الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الخميس 24/7/ 2008

 

المقاييس والأحكام اللغوية والفنية
في القصة القصيرة العربية
الجزء الثاني

جعفر كمال
j.kamal@ hotmail.co.uk

القاص والناقد محمود عبد الوهاب
العوامل التي ميزت فن القصة القصيرة والقصيرة جداً هي: كونها ساحة سرد مكثف ينبت على أرضها المبدع القادر على إضافة الجديد. وخلق رؤيا تحث القارئ لأن يتلمس جلالها وجوهرها وخفاياها. على أن يكون النص يناجي ويكشف عن ومن رؤاه جمالية التجانس الإيحائي في التعبير عن العاطفة في المعنى. والتناسب الدقيق للعناصر البيانية. وحفظ التوازن بين الصوت والإيقاع. الذي يجب أن يبقى عالقاً في ذهن القارئ لزمن ليس بالقصير.
أعني أن يكون النص القصصي بالغ التأثير في إحساس المتلقي كي تحتفظ الذاكرة بتفاصيله. باعتباره ترك أثراً يفرض جمالية الحكاية وقيمتها الفنية والإبداعية على القارئ، وهنا يكون الكاتب قد أثرى الأدب العربي بنصه، وفي ذات الوقت صنع لنفسه شخصية أدبية قادرة على أن تميزه بين معاصريه. كما عبر عن هذا فرانز كافكا في قوله: " ابدأ بما هو صحيح، وليس بما هو مقبول. " هذا يعني: على الكاتب أن يعوم البحر إلى الضفة الأخرى للبحث عن مقومات إبداعية أكثر براعة. وأكثر يقظة في النّفَسْ الأسلوبي، بمعنى أن نتلمس مشاعره وعواطفه سارية في أسلوبه. لكي يسكن ود قارئه. بدءا من تحديث وتشذيب أدواته اللغوية والفنية، من حيث التواصل الدءوب مع الأفكار العميقة المعاصرة، وانعكاسه على حالات إبداعية متميزة متأثرة بانفعاليه العناصر البصرية والايحائيه من خلال الملامح الدرامية اليومية، حيث أن الكاتب الذي يمتلك فن أصيل في فهم اللغة وخصائصها البنائية والفنية، ويتحسس رشاقة مفردتها، مؤكد أن يرفد تجربته من متغيرات الواقع المتلاحقة والمتداخلة، بإضفاء لمسته الإبداعية على كل متغير جديد، وسوف يتضح ذلك بآثاره الحسية التي تنعكس في المعنى الملموس، لأنها تعمل على إثارة الحكاية معنوياً، من خلال وعي الكاتب بعمق تجارب ثقافاته المدركة لخصائص مجتمعه وما يحيط به.

وأيضاً من مزايا القصة الحديثة أنها:
أولا:
تنهل من ينبوع القصيدة تدفق حلاوة التعبير، والإحساس المشاع الذي يؤلف الرقة والصدق، كما هو الحال عند الشاعر سعدي يوسف، وأيضا عند الشاعر عبد الكريم كاصد، والشاعر كريم عبد، لما أضافوا هؤلاء الشعراء من وعي متقدم في خلق نص قصصي، أمتاز بـإثارة نبض الحركة الرشيقة في الجملة، وتناغمها الحيوي مع الجملة التي تليها، وبالتالي تجد النص متجانساً في الإيحاء، وتجاذب خيوط الاتصال الإيقاعي لغة ومعنى. وباعتقادي أن القراءة المنصفة للجنس الأدبي، تنتهي إلى تقييم الملامح الملموسة: المادية والاجتماعية، التي تؤثر ايجابياً على عقلية المتلقي، من طبيعة التشكيل الذي يعكس كثافة الوعي الفكري وإحساساته في النص، وتنشيط اللغة الرشيقة في حركة الصورة. ومن ناحية أخرى فالمكونات التي تتشكل في الأدوات الفنية والطبيعية والمناخية النفسية في المكان والزمان، يجب أن تتضمن علاقة منطقية مع بعضها البعض، لتشكل