الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 19/10/ 2008

 

(وجود مركب) صورة فنية ليوسف الناصر

عباس باني حسن
www.abbas-bani-hasan.com

معنى متحرك
تكشف عموم أعمال الفنان يوسف الناصر التصويرية، عن طبيعة مركبة من المسائل الفنية في العمل الواحد، فهي تتصف ببساطة التحقيق وبفقر المعنى، بالرمزية المباشرة وبعسر قراءة الشكل، بالإبهام العام في طرح الموضوع وبوضوح المشاعر المسجلة، بالوصف المسطح وبعمق الرؤيا الفنية، بالمسائلة دون تقديم البرهان أو توضيح العلة، بسفر وهروب المعاني من الصورة إلى الواقع اليومي وفي أحيان يحدث العكس. وبالمخاطبة الواعية التي لا يطالب الفنان فيها المتلقي الدخول بعالم الصورة، إنما الرجوع إلى النفس وتأمل العالم من جديد، تأمل الحياة بما فيها من معقول ومواز للمعقول، آثار العبث اليومي للوجود وضرورة العيش، الفلسفة القديمة والفلسفة المستجدة في البحث عن جدوى العمل. كل هذه العوالم التي يمكن أن تجتمع في نفس يوسف الفني تجعل من العمل الواحد عصبة من العقد العاصية على الحل الجاهز. فالآنية التي يعمل بها والتعبير السلس نتيجة التعامل بطبيعية إنسانية مع الأشكال المتوفرة في الذاكرة أو التصور في لحظة العمل، تجعل منه امتداداً للتجربة الثقافية التشكيلية لمجموع الإنسانية في التاريخ، معنى وممارسة، فهو لا يتوقف عند شكل معين ولا يدخل في تفاصيل مفروضة عليه ولا يقيم حواجز المعقول والواقعي بين الأشكال ومعانيها المفترضة إن وجدت. لا جدوى من البحث عن معنى في أشكاله، فمصادر الأشكال لديه، أي كانت طبيعة انتماءاتها، تحتفظ بمعناها في محيطها الواقعي وتفقده في الصورة، إنه لا يهتم بتقصي المعنى ولا التعبير عن ومن خلال الموضوع أو المشهد الذي انتقاه في يومياته، فليس من ماهية للشكل وتفاصيله، فالعالم المحيط مكون من هذه التعقيدات، إنها متحركة وزائلة في وقت واحد.

الشخصية الفنية
يمارس يوسف شخصيته الفنية بواقعية واضحة، إنه لا يقحمها بتعاليم معروفة تنتمي إلى اتجاهات عالمية في الفن، فأن كان ثمة قرب من طبيعة عوالم التعبيرية الألمانية، فهي لا تتجاوز الشكل الخارجي في طبيعة عمل تحقيق الصورة، إنه إيهام شكلي ناتج عن مادة العمل، مثال استخدام أقلام الفحم أو الأحبار القاتمة والسوداء، التي لا يستغني عنها في أنجاز صوره الفنية إنْ كانت في تلك الأعمال سريعة التحقيق، أم في تلك التي سيعمل على إنضاجها كموضوع نهائي. إنه لا يتأثر بهذا الشكل أو بذلك المعنى، إنما يعمل على هضم كل منها وإعادة تكوينها بطريقته الخاصة، بالحذف، أو بالتشويه، أو بأخذ جزءً مبهماً من موضوع ما، لا يهم أن يمثل الكل أو يستمد معناه بالضرورة من شكل هذا الكل. تولد الأشكال حرة عند يوسف، دون سعي إلى قصد أو معنى لموضوع محدد، إنه يزاول لغة الشكل الخام، فالأشكال تأتي إليه سعياً، كأنها تعرف مصيرها على سطح الورقة أو القماش، حيث سيؤكد بالنهاية مشروعيتها الفنية.

حرية رافضة
ثمة حالة واعية تقود تحقيق مواضيعه التصويرية المختارة، نوع من الحرية الرافضة لمنح الصورة أو الموضوع المعبر عنها، جمالاً مزيفاً، متملقاً، يسمح للنفس المطمئنة بالشعور بالانتصار على التحقيق الفني لديه. إنه يمر على الأشكال بحركة عنف وقسوة، تعمل على تشويهها أو مسخها، أو إزالة البعض من معالمها التشخيصية وإحالتها إلى صورة جديدة مزعجة.

صورة جديدة
أنجز الناصر صورة فنية جديدة بعنوان ( وجود مركب ). تضمنت لغة نظرية. لغة مجردة تهتم بطبيعة تكوين العملية الفنية، بسبب من احتوائها على صورتين لموضوعين مستقلين على سطح واحد، فهي بذلك تذكر بالتجارب النظرية عند البعض من الفنانين أمثال بيكاسو، دالي، الجريكو وآخرين من القدماء والمعاصرين، الذين حققوا صوراً تضمنت موضوعين بأسلوبين مختلفين ومتداخلين في صورة واحدة، مما جعل منها أن تدخل في أعداد فكرة صورة داخل الصورة. تتجاوز محاولة يوسف في صورة ( وجود مركب ) التجارب السابقة لها بسبب من استقلالية كل من الموضوعين الموجودين في هذه الصورة، فبالرغم من وجود صدى أو حالة تشابه في التجربة عند فنانين آخرين في الحاضر أو في الماضي القريب والبعيد، بمعالجة موضوع الصورة المتداخلة أو صورة داخل الصورة، تبقى هذه التجربة في صورة ( وجود مركب ) تعلن عن تفردها الفذ بالمحاورة الفلسفية التي اتضحت في العملية الفنية أثناء أنجاز هذا العمل.

