الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الجمعة 6/2/ 2009



 بعيدا عن الركن الهادىء

حاتم جعفر- السويد

حتى الآن لم يتوصل ولم يتفق المعنيون بعد الى وضع تعريف واضح ومعبر بشكل شامل ودقيق عن مفهوم المثقف, وكذلك عن مفهوم الثقافة, الا اننا يمكننا القول وبالاستناد الى ماقاله اصحاب الشأن من قبلنا, في ان هذين المفهومين ينطويان على ممارسة الفعل الابداعي في جانب ما او في شأن ما, يؤدي في محصلته النهائية الى خلق شكل من اشكال المتعة وتحسين الذائقة عند المتلقي اوخلق حالة من الراحة النفسية وكذلك تقديم منجز ما او فائدة, تصب في السياق نفسه, وذات جدوى, لصالح الفرد والمجموع. وقد يعود التأخر في تحديد المفهومين الى حداثة تسويقهما اوعهدهما في الثقافة العربية, ولا زالا كذلك بين الاخذ والعطاء وبالتالي الاختلاف, وربما يستمر الوضع قلقا والى مدى غير منظور حتى الوصول الى صياغة نهائية تفي بالغرض المراد والمبتغى, لتسد نسبيا حالة الفراغ المزمن والملازم في هذا المجال, غير اننا لسنا متأكدين من درجة تمكنها في ارضاء رغبة المختصين و اصحاب الشأن, وقد تنجح في وضع حد للجدل الدائر منذ عقود طويلة بأتجاه حل هذا الاشكال.

وبسبب من النهضة الشاملة التي حققتها اوروبا على مختلف الاصعدة ومنذ بضعة قرون, فقد اصبح للطبقة المثقفة رصيدا قويا وارثا تأريخيا وتراكما معرفيا, لايكتفي المبدع في تلك القارة بأن يفخر بكل تلك المنجزات التي تحققت له وانما كان امينا وحريصا كذلك على المواصلة والتواصل مع ذات المنحى والتكامل معها, والذي لم يقدم على مذبحه خيرة مثقفيه ومفكريه فحسب, بل شكل بالنسبة له زخما وخبرة لا يستهان بهما, ووفرت له كذلك جوا من الطمأنينة والاسترخاء , ليتجه نحو ملكوت الابداع, دون قيود او ضوابط مرهقة وملفقة, تحد من تطلعاته وافق خياله.

وحين الحديث عن علاقة المثقف الاوربي بالواقع المعاش واليومي وتطوراته, تراها قد بنيت على اساس من الاستقلالية المسؤولة, والتي لم يكن لها ان تتم لولا تلك الصلابة والثبات على المبادىء المنسجمة والمتطابقة وقناعاته, وربما تطلب الامر الكثير من التضحيات, وكذلك قد تستدعي التخلي والاستغناء وحتى الاستنكاف عن التعاطي مع (الامتيازات) التي يرى البعض فيها حقوقا طبيعية لاينبغي التفريط بها. والقاعدة هنا واحدة ويشترك فيها الطرفان, سواء كان المثقف المعني يساريا او يمينيا اوما بينهما, فيكاد الجميع يتمتع بذات الحيادية ويلتقون الى حد كبير على ذات الاعتبارات , التي تدخل في آلية وكيفية بناء موقفهم الفكري.

اذن فالاستقلالية التي تحققت له, لم تجعله طليقا وحرا في صياغة منتجه الابداعي فحسب وانما تحول الى جزء فاعل وحيوي في رسم معالم وشكل الوسط الذي ينشط فيه. والتجارب التي تحترم ارثها, لابد لها من العودة الى فنانيها والاستعانة بهم في رسم سياساتها, الحاضرة و المستقبلية. والرؤية هذه لاتقتصر على دور الفنان وحركته داخل مؤسسات الدولة الرسمية وانما يتجاوز ذلك الى مديات ابعد وليكون له دورا ملحوظا ونشطا في العديد من المنظمات الانسانية والهيئات الدولية وما الى ذلك, لذا تراها قد شغلت مكانا مرموقا بين فئات ومكونات الشعوب المتحضرة, واصبحت في مناسبات كثيرة مرجعا مهما يعتد ويؤخذ برأيه.