عوامل مهمة يجب على الكاتب أن يتعامل معها تعاملاً إدراكياً ومعرفياً موسعاً، تلاءم بين أمرين: الإفهام ، والتأثير، اللذّين يدفعان الإرادة إلى قوة المطابقة النفسية عن طريق الإدراك والعاطفة، وبذلك يتشكل تأثير هذا المنطق للتلاقح الفني بين الراوي ومواهبه الشخصية، وبين الأسلوب وعناصره الفنية، تستهدف وضع الحكاية بوحدة المضمون، ونصابه المستقل بكل عوامله، اعتباراً من لغة الصوت وتطابقه مع المعنى، والإيماء الدال على المناجاة الداخلية للمضمون، حتى أبعاده الفنية التي تتلاقى فيها: الصيغة، والمفاهيم، والنسيج اللغوي. ونستدل بهذا في قول د. عبد الغفار حامد هلال بقوله: " لقد اكتشف بعض العلماء في طائفة من الألفاظ صله بين ألفاظها ومعانيها، فبينوا أن العربي كان يربط بين الصوت والمعنى، فيجعلهما متشابهين فيدل على المعنى الضعيف بأصوات ضعيفة، وعلى المعنى القوي بأصوات قوية، ومن ذلك كلمتا "النضح" و "النضخ" وكلاهما لسيلان الماء ونحوه، إلا أن الأول سيلان ضعيف فناسبته الحاء الرقيقة، والثاني سيلان قوي فناسبته الخاء الغليظة.1"
من الواجب الحتمي على الكاتب أن لا يكون البديل المفترض، عن رؤية البطل أي بطل النص، إنما يجب أن يضع لمساته الخفية عبر المؤشر الحسي في الإحياء التعبيري في أسلوب البطل، وينأى بنصه عن جفاف الانطباعية الذاتية المقيتة، وبهذا يكون قد رفد المحتوى بمقومات نجاح النص وتميزه، وفي ذات الوقت يبتعد عن الطفح الوهمي، عبر الإسالة الكلامية الغير مفيدة سواء كان في السرد أو في الحوار.

ثانياً: ومن بحر الرواية، تقتطف القصة القصيرة البناء والخطابة، وأفق التخيل المديد، لأن هذا الحجم الفني القصير يصور حدثاً كاملا مكثف المعاني، يعلو به إلى موقف معين من الزاوية التي يلتقطها الكاتب، كونها النموذج الأمثل لتكثيف الاتصال، وتنشيط الفاعلية مع المتلقي، في بناء خلايا الحدث لما تشكل انسجاما معتمداً على تداعي الموضوعات المطلوبة، عبر اتساع الحكمة والبصيرة في بسط القضايا التنويرية والمؤثرة في اليومي البشري، ضمن معتقدات اجتماعية تنفذ بسلطتها إلى الأثر الشعبي في مضمون النص، من خلال توظيف المحدودية الزمنية بكل عناصرها المؤثرة على نفسية الكاتب ذاته، والذي يتلبس شخصية الراوي أي البطل، عبر رؤى تنفذ إلى أعماق أهدافها الفكرية التي تؤلف التسامي للخلاص من العقد الاجتماعية، وذلك في القدرة على الالتقاط السريع والنافع لمعالجة سلبيات الفرد، والاعتقاد بأن الكتابة تصنع العدالة الدالة على قانون الكاتب، "كما ورد في قصة الأديب عبد الباقي شنان "بالمقلوب"، والتي سوف نأتي على تناولها لاحقاُ، من خلال تلقائية سليمة في التشخيص والتحليل والتناصب الأدائي، لمّا تتضمن من بعدٍ لأحكامها اللغوية والفنية، وقياساتها النفسية. وطبيعة الصراع الذاتي للشخصية مع ما تكتنز الذاكرة من رؤى غير مستقرة على حال، وتعكسها في بسط متعلقات الرؤية الحادة عند أولئك الذين شكلوا بنية النص، وهنا تتداعى الحركة الخفية من باطن تفاعل التعدد الصوتي الصامت بضمير الشخصية الحيادية اتجاه مجتمعه.
