ( الزهيري) ذي الأشطر السبعة ، ولا يخفى على المستعمين الكرام إنه من بحر البسيط ، وأنه يضمّ سبعة أشطر ، بمجانستين ، ثلاثة بمجانسة ، وثلاثة أخر بمجانسة مغايرة ، وشطراً سابعاً يعود إلى المجانسة الأولى .
وجذور هذا الشكل ضاربة في الشعر العربي القديم وخاصة الضرب المعروف بـ ( المواليا ) ، والمطلع على كتاب ( العاطل الحالي والمرخص القالي ) للشاعر صفيّ الدين الحلي يجد الكثير من النصوص متوافقة مع الزهيري بإيقاعها العروضي . وبلغتها ذات السمة النهجية التي تميل إلى تجاوز الإعراب بالتسكين ، ولكن هذه النصوص مختلفة عن الزهيري بنظام الأشطر والمجانسات .
وشاعرنا عبدالكريم كاصد – الحبيب المحتفى به – قد اختار نظام ( الزهيري ) نفسه من حيث عدد الأشطر وموضع المجناسة ، ولكن بلغة فصيحة لا تلحن ، أعني لا تتجاوز الإعراب إلى تسكين أواخر الكلمات كما الحال في الزهيري الشعبي . وقد نتساءل : ماذا أضافت هذه التجربة لمسيرة شاعر أثبت ابداعه في الساحة الثقافية العربية وربما العالمية ؟ . الجواب : فضلاً عن كونها قد أضفت على الزهيري الشعبي اتساعاً في اللغة وامتداداً في الساحة الثقافية وصولاً إلى القارئ العربيّ البعيد ، فإنها – وهذا الأهم – تمدّ محاولات الخروج عن عروض الخليل بخطوة جديدة في الشعر المكتوب بلغة فصيحة ، إذ أضافت إلى البحر البسيط تشكيلات جديدة لم تكن مألوفة في الشعر العربيّ ، هذه التشكيلات هي :
1- الأولى : مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن– بضرب فاعلن الذي منعه الخليل وتبعهم كافة العروضيين بمن فيهم المعاصرون ، مثاله قول الشاعر :

يا نشوة الروح في راحٍ لها من صبا
هبّت جنوباً وهبّت من بعيــــدٍ صبا
ما كان لي أن أغنّي من تغنّى صبا

سأعود إلى موقف الخليل بعد ذكر التشكيلات الأخر :
2- الثانية : ( مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلان ) مثالها :

حيران أبكـي على همّ مضى أو عاد
ما عدتُ أدري صديقٌ عادني أم عاد

3- التشكيلة الثالثة : مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلان : وهي تحتمل قراءتين إحداهما تقترب من اللحن الشعبي بالميل إلى التسكين :

