الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الثلاثاء 26/8/ 2008



في صيرورة الفنان والمدينة

د‌. فاضل سوداني
fasoudani6@hotmail.com

تعتبر المدينة أهم رافد من روافد التأثير في تشكيل صيرورة الفنان منذ الطفولة، وتتعمق بعد ذلك في مرحلة الشباب عند اكتشاف عالم المعرفة والجمال ، لتبدأ لعنة الوعي، فمدينتي الجنوبية ( العمارة ـ التي تعتبر مركز محافظة ميسان، تقع في الجنوب الشرقي من بغداد، وتبعد عنها 400 كم ) كأي مدينة عراقية أو شرقية تمتلك غناها المثيولوجي وإلا سطوري في تشكيل عين الفنان وهي التي جعلتني اشعر بشفافية الروح لدرجة اعتبرتها ومازلت طفلتي المدللة ، ولدت وعشت فيها زمنا طويلا، فهي بكل المقاييس ،مدينة ريفية ذات طبيعة خاصة، محاطة بالماء والأنهر من جميع جوانبها .وعندما يصلها نهر دجلة يتفرع إلى أربعة انهار مهمة أيضا، فتتحول وكأنها البندقية وأنهارها تصب في مساحات هائلة من الاهوار التي تعتبر بحيرة مائية متصلة تمتد أكثر من مائة وثمانين كيلومترا " و يعيش فيها فلاحون فقراء في أكواخ بدائية من القصب تشبه في تصميمها وهندستها الأكواخ السومرية . وطبيعة الحياة في هذه المنطقة مشابهة لطبيعة حياة الأقوام التي سكنتها قبل ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ففي هذه المنطقة الجنوبية من العراق بالذات،نشأت الحضارة السومرية . وبعد ذلك سكنتها أقوام أخرى مما جعلت (مدينة العمارة ) تكون"إحدى دويلات العهد الفرثي التي أقيمت في عام 170 قبل الميلاد، وتم حكمها من قبل (17) ملكا" ،وفي الوقت الحاضر يمكننا أن نعثر على 360 موقعاً أثرياً لم تنقب و تنقسم إلى قسمين.. القسم المحاذي لإيران يمكن العثور على آثار تراث الساسانين لسيطرتهم على هذه المنطقة في العصور القديمة ، والقسم الآخر تشكل آثار الإمارات الإسلامية التي شيدت في نهاية العصر العباسي.
وبالرغم من فشل الحجاج بن يوسف الثقفي لتجفيف هذه الاهوار ، إلا أن النظام السابق نجح في ذلك، فتحولت هذه المنطقة التي كانت مغطاة بالمياه، والقصب، والبردي، وغنية بمختلف الطيور، والنباتات، والحياة، وجمال الطبيعة وسحرها منذ القدم ، تحولت إلى مكان ميت . في هذه المدينة تشكل وعيي، وتشبع خيالي بجمال الطبيعة والفن ، جمال الطبيعة الريفية، بالرغم من كونها مدينة جنوبية، مهملة، ومكروهة ،دائما ،من السلطات التي تناوشت الحكم في العراق ، وبالرغم من غناها ( حيث يشكل مخزونها النفطي مع مدينة البصرة ثلث نفط العراق ) إذ اكتشف فيها واحد من أكبر حقول النفط الهائلة و المعروفة بحقول" مجنون " ويقال إن آخر بئر نفطي في العالم سيكون فيها ، إلا أنها كانت ومازالت مدينة فقيرة، وبدون خدمات حقيقية، و منهوبة في كل الأوقات، وبيوت المدينة ينطبق عليها قول السياب ( بيوت أرفع الأبواب عنها تغدو أطلالا ) ،و ما نقل محافظ أو مسؤول منها بعد أن تزكم عفونة عمله أنوف أهاليها إلا وسأل (كم عمّرت في هذه لمدينة الشيعية و الحمراء)(والمعنى هو تعمير الجيب).
لكن عالم الأهوار الساحر والذي يتيه الإنسان في قنواته المائية، يجعلك تصغي لإيقاع السكون والصمت مما يشعرك بالرهبة من هذه الألوان الطبيعة الزاهية والمختلفة،ولابد أن يعيدك إلى عالم السحر هذا، فتشعر بأنك مسكون بعالم غريب مملوء بغرائبية غير مكررة ،وما يزيد الأمر غموضا، هو تلك الأساطير والحكايات والأغاني الخاصة لهذه المنقطة، والقصائد الشعرية التي تعكس سحر هذه المنطقة . وأنا شخصيا، غرفت من هذا كله، ففي ليالي الصيف التي لا يضيئها سوى قمر مبتهج، وأحيانا منزوي ، وأنت تستمع إلى هذه الحكايات وإلى أساطير الهور من صدر حنون ، وخاصة الاساطير التي تنسج عن (هور حويفظ ) وعن ذلك اللمعان الذي يتراى كلمعان اللؤلؤ والذهب الصافي في اليالي القمرية وسط هور مظلم تحرسه الملائكة او الشياكين او المردة او مخلوقات مقدسة تنهض منتصف الليل ، اما في النهار فلا احد يستطيع الوصول الى هناك لان كل الذين حاولوا لم يعودوا ، حيث تسحبهم قوة مبهمة الى تلك الظلمات والمتاهات التي لا يراها احد ما ، ولكن اصواتهم مازال تتكرر كاغان حزينة من خلال القصب والبردي الذي يأن مع الريح الشرقية . ان تستمع لكل هذا قبل ان تغفوا ، بالتأكيد سيكون خيالك شعريا وشاعريا في اليوم التالي .
وإذا انتقلت إلى مركز المدينة العمارة ( التي تعتبر ريفا كبيرا )، فهنالك سحر آخر ، تحسه في أسواقها الشعبية التي تشم فيها تلك الروائح العبقة المختلفة للحاجيات والأشياء ،وأيضا روائح الماضي غير المكرورة التي تشعرك بأبدية الزمن .