لقد توسع كتاب القصة القصيرة الالتزام بالموضوعية لتشخيص الحدث وذلك بالتفاعل الحي العميق: بين مختلف الخصائص الإنسانية للبطل وبين حاضره وماضيه. يكون الراوي فيها يتشكل فنياً من واقعه من خلال بناء الاختلاف والتمازج من واقع سير طبيعة الأحداث..، والأحداث هنا لا قيمة لها إذا بسطتها كما هي، دون أن تكشف عن الوعي الكامن في أنسجة مكوناتها الحسية بحيوية وحكمة، لتمكين الخطابة لأن تعتلي سُلّّم الحكاية في عُلّيْ التجاذب والمفاجأة والإثارة، لكي تثري دلالاتها التي تعبر عن الامتداد الوجداني والمنحنى النفسي في تجاوز الواقع تجاوزاً إدراكيا لا رومانسياً، من خلال تلاقي عناصر التجربة الفنية. وكما نرى هنا في قصة:

طقس العاشق 2  
يقول القاص محمود عبد الوهاب في مقدمته للكتاب عن قصته هذه: "هي ارتحال في رؤى سردية متحولة وجدت نفسي في نهايتها بعيداً عن الدهشة الأولى والمشهد الأول، وقريبا من استبصار مغاير ارتقت بي تقنيته إلى مرصدي الأخير بين قصص هذه المجموعة.3"
إذا كان نسخ الذاتية في النص سائداً عند الكثير من أدباء العرب فيما سبق، فهذا كان يمثل مرحلة كانت تعتمد هذا الأسلوب الذي لا يشكل نمطا متقدما من الإبداع. وإنما هذا النهج كان يمثل أسلوبا يطبع تصرفات الكاتب وعاداته وتطلعاته الشخصية في القصة أو الرواية، ابتداءً من عصر النهضة العربية وحتى نهاية القرن التاسع عشر، وقد كان لبنان سباقاً في الكتابة الروائية العربية، أمثال: خليل الخوري اللبناني في روايته: "وي..إذن أنت لست بإفرنجي" المنشورة عام 1859. والروائي سليم البستاني وروايته: "الهيام في جنان الشام" المنشورة عام 1870". والروائية زينب فواز "غادة الزاهرة" المنشورة عام 1899. مع الأخذ بنظر الاعتبار الرواية المصرية التي تبوأت الكتابة العربية بدقتها التعبيرية، حيث بدأت شخصيات الرواية تعيش فن الصراع العاطفي والنفسي والذاتي. أمثال الأديب علي باشا مبارك 1882، والروائية عائشة التيمور 1888، والكاتب الكبير المميز الأستاذ جرجي زيدان 1891 وروايته المشهورة "المملوك الشارد" وغيرهم. ومن أجل هذا فقد كانت الحكاية تستدعي بعض النصوص الواقعية منها والخيالية في العهود المتعاقبة تاريخياً، وخاصة قصص البطولة، والغزوات والحروب في قصص سيف بن ذي يزد اليماني، والشجاعة والغرام العذري في قصة عنترة بن شداد، والترحال في قصص حمده وحمد الخيالية أو ما تطابق على تسميتها لاحقاً بحكاية الجدات، والكرم في مكارم حاتم الطائي. وقصص المؤامرة، والوقوف على الأطلال، وروايات الحكواتي وغيرها. لأنها اعتمدت المعطيات الانطباعية، الخالية من المفاجئة ومن توتر الشخصية وانفعالها. فبسطتها كما هي بدون لمسات الكاتب العلاجية والإبداعية. ومن هنا صار لازماً على الأديب أن يتحرر من الأنوية التي: تخفف من حلاوة المضمون. وتضغط على نبض الصوت الكامن في بناء المعنى الحسي وتضعفه. وتعلو برومانسية الصوت الظاهر في شكل الكلام. ولهذا كان اختياري لهذه القصة كونها تمثل انجازاً مهماً في التغيير وبناء الحبكة المتطورة في ألق المضمنات الحسية، التي جاءت بالذات كلمسة خفيفة أشبه بالمؤشرات الوجدانية، التي ترافق الصوت في البناء العام للمعاني. بين التكوين الدلالي في سبر العامل الفني وتعامله مع الشخصية وعلاقتها باليومي المجتمعي. وبين الرمز المكشوف الذي يقود نسيج الأحداث بانسيابية إلى الغرض المقصود. ولتأكيد هذه الميزات الواضحة نقرأ القصة ونقف على قيامها وقعودها، وحركة خطواتها المتداولة بين التماسك بقوة، والتعثر قليلا:
"تراءى له الشارع من شرفته، في الطابق العاشر، بساطاً يزحف ببطء، نحو الجهة الأخرى كأن يدا لا مرئية متوجسة ومنشدة تسحبه إليها. حافلتان بلون برتقالي، وثلاث سيارات أو أربع، ونساء ورجال وصبية مدارس، ودراجة هوائية نزقة تخرق نظام هذا السرب، يسحبهم البساط جميعا ليغيبهم في مساحات محتشدة، في مساحات فارغة، في أزقة مغلقة، في أزقة منفتحة على خرائب، في دور متلاصقة، في مبان تتصاعد مثل لولب في فضاء المدينة، وسمائها شديد الشحوب. لا صوت يصل إلى أذنيه وهو يسند راحتيه إلى حاجز الشرفة يرقب برأس منخفض انسحاب الشارع والحافلتين والسيارات والنساء والرجال والصبية والدراجة في تعاقب رتيب صامت قنوع" يدخل القاص هنا إلى العمق المجتمعي، ويفضي به إلى جوانب متعددة المسميات، عبر إحاطة الأشياء بعناصر قوة اللغة، والتخيل، والانطلاق بهما على بساط الفكرة وتجليات معانيها. فالقاص هنا متتبعاً وكاشفا عن حركة مكونات اليومي من صغيرها حتى كبيرها، بسلبها وإيجابها. لذا فقد يفهم القارئ من الوهلة الأولى أن هذه القصة تفضي إليه بالانطباع: إنها قصة إيحاء وخيال ذات بعد ذاتي، ولأنه هكذا فهو يعلو بنصه إلى مستوى دقة التحليل، وشمولية نتيجة التشريح الشامل للنص، ولأني التقيت القاص "قريباً من استبصار مغاير" ومختلف، وجدت النص حساساً بتدفقات عاطفية في تعاطيه مع المضمون ألتجاذبي المجتمعي، حيث نلاحظ هنا: أن الكاتب قد تناول ظروف النشأة ودراسة العوامل الاجتماعية، وتسليط الضوء على نمو الشخصية وتطورها، ومنح المخيلة دوراً مهماً في البناء التصويري، كون هذه المكونات هي التي تكتشف العلاقات الوسيطة بين الأشياء المتحركة منها والجامدة، وكلاهما يتحدان في رؤية الإنسان، والمهم المميز هنا، إنه جعل من الجامد متحركاً في الجمل التي حركت اللفظ الداخلي في البنيوية الضمنية في تجليات انعكاس المفهوم العام للمعنى، حيث يقول: " يسحبهم البساط جميعا ليغيبهم في مساحات محتشدة، في مساحات فارغة، في أزقة مغلقة، في أزقة منفتحة على خرائب، في مبان تتصاعد مثل لولب في فضاء المدينة وسمائها شديد الشحوب"، والجامد هنا كما هو معروف: مساحات محتشدة / مساحات فارغة / أزقة مغلقة / أزقة منفتحة / خرائب / دور / مبان. إذن هذا الجامد ألا متحرك أصبح متحركاً بفعل "غياب" ما هو فوق البساط، لتحتويه مكونات الجماد التي اشرنا إليها، ومع أن حركة الجامد غير مرئية، إنما هي رؤية الكاتب الإبداعية جعلت من الجامد متحركاً، باستخدامه الموفق للغة تتحرك بالمعنى، بوحيها للآخر المتلقي، في أن هذا الجماد فعلا فتح أبوابه ليدخل الأشياء المتحركة إلى فضائه، من