الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

الأربعاء 31/5/ 2006

 


هذا المقال واحد من مقالات وحوارات عديدة ضمها ملف الشاعر عبد الكريم كاصد الذي أ ُعد إحتفاءاً به في المربد الثالث في البصرة 2006 ، والذي سينشر كاملاً في دوريات ثقافية وكذلك سيصدر في كتاب من قبل وزارة الثقافة العراقية .
أعد الملف وقدم له
الشاعر العراقي عبد الباقي فرج .

Abdulbakifaraj@hotmail.com


لا تتكىء على مفردة قديمة أو مكان أوعلم


ياسين النصير

يبدو ان التعامل مع اليوتيبا, حلم يقظة الشعراء الحديثة, واحد من اساليب التحديث في الرؤية الشعرية للقصيدة الحديثة في مرحلة الحداثة الثانية, وهذه الطريقة التي لامستها قصيدة الحداثة الأولى, كمعطى خارجي اتى اليها من كتب التراث والتاريخ, وكجزء من نزعة قومية ترى في المدن القديمة التي حملت تراث امة وتجربة متميزة, قدرة على منح القصيدة الحديثة مساحة للقول وللفعل الشعري: غرناطة, نيسابور, الاندلس, القيروان, سبتة, بغداد, القاهرة, بيروت, الشام, وإلى جوارها استحضرت الشخصيات والمواقع والاحداث الكبيرة: صقر قريش, المتنبي, الحلاج, ابو العلاء, محمد بن علي, صاحب الزنج,.. الخ. الأمر الذي مكن القصيدة في الستينيات من دخول ميادين كانت قصيدة الحداثة الاولى تستحي الدخول إلى الاسطورة كما اشار السياب إلى ذلك مرة, فاتكأت على الموروث الغربي, واستعارت منه نوافذه العالمية: افروديت, فينوس, دموزي, ايكاروس, امبيقليدس, سقراط,.. الخ فوسع الشاعر من فاعلية الصورة الشعرية, ومكنها من ان تستوعب احداثا معاصرة بدافع من نزعة المشبه به, كي تمكن القصيدة من ان تفتح زمنها الداخلي على افعال ماضية ترى فيها متشابها ايضا. وهذه جزء من نزعة قومية الحداثة الشعرية, وهي نزعة مبررة ضمن مناخ الحداثة الاولى حيث القوى الاجنبية تهيمن على مقدرات امة تكافح الصهيونية والاستعمار, وتجند لها كل مقومات الحث والنهوض واللغة والصور. هذه النغمة الشعرية في القصيدة في مرحلتها الاولى تنطفىء الآن, ليس بسبب جفاف الرؤية الشعرية للموروث, او تغير الحساسية الحديثة للصور مزدوجة الحمولة, ولا بسبب قدرة الشاعر التي نضبت مواردها بتغير تلك الرؤية وتبدلها بعد ان نافسنا عليها العالمي والمشابه لنا بالدين واللغة, انما لان الصورة الحديثة يوم ذاك, وهي تتعامل مع هذا الموروث وقدراته الكبيرة, كانت جديدة على المخيلة الشعرية والنقدية, العربية. ولعل اهم سمة لقصيدة الحداثة الأولى انها خرجت عن اطار ماكان مطروحا من اشكال تعبيرية ومضامين هادئة واسرية. وثمة تيارات نقدية حديثة اوروبية تجد في هذه المتكئات القديمة نافذة على تثبيت مصطلحات ومفاهيم هي من صلب الرؤية التقدمية يوم ذاك للحياة وللثقافة, لكنها اليوم, وبعد تغير في كل الروافد التي كانت قائمة يوم ذاك, لم تعد تلك قادرة على مواكبة القصيدة الحديثة للرؤية المزدوجة للصورة الشعرية وللمتغيرات الايديولوجية السابقة للموضوعات نفسها. فلم تعد نيسابور موجودة الا في الشعر, ولم يعد جلجامش نموذجا الا في تحديه الموت, ولم تعد غرناطة قائمة الا في كتب التاريخ الاندلسي, ولم يعد صقر قريش قائدا معاصرا, ولذلك فشلت استعادة التجارب في مجالات الحروب كما شهدناها في حروب العراق مع ايران, حيث تحولت النماذج التراثية والتاريخية فيها إلى لعب اعلامية كاريكاتورية اعادت النظرة لمعنى الحرب إلى طبيعتها القومية المتخلفة وشوفينيتها المريرة في الوقت نفسه لم تعد القوى التي حاربت العراق وثقافته وتصوراتها القديمة, قادرة هي الاخرى على رسم نموذجها المغاير, قد تقع هي الاخرى في فهم النموذج الثوري القديم لاستعارته الشعرية المعاصرة. فالحرب تساوي بين جهلاء عقل وفكر, وان انتصر احدهما على الآخر.