وهناك امثلة حية وقريبة مما نحن فيه, فمن بين اولئك على سبيل المثال لا الحصر, الكاتب المسرحي الجيكي فاتسلاف هافل, الحائز على جائزة (اراسوس) و الذي تقلد رئاسة الدولة بعد الاطاحة بالنظام الذي كان يطلق عليه بصاحب القبضة الحديدية. وبصرف النظر عن الاتفاق او الاختلاف في رؤيته السياسية وانتماءه, فقد سجل له التأريخ عناده وتصديه للنظام القائم آنذاك وقضى في السجن بضع سنوات, ثمنا لأنتمائه ولقناعاته السياسية وليكون بذلك رمزا للانسان الفنان المقاوم.

وشكلت هذه الفئة (المثقفة) في اوروبا, قوة ضغط وتأثير لا يقل شأنا عن الطبقات السياسية الحاكمة وعن دور الاحزاب المعارضة في تشكيل مواقف الرأي العام, ان لم تكن لها الريادة المطلقة والفضل في توجيهها وقيادتها نحو المطالبة بحقوقها, الانسانية والمشروعة والعادلة, متجاوزة في ذلك احيانا حتى على الدور الذي من المفروض ان تقوم به وتتصدى لقيادته, اجهزة الدولة والمنظمات والاحزاب السياسية المعارضة التي كانت تنتمي لها هذه الفئة في وقت من الاوقات.

ولعل من ابرز الاسماء التي كان لها دورا واضحا على الشارع الثقافي الاوربي, الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر, حيث أثر ولسنوات ليست بالقليلة على ذهنية الشباب بفلسفته الوجودية, اذ تناول باسهاب علاقة الحرية بالمسؤولية وكيفية الربط بينهما. وقد عده المتابعون والمنحازون لطروحاته, بأنه احد العقول اليسارية المدافعة عن حقوق الانسان في العالم, وسبب من ذلك فقد لاقى صدا ايجابيا واسعا من قبل الشارع العربي, خاصة بعد ان ترجمت له الكثير من الكتب كان من ابرزها (عاصفة من السكر), الذي تحدث فيه عن الثورة الكوبية وكذلك كتابه الموسوم (عارنا في الجزائر), حيث تطرق فيه الى ما اقترفته يد الاحتلال الفرنسي في ذلك البلد.

وغير بعيد عن ذلك كان لابد من التطرق الى المفكر الفرنسي ايضا روجيه غارودي وماقام به من انشطة, انصبت على فضح الدولة العبرية وسخف طروحاتها وحقوقها الملفقة على ما اسمته بأرض الميعاد, مما عرضه الى الكثير من الملاحقات على ايدي المناصرين للدولة الصهيونية. وبسبب من شجاعته وجرأته على تناول اخطر الامور والتي تعد في الذاكرة الجمعية الاوربية احدى التابوات التي لايمكن التتطرق لها بل حتى مسها بأي شكل من الاشكال,. لذا فكان له الفضل كما لآخرين مثله, في انفتاح عقلية الشباب الاوربي وحثه على التعاطي الايجابي مع القضايا التي تخص مصير شعوب مهضومة, لها الحق في الخلاص من ربقة الاحتلال والعيش بكرامة اسوة بالشعوب الاخرى.

وعود على بدأ فاستقلالية المثقف الاوروبي لم تتشكل انطلاقا من عقلية التسوية والرضا والقبول المتبادل بينه وبين المؤسسة, سواء أخذت هذه المؤسسة شكل سلطة حاكمة او حزب معارض, بل تشكلت على قاعدة من الرفض والتمرد للمألوف. ومرجعية النص او المنتج لم يكتسب شرعيته من الاطر السياسية, ان كان حاكما او محكوما واذا ما جرت وفق المنطق الآنف الذكر لكان تابعا ولأدى هدفا آخر بعيدا عن العملية الابداعية و لأرتهن الامر بيد قوى ليست بالضرورة ان تكون أهلا لها ولكانت كابحة ايضا لجموح مشروع, والحكمة دائما في التغيير المستمر والملتزم.




 

free web counter