الصفحة الثقافية
نقطة ضوء
يوتيبيا المكان أو جغرافية التاريخ
في "لغز جواي"ماجد كاظم علي
جواي رجل لا نعرف من اين جاء..كان يسير في اسواق وازقة مدينة الناصرية ويجلس في مقاهي متعددة منها لانعرف اين يسكن او يقضي لياليه.عاش في المدينة نهاية الخمسينات وحتى السبعينات..ولكن يقال انه ظهر اخيرا احد رجال المخابرات والله يعلم ان كان هذا الخبر صحيحا ام لا فهنالك الكثير من الاراء والاقاويل قيلت عنه بعد اختفائه.
عرفت الشاعر حسين جهيد الحافظ منذ الطفولة واكاد اكون الاول الذي يستمع الى قصائده حتى ولو كانت في بدايتها..وكانت معرفتي به من خلال والده الخياط في السوق التي كانت فيها مقهى والدي فنحن ابناء مدينة واحدة وابناء سوق واحد..والدي الذي ورد اسمه في هذه القصيدة التي كتبها الشاعر وابدع بها كعادته ..فهو شاعر كبير ومبدع كبير لمن يطلع على شعره رغم عدم انتشاره الواسع.
القصيدة تتوزع بين جغرافية التاريخ وتاريخ الجغرافية.فقد وردت فيها الكثير من العناوين والرموز ومعظمها تحمل في صفاتها طيبة واخلاق اهل المدينة وصدقها وصفائها ونبلها في تلك السنوات الغابرة التي عشناها بحب كبير..التي كان الجار اخا لجاره ويمثل اهل بيته في غيابه..وربما اكثر..وقبل ان تمتد يد الغدر والكراهية التي اشاعها جرذان البعيثين في العراق ودمروا فيها الاخضر واليابس وسرقوا قيم الناس واهانوا كرامتهم ودمروا حياتهم وارجعوا العراق عقودا طويلة الى الوراء بعد ان قلعوا الطيبة من اعماق الناس واحرقوها واحلوا الكره والقتل والدمار بينهم.. بحيث اصبح الانسان يخاف من اخيه وصديقه وابنه وحتى زوجته من ان يهمس في اذنها كلاما يمس الطاغية وخفافيش العهر والدمار والظلام..فقد اصبح للحائط اذانا هو الاخر ليستمع عما يدور في غرفة النوم بين الزوجة وزوجها.
ما بين هيله وبين ليله
وما بين حنونه وام سمير
واطشوت اللبن
اسنينه يمشن هذر
بيهن يعد بس محن
الوحشه صارت هله
والغربه صارت وطن
ان الشاعر حسين جهيد الحافظ يبدأ قصيدته "لغز جواي" بهذه الضربة القوية التي تكشف عن رمز القصيدة وبعدها الاسطوري سواء كان في جغرافية المكان و تاريخ الاحداث المؤسفة التي شوهت وجه المدينة يوم اعتلاها الاغراب ودمروا كل القيم والمبادئ والاخلاق التي كانت تتميز بها كمدينة جنوبية يحمل اهلها الطيبة المعروفة عنهم.
ان الشاعر يتساءل كما يتساءل اهل المدينة عن هؤلاء الوافدين الذين يفترشون الشوارع بين فترة واخرى.. من اين جاءوا؟ واي الدروب والمدن التي دفعتهم الى المدينة ليعكروا صفوها وهدوء اوقاتها؟
من اين جاء جواي وشكر احمر والاخرس وعمي جوعان وغيرهم والذين يتساوون في قذارتهم وتصرفاتهم في العلن.. لكنهم والله اعلم ربما كانوا يتساوون في افعالهم والهدف من وجودهم في هذه المدينة في السر.
أ هم تركة المدن الاخرى التي لفظتهم وطردتهم الى هذه المدينة التي جاؤوها بدون مقدمات كما اختفوا منها بدون سابق انذار.