رؤية جديدة
الرؤية الجديدة التي تبنتها القصيدة الحديثة في حركتها الثانية للحداثة, مغايرة بعض الشيء عن رؤية القصيدة في حركتها الأولى, وهو ما طبع معظم نتاج الستينيات عندما جعلوا من تلك المدن والشخصيات معاصرة وبلحم ودم معاصرين, مع مسحة ذاتية لخصوصية الشاعر فيها, هذا ما نجده في قصائد سعدي يوسف وادونيس ومحمد الماغوط, وصلاح عبد الصبور وغيرهم. تلك الرؤية التي رافقت مسيرة تحديث اجتماعي وسياسي, مشابه لما حدث في المجتمع العربي في اواسط الاربعينيات بعد سقوط الفاشية في العالم فالستينيات مرحلة نهوض لقوى اليسار العربي, ولحركته الثورية, الأمر الذي فرض شروطا ابداعية على الشعر لكي يستوعب جديد الرؤية ومع ذلك لم تنتقل القصيدة الاحركة باتجاه ترسيخ العلاقة المعاصرة بين الشاعر ونموذجه القديم لتوليد صورة شعرية اكثر حرية من سابقتها السيابية. النقلة الجديدة التي تشكل جزءاً من الحركة الثالثة للقصيدة الحديثة, تمثلت في تجريد تلك المتكئات التراثية: المدن والاحداث والشخصيات والافكار من اية علاقة لها بالماضي او بالحاضر, انها تأتي بلا زمنها الخاص, وبلا هويتها القديمة, تأتي كفكرة مجردة لتلتقي مع الشاعر في زماننا المعاصر, ثم لتصبح واحدة من مناخ عام. هذه ليست استعارة للموروث, ولا استنباطا له, ولا تخفيّاً وراء تاريخ نماذجه, انما هي تفكيك منهجي لذات الشاعر, انه امام تحول وانزعاج كبيرين في الصورة وفي المفردة, ومن ثم تحول في بنية القصيدة نفسها. فلم تعد بايقاعية من تفعيلة واحدة, ولا بروي لنهاية الابيات والصور, ولا بغنائية مفردة, ولا ببعد جماعي, فلا الشاعر ولا الشخصية أو المدينة أو الحدث المستعار, يقف على تاريخ أو بنية قارة, بل ان كليهما في بحث عما هو غير متحقق في الذاكرة الجمعية: للناس وللشعر العربي. ان ماضي وحاضر تلك الاحداث يسبحان معاً في وهج القصيدة الحديثة, ويتداخلان, علهما ان تحولا من زمن إلى آخر ان يعطيا صورة وبنية جديدة للقصيدة. ومن هنا لا ايقاع للصورة, ولا وزن في القصيدة, ولا لغة انما هناك تفكك لبنية الايقاع القديم للصورة, والبحث عن ايقاع جديد للمعنى. وخروج عن الوزن القديم والحديث بحثا عن ترادف الفكرة وعن تغريب في اللغة ونحوها وصرفها, بحثا عن بلاغة الكلام المختفي فيها, وسعيا وراء اجزاء لصورة شعرية تشظت على مدى تاريخ. صورة لم تحوها مرحلة, ولم تستوعبها تجربة, ولم تمتلكها فئة أو قبيلة أو دولة.
سراباد (سراباد) قصيدة الشاعر عبدالكريم كاصد الجديدة, هي من النوع الذي لا تتكىء على مفردة قديمة, ولا على مكان أو مدينة أو اسم علم, كما لا تحاول اصطناع تجربة بلا اساس. من هنا يأتي اسمها منتحلا شخصية شاعرها, ويأتي شاعرها كاتبا لصورها, وعندما تتداخل في القصيدة هذه المستويات, نجد الشعرية فيها ليست من تكوينات اللغة, ولا من تركيبات ذهنية أو حسية الشاعر, انما هي جمع بين عدة مفردات لتكوين صورة فيها من الشعبية قدر كبير ومن الكلام المركب قدر أكبر. عندما أقرأ: كان الناس حولي والرواحل في الطريق اليك يحملنا الهواء قبابك التمعت وجندك من رخام يرقبون الافق. اشعر ان هذه الصورة صورة شعبية, وقد تبدو عادية جدا ومألوفة, لكنها تحمل في بنيتها تداخلا بين اثنين: سراباد, والشاعر. تتحول سراباد إلى مدينة محصنة بالقباب والجند, والبعد والسراب, وهي بعد ذلك مبتغى الوصول اليها, ويتحول الشاعر إلى ناس ورواحل وسفر. وهم متجهون اليها في حين ان القصيدة ليست ما قيل من كلمات, ولا ما هو الشاعر من صيغه الجمعية بل هي في موقع (الما بين) أي في الموقع غير المحسوم بين: المدينة سراباد وبين قافلة الرحلة, هذه القصيدة التي لا تؤلفها الصورة السابقة, ولا ايقاع اللغة ولا وزن الكلمات, انما تنمو في حسية القارىء والشاعر والمكان معا. فسراباد ليست مدينة ما, بل هي حلم كل المدن التراثية المنفذة, المتخيلة والواقعية ولمجرد ان الشاعر نحت اسمها من (السراب) او من كل مدينة تنتهي بـ (اباد) او كما نقول في العامية (سار بياده) اي مشى على قدميه المسافة غير المعلومة, او حتى لو كان اسمها واقعا ومدونا فهي هنا (لا مكان) ليس لها ماض, ولا لها حاضر. كل ما لها, هو مفردتها, التي يأتي الشاعر بها الينا من خلال ما تكونه من (صور) ومن (ايقاع) ومن (وزن) ومن (فكرة) . سألنا عن سراباد البعيدة قيل من عامين جزتاها وقيل لعلها البلد الذي يأتي وقيل لعلها جبل ومحض بحيرة مسحورة الاسماك قيل لعلها شجر تحجر قلعة من صخرة صماء تسكنها التماثيل الغريبة حلم وثقافة يستعير الشاعر هنا لمدينته اليوتيبي, الحلم وثقافة الحكاية الشعبية, تلك التي تستعير هي الاخرى الذاكرة الشعبية, ومنها حكاية (المدينة المتحجرة) في الف ليلة وليلة, تلك الحكاية التي تقع ما بين الليلة السادسة والليلة التاسعة, ملك تمارس عليه الرقية من قبل زوجته التي تحب عبدا اسود, فتحول نصفه الاعلى بشراً ونصفه الاسفل حجرا وتحول جزائر مملكته الى بحيرات وناسها بأديانهم: الاسلام والمسيحية والمجوسية واليهودية, الى اسماك ملونة بيضاء, حمراء, زرقاء خضراء, وهي بعد ذلك تغيب عن الانظار فلا تهتدي اليها قافلة او طير, ولانها مدينة متخيلة يفترض الخيال لها ملكا ووزيراً وصيادا وجارية وطاجنا وسمكا يتكلم عندما تمسه النار, ومن ثم لابد من حكاية اخرى كي تولد من رحم الحكاية القديمة, نحن اذن في نص مفتوح هكذا تقول القصيدة: قيل من... قيل لنا... قيل لعلها... قيل لكنا... اما الصورة الشعرية الجديدة التي تولدها مثل هذه الاستعارات, فتكمن في (جزناها) و(البلد الذي لا يأتي) و(شجر تحجر) و(قلعة) و(التماثيل الغريبة) و(النأي) . وكلها مفردات مكانية. والشاعر والقصيدة معا يصلان الى منطقة التداخل, فلا الشاعر حسم رحلته ووجد ضالته كما كان يفعل شاعر الحداثة الاولى, ولا الشاعر اوحى بما يأتي كما كان يفعل شاعر الحركة الثانية للحداثة, انما هنا في منطقة اللاحسم, في منطقة تفكيك الصورة وانزياحها الفكري قبل اللغوي ليت انا مانأينا عن سراباد القريبة ليت انا ما قربنا من سراباد البعيدة ليت انا لم... اذن فسراباد كائنة فينا, كما كان قد فعل السهروردي في حكاية الطير, لا رحيل الا في المكان الاول.
رثاء المدن واذ نأتي على قصائد الديوان الاخرى, نجدها تمتح من ثنايا المادة التي اكدتها سراباد, فقصيدة رثاء المدن (التي تتحدث عن عراق الفترة المظلمة) . منازل تهوى واحجار وملاعب للوحوش تجول يطردها الى الصحراء اعراب يقيمون في المدينة, ثم ثانية تزول, مدائن تهدى واخرى تسترد يبيعها وال ويقطعها الولاة. وما كتابته عن العراق في فتراته المظلمة الفارسية والعثمانية الا استدعاء لما يحدث الآن هذه البنية غير القارة واحدة من شواهد تحديث الرؤية الى المدن والاماكن والشخصيات, مفردات لا تستقر على حال, حركتها لون من شعرية الصورة المتأرجحة الازمان. وفي قصيدة (مرثية ابن خلدون) يحدث الامر نفسه, لا شخصية قارة وراء القصيدة, بل وراؤها الشاعر وفكرة القصيدة, وما تقوله القصيدة من صور شعرية لا يستقر عند زمن ولا عند نموذج فاستعارة (الختم) هو بمثابة المدونة الوثيقة التي تمر على كل الازمنة والامكنة وبرغم من وجود قراءة غير حيادية لافكار ابن خلدون في تكوين المجتمعات من هجرة للقبائل واستقرار للعمران, يحاول الشاعر ان يرسم لنا فكرة (الهجرة) تلك التي تلازم روح سراباد, وروح العراق في محنه, ان يكتب قصيدة لا تتعامل مع حدث مدون, بل مع حدث مفترض قائم في قراءة خاصة له لتلك الاحداث, وهذه ميزة للقصيدة في حركتها الحداثوية الثالثة. لا تختلف قصائد الديوان الطويلة في مسارها التحديثي عن قصائده القصيرة, فالشاعر وضع في اعتباره ان يؤسس ديوانا بمناخ واحد: منذ عشرين عاما لا تزال الحجارة موطوءة والخراف التي عبرت مرة لا تزال تمر سأحصي الطريق ساحة ثم جسراً عتيقاً وبوابة وبيوتاً من الطين منسية .