ويمكنك أن تسمع الأصوات التي تذكرك، وأن ترى الألوان الغريبة المختلفة التي تشكل فرحا للروح. ومحلات قماش تجار الموسلين الحريري وكأنه يُغزل مع أحلام الفتيات اللواتي يرفلن بكبريائهن ورائحة الصباح ودفاترهن المدرسية هي شفيعهن ،لكي يسمح لهن أن يتهادين في سوق هو ملك الرجال ـ التجار ـ المزيفين . وحالما يصبح الوعي وجودا لمستقبلك، تضطر أن تودع طفولتك والكثير من الأحلام، و التعاويذ المزيفة التي أصبحت لا تعينك على امتلاك الماضي، لتبدأ بالتنبؤ بحرائق مستقبلية بكل إباء. فتغلق بيت أحلام الماضي على عجل، كشجرة ستذرف أوراقها الصفراء وقد استبدت بها الريح. كل شئ في مدينتي أصبح يدهشني في شبابي حتى العمل في البناء أو وخياطة الملابس التي مارستها في فترة ما .
دفعني سحر هذه الغرائبية إلى التعرف والتعاطف مع منبوذي المدينة، إما لكونهم متمردين، أو لكونهم فقراء تائهين ، وكانت عوالمهم تزيد من غرائب الأمر، فيثير في داخلي مشاعر خاصة ،فيها الكثير من الغرابة ، وبعد سنوات، ليست قليلة، وعندما عدت إلى مدينتي بعد أن أنهيت دراسة المسرح في بغداد، وعند إخراجي "حفار القبور" لبدر شاكر السياب، قدمت دعوة خاصة لأحد هؤلاء المتمردين والمنبوذين لمشاهدة المسرحية، وكان معروفا بآسم ( صاحب أبو الموتى )، لأنه كان لديه سجل سري خاص للموتى في المدينة، فيه يدون كل شئ عنهم ، وبعضهم يلجأ إليه عندما يريد أن يعرف من الذي مات . وفي يوم العرض انتظرت صاحب "أبو الموتى" في باب المسرح، وعندما وصل، استقبلته بحرارة، وأجلسته في مقعد خلف المحافظ، أمام اندهاش الجمهور، وغرابة الأمر، لان الجميع يعرفونه. و بعد ذلك عرفت بأنه من القلائل الذين فهموا فكرة المسرحية وإخراجها.
والعمارة مدينة متنوعة الطوائف والأديان، وكانت طقوسهم تثير لدي الحس الشعري والدرامي، لأنها مملوءة بالغرائبية، ومنها الطقوس للطائفة المندائية التي تملأ المدينة،والتي تمارس في أعيادهم، ومناسباتهم وتتم دائما وسط النهر ، فالماء جزء من طقوس التعميد الدينية، فنرى صولجان الشيخ، وغصن الشجر الطري في عمامته،وتمتماته التي هي جزء من أسطورية كتاب "الكنـزربا" المقدس للصابئة ،فنسمعه يتمتم بخشوع ( بكلمتك خلق كل شئ ) وكأنه يبحث عن نور الشمس، فيضع الغصن كأنه نجمة ، بل قمرا تائها على رأس المندائي الذي يحلم بالغفران ،فيغطسه بالماء الذي يلتقي مع الشمس ،وكأنه يغطسه بماء الأبدية،فتشتعل تعاويذه بالنور، ويتوحد الحالم مع روحه ليمشي على النجوم ( الأبدية )، فيتطهر طوال العام في زمن المسرة.
كانت الأضرحة المقدسة التي تكثر في مدينتي تسحرني بصمتها وتمتمات الزوار المتدينين، وبعد ذلك الإحساس بالخشوع، والرهبة في الأضرحة الحسينية ،والأولياء الصالحين في النجف وكربلاء والتي فيها تمتلئ روحي بذلك الانبهار والجو الغريب (القريب من صمت المسرح ) الذي كنت أفضل أن اختلي فيه ساعات طويلة متسربلا بالخشوع وبخور العافية.
ومنذ طفولتي كنت منذورا للمساهمة في ممارسة جميع طقوس التعازي التي كانت تقام بذكرى الحسين(ع)، فالهوادج المضيئة بالمشاعل، ورائحة البخور و الردات الحسينية الحزينة التي تتكرر كل عام في شهر عاشوراء،حيث، ومنذ اليوم الأول، تتهيأ المدينة بكاملها لإعداد المسيرات والمواكب،ويهيئ سكان المدينة الرايات والملابس السوداء التي سيرتدونها طوال الشهر الحسين للمشاركة بمأساة الحسين وعائلته،وكذلك الإكسسوارات والأدوات الأخرى التي ستستخدم في الاحتفالات،ويلف الحزن جميع مرافق المدينة الموشاة بالأسود والذي سيخلق جوا خاصا . وعادة، تقام المسيرات والتظاهرات والمواكب أثناء الليل، ماعدا اليوم الأخير والذي يقدم فيه عرض التعزية منذ الصباح الباكر.