وجود مركب
تتصف صورة ( وجود مركب ) على احتوائها موضوعين تصويريين مستقلين، الأول هو الصورة المرئية، التي تشكلت من وحدات مألوفة في أعمال يوسف الأخرى، أو الأقدم زمناً، مثال موضوع الورقة ـ الشجرة ، أيضاً، موضوع لفكرة هيئة بشرية مشوهة، أو مجردة. وأشكال مبهمة أخرى لا يحدها معنى ولا هدف. وموضوع لشكل طائرة حربية تذكر بعمله في صورة ( مطر أسود ). تحققت هذه الأشكال على عمق ضبابي لعوالم غير مرئية، توحي بحياة قلقة مشحونة بالحركة، حيث نكتشف كلما اقتربنا من هذا العمل، إن الصورة المرئية التي توهم بموضوع العمل، هي بمثابة بوابة أو واجهة سرعان ما تختفي، حين الاقتراب من والدخول في عالم الصورة الثاني، الذي لا يمكن لنا أن ندعوه بالأخير أو الحقيقي، بسبب انعدام وجود موضوع قصصي، أو وصفي، أو تزييني واحد ممكن متابعته والاستيفاء من معناه. تحتوي صورة العمق، أو الصورة الضبابية، على عوالم غنية بالأشكال والمواضيع والمشاهد والمناظر الطبيعية والكتابات والصور الشخصية ووحدات رمزية وأخرى مجردة مبهمة. حيث تنعدم الحدود بين صور هذه المواضيع، إذ إنها توجد متجاورة ومتداخلة ومتراكبة في جسد واحد بالرغم من اختلافاتها بالطبيعة التعبيرية ولحظة وجودها جنباً إلى جنب على سطح واحد مثل لحظات الأشياء والكائنات المتحركة التي تجمع بينها الأحداث صدفة.

لحظة العمل
في صورة ( وجود مركب )، تأتي الأشكال ساعية لترتمي باستسلام على سطح القماش، الذي أعده الفنان لهذا الغرض، فالأشكال تتقاطر وتتزاحم وتجتمع دون فكرة مسبقة من الممكن لها أن تحيط بواقعية معانيها. لا ينتظر يوسف أن تأتيه الفكرة، فالفكرة بين أنامله والفرشاة أو قلم الفحم، إنها تنساب بآنية وبساطة لا تحتاج إلى جهد ذهني معقد، إن التأمل بفكرة موضوع العمل كان قد حسم أمرها منذ اختيار تدوين ذلك المشهد اليومي دون غيره، أي كان نوع هذا المشهد الذي سيترك المجال لموضوع مشهد آخر جديد حين انتهائه وهكذا دواليك، إن التعبير عن موضوع ما عنده لا يتحمل طول الانتظار. وإن البحث عن الشكل والخط واللون ضمن التكوين العام للصورة يتم أداؤه كما في الفنون الزمنية، مثال قطعة موسيقية يتم إيضاحها للجمهور نغمة فنغمة وجملة فجملة، حتى اكتمالها وتكاملها في الزمن المحدد لها، لقد دفعته هذه الحالة، في أعمال فنية أخرى، إلى العمل على مساحة متناهية في الطول مثال شريط سينمائي يتم فيها تحقيق وعرض المواضيع بالتتابع، أنها صورة بمقياس طويل، بهيئة شريط ملفوف. يفصح هذا العمل عن الحاجة النفسية والذهنية التي تتحكم بالعملية الفنية عند الفنان يوسف في صورة ( وجود مركب )، أيضاً، نلتقي بنفس الظاهرة في عمل آخر سبق هذه التجربة ومهد لها، وأعني به صورة ( مطر أسود ).

تفرد التجربة
تثير صورة ( وجود مركب ) أسئلة وأجوبة وإشارات وملاحظات عديدة ومتنوعة في مجالات فكرية حول طبيعة الفن والأدب ومعنى الحياة وحول تجارب إنسانية في الممارسة اليومية والبحث عن معنى الحياة وجدوى العيش أو عبثية الوجود. إن الزخم المبسط للمشاهد الصورية التي اقتناها يوسف هي بمثابة دعوة للتأمل بما يحدث في يومياتنا من أحداث ومشاهد معاصرة تشكل جزء من تاريخنا الشخصي والاجتماعي. فمن هذه الملاحظات مسألة اتحاد وتكامل الوجود ـ عوالم مختلفة على سطح واحد ـ عدة مواضيع متفاوتة بالتحقيق والغرض والدافع من سبب وجودها معا وفي آن واحد على سطح أو مكان واحد، مثال الوجود بصفتيه الطبيعية والاصطناعية على الكرة الأرضية. أيضاً، فكرة الوجود المرئي والوجود الخفي الممتنع عن البصر، كذلك الفكرة التي ما زالت تحير العلم المعاصر بلا نهائية الوجود، لا نهائية اتساع حجمه كبراً أو اتساع حجمه صغراً. وأفكار إضافية تشير إلى حرية التصور البشري والتعبير الفني في النفس الإنسانية.
 


فرنسا ـ 2008





 

free web counter