خلال توغل الكاتب بالعمق الخيالي الخصب للموضوعات الحياتية بنوعيها المتحرك والجامد، وبين ما يدور في الوسط المحيط بالكاتب، إذن فالمنظومة الفكرية الخصبة التي عالجها الكاتب في هذا النص أغلبها متحركة، باستثناء الجامد الذي هو ابتكار إبداعي مميز له، "وهنا شرح آخر للجمل التي تبدأ ب "في" لأهميتها الفنية وضرورة إعادة تفكيك مغاليقها بمفاتيح أخرى". تتولى هذه الجمل الدقة في حساب منظومة الإحساسات الواعية للمشهد، فهو يجمع مكونات الحياة بدءا بالسيارات، والدراجة الهوائية، وطلبة المدارس، ونساء ورجال، والعربات الخشبية، ويذيبهم في الوقت ذاته: في أزقة مغلقة/ في أزقة منفتحة على خرائب/ في دور متلاصقة/ في مبان تتصاعد..."وبهذا يتوافق القاص بتصاعد الوعي التام مع حركة الحياة اليومية التي تسير بانتظام. وقد شكل حرف ال: "في" قيادة الجمل الأربعة إلى موضعية الجنس الشعري، صوراً متلاقية في غاياتها ودلالاتها المنسجمة مع الرؤية والوضوح. وفي المقطع الآتي نجد أن القاص استمر في بسط حركة المكان ومراقبته بدقة: " الآن تئز في الشارع عجلات عربة خشبية بطيئة الحركة، وبائع الصحف حضر تواً وأقعى أسفل الكشك يفتح أقفاله، يضع كرسيه إزاء الكشك، يعقف قدميه في بقعة الرصيف المشمسة مترقباً وصول زبائنه، حتى إذا ما شحب الصباح نقل كرسيه داخل الكشك، وتخثر هناك جالساً في صمت أبدي. والنساء والرجال، أين هم الآن؟ أكانوا يتحركون في حلم قصير؟ وصبية المدارس هذه الساعة في صفوفهم يحدقون بالمعلم الناحل ناتئ العينين موثقين آذانهم بجرس المدرسة يحلمون بانتهاء الدرس" "أقعى" هذه اللفظة ثقيلة ولا تتناسب مع المعنى. لأنها تعني الجلوس على أسته، وهذا استخدام شائع لجلوس الكلاب، والأصح يجب أن نقول جلس القُرْفُصَاء، والقرفصاء هنا تعني الجلوس الموقت وليس الدائم، كون الفرد ينوي أن يقوم بعمل وقتي للانتقال إلى وضع آخر، وهذا ما يريده ويعنيه القاص في الغالب الأعم، كما فعل بائع الصحف حين أراد أن يفتح أقفال الكشك، ثم أنتقل فغير وضع الجلوس بسرعة، حين جلس عاقف القدمين على الكرسي. دعونا نستمع إلى ما ذهب إليه: "لفرديناند دي سوسير ( 1857-1913) تقول إن المعنى يجب أن يكون بنية كل اللغة من تحليل الكلمات ذاتها. "
ولهذا فالقاص متواصل لترتوي قصته بالمؤثرات الحسية اللا مباشرة، فقد أدخل وظيفة أخرى لإشباع المشهد بالظواهر الفلسفية وهي: " العامل الطبقي" تلك اللقطة الموفقة في شخصية العامل المتجول في عربته الخشبية، وبائع الصحف الكسول، الذي تخثر في مقعده بصمت، وهذه اللمسة الموفقة نقلته من التصوير المُشّاهد عن بعد، إلى الدخول المباشر عبر الرؤية، وذلك في طبيعة حركة الإنسان الروتينية مع مجتمعه عبر مقاييس الوحدة الاجتماعية بمحدودية أفعالها، في منظومة ممارسة البيع والشراء ضمن البنيوية التقليدية على بساطه، وهذا تمثيل للواقع اليومي، وهو تخصيص إبداعي أثرى الأسلوب فحرره من الحوار التقليدي، ولذلك فهو اعتمد الصوت والحركة والمشاهدة عن كثب، ليبدأ بتنشيط قابلية دفق المعنى، وتخصيصا لهذا عندما جعل من الصوت في المفردة الموسومة ب "تئز": عنصراً حيوياً متحركاً يدخل إلى ساحة البناء النثري فيغني مقاصده. أما الرافد الذي حددناه وهو: الانتماء الطبقي. كون صاحب العربة وبائع الصحف ينتميان إلى الطبقة الفقيرة المسحوقة المعرفة ب الكسبة، وهي أدنى درجات الفقر في المجتمع، وقد سماهم الروائي الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ بروايته: " الحرافيش ". وسماهم أبن كثير ب: " العيارين " في كتاب : "البداية والنهاية". وقد نتلمس بوضوح هنا طبيعة المكان، وهذا عامل ايجابي ومهم للقاص في تحديد حالة المكان وتناسبه مع طبيعة السرد الانتقالي. وأيضا إضافة الزمان في مفردته الموسومة: بالصباح، التي أذاعت متعة الدهشة الإبداعية، لأنها أذابت الفاصل الزمني بين الكاتب والشخصية البسيطة المتوترة، في حين جعلت من الزمن يمشي برتابة مضنية مع حركة الشخصية، ونهاية الصباح الموسومة في مفردة شحوب، في قوله: "حتى إذا ما شحب الصباح نقل كرسيه داخل الكشك." فلإشارة إلى المكان والزمان هنا شكلت رابطاً تجانس بين بهجة الراوي ومتعته، وبين الحركة الروتينية اليومية على البساط، لترفع من سقف المعاني ودهشتها المفاجئة، وهذا ما يؤدي إلى سمو النص وتفوق نجاحه، كما يقول ديفيد هيوم إلى أن: جمال الأشياء لا يكون إلا في عقل من يمعن النظر فيها." فالتصرف المعنوي في تنسيق الموضوعات، والعلو بتراكيب الإيحاءات المختلفة، عبر التجلي والانكشاف، يدل على وعي القاص لهموم الإنسان، من خلال الدخول إلى أدق تفاصيل الموضوعات حساسية. فالمشهد هنا مفتوح على مد النظر، وهو ما أسماه: "بالبساط"، والمقصود طبيعة الرؤية المنسجمة مع وحدة القياسات العامة: "البساط يتجدد، تتناسخ أشياءه، وهو في جريانه إلى الجهة الأخرى." والتقدير الذي جعل من البساط يتجه إلى الجهة الأخرى هو: تحسس المشاعر وتدفق رؤيتها الكاشفة عن معانيها الدالة لمعطيات الواقع، الذي جعله الكاتب شفافا في تعاطيه مع الإنسان المنهمك في حياته الخاصة، وهذا ما جعل من المتخيل "الراوي"، أن يجمع سياح في حافلة يطلون برؤوسهم من "ثقوب" النوافذ. و"ثقوب هنا ضعيفة والقاص غير موفق في اختيارها، لأن الحافلة فيها نوافذ فقط، وليس فيها ثقوب، فحساسية اللفظ في الأدب العربي دقيقة جدا أشبه بحركة الزئبق وقياساته الانفعالية، لأن اللفظة تعني اصطلاح المعنى أو عدة معان لها قياسها وأحكامها الخاصة، فلا يمكن أن نرمي باللفظ في نسيج السرد النثري الأدبي كيفما اتفق، وهذا يشكل خللاً لغوياً وفنيا كبيراً في تقنية النص، ولهذا نقول يجب قراءة النص مئة مرة، كلمة تلو أخرى، "وهذا ما أفعله أنا" وإذا تمكن الكاتب من قراءة نصه ألف مرة، فهذا يكون أرق حسناً وأكثر دقةً، وخاصة إذا كانت اللفظة لها موازين بنائية أخرى " كثقوب" وجمعها الثاني: أثْقُب يقول د. عبد الغفار حامد هلال في كتابه "علم اللغة" ما يلي: " يقوم هذا البحث على أساس وضع القواعد اللغوية الخاصة بالمفردات، والتراكيب العربية، كما نطقها العربي الفصيح، فالمفردات لها أنواع، من حيث الاسمية والفعلية والحرفية، ولها مواقع في الأساليب المستعملة على لسان العرب، ولكل لفظ بنية معينة تتغير حسب المعاني المراد منها، وحسب مواقعها المختلفة.4 ". ولكن يبقى المشهد محتفظا بحيويته، وخاصة في مفهوم فعل الأضداد المتنافرة كما يقول يوسف سامي اليوسف، وهنا في هذا المشهد نجد علم عملية نفي النفي ظاهراً، فالراوي الكهل: يجمع عظامه في هدوء/ ويسترخي على كرسيه/ تاركا بقع الشمس الباهتة تتناثر على وجهه مثل طفح جلدي. هذه الجمل المتآلفة كالنظم الشعري، حافظت على بناء النص من شوائب بسيطة رافقت الوحدة اللغوية، وشكلت رافداً منيعاً لمتلاقيات شفافية الجمل القصية الخفيفة، وأسست لأسلوب متخصص طموح يرفد نجاح شخصية النص، والكاتب، عندما تنفسا الحكاية معاً. في بدايةً تتجانس بفاعلية رشيقة مع المحور والنهاية، بفعل واقعية الشيخوخة التي لابد منها. لمّا قال: "الشارع يتحرك في عينيه: يبرق، يضيق، يرتعش. يشحب. يزحف في حركة لا تنقطع." حتى قوله: "ليستعد لنهار جديد في رحلة لا نهاية لها." كل هذا يميل بالشخصية بفاعلية إحساساتها.. التي أخذت تضيق، وترتعش، وتشحب، وتفقد معنويات التأثير والقبض على متطلبات حياته الخاصة، لأن تستدعي الحياة الباقية على الفانية، وهو أي الكاتب ملماً في هذه الفلسفة البيانية المدعمة بالبرهان، وهكذا نجده قد أقترب من لغة الحياة اليومية بدون إضافات مملة، وهي جمل تحمل مقداراً محبباً من التشويق والسرد الهادئ، ذو الأناقة المتناسقة بتشذيب ناجح، عبر حوار البطل المجهول الاسم والعنوان والحرفة، الخالي من لمسات سيناريو البناء المبالغ فيه، الذي اعتاد عليه بعض الأدباء العرب، وللاعتناء برأينا نستدعي قول دافيد لهمان في قوله: "هذا التتابع في الجمل - وليس الأسطر- ينتقل بنا لسرعة أكبر في البراعة، ثم تأتي الجملة الصياغية الأخيرة لتبطئ الحركة. النتيجة هي جمل غير عادية تبدو بشكل تعبر عن نظام معين، يقترب من إيقاع السرد النثري. في القصة نجد الجملة الافتتاحية تقدم استعارة، أما البقية فتستفيض في دعم تجليها 5 " إذن فالجملة الناجحة تتبنى الرؤية الواضحة والمتماسكة في السياق العام في وحدة النص، وكما عبر عنها الكاتب في: "الشارع يتحرك في عينيه" وهي جملة حسنت المعنى واللغة بآن، من واقع الحركة الأزلية لمكونات الحياة من البداية حتى النهاية، هي ذات الإيقاع من بداية النهار بالشروق حتى نهايته بالغروب، كما هو الإنسان طفلاً ثم شيخاً، يولد عارياً ليموت عارياً.
يبقى الأديب الكبير محمود عبد الوهاب احد قامات الأدب العربي، وفعله في دفع النصوص الإبداعية العربية نحو الأفضل، نأمل من الكاتب أن نقرأ له من مزيج تجديده في المتنور الإبداعي.

هامش:
1-
علم اللغة بين القديم والحديث للدكتور عبد الغفار حامد هلال
2- المجموعة القصصية "رائحة الشتاء" للأديب محمود عبد الوهاب. الصادرة عن: دار الشؤون الثقافية. بغداد
3- مقدمة تصب في إيضاح والكشف عن أسلوبه الجديد بقلم القاص.
4- علم اللغة بين القديم والحديث للدكتور عبد الغفار حامد هلال
5- دايفيد لهمان، موقع ايلاف


¤ الجزءالأول

 

free web counter