وبالتأكيد، فإن انجذابي للطقوس الدينية التي كانت تقيمها مختلف الطوائف الدينية، لا يمكن أن أبرره إلا لكون هذه الطقوس هي قريبة من المسرح،و بالتأكيد فإنها تستثير مخيلتك عندما ترى في ليل المشاعل كورس الرجال يسيرون حفاة ،والجميع يمسك الشموع وأغصان الآس ، ويلطم الصدور على إيقاع الردات الدينية الحزينة المناسبة مما يضفي على هذا المشهد المأساوي رهبة وجلالا . وفي شارع آخر من المدينة ،هنالك موكب الضرب بالزنجيل الذي يتغير إيقاعه في كل ليلة للمساهمة بجلال المصاب. وفي البيوت والشوارع الخلفية يمارس كورس من النساء طقوس هذه المناسبة . وتبدأ النساء بالندب على إيقاع الدفوف ، و يردحن بإيقاع الحزن ، وهن يقفزن في الهواء منثورات الشعور، فيمتزج الرقص بالندب ونواح الجسد وتوهجه الصوفي . ومما يضفي على التوهج الجسدي غرابة هو أن النادبات لطخن رؤوسهن ووجوههن بالطين الذي يشكل قناعا غريبا على ضوء الشموع،فتشيع في الجو رائحة غريبة ممزوجة برائحة الأجساد المنهكة المنفعلة المباركة والسابحة بعرق الوجد الذي يجعلهن وكأنهن حوريات جئن ليباركن العريس الميت ـ الحي ،المقتول الشهيد ، فتمتلك الأجساد المنفلتة حريتها الديناميكية خارج فضاء القهر والانزواء البيتي، وفي الفجر يجرجرن أجسادهن المشتعلة بالتوهج وهن مرعوبات ومذهولات من فيض الوجد المبارك ومن تنفيس الضيم الذي حملنه طوال عام ،ومن هذه اللحظة ،حتى العام القادم عليهن، أن يتحملن كل أنواع القهر، كنساء يعد البيت سجنا تاريخيا لهن، لذلك فإنهن ينتظرن ليلة الاشتعال هذه مرة أخرى في العام القادم .
إن الشيء المهم في هذه الطقوس هو المشاركة الجماعية لجميع السكان بالرغم من هدفها الديني ، حيث تتحول المدينة إلى احتفالات ومواكب ومجالس وغيرها من الفعاليات التي تتسم بدراميتها،فيعم الحزن والندب الجماعي .
و من الناحية الدينية فممارستها فيها الكثير من سبل التطهير للحصول على المغفرة بالنسبة إلى الإنسان المؤمن، لكن من الناحية الفنية، فإن للجو الدرامي المصاحب بالموسيقى العنيفة والإيقاع المتميز، أهمية خاصة لإثارة مشاعر الإنسان المشارك أو المشاهد. وبعد ذلك تحول الأمر إلى استيعاب تراجيديا هذه الطقوس دراميا، فهي تشكل مسرحا متفردا.
لكن هذا الأمر يبدو صعب التحقق الآن، بالرغم من تعرف سكان المدينة في ذلك الزمان الهني على المسرح ، ومنذ خمسينات القرن العشرين كان هناك مسرح يقدم عروضا مختلفة في هذه المدينة العراقية الفقيرة . وشاهدت في أوائل ستينات القرن الماضي أول عرض مسرحي شعبي من فرقة المدينة المسرحية التي يديرها ويعمل بها شخصيات محترمة اجتماعيا في المدينة وهذا شيئ مهم لجدية العمل والجمهور.كانت الفرقة تهدف أن تكون محترفة، تأثرا بفرقة فاطمة رشدي عندما زارت العراق ، وعندما تقربت من أعضائها، وكنت في بداية المراهقة، تعلمت منهم الانضباط، واحترام قوانين المسرح عندما قررت الفرقة فصل أحد أعضائها،لأنه اعتلى خشبة المسرح من قاعة الجمهور أثناء الاستراحة، ولكن سرعان ما توقف نشاطها كأي مشروع جدي في ظروف استثنائية .
ولكني بدأت العمل في المسرح من خلال النشاط الفني المدرسي والذي جذبني كثيرا ليحدد مستقبلي المسرحي بوضوح، حيث بدأ هواية، لكنه تحول إلى وعي و احتراف.
الجانب الآخر أيضا، هو تعلمي للرسم من خلال النشاط الفني في بداية دراستي المتوسطة، وحزت على الجائزة الأولى على مدارس العراق، وقد ساعدتني هذه الهواية مستقبلا في دراستي في أكاديمية الفنون على الرؤية الفنية التشكيلية وتصميم الديكور لمسرحية في انتظار غودو التي أخرجها الفنان سامي عبد الحميد لفرقة المسرح الحديث في نهاية الستينيات من القرن العشرين.
وبالرغم من فقر هذه المدينة، كان فيها ثلاث سينمات هي النصر والخيام والحمراء ( الثورة ) ، كما كان في المدينة ناديان ليليان . وكانت السينما بالنسبة إلى الطفل اليافع والحالم الذي كنته، تشكل عالما سحريا جديدا، فأفلام هوليود مثل أفلام ( الكاوبوي ) وأفلام مثل ( جسر على نهر درينا )وأفلام الواقعية الجديدة ،وخاصة الفلم الايطالي " الرز المر"، وأفلام المخرج الايطالي "دي سيكا" وغيرها من الأفلام كانت تشكل ذاكرتنا وخيالنا الذي ينمو بسرعة قياسية ففي الأيام التي لا نملك قيها ثمن التذكرة ، وخاصة في الصيف، نعمد إلى تسلق السور العالي، نسبة إلى قاماتنا الصغيرة، لنجلس ساعات عديدة بانتظار مشاهدة الفيلم . أو نعمد أنا وصديقي ماجد الصابري إلى الاتفاق مع صاحب الحانوت الخاص بالسينما لبيع المرطبات في الاستراحة، أو أثناء العرض ، وكثيرا ما مكان يؤنبنا ويطردنا لأننا لم نهتم ببيعها، وإنما هدفنا الأساسي هو مشاهدة الفيلم . أو في أحسن الأحوال، نتشارك في شراء بطاقة واحدة،وننتظر قبل بدء العرض ، ونحن نتحرق شوقا، ولكن قاطع التذاكر ببروده المتعمد، يعذبنا حتى آخر لحظة قبل أن ندخل إلى العالم السحري .
في هذه المدينة الغرائبية، وفي كل حياتها اليومية، كانت تصدر فيها كل صباح جريدة بآسم صوت الجنوب ، وكان فيها مكتبة عامرة، وغنية بمختلف الكتب القديمة والمعاصرة، مما شكلت لدي ، ولجيلي من المثقفين عادة القراءة ،وساهمت أيضا المكتبة العصرية في السوق الكبير، وكذلك الكتب التي كان يستوردها شاكر الهاشمي في مخزنه. وهذه الأجواء أثرت كثيرا على بعض المثقفين الذين تربوا في هذه المدينة، والذين يحسبون الآن على جيل الستينات، جيل الخيبة والهزائم السياسية والروح العبثية والوعي الوجودي والإبداع الديناميكي. جيل غريب في وعيه وتمرده المبكر.مجموعة من المتمردين على واقع مدينتهم، يجلسون في المقاهي، أو في بساتين النخيل العامرة، ليتحاوروا بهمس مبحوح حد الخناق في الاشتراكية والثقافة والفلسفة والعراق وجوعه الدائم.
لكن بعضهم انتحر، والآخر مات، وبعضهم تركوا المدينة، ومازال بعضهم فيها وفيا لها بعد أن مرت عليه جميع المصائب والحروب، وبعضهم أكمل دراسته في بغداد أو في أوربا.وبعضهم نفى نفسه اختياريا إلى أعماق الريف والعيش في الأهوار.
في عام 1964 تقدمت لمعهد الفنون الجميلة لدراسة المسرح، لكني لم أقبل، غير أن عنادي دفعني لتكملة امتحان الإعدادية للتقديم إلى الأكاديمية، وتحققت أمنية كنت مرعوبا من عدم نيلها، وقبلت أنا والفنان فاضل خليل.وفتح أمامي أفق جديد عني وعن مدينتي إذ أن عالم الأكاديمية هو عالم جديد علي حيث يمكن أن تلتقي بفنانين العراق المعروفين سواء كانوا في المسرح أو السينما أو التشكيل .
من هنا، فإن هذا الرافد له أهميته وخصوصيته، وبما أن الأهل لم يوافقوا على مشروعي الفني في دراسة المسرح فقد حرموني من أي مصروف ،وبما أننا لم نقبل في القسم الداخلي، فقد وافق فاضل خليل المعروف بكرمه وإبداعه على أن أقاسمه المصاريف التي كان أهله يرسلونها له، والسكن في أماكن شعبية جدا لرخصها، مثل سوق الهرج، والحيدر خانة، فأصبحت قريبا أيضا من الشخصيات الشعبية الغنية بالسحر والحكمة والأسطورة. وفي الأكاديمية دخلت عالم المسرح بكل متطلباته وقوانينه الغريبة علي، والتي بدأت التعرف عليها لأول مرة، وبدأت أمرن جسدي وذاكرتي ومخيلتي لتكون مؤهلة للسير في هذا العالم الشائك.كنت مسحورا بجو العاصمة، بسينماتها، وباراتها، وضجيجها، وبدجلة الذي يخترقها متهاديا ليفصلها إلى الكرخ والرصافة، وكنت مسحورا بالتسكع في شارع الرشيد ظهرا، أو الدخول إلى السينمات الرخيصة والأفلام الساذجة للنوم في الظل البارد ،أو الجلوس على ساحل دجلة في أيام الخريف نستحم بدفء يشعرك بالخدر . هناك وفي شارع أبي نواس وبالذات في مقهى البتاويين قرأ لي الكاتب المبدع عبدالله صخي قصة متميزة في كونها تؤشر إلى أسلوب جديد للكتابة الستينية .
في شارع فرعي بين شارع السعدون وشارع أبي نواس، يقع مقهى صغير يتميز بتقديم الشاي بنكهة خاصة .كان يرتاده مجموعة كبيرة من المثقفين والفنانين والشعراء ورجال البوليس السري، وقد شكل هؤلاء المثقفون جيل الستينات المتمرد، وأصبح القسم الكبير منهم الآن يشكلون عالم الإبداع العراقي ويؤثرون فيه . كان لهذا المقهى ميزة التفرد حتى أصبح مكانا لصهر الأفكار الحداثية في الثقافة والفن والأدب من خلال رواده الذين كانوا موزعين في العمل في المجلات الثقافية، والإعلامية، والإبداعية .وبالتأكيد، فمثل هذا سيصبح رافدا للتأثير على أي إنسان يحاول أن يدخل في مجاهل الإبداع. وبما أن لكل جيل مناصروه، فإننا وجدنا في مكتبة بناي، ومكتبة هاشم مناصرة في شراء الكتب بالتقسيط منهلنا في القراءة. كان الليل له سحر آخر في بغداد، لذلك كانت متعة كبيرة الجلوس في ساعاته الأخيرة تحت ملحمة التحرير لجواد سليم، هناك وفي هذا الليل وهذا الجو اكتشفت مكاني ومستقبلي الإبداعي.
وعندما كنت أعود في العطلة الصيفية إلى مدينتي، كنت أنزوي في بساتينها الغنية بالفاكهة والرطب الذهبي، وأجلس على نهر دجلة بين شجيرات الصفصاف في منطقة الشبانة للتأمل. وبين الصفصاف والنخيل المائل بسعفه على النهر المنساب بهدوء ،كنت أقرأ كتاب فن المونتاج لـ "بود فكين"، وما كتبه "إيزنتشتاين" عن السيناريو والسينما عموما . وحرفيات هذا التكنيك يحتاجها عالم المسرح، ففيه حرفية خاصة، وقدرة على التنقل السريع في الحدث.
