| الناس | الثقافية  |  وثائق  |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

 

 

 

 

 



التقرير السياسي.. للمؤتمر الوطني الثامن للحزب الشيوعي العراقي


"لنعزز صفوف الحزب ونعمل على توحيد قوى الشعب الوطنية لإحلال الأمن والاستقرار واستكمال السيادة الوطنية وبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد "

شهدت بلادنا في الفترة منذ انعقاد المؤتمرالوطني السابع لحزبنا( 25- 28 آب 2001 ) احداثا وتطورات غير عادية . وكان ابرز تلك الاحداث غزو العراق ربيع 2003 ، وانهيار النظام الدكتاتوري ، وانتهاء حقبة حفلت بالحروب الداخلية والخارجية، بالموت والخراب، بحملات الابادة وكوارث الانفال وحلبجة والمقابر الجماعية والاعدامات والارهاب الشامل والتهجير ومصادرة حقوق الانسان، وبالتخلف والنكوص في سائر الميادين وعلى المستويات كافة.

وجاء يوم انهيار الدكتاتورية التاسع من نيسان 2003 ليجسد ، من جانبه ، تعقيدات وتناقضات الوضع الجديد. فقد كان، من جانب، يوم تخليص الشعب من نير الدكتاتورية العاتية، وفي الوقت ذاته كان يوم ايذان بقيام واقع الاحتلال.

ومهما يكن من امر فقد انفتحت امام البلاد بعد الخلاص من حكم الاستبداد آفاق جديدة وامكانية ارساء اسس العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، والسير قدما على طريق بنائه.

***

* الازمة الشاملة عشية التغيير
* العقوبات الدولية وموقفنا منها
* التغيير ضرورة وطنية
* الحزب ومؤتمر لندن للمعارضة
* موقفنا من خيار الحرب
* في مواجهة الواقع الجديد
* تشكيل مجلس الحكم ومشاركة حزبنا في العملية السياسية
* موقفنا من القرارين 1483 و1511
* نقل السلطة
*اتفاق 15 تشرين الثاني 2003
* حول تشكيل الحكم العراقي المؤقت
* القرار 1546
* انعقاد المؤتمر الوطني وانتخاب المجلس الوطني المؤقت
* انتخابات كانون الثاني 2005
* انتخابات مجالس المحافظات
* تشكيل الحكومة الانتقالية واداؤها
*الدستور والموقف منه
* انتخابات كانون الاول 2005
*الحكومة الجديدة
* مجلس النواب
* موقفنا من القائمة العراقية
* الاوضاع الاقتصادية – الاجتماعية
*المعالم الأساسية للسياسة الاقتصادية المنتهجة خلال فترة النظام الدكتاتوري
* بعض اتجاهات التحولات الطبقية – الاجتماعية في المرحلة الراهنة
* الصراع على الجبهة الاقتصادية :المحتوى والتجليات
* موقفنا من " الإصلاحات الاقتصادية " وخصخصة الاقتصاد
* موقفنا من الاستثمار الاجنبي: بين الامكانية والضرورة
* الموازنة الفيدرالية للعراق هل يمكن ان تساهم في بلورة استراتيجية تنموية فعالة؟
* القطاع النفطي: مصدر للتكاثر المالي أم قطب للتنمية؟
* القطاع الصناعي: من المراوحة الى الانطلاق
* القطاع الزراعي : الحاجة الى انطلاقة جديد
* البطالة-اهدار للعنصر البشري
* التضخم الراهن
* الخدمات بين انسداد الآفاق والبحث عن حلول
* الفساد المالي والاداري : الحاجة ملحة الى معالجات جذرية
* ظاهرة هروب رؤوس الاموال العراقية الى الخارج
* عملية " اعادة اعمار العراق " بين الآمال والواقع
* الانضمام الى منظمة التجارة العالمية : ضرورة ام امكانية؟
* خلاصات ودروس
* اوضاع الطبقة العاملة العراقية
* الشبيبة العراقية-الواقع، التحديات، الحلول
* المرأة العراقية تواصل النضال رغم الصعوبات
* تطورات الوضع في اقليم كردستان – العراق
* انهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية
* نحو معالجة شاملة للملف الامني
* ضرورة انهاء دور المليشيات
* الاستقطاب الطائفي ومخاطره
* الهجرة داخل العراق وخارجه
* المصالحة الوطنية
* تطبيع الاوضاع في كركوك
* الفيدرالية والموقف منها
* حول التيار الديمقراطي وقواه
* العملية السياسية وتناقضاتها ، آفاق الوضع
* ماهي الاسباب الفعلية لتعقد الوضع؟
* التطورات في الوضع العربي
* مشروع "الشرق الاوسط الكبير"
* الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في البلدان العربية
* الوضع الدولي انهيار القطبية الثنائية وتداعياته
* بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة بعد 11 ايلول/2001
* بعض معالم التحولات في الاقتصاد العالمي
* انتصارات قوى اليسار في امريكا اللاتينية
* العولمة-الظاهرة واشكال تجليها
* مهماتنا الراهنة


الازمة الشاملة عشية التغيير
اتسم التطور لغاية التاسع من نيسان 2003 ، في ظل تسلط النظام الدكتاتوري وازدياد ازمة حكمه استعصاء، وبفعل التاثيرات المدمرة للحصار الدولي على الشعب والبلاد، بتفاقم الازمة العامة المخيمة على البلاد، واشتداد مأساة الشعب ومحنة الوطن. كما اتسم بتعمق العزلة الداخلية للنظام ورفض غالبية الشعب الساحقة له، واتساع المعارضة الجماهيرية لنهجه الارهابي، وبقاء روح التحدي والمقاومة متقدة رغم الامعان في العسف والبطش والقمع.

وكان جوهر الازمة العامة في البلاد يتجلى في احتكار السلطة والاستبداد بها وتسخير اجهزة الدولة ومؤسساتها لتحقيق ذلك، بما في ذلك حزب السلطة، وحرمان الشعب من حقوقه وحرياته الاساسية، وفي تردي احواله المعيشية، وافتقاده الامن والاستقرار، والحروب الثلاثة وما خلفتها من دمار وخراب وخسائر بشرية لا تعوض، وتشوه حياته الروحية وقيمه الاجتماعية والاخلاقية وعسكرة كل مفاصل  حياته، وفي عزلة البلاد عربيا واقليما ودوليا.

ومثلت طبيعة النظام المنهار وممارساته محور واساس المحنة العميقة التي عانى منها شعبنا، وشكلت عاملا رئيسيا في جميع الازمات والكوارث التي تعرض لها، بجميع قومياته وفئاته الاجتماعية ومكوناته الدينية والمذهبية وقواه واحزابه السياسية.

وكانت السلطة القائمة آنذاك، كما اوضح المؤتمر السابع ومن قبله المؤتمر السادس للحزب ( 1997) " دكتاتورية فردية استبدادية مطلقة ذات طبيعة شوفينية، تعتمد اساليب فاشية وممارسات طائفية في الحكم، وتتسم بنزعة عدوانية توسعية ازاء الاشقاء والجيران " كما كانت " تعبر عن مصالح البرجوازية الطفيلية اساسا".

واستشرت الازمة في سائر الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاخلاقية.

وتجلت باوضح اشكالها في التدهور المتواصل لاحوال المواطنين المعيشية والصحية والعلاقات الاسرية، وفي مجال الخدمات. وهو ما نجم عن اصرار الحكام على نهجهم الاقتصادي، الذي وضع اقتصاد البلاد وثرواتها في خدمة مصالحم ونظامهم اولا وقبل كل شيء، واستمرار العقوبات الاقتصادية الدولية التي فرضت على شعبنا، وتقليص الاستفادة من الحصيلة الايجابية للقرار 986، عبر شتى اساليب التلاعب والغش والنهب التي اعتمدها النظام، الى جانب اساليب المماطلة والعرقلة والكبح التي لجأ اليها ممثلو الادارة الامريكية والحكومة البريطانية، فضلا عن البطء في عمل موظفي الامم المتحدة وبيروقراطيتها .

وظلت الغالبية العظمى من الشعب تعاني شظف العيش وارتفاع الاسعار وتفاقم البطالة وشحة او ندرة، الخدمات والكثير من المواد الغذائية، كما تعاني من ايقاف الدعم للعديد من السلع والخدمات، مقابل بقاء المداخيل على مستواها المتدني، بما فيها رواتب الاغلبية الساحقة لموظفي الدولة، في حين تبتلع الرسوم والضرائب والاتاوات المتنوعة بما في ذلك بعض مكرمات "القائد الضرورة". فضلا عما ادى اليه استشراء الفساد وظاهرة الرشوة في اجهزة الدولة ومؤسساتها، من استنزاف لمداخيل المواطنين، التي هي شحيحة بالاساس. وفي المقابل اتاحت قرارات السلطة واجراؤاتها لمنتسبي العائلة الحاكمة وحاشيتها وتجار الحصار والطفيليين، الاستحواذ على ثروات طائلة، ما ادى الى المزيد من تعميق التفاوت والاستقطاب الاجتماعيين في البلاد، وتكريس هيمنة البرجوازية الطفيلية على مقدرات البلاد ومصالح المجتمع .

كذلك خـلف نهج النظام من جهة، والعواقب الثقيلة للحصار الدولي من جهة ثانية، آثارا سلبية عميقة في واقع المجتمع، وتشويهات في حياته وبنيته ومثله، وافضى الى تحلل في النسيج الاجتماعي والأسري، وتصدع في منظومة القيم الاجتماعية والاخلاقية، وانتعاش في الروابط والانتماءات التقليدية.

وتدهورت، على نحو كبير، احوال الطبقة العاملة وعموم الكادحين من شغيلة اليد والفكر، وتلاشى دور الفئات الوسطى، التي كانت تشكل مكونا اساسيا من مكونات المجتمع. وبرغم ان ايا من طبقات المجتمع وفئاته، باستثناء القلة المرتبطة بالنظام، لم تنج من عواقب سياساته ومن آثار الحصار الذي فرض على شعبنا ووطننا، فان

النساء والشبيبة والطلبة والمثقفين كانوا من اكبر ضحايا الوضع القائم انذاك .وكان النظام المقبور قد عمد الى تحويل العمال الى موظفين مصادرا بذلك العديد من حقوقهم.

واقترن تواصل حملة النظام على الثقافة والمثقفين باستمرار الاهمال المريع لقطاع التربية والتعليم وتسييسه وعسكرته، وما احدثه ذلك من تراجع كبير في مستويات الدراسة، وتسرب التلاميذ والطلاب من المدارس، وانتشارالامية.

واستمر ايضا التراجع في الاوضاع الصحية واستفحال ازمة السكن، وتردي احوال البيئة واشتداد تلوثها، وهو ما اسهم فيه استخدام النظام الاسلحة الكيمياوية في كردستان وجنوب العراق، واقدامه، لدوافع امنية، على تجفيف الاهوار.

وفي اجواء الازمة العامة، ونتيجة لاستمرار اجواء العسف والقمع، وتواصل الضائقة المعيشية والمعاناة الحياتية اليومية، وانتشار البطالة، تواصلت الهجرة الى خارج الوطن بحثا عن ملاذ آمن وكريم، وخاصة من جانب الشباب والاكاديميين والخريجين والفنيين .

والى جانب تعمق مظاهر الازمة العامة، تواصلت مظاهر الرفض للسلطة ومعارضتها والنشاط ضدها، بشكل مباشر وغير مباشر، وانخرطت في ذلك اوساط واسعة من المدنيين والعسكريين. وبات واضحا ان القضاء على مظاهر المعارضة والمقاومة ونشاطهما مستحيل، وهو ما اشر مدى تعمق الهوة التي تفصل غالبية الشعب الساحقة عن النظام، وبلوغ افتراقها عنه نقطة لا رجعة عنها.

لقد شكل الارهاب دائما الوسيلة الاساسية للنظام في صراعه من اجل البقاء، اضافة الى اعتماده التضليل والخداع والمناورة ورشوة " فئات" من المجتمع. لكن ذلك لم يمنع تواصل التصدع في جدار الرهبة من السلطة وعبور حاجز الخوف. وتجلى ذلك، لاسيما في السنوات الاخيرة من حكم الطاغية، في تفكك اجهزة السلطة وتطلع قطاعات من منتسبيها الى الخلاص من التبعية للجلادين.

العقوبات الدولية وموقفنا منها
كان حزبنا بين قلة من القوى المعارضة للنظام الدكتاتوري، التي طالبت برفع الحصار الاقتصادي عن الشعب. ووضع الحزب هذا المطلب في صلب شعاره المركزي الذي تبناه المؤتمر الوطني الخامس (تشرين الثاني 1993) وفي المؤتمرين اللاحقين، السادس والسابع.

ولم يكن هذا الموقف يعني، بأي حال من الاحوال، القبول بفك عزلة النظام السياسية والدبلوماسية، او تمكينه من التحكم بعائدات النفط وبناء ترسانته العسكرية من جديد.

كذلك طالب حزبنا بتعديل قراري مجلس الامن الرقم 712 والرقم 706، بما يؤمن زيادة كميات النفط المصدرة، وجعل الحصة المقررة لصندوق التعويضات ونفقات مبعوثي الامم المتحدة الى العراق خارج الكمية المطلوبة، واستثناء كردستان العراق، وهي خارج سلطة الدكتاتورية، من العقوبات الاقتصادية، وضمان التوزيع العادل للمواد المطلوبة على جميع ابناء الشعب، وتحت رقابة الامم المتحدة.

وقد اخذ بعض هذه المطالب طريقه الى القرار 986، الذي رأى حزبنا آنذاك انه "

رغم كونه يبيح بيع كمية اكبر من النفط، ويوفر مقداراً اكبر من الدولارات" فإنه لا يلبي كل مطالبنا، ولا يضمن تلبية كامل الاحتياجات الملحة لشعبنا، " ولكنه يمكن ان يكون خطوة على هذا الطريق". ذلك ان حزبنا كان يدعو الى " اطلاق تصدير النفط والغاء تجميد الارصدة العراقية في الخارج، من اجل تأمين الموارد الكافية، ليس لتوفير الغذاء والدواء للشعب فحسب، بل ومن اجل المساعدة في اعادة الدورة الاقتصادية، على ان يتم كل ذلك بأشراف ورقابة الامم المتحدة". كما انتقد حزبنا تشدد واضعي القرار 986، وخصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا، في فرض اقتطاع الحد الاعلى البالغ 30% لاغراض دفع التعويضات وسد النفقات المتعلقة بتنفيذ القرار. وانتقد ايضا فرض تصدير معظم النفط عبر الاراضي والموانىء التركية، ورأى في ذلك اجحافاً بحق شعبنا الذي يعاني الجوع والمرض. وفي الوقت نفسه اعتبر قرار مجلس الامن رقم 986 وتطويره اللاحق في القرارين 1153 و 1984، وبعض الاجراءات الاخرى، خطوات نحو التخفيف من معاناة شعبنا.

وبعد المباشرة بتنفيذ القرار 986 في كانون الاول 1996، واصل النظام مناوراته للتحكم بالتنفيذ، وللتلاعب والغش في المواد الموزعة، واستخدام الحصة التموينية كسلاح ضد فئات واسعة من ابناء الشعب. وفي الوقت نفسه وضعت الولايات المتحدة وبريطانيا العراقيل في طريق التنفيذ، وتلكأت الاجهزة البيروقراطية للامم المتحدة في القيام بواجباتها في هذا الشأن، الامر الذي افضى بدوره الى تأخير وصول الاغذية والادوية الى المحتاجين اليها من ابناء شعبنا.

لقد بينت نتائج تطبيق العقوبات الدولية ان شعبنا كان ضحيتها الاولى، وانه دفع جراء فرضها ثمنا باهظا في معاناته وفي الاضرار التي لحقت باقتصاده، وفي ما نجم عنها من آثار على المجتمع ونسيجه. بينما اتاحت للحكام الذين بذلوا كل جهد لمفاقمة عواقبها بالنسبة للجماهير، فرصا لم يكونوا يحلمون بها ليس فقط للافلات من العقاب، بل ولارهاق شعبنا وتكبيله بالمزيد من القيود، وشل حركته ونضاله ضد نظامهم.

وعلى الرغم من مطالبة حزبنا بالتطبيق السليم للقرار 986، فانه لم يكن يرى في القرار الحل الناجع، حتى وان طبق على افضل وجه. ولذا طالب بالرفع الكامل الفوري وغير المشروط للحصار الاقتصادي الذي فرض على شعبنا مع تشديده، في الوقت عينه، على الحكام الدكتاتوريين.

التغيير ضرورة وطنية
كان حزبنا على قناعة تامة بان لا مخرج من الأزمة الشاملة التي تطحن شعبنا ووطننا، ولا نهاية للمصائب والمآسي، ولا انطلاق لعملية الأعمار في العراق، ولا استقرار للمنطقة، من دون تحقيق التغيير الداخلي والخلاص من نظام صدام حسين الدكتاتوري. وكان الحزب يرى ان هذا النظام استنفد، منذ زمن بعيد، كل مبررات وجوده، