الصفحة الثقافية

الرئيسية

 

| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

الأحد 16/5/ 2010

 

مسرحية الهولندي الجديد : صورة الوجود الانساني المغترب

سلام الاعرجي *

حكاية الخطاب الهولندي الجديد نحن , نعم , نحن المغامرين بكل شيء طلبا للأمن والسلام وتحقيق الذات , نحن المنتزعين ذواتنا من جذورها خوفا من بطش الدكتاتوريات التي صادرت كل حقوقنا المدنية والانسانية .

عبدول القادم من بلاد الشرق تلك البلاد المتخمة بالفن والفكر والاسطورة والخرافة والسحر واللاهوت جاء يبحث عن ذاته في قلب اوربا , هو فنان تشكيلي ويرى انه يحقق ذاته في التصوير التلفازي كمراسل لقناة تلفازية هولندية , عبر العدسة يعيد قراءة ذاته والذوات النازحة مثله من عوالم كنا خير امة , يكبر في داخله سؤال مفاده أذا كنا متمسكين بكل هذا القدرمن عاداتنا وتقاليدنا لماذا لم نختر غير هولندا موطنا آخر لنا ؟ عبر عدسة الكاميرا كان يدهشه سلوك اقرانه , علانية!!! يمارسون عاداتهم وتقاليدهم واذا جن الليل مارسوا ما لا طاقة للهولندي ذاته ممارسته , فريق العمل الذي يعمل معه كانوا يؤكدون له ان انتمائه الى اخلاقيات العصر مجرد ادعاء , عبدول يغيب عن الوعي بعد صعقة كهربائية ... يستغل فريق العمل تلك الفرصة فيخبروه انه توفى وهو في جوار ربه وما عليه الا ان يطلب الرحمة فهو لا يدفع الضرائب وهو كثير التمسك بمسمياته التي يجدها القانون الهولندي دواعي عنصرية وهو غير قادر على الاندماج في المجتمع الهولندي لأن وجوده في هولندا كان بدواعي تحسين وضعه المعاشي واشباع رغباته الجنسية المكبوته وما عليه سوى ان ياخذ مبلغا لا بأس به ويعود ادراجه الى وطنه الام فتحتفي به وبسيارته الفارهة ورصيده الحسابي مراهقات وطنه , يرفض ذلك ويدعي انه لم يأتي الى هولندا لهذه الاسباب وبعد ان يفيق من غيبوبته يخبره فريق العمل انه حيا لم يمت وما كان به ان هو الا مسرحية مدبرة ,.

يستشيط عبدول معتقدا ان ما جرى له ليس لعبة او مزحة بل اهانة وانتهاك لكرامته ينهض فيه داخله الرجل الشرقي بكل قيمه فيقتل صديقه بخنجره المعقوف لينتهي به المطاف الى غياهب السجن . الرؤية الاخراجية الهولندي الجديد صورة للوجود الانساني المغترب , قد تبدو كأنها انعكاس عن الارتباط الذهني بين العقل والمادة ذلك الارتباط الذي سينتج مثيلاته الصورية الساعية الى أنتاج رؤيا جمعية تغيب وعي التلقي جراء اشتغالها على الثنائيات التناقضية من خلال شخصية عبدول المنتمية الى ارثها الشرقي بقوة , وقد تبدو جراء الصراع الممتد من منطقة الفعل الى منطقة التلقي , اشتغال على طبيعة ذلك الارتباط العاجز عن ادراك الامتداد الزمني وماينتجه لمظاهر من تغيرات مادية , ألا انها في تعميقها للهوة بين ( الانيين ) , انا من نتاج الماضي السحيق فكرا وقيما واعراف , لاخيار لها, قدرية, اتكالية مستهلكة , جسدتها شخصية ام عبدول المصلية للرب في طلبها للقمة العيش وقضاء الحاجة على حد سواء , كذلك بعض الشخصيات النازحة من عوالم القهر والدكتاتوريات , و ( انا ) تتوثب فوق اعرافها وقيمها وكل المفاهيم اللاهوتية لتنتج غدها متمثلة في فريق العمل التلفازي الهولندي الساخر من كل شيء الا من قدرات الانسان الذاتية , فتعيد الى الاذهان ان ما يجري ان هو الا نشاط ذهني استرجاعي واعي لتجربة حدثت - ربما - او بالتمثيل الافتراضي لتجربة محتملة تهدف الى انتاج تشكيل رمزي ملموس يهدف الى انتظام تجارب حياتية جديدة او افتراضات قد تحدث في نسق الوعي . ان تقمص المخرج باكو سوراني - معهد الفنون الجميلة سليمانية مخرج مسرحية الهولندي الجديد لفرقة مسرح بلا حدود الهولندية - دور الرائي جعلنا ازاء صورة يدركها الوعي وتنشطها المخيلة ويضفي الحدس شيأ من السرية والغموض حولها حتى جعلها بين الافتراضية والخزين الذاكراتي ! في بيئتنا المغلقة جدا نحقق ذواتنا بموروثاتنا المرحلة من عوالمها الى عوالم التنافي والتناقض , وفي العوالم الاخرى الاكثر انفتاح وعند غياب الرقيب ينهض فينا التمرد الباحث عن الصورة الاخرى والوجه الآخر للحياة , متمثلا في سلوك الفتاتين الشرقيتين وهن يمارسن كل ما تمارسه الفتاة الهولندية مع الفارق الذي فرضته اعرافنا التي لانجيد الانتماء لها او مغادرتها حتى , باكو سوراني مكننا من اعادة انتاج الصورة على وفق مثلث الادراك والحدس والخيال ليتركنا معلقين ما بين الرؤيا والرؤية بل جاعلا من المسافة بينهما المحفز الحقيقي لأنتاج الصورة الجديدة التي تشكلها مجموعة من الافعال وردود الافعال تجاه ما نرى والتي تفرض على مدركاتنا قوة الاختيار الحتمية , نبقى فنندمج بحدود , قد لانقدر ابعادها وحجم تأثيرها على تلك الموروثات , نغادر الى اين ولماذا وكيف ؟؟؟ ان اعتماد المخرج باكو سوراني اسلوب التجميعات الصورية المتحركة على وفق انساق دلالية موازية لمنظوماتنا الفكرية والقيمية جعلنا في مواجهة قصدية خطابية وظائفية وفلسفية في ذات الوقت , اللجوء لعبة سياسية , وجودنا في المنافي لعبة سياسية ,اي ادلجة الخطاب , اللجوء استجابة ذاتية لحاجات انسانية : الوفرة , السلام , الجنس وظائفية اجتماعية , غرائبية الصورة , الفنطازيا الاشتغال الفني المتنوع في انتاج مؤسسات الفضاء بمختلف الموجدات المادية وظائفية جمالية ,الذات المطلق , الانا الكلي المهيمن يتجلى في تعددية صورية تحط من قدسيته وتشكك في رحمته و تهزء من عدالته و تطوح في ابوته حتى تتداعى فتستحيل ضربا من الهرطقة والخديعة المزمنة , وظائفية فلسفية .باكو سوراني كان تعامل مع خطابه الادبي على انه وثيقة أدبية اوبيان سياسي خاضع لتعددية قرائية مقاربا بذلك كل من آروين بسكاتور وبرتولد برشت في آليات أشتغالهما على الخطاب الادبي كما تجاوز المخرج باكو سوراني الفهم الاحادي لأيصال قصدية الخطاب وغائيته المودعتان في لغته جراء أعتماده منهجية الفرض والاحلال بآلية السرد الصوري التي هشمت بدورها مرتكزات الخطاب الادبي من جهة واسهمت في أنتاج متنه الحكائي الافتراضي من جهة أخرى ليعيد انتاجه على اساس المعنى في اطار التعددية القصدية المشار اليها . ان البنية السردية الصورية وأن لم تكن قد تقاطعت مع الحوار المنمي للصراع ألا انها أنتجت قرائتها لمتن حكائي مجاور بغرائبية صورية وحركة بايوميكانيكية جسدية واسعة الانتشار في الفضاء معززة بالعديد من المؤسسات المادية ذات الاثر الدلالي والتغريبي للفضاء في آن واحد , وهي في الوقت ذاته تشكل مكونات عضوية للمتن الحكائي المجاور , كالأقنعة والبانتوميم والعباءات والموسيقى والاغاني والرقص الايمائي . التمثيل لقد اشتغل الاخراج على فكرة الدمج والتزاوج بين مستويات متباينة من القدرات الادائية وكان ذلك واحدا من اهم الاسباب التي ساهمت برفع المستوى الادائي لجميع الممثلين حيث تعايشت وتفاعلت الخبرات والحرفية وتعددية الثقافات والهواية لتمنح الممثل حرية الاشتغال الجسدي التعبيري المستفيد من موروثاته الفكرية والشعبية , بل كانت حرية الممثل في مجال انتاج شخصيته تدلل بقوة على ابتعاد المخرج عن المنهجية القسرية في انتاج الشخصية ولنا في الممثل الفنان فيصل صبري خير مثال , لقد كان الممثل فيصل صبري - بكالوريوس تمثيل - دالا علاميا متحركا في أداءه لشخصية عبدول - الشخصية الرئيسة - بل كان قارب النسق العلامي في اداءه اكثر منه عنصرا علاميا من انتاج الرؤية الاخراجية جاء ذلك نتيجة اشتغاله على العديد من المستويات الفنية المؤسسة لخطاب العرض كالسمعية والبصرية والحركية لقد مارس فيصل صبري القاء اللغة الهولندية باللكنة الفارسية والمغاربية العربية والكوردية احيانا فأحال لغة الخطاب كدال تشخيصي الى منظومة علامية سمعية متناقضة ذاتيا , اعتمد الفنان فيصل صبري في حركته الجسدية ايماءات ذات قصدية دالية مجتمعية ليحيل لغة الجسد التعبيرية الى منضومة علامية جسدية , حركة اليد .. الوجه ... الاكتاف كانت اساليب حركية مستعارة تدخل في موروثات الشعوب في دلالاتها كقصد التحية او الرفض او القبول حتى التحرش الجنسي , كما كان تعامل فيصل صبري مع الموجود المادي , السدارة , سجادة الصلاة , جسد وازياء سانتا كلاس - الانثى - أحال سينوغرافيا شخصيته الى منظومة علامية حركية , لقد كان فيصل صبري في اداءه المتميز في مسرحية الهولندي الجديد ممثلا برشتيا بامتياز لأنه تمكن من انتاج وحدات دلالية معنياتية لاتنتمي الى مرجعياتها ذات الدال الايقوني ثابت المعنى ... وذلك هدف الممثل البرشتي . كما صادر رغبة وقدرات المتلقي في امكانية التماهي مع شخصيته في اكثر مواقفها اقترابا منه - المتلقي - . كما ان فيصل صبري أستطاع طيلة فترة العرض ان يمارس دور الشاهد على الشخصية جراء ايحاءه برؤيتين متلازمتين متجاورتين , انا الممثل وانا الشخصية , وما يمكن ان يدعم أداءه البرشتي أن فيصل صبري كان ذو أيقاع هادىء بارد يراقب نتائج تجربته المختبرية كرجل علم كيميائي الا ان هذا لايعني انه لم يكن مشبعا بذات القلق والتوتر ألأيجابيان المرافقان لأيما تجربة مختبرية كما يقول برشت في اركانونه الصغير , لقد بدى فيصل صبري كمن يفكر في آليات الارسال اكثر منه مندمجا او متماهيا في ومع شخصية عبدول , وان كان منسجما ايقاعيا مع الايقاع العام لخطاب العرض المسرحي ألا انه يعكس مستوا من الدربة والمران اللذان يؤكدان انه لاعبا للشخصية ليس ألا وهو يدرك خواتيم الامور ونتائجها قبل المتلقي حتى كما انه وبآلية حركية محترفة كان عبر عن تعددية خيارية في امكانيات سلوك عبدول تجاه صديقه ادريان لحظة القتل وتلك من السمات الاهم في اداء الممثل البرشتي كما ان فيصل صبري كان مراقبا جيدا لشخصيته وراوية اكثر حرفية منه مراقب كما كان يقدم صورة حسية مادية لها لاكما يجب ان تكون بل كما يحسها هو , فما ان يخلع عليها بعضا من السمات النوعية التي تسهم في خلق هويتها الفكرية والثقافية والاجتماعية حتى يغادرها بأيماءة جسدية تصادر ما اسس له - هز الاكتاف بطريقة الدبكة , التشمير عن سواعد الجد كما لو كان فلاحا من الجنوب العراقي - واذا كان كافة الممثللين قد ابدعو في انتاج شخصياتهم فقد توفرت الممثلة الهولندية ( نيتي هيمست ) - 45عام وغضو في فرقة مسرح بلا حدود الهولندية - على قدر كبير من تجسيد السمات النوعية للمرأة الشرقية كما كانت الفنانة الشابة الكوردية ( زاكروس جبار ) نموذجا رائعا للممثل الشامل المتمكن من ادواته حيث لعبت المزيد من الادوار , الا انها كانت اكثر تميزا في مشاهد البانتوميم والمشاهد التعبيرية * الهولندي الجديد عرض مسرحي لفرقة مسرح بلا حدود الهولندية , وهي من الفرق الهولندية التي تظم في صفوفها العديد من الممثلين والحرفيين من الهولنديين والجنسيات الاخرى تاسست منذ أكثر من تسعة اعوام ومقرها مدينة ابل دورن الهولندية , قدمت المزيد من العروض في العديد من كبريات المدن الهولندية , دنهاخ , روتردام , ابل دورن , آرنهم وهارلم وغيرها من المدن كما تحضى برعاية بلدية ابل دورن.


* أستاذ مساعد دكتور .
أستاذ فلسفة الفن في كلية الاداب جامعة الكوفة
أستاذ الاخراج المسرحي في الفنون الجميلة جامعة بابل

 



 

free web counter