ولا أنسى الصدفة التي علمتني التوغل في عالم شكسبير الذي منحني الكثير في تعلم ـ ليس الفن فحسب ـ وإنما الحياة أيضا،وستمنحني "هاملت" أفقا جديدا ليخلق لدي رؤية جديدة وعالم أكثر تماسكا والتعرف على أن الفن يحتاج إلى رؤية فلسفية وتمرين على المعرفة وتوسيع الخيال ، وقد خدمتني الصدفة باللقاء بالفنان ومدرس المسرح في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة حميد محمد جواد .
ففي عام 1965 عاد حميد محمد جواد للتو من دراسة السينما، وبدأ تدريس المسرح في معهد الفنون الجميلة،وهو يمتلك القدرة على الدخول إلى قلب الآخر سريعا،بسبب روحه التمردية على البيروقراطية،والسخرية من الفن كوظيفة على كون الفن هو الإبداع، وعلى الصنمية في التفكير، والتعامل مع المسرح بصوفية، وهو موسوعي الثقافة وعصامي في حياته، فقد تميز بعقله الشمولي المتنور .إن وعي حميد وثقافته الفنية والفلسفية ودعوته لتبني الفن بمفهومه الجمالي الخالص، وكثافة الإحساس بالزمن، وعبثية الوجود، وميله إلى العزلة ،والعزوف عن المغريات التي تمنع الفنان من ممارسة الفن كوجود ، كل هذه الأسباب كانت سببا في أن تتحلق حوله مجموعة من الطلبة الأكثر طموحا وتمردا، وسنرتبط به مصيرا للغور في تأمل الفن وعمل المسرح ،وأصبح معروفا بين أوساط الفن ، بأن هنالك على دجلة ،مجموعة من الفنانين الشباب يجلسون ساعات متأخرة في الليل، وخاصة في أيام العطل للتأمل والتفكير في الفن ،والقراءة والتمرين الفكري والفني لتكوين البصيرة الخيالية والذهنية ، وخلق مرادفات فنية صورية للتعبير فنيا عن الترادفات الحياتية مما خلق لدينا مفهوما جديدا في العملية المسرحية وهو مفهوم مسرح الصورة ،واستطاع أن يحقق هذا عندما أخرج مع طلبته مسرحية "هاملت"، فبالإضافة للتحليل الفلسفي الوجودي لماساة الأمير الدنمركي وشكسبير،فإن المخرج التزم بالنظرة الشمولية المقرونة بالحس التعبيري الفني المتفرد في كل شئ، في الحركة، أو التكوين، أو الرؤيا الإخراجية، أو الديكور الذي صممه هو كديكور تجريدي رمزي معبر له دلالات شاملة،والذي امتد إلى قاعة المشاهدين، وهو توجه يذكرنا بذات النهج للمخرج السويسري وأدلف آبيا، أو الانكليزي جوردون كريج الذين اهتما بعلاقة الكتلة بالفضاء ، إضافة إلى حذفه للشبح الذي يمثل والد هاملت، وبالرغم من خطورة هذا الأمر، إلا أن حميد جواد يبرر ذلك بكون عصر شكسبير يؤمن بالخرافات والأشباح، وهذا لا يتناسب مع عقلانية عصرنا . وكحل إخراجي فإن المخرج جعل هاملت يرى شبح والده الملك المقتول في داخله،في بصيرته ، ووعيه مكنونات روحه وأعماقها، فخلق ديالوجا بينه وبين الشبح الداخلي،السري الذي يوسوس في دواخل هاملت،كتحليل لما يراه من الفساد والعفن الذي حل في الدنمارك نتيجة لقتل الملك الحقيقي و لاغتصاب العرش من قبل الملك الجديد عم هاملت ، ولهذا فإن هذه المعالجة لم يسبق لها مثيل .لم أمثل في المسرحية إلا أنني تابعت إعدادها وإخراجها خطوة إثر أخرى ، لدرجة أنني حفظت المسرحية ظهرا على قلب ، ولهذا فان هذا الرافد العظيم، أثر في مسار تفكري الفني ،كما أثر في مستقبل المسرح العراقي، وأثر في تكوين رؤى الجيل المسرحي الستيني.
وفي سنوات المنفى كنت على اتصال تام مع مشاريع حميد محمد جواد السينمائية والمسرحية ، وحاول بعد سنوات من تحقيق أفكاره الجديدة، إنجاز عمله الضخم التالي وهو إعداد "الإخوة كرامازوف" وتحقيق العرض في ساحة الأكاديمية بديكور ضخم، وبالهواء الطلق، كأنه هياكل خرافية ، و أيضا التف حوله جيل من الطلبة الفنانين المبدعين لتحقيق أفكار جديدة في تفسير الإخوة من خلال التأكيد على التصادمات الكونية التي تبدو أبدية ، ولم يرى العمل النور بسبب بدء الحرب العراقية الإيرانية، والتفاف زملاء المهنة لقبر التجربة . والآن يعيش حميد منعزلا في منفاه الباريسي منقطعا عن الآخرين تماما، متوحدا مع غربته كفنان عراقي سرق زمنه الإبداعي.
المعروف عن الفنان سامي عبد الحميد المبدع والماهر في التمثيل وخلق الشخصيات على المسرح بكونه يحب دائما أن يمنح فرصا جيدة للفنانين الشباب المتميزين لذلك فإن إسناده لي دور البطولة في مسرحية يوجين أونيل "الإمبراطور جونز" تعد فرصة مهمة لطالب مسرح مثلي آنذاك، وخاصة وهذا الدور يعتبر دورا معقدا ليس نفسيا ـ فقط ـ وإنما حركيا. ففي المسرحية الكثير من التأويل والرمز الذي يجعل المخرج والممثل يبدعان في مجالات البعد الرمزي ، وكانت بالنسبة لي تجربة فريدة في معرفة الكيفية التي يمكن للممثل إن يبدع جسديا بالرغم من أن الكثير من أعمال عبد الحميد تنحو نحو الواقعية، وفي هذه المسرحية، فإن المخرج أعطى شخصية الإمبراطور إلى ممثلين اثنين بدلا من واحد، وهذا أضاف عمقا جديدا للعمل. وقد فتح لي سامي عبد الحميد أفقا جديدا عندما اسند لي ـ وأنا مازلت طالبا ـ مهمة تصميم ديكور مسرحية في "انتظار غودو" الذي كان يركز على فكرة الزمن والعدم من خلال التعبير عن اللاشئ، فتحولت أغصان شجرة الانتظار إلى أميال الساعة، والتأكيد على أن شجرة الحياة فارغة، ومنخورة، مما منح الديكور إمكانية خروج الصبي من داخل الشجرة ، ليخبر الأفاقين في نهاية كل فصل رسالة غودو في عدم مجيئه، ويعدهم بالمجئ غدا.