ساءلت نفسي ونفسي في لظاها تدور
ما بين ناس تهادوا بين دارٍ ودور

بهذه القراءة نقترب من اللهجة الدارجة لاحنين ، أما إذا تجاوزنا اللحن وقرأنا بلغة فصيحة فبهذه القراءة يظهر الضرب الذي حدّدناه (فاعلان) .
أما التشكيلة الرابعة التي فيها الضرب ( فعْلن ) والتي أكثر منها شاعرنا فهي مستخدمة كثيراً ومألوفة في الشعر العربي مثالها نونية ابن زيدون .
أعود إلى التشكيلة الأولى التي فيها الضرب ( فاعلن ) والتي منعها الخليل . يعرف الكثير من الأخوة المستمعين أصل ابحر البسيط في الدائرة العروضية المسماة ( دائرة المختلف ) المتفرغ منها هذا البحر ، وأصل الضرب فيها ( فاعلن ) ولكننا لا نجد في الشعر العربيّ القديم قبل الخليل أو بعده إن البسيط قد ورد مطابقاً لأصل الدائرة – كما أورده شاعرنا اليوم – مما جعل الخليل يوجب إصابة التفعيلة بزحاف لتصبح ( فعِلُن ) أو( فعْلن ) في نهاية الشطر طبعاً .
ولكي لا نظلم الخليل مرة أخرى نقول إنّ هذا المفكر المبدع المكتشف قد اعتمد في أحكامه تطبيقاتٍ استقرائية للموجود فعلاً في الشعر العربيّ ، ولكون البسيط لم يرد مطابقاً للدائرة لذا أوجب مغايرة البحر للأصل النظري الذي تفرعه الدائرة ، وكانت نظريته تقوم على ( الوارد والمهمل ) .
واليوم بعد هذا الانفتاح الثقافي الذي نمرّ به ما أحسب أن فينا من يؤمن بتوقفية النمط ، والنزعة التوقيفية بانحسار دائم ، لذا يبقى الباب مفتوحاً أمام المبدعين لابتداع تشكيلات جديدة كما فعل شاعرنا.
أترك العروض الآن وأعود إلى ديوان ( الحقائب ) واستلّ أيضاً وباختصار قضية واحدة من البحث ، هي قدرة الشاعر عبدالكريم كاصد على التخلص من هيمنة الغنائية وسطوة البيان في الصورة الشعرية ، وهي خطوة مهمة نحو الحداثة ، ويبدو لي أن كثيراً من رواد الحداثة مثل السياب ونازك الملائكة وعبدالصبور وغيرهم لم يمحظوا التخلص نهائياً من سمات حِقَبية عُرف بها الشعر العربي قديماً ، ولم تعد اليوم متوافقة مع الحداثة . من هذه السمات : ترهّل العبارة ، وسطوة البيان .
وقد حاول عبدالكريم كاصد منذ بداياته التخلص من هاتين الظاهرتين ، وخاصة الثانية وهي هيمنة المجاز ، التي تحصر متعة المتلقي المستكشف لما وراء الكلمات بالمشابهة والاستعارة والمجازات الأخر.
لقد حاول شعر الحداثة أن يفتح سياقات جديدة لمتعة الكشف ، تتجاوز مغالق العبارة إلى فضاء المشهد ، فلم يعد المتلقي محصورَ الانبهار بعقد أطراف المشابهة والمباينة ، بل فتُح السياق له باتساع المشهد لحركة الإنسان ، ومعاناة الإنسان ، وقدرات الإنسان على مجابهة ما يرفض مما حوله ، والشاعر عبدالكريم كاصد خير من فتح المجاز البديل النافذ من أطراف العبارة المنغلقة إلى مسار المشهد المتسع للإنسان .
في ( ثلاثية السفر ) لم تنحصر متعة الكشف الإنساني بأطراف الاستعارة القائمة على التشخيص ، ( الكرسيّ – السفر ) ( الكلام – السفر) ( اليقظة – السفر ) ، السفر المؤنسن بالصورة البشرية يجلس ويتحدّث وينام ويستيقظ مشخّصاً يتشكل في ذهن المتلقي كطرف يقابله الإنسان طرفاً آخر ضمن المشهد لا العبارة :

كنّا أنا وأنت نستعيد
ما قاله السفر
كنّا أنا وأنت نوقظ السفر
نبحث في كرسيّه الفارغ عن يدين