ربما هذا او ذاك وربما انهم تركة الدول المجاورة والبعيدة التي ملأت جيوشها ورقبائها ارض العراق منذ الاف السنين.
ظل جواي لغزا يشك فيه الكثيرون وخاصة المثقفين من اهل المدينة الذين كانوا اكثر قربا من غيرهم لمثل هؤلاء.. ولكنهم ايضا كانوا لا يتفقون فيما بينهم عن مصدر مجئ هؤلاء.
جواي يا جواي
يالشايل ابخلكك زمن
حط الرحال استجن
يكافي كثر اسئله
امنين انت منين
ياهو انته؟ومن؟
واشكثر بعيونك شجن؟
جواي يا جواي
يا مدري يا نكتة وكت
ابوكتك جبير الوكت
فرحة عمر
مرجوحه وضحكة زغر
زركه اعيونك لغز ما تنحزر
لقد كان اهل الناصرية يعيشون الحب والطيبة والوفاء والاخاء بصورة لا يمكن التعبير عنها وقبل ان يأتي زمن الوحوش العفالقة الذين قتلوا كل طيبة في المدينة واحرقوا اليابس والاخضر.. حتى ان المدينة ما عادت مدينة الناصرية الحبيبة التي نعرفها بعد ان غزاها الاغراب.. ولا يعرف اهلها من اين تأتي الطعنات لهم.. فجأة يعتقل العديد من شرفائها بعدد يربو على الخمسين او اكثر ويتكرر ذلك كل ثلاثة اشهر او اربعة.. ان جواي ليس اشارة الى رجل واحد ولكنه رمز لكل الذين شوهوا وجه المدينة وارقوا لحظات هناء لياليها :
زركه اعيونك ما تنحزر
شايل معاني اشكثر
حب وتصافي ووفه
شرطه وجواسيس وغدر
واسنين عمرك تمر
حيه ودرج
ورغم العسر والعسر
رغم الالم والجفه
وحزن البيوت الطين
بيها الاخو جان اخو
وجانت العشره دين
ان جوايا ظل لغزا محير للكثير كما هو لغز الاخرس وعمي جوعان وشكر احمر وغيرهم.. ورغم انهم نالوا الاذى الكثير من اطفال المدينة وهم يسحبونهم او يرمون ورائهم الحجارة او يدفعونهم ويضربونهم.. او يرفعون ثيابهم.. لكن الكبار كانوا اكثر عطفا عليهم . فقد كانوا يقدمون لهم ما يطلبون وخاصة الطعام والشاي والنقود والملابس ويطردون الاطفال وينهرونهم.. ولكن بالمقابل ماذا قدم هؤلاء الى المدينة . غير الاعتقال المفاجئ والقتل والتعذيب والاختفاء من وجه الارض واشاعة الاضطراب.. ومهاجمة زوار الفجر من رجال الامن المنحطين والبعثيين الى البيوت الامنه لارهاب الامهات والاطفال .