في مسرحية"عرس الدم" لغارسيا لوركا، منحني الفنان جعفر السعدي إمكانية التجاوز على الذات عندما أسند لي دور البطولة، وجعلني أشعر بشفافية الشعر، وتراجيديته على المسرح، لدرجة تتحول حركة الجسد إلى قيمة شعرية في الفضاء . المدرسة الأخرى التي أثرت في تكوين فكري المسرحي وذاتي كإنسان هي فرقة مسرح الحديث، وهو عالم جديد، فرقة مسرح الفني الحديث.
وتعتبر هذه الفرقة بيتا للفنانين الفقراء الرافضين، وغير المتكيفين مع النظام السابق ، تلك العائلة الفنية التي كانت مهمتها المساهمة في تطوير الوعي الاجتماعي والجمالي ، ليس لجمهورها فحسب ،وإنما لأعضائها من الشباب والرواد ، لأنها تميزت عن باقي الفرق،بكونها مدرسة فنية، تضم خيرة الفنانين العراقيين، وتعتمد على أهم المناهج الفنية العالمية ، ويتنوع ريبرتوارها المسرحي (برنامجها) بين واقعية وشعبية المسرحيات العراقية المعاصرة إلى المسرحيات العربية والعالمية.لذلك فإن الثيمة الرئيسية في عملها هي علاقة الإنسان بمجتمعه ،وموقفه السياسي ليس بما يحدث في وطنه ،فحسب، وإنما في العالم أيضا ، لذلك فإنها كانت تقدم فنا مسرحيا متطورا، يتسم بواقعيته،وصدقه،مما أدى إلى خلق جمهور كبيرو متنوع ، جمهور من البسطاء والنخبة ،سواء من العاصمة أو المحافظات ، و يثير هذا بالتأكيد حقد أجهزة النظام القمعية والصحفية والإعلامية ، لذلك فإن السلطة، كانت تضع العراقيل المختلفة أمام إنتاج الفرقة المسرحي، بسبب المعالجات السياسية والاجتماعية في المسرح العراقي، والتي يحاول تحقيقها فنان الفرقة، والفرق الأخرى غير المتكيفة مع أهداف السلطة ،وكانت ضرورية لتطوير وعي شعب عظيم تاريخيا مثل الشعب العراقي .وفنانو شعبنا من أعضاء فرقة الحديث اعتبروا الفرقة بيتهم الأول ،قدرهم في المعاناة ووسيلة لتحقيق وجودهم الإبداعي، فمن خلالها امتلكوا لغة التواصل مع الجمهور .
في مسرحية النخلة والجيران لقاسم محمد ، وعلى خشبة المسرح وقفت لأول مرة كممثل أمام الفنان خليل شوقي وزينب ويوسف العاني وناهدة الرماح ، في ذلك الزمن الذي أصبح ضبابيا في الذاكرة الآن. وعندما أصبحنا نحن الشباب أعضاء فيها،باركت الفرقة خطواتنا الفنية، واعتبرتنا رافدا شابا طموحا للمساهمة في مستقبل المسرح العراقي مثل : صلاح القصب، فاضل خليل، لطيف صالح ، مقداد عبد الرضا ، إسماعيل خليل،وبعد ذلك، إنضم بعدنا رياض محمد ، إقبال محمد علي ،كاظم السعيدي ،خالد خضوري ، طه رشيد ناظم شاكر . وأغلبنا نزح من مدن أخرى غير بغداد، مدن القصب السومري والبابلي والحضارات القديمة ، مدن الأحلام،والأساطير والسحر والخرافات، مدن مازالت تعاويذ العرافين في معابدها القديمة، توشوش في شواطئها فنصاب بالتوهان. مدن مسكونة بعبق الأهوار والبطائح وليالي الشجون ، ومدن أخرى برائحة المسك في مراقدها المقدسة . من هذه المدن نزحنا إلى حاضرة كبغداد التي لم تدهشنا كثيرا في ذلك الوقت، لأن هاجسنا كان دراسة المسرح في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة. كنا نتهيب احتراما من الاقتراب ـ ليس فقط من فناني الفرقة ـ وإنما من جميع الفنانين المبدعين مثل زينب، ناهدة الرماح ، خليل شوقي ،إبراهيم جلال، سامي عبد الحميد ، يوسف العاني ،عبد الجبار عباس (رقد مشلولا وجائعا في بيته لسنوات طويلة قبل أن يموت )،وقاسم محمد ، جعفر السعدي ، حميد محمد جواد ،فاروق فياض ، عبد الواحد طه ، بدري حسون فريد ، آزادوهي صموئيل ، أسعد عبد الرزاق ، جميل نصيف ، طه سالم ، خليل الرفاعي، منذر حلمي ، علي فوزي ،جاسم العبودي ( مات وحيدا في دار العجزة في أمريكا )،جعفر علي (ظلت جثته مسجاة على الرصيف أمام المستشفى يوما كاملا ) ،روميو يوسف ، عبد القادر رحيم ، علي ياس، غازي القيسي وغيرهم . وكان فنانو الفرقة يعرفون بأن الشباب الجدد بحاجة إلى فترة من الزمن ليتعودوا على جو وعمل الفرقة، لذا فإنهم كانوا يبادروننا، وبذلك يقترحون صداقة متكافئة من القلب مبنية على الاحترام وبدون كبرياء أو فوقية بالرغم من أن أكثرهم يدرسوننا في الأكاديمية .