التشخيص وهو المصطلح المترجم عن الإنجليزية موجود كظاهرة بيانية في الشعر العربي القديم ، وكنا نقرأ عباراتٍ مثل ( مات الموتُ ، واستشهد الصبرُ ) ولكن البلاغيين العرب لم يتنبهوا إلى مرامي الأنسنة ، وعلى جهل بعضهم بها بُني رفض استعارات من هذا النوع ، وفي أحسن الإحوال درسوا الظاهرة ضمن تفرعات الاستعارة ، ويقابلها لديهم المكنية منها ، ولو عدنا اليوم إلى عبارات مثل ( ذعر الذعر ، أو خاف الموت ) نجد التشخيص منقطعاً ومعزولاً بفواصل العبارة عمّا قبله وبعده ، وقد ظلّ أسير العبارة حتّى في شعر بعض المعاصرين النازعين إلى التجديد ، ولا نلوم الناقد العربيّ القديم على فهم الصورة يمعزل عن السياق ، لأنّ النصوص نفسها كانت تعمل على عزلها ، والميل بوظيفتها إلى الطلعة التزيينية لا الحاجة التعبيرية ، وكانت سطوة البيان على العبارة تتلاقح مع اتقاد الغنائية وعلوّ الإيقاع في شعر بعض الروّاد أيضاً ، حتّى انفتح المشهد بفضاء واسعٍ لدى جيل السينيات ، الذي كتب بلغة الكلام الحية نافراً من التشبيهات والاستعارات ، راكباً هدأة المجاز البديل ، المعادل بين ذات الإنسان والمرصودات الحسية في العالم الخارجي . نعود إلى نص شاعرنا : ينفتح النص عن طرفين الأول : الإنسان ( الحبيب والحبيبة ) أو الرجل المسافر والمرأة الغريبة المتعرف عليها في جلسة السفر . الطرف الثاني هو السفر نفسه مشخّصاً بالكائن الغامض ، الآسر الإنسان بسلاسل تمتدّ آلاف الكيلومترات . هذا الكائن يتربص بالظهور المفاجئ للإنسان ، يراه الإنسان جالساً على الكرسيّ ، متحدّثاً مرةً ونائماً مستيقظاً مرةً أخرى . الطرف الأول محكومٌ بتغيير وجهته استجابةً لحركة الطرف الثاني . الرجل والمرأة صامتان حين كان السفر يتحدّث ، ثمّ : خائفان حين يستمرّ في حديثه ، ثمّ : متجرئان على ترديد ما قاله الكائن المفزع ، وأخيراً : نائمان مطمئنان حين يغادر الوحش الذي اسمه السفر .
في قصيدة ( الحقائب ) ذات النزعة الشيئية ، يزيح الشاعر البطولة الدرامية عن الإنسان ويمنحها الحقائب نفسها ، يشخّصها ككائن يتحرك بارادة لا تخضع للإنسان ، بل هي التي تسلب الإنسان أية حركة قصدية .
يترك الحقائب تسافر في الليل منفعلةً مرة وهادئة أخرى خائفةً مرتجفة فوق الرفوف ، قافزة على الرصيف مختفيةً خلف ألوف الأرجل ، حاضرة غائبةً ، جازعةً من الانتظار ، مخبّئة بداخلها المفاجآت وسلاسل السفر ويترك الشاعر سطوراً صامتةً منقطةً ، تفاجئنا بعدها الحقائب طافيةً على الماء بين المراكب في الميناء .
الحقائب في القصيدة سيدةُ الحركة والإنسان المسافر يعجز عن الإمساك بها ( تهرب من راحتينا الحقائب ) تصطفّ الحقائب طابوراً في نقاط التفتيش الحدودية تنتقل من بلد إلى بلد ، تلتبس على مالكيها وتسحبهم إلى موقف مخجل يبعث على الاعتذار والابتسام . الحقائب وحدها المقرّرة والمسافر ملغيٌّ تماماً .
ولكن حين يظهر الإنسان الآخر القادر الوحيد على نزع إرادتها الممثل برجال الجوازات ، ينزع إرادة التشيّؤ ، ويعيد الشئ جامداً فتخضع له الحقائب فاتحةً أحشاءها . تلك آخر حركة لها .
في خاتمة النص يتقابل طرفا المشهد ( الإنسان والشئ ) ( المسافر والحقائب ) كلٌّ منهما يرتجف برداً وتعباً . لا عبارة منغلقة ولا إيقاع حاد . نحن أمام المجاز البديل : الإنسان المستلب وعوامل الاستلاب في العالم الخارجيّ ، في أكثر من نص لعبدالكريم كاصد يطل إنسان القصيدة ليتوحد مع إنسانية المتلقي .