لقد كانت مدينة الناصرية مفخرة لاهلها.. ولكن اهلها اصبحوا الان اقلية بعد ان انزوى الكثير منهم في زواياهم المنسية الا القليل منهم الذين اصبحوا لاجئين فيها وشكلوا جمعية لابناء المدينة. فهل هنالك في أي منطقة من العالم يشكل اهلها الاصليون جمعية فيها لابنائها؟
مدينة الناصرية كانت من اجمل مدن العراق قاطبة.. فيها اجمل فجر واجمل غروب حيث الحدائق والبساتين والمياه التي تحيطها وشوارعها المستقيمة التي تعتز بها وشارع النهر الذي يتراقص الصفصاف فيه والنهر الذي تمتلئ مياهه بالمراكب التي تحمل الخير وتعمر موائد الفقراء وشارعه الذي يمتلئ بالكازينوهات والشوارع النظيفة الباردة التي ترش بالمياه مرتين في الصيف لكي تكون عصرا ملجئا لاهلها الذين يخرجون عن بكرة ابيها من بيوتهم.اي جمال كانت تشيعه في داخلنا المدينة؟
واين الهواء العذيبي الذي ينعش الوجوه كما تقول جداتنا ؟ لا بل اين اللبن والخريط وجبن الكصيبة والقيمر والسمك الكطان والبني والشبوط الذي يباع منه كل مائة سمكة بعشرة فلوس ؟ اين ذهب كل ذلك التدفق من الحنو الذي تغدقه المدينة على اهلها وهل هنالك مدينة في العالم اشبعت اهلها مثل مدينة الناصرية. لا اتصور ذلك ابدا. فقد كانت المدينة تصدر يوميا العديد من منتجاتها الى مدن العراق المختلفة وما يربو على خمس سيارات كبيرة محملة بالسمك.. فلم نكن جائعين وارجلنا حفاة تسكنها اليرابيع ورائحتنا قذرة يا امام البعثيين القذر هدام حسين. لقد كان الكرم عندنا كرم حاتم الطائي واكثر والغريب عندنا ابن الدار وهو الذي يبكي عندما يخرج منها رغم انه جاء حاقدا عليها اول الامر.
ان الشاعر حسين جهيد الحافظ وهو يعانق في "لغز جواي" قائد الحركة الوطنية ، الحزب الشيوعي العراقي بدون منازع انما يستلهم كل القيم الخالدة التي قدمها الحزب في الشهادة والنضال والكبرياء والشرف والاخلاص للوطن ولثقافته ومحاربة المستعمر البغيض والظالم المتجبر .
فمن خلال المناضل الشهم المرحوم الملا طالب الخياط ينهض الشاعر صارخا :
والملا طالب وطن
ابدمه الوطن شريان
ما عرف يوم الدغش
بس يعرف الاحسان
دينه الوفه ومبدأه
بس خدمة الانسان
خياط بس بالاسم
عالم ورع فنان
جواي يا جواي
يالوكتك وكت
حتى الحزن بيه فرح
وعاشور بيه العيد
ورغم الالم والالم
جان الغنه ترديد
ان شواهد الناصرية من اشخاص ومحلات وشوارع مملوءة بالطيبة والصدق والوفاء وهي تهب جميعا وحتى حجارة الطريق لمساعدة المحتاجين واحتضان المهجرين والمبعدين وما اكثرهم في مدينة الناصرية انذاك فلا خطبة تظل طويلا بدون ان تنتهي الى زواج ولا جنازة تظل مطروحة كما يقول المثل المألوف ولا مشكل تستعصي على اهلها بدون ان تجد لها الحل السريع والمقنع.. فقد كانت المشاكل الحاجات تتناولها القلوب والجيوب قبل الاكف واللسان.. لقد كان الحب وما زال في اعماق اهل الناصرية ومن بقوا احياءا منها كما هو لم يتغير ابدا فأن الاحضان والقبلات سرعان ما تستقبل من يلتقون في الطريق.. رغم الدمار الذي اشاعه الاوباش حتى ان المدينة ما عادت مدينة الحب الكبير فهي مدينة الاشباح لاهلها بعد ان اختفوا من شوارعها..
ان جواي ليس اشارة لرجل واحد فهو يمثل كل السوء الذي لحق بالمدينة ومهما كان مصدره :
الجار عدهم جار
والوطن عدهم وطن
وحب البشر بالاصل
ديدان والهم طبع
جواي يا جواي
اولاية اهلنه صدك
اولاية محبه ووفه
وانت اتعرفنه صدك
لاتحجي بالعاطفه
اولايتنه وعليك الله
اولايتنه واو وفاء
اويه الهاء يعني الوفه
الناصرية منهه ونعم
للدنيه طشت وفه
الناصرية ام الوفه