لكن ظروف العمل المسرحي الصعبة، في عهد النظام السابق الذي فرض تبعيث الثقافة فقط ،حدا بالكثيرين من الفنانين والمثقفين إلى ترك الوطن إلى المنفى. فبدأ عذاب الهروب إلى المنافي والشتات، ليستمر حتى هذه اللحظة ، لكن هل يبقى المنفى وطنا ؟

وللإجابة على هذا السؤال يمكن القول بان التناقض بين ثقافة الفنان وثقافة المنفى يحدث عندما يعيش الاغتراب المفروض عليه بعيدا عن بيته الأول ، منبت الوعي التأسيسي،وعن تلك العوامل التي شكلت وعيه الفني والجمالي ،ولكن بالرغم من هذا، فإن المنفى يفرض حالة من دمج الثقافات و إغنائها. وبالتأكيد فإن هذا، يعتمد على وعي الفنان ذاته في إعطاء مهمته الفنية بعدا جديدا يؤدي إلى أن تتحول غربته إلى تاريخ جديد من الإبداع في مكان وزمان جديدين. وهذا هو جوهر مهمة الفنان في منفاه .
إن ضرورة هذا الوعي، تحتمه طبيعة المجتمع الأوربي التجريدية ، لأنها تفرض على الفنان قيما جديدة لا تشكل ذات الاهتمامات الفنية للفنان سابقا والتي يحاول الفنان من خلالها معايشة الوجود والالتحام المصيري ، فتنشأ فوضى التناقض ، ويبدأ التصادم بين القيم الثقافية والحضارية التي تشكل وعيه الفني، وبين تلك التي تميز ثقافة المنفى،وعليه أن يحافظ على خلفيته الثقافية حتى يستطيع أن يتوصل إلى التفرد ،والأصالة حتى يبتعد في فنه عن "استهلاكية الثقافة واستهلاكية الوعي ".إن مشكلة التكيف الايجابي لاغتراب الفنان، تكمن في أهمية مقاومته للضياع الفني الذي يحتمه المجتمع الاستهلاكي الجديد . و تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة هنا ، ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته الجديدة أيضا ، لأنها تساعده على إنقاذ فنه.
وهذه قضية أساسية ، لأن معايشة المنفى الأوربي الجديد في سنوات اللجوء الأولى، تخلق حالة من الانبهار والاندهاش،بسبب بهرجة الحياة الجديدة التي تصيب الفنان بالتوهان،وبلا وعي منه ينجذب إلى الحياة الاستهلاكية، فتخبو جذوة الروح، و تنطفئ شعلة النار التي اختزنها الفنان في روحه، فيخضع فنه لمتطلبات تجارة السوق في مجتمع المنفى الاستهلاكي،أو يجبره لمعان الذهب على التحول إلى تاجر، كما حدث للكثير من المبدعين في منفانا ، لأن الأشياء المستهلكة ، تصبح هي الجوهرية في مجتمع الوعي الاستهلاكي، فيتأثر الفنان بهذا التشيؤ ، ويصبح تأثيره كفنان حقيقي كالذي يعزف على طبل مثقوب .
وهنا تكتسب الحصانة الداخلية الواعية أهمية كبيرة ليس في إبداع الفنان، وإنما في حياته أيضا،وعلى عكس هذا،فإنه يفقد مصباح النور القدسي الذي عثر عليه في أحد دروب الدنيا المليئة بالأسى، فيتحول الوعي الفني إلى وعي استهلاكي ، يُخضع الفن الحقيقي للهامشية التي تحوله إلى لوحات تزين قاعات البنوك ومؤسسات الصيارفة التي تتحكم بالمجتمع المعاصر.
ولكن من جانب آخر، فإن العيش في المنفى، سواء أكان خارج الوطن الأول، أو منفى الإنسان في داخله وهو في وطنه، يمتلك أهميته وضرورته. ولهذا فإن الفنان عليه أن يعمل على نفي نفسه فنيا ، وتغريب ذاته وهو في وطنه كامتحان، وهذا يعتبر جزء من تدريب الفنان لمواجهة ذاته الفنية من أجل أن يمتلك لغته الخاصة التي تختلف عن لغة مجتمعه. ففي المنفى تتجذر الأسئلة الأساسية لدى الفنان، ويستطيع أن يمتلك أدواته الفنية وأسلوبه الخاص ،إن المنفى خارج الذات، وخارج الوطن هي المؤامرة المصيرية التي تضع الفنان على حافة الخطر، بل لا أكون مبالغا إذا قلت إن المنفى هو الحافة التي تجعل من الفنان إما لامباليا،و إما عصاميا ، ويتم هذا ـ فقط ـ من خلال وعي الفنان لدوره في المنفى الجديد، وبدون هذا فإنه يصبح في منأى عن أوليات الحياة، وليس الإبداع ـ فقط ـ وأوليات الثقافة، والمجتمع، واللغة، والحب، والجنس،وتعلم عادات جديدة، مثل الكره ،والحقد، والقلق، والخوف من عنصرية الآخر، ولكن وعيه بكل هذه الإشكاليات تحصن قدرته على القيام بهذه المزاوجة بين الثقافة الجديدة في الحضارة الجديدة وآلياتها وتكنيكها الفني ، وبين ذلك الغنى الروحي الذي يمتلكه الشرق والذي تفتقر له أوربا، أي هي المزاوجة بين العقل الأوربي والروح الشرقية، وبالتأكيد فإنه سينتهي إلى فهم جديد للحياة والعالم والحضارة والتاريخ، وهذا يؤدي إلى وعي فني جديد،يؤدي بالفنان إلى استعادة زمنه الذي سرق منه وهو في وطنه الأول،إن هذا هو الهدف الثاني من معاناة المنفى.
فالفنان غريب دائما ( بالمفهوم الوجودي )، ولهذا فان الإبداع ـ فقط ـ يجعله منسجما من جديد مع ذاته ـ أولا ـ ومع الآخر ـ ثانيا ـ ولهذا ، فإن المنفى الأوربي أكثر أهمية من الناحية الإبداعية والفنية والتقنية والمعرفية من المنفى في المجتمع العربي، لأن الفنان المنفي في أوربا يتعلم تكنينكا جديدا لفهم الحياة،و لفهم إبداعه وتحقيقه، ويتعرف على جوهر الأسئلة المصيرية.ومن الأهمية بمكان، عليه أن يعرف إلى أي جمهور يتجه، و ما الموضوعات التي تشكل اهتمام الفنان في المنفى والتي من خلالها يستطيع أن يخلق حوارا حضاريا ولغة تواصل بينهما، بالرغم من أن خطورة المنفى تمنح المهاجر عقلا تجريديا.
ويجب أن نفهم العمل الإبداعي الذي يقدم إلى جمهور أوربي من زاوية أخرى، حيث أن بعض الفنانين العراقيين والعرب مصابون بهوس الجمهور الأوربي، أي أنهم يعتقدون أن تقديم عروضهم أمام جمهور أوربي يخلق عالمية الفن والفنان ، كما يجاهد بعض الفنانين العرب في استجداء العرض في أوربا، بدلا من بذل الجهد في إمكانية اكتشاف الأسئلة المصيرية التي تقلق الفنان والجمهور، وكذلك العمل على غنى أدواته الفنية ولغة خطابه الفني، بلا ثرثرة فكرية و فنية أو عاطفية وبلا سذاجة تجريبية.فاكتشاف الأسئلة الجوهرية التي تمس مصير جمهوره ومجتمعه هي التي تخلق عالمية الفكر والإبداع.
ومن جانب آخر، يكون ضغط المنفى مضاعفا عندما تكون الدكتاتورية هي سبب نفيك،وعندما ترفض أن تكون فنانا متكيفا مع آليات التفكير الدكتاتوري، وهذا ما حدث في العراق حيث الكثير من الفنانين كانوا مع ثقافة النظام ، أما الآخرين فاضطروا لترك العراق لهذا السبب ليعيشوا في المنافي في حالة من اللااستقرار والتشتت ، فالدكتاتورية والحروب تسرق زمن الفنان أو المثقف، و المنفى يسلبه نصف طاقته على الإبداع، لأن عليه ـ أولا ـ أن يوفر معيشته الحياتية، مادام هو غريب في بلد الغرباء.
وبالتأكيد، فإن كل هذا يؤثر على رؤية الفنان، بل أحيانا، تتغير جذريا،فمثلا يمكن أن تدخل مفردات ومفاهيم جديدة على اهتماماته.وبما أن الفلسفة والثقافة الغربية وبالذات الفرنسية المعاصرة تمتلك القدرة الشمولية في سبر أغوار النفس والحياة والعقل البشري ، فلابد إذن، أن يكون هنالك تأثير ما ، ولابد أن يعمد الفنان لمعالجة مشاكل الإنسان بشمولية كبيرة ذات فضاء واسع،فيصبح اهتمامه ليس في الإنسان ـ فقط ـ وإنما يضاف لها كل ما يتحرك في محيطه وفضائه، فالمسرح يهتم بالإنسان، إضافة إلى اهتمامه بأشيائه أيضا، أي تلك الأشياء التي تقلقه ،وهذا واضح في الثقافة الغربية، وكذلك الحال في الرسم بحيث امتلكت الأشياء وجودها في فضاء اللوحة وامتداد معناها خارج هذا الفضاء .ولكن هذه الأشياء لا يمكن أن تتكامل، أو تمتلك كيانها ومعناها في فضاء اللوحة،أو في الفضاء المسرحي إلا بجانب الإنسان ومن خلاله فقط، فتبدو علاقتهما أزلية .
إن هذا الوعي الشامل الذي يمكن للفنان أن يكتسبه من المنفى ، انعكس على كتابتي وإخراجي لمسرحية ( الرحلة الضوئية ) سواء في عرضها العربي أو الدنمركي ، ففيها تناولت شمولية المشكلة ، إنني في هذه المسرحية لم أعالج مشكلة الفنان فان كوخ ـ لأنه بطل الأحداث ـ وإنما أعالج مشكلة الفنان عموما ـ بما فيها الفنان العربي أو العراقي ـ في علاقته بالعالم والآخر والمجتمع ، ولم اطرح فيها تفاصيل حياته المعروفة كما عمل بعض من كتبوا عنه، وإنما كان السؤال الجوهري الذي يشكل أزمته المصيرية هو: كيف يستطيع الفنان أن يحول اللون الأصفر إلى نور ليضئ روحه والآخرين ، إضافة إلى تمايز التكنيك وأسلوب الطقوس في الكتابة ،أو الإخراج. ولذلك يمكن القول إن الفنان العراقي في المنفى الأوربي، بالرغم من أنه فقد مشروعه الفني بعد أن سرق زمنه ، إلا أنه تواصل بوعي أشمل، وبتجربة تكنيكية وفكرية أوسع.
 

جزء من استذكار طويل سيصدر ضمن كتاب للدكتور المغربي عبد الرحمن بن زيدان ، عن الفنان والمسرح العراقي .

 





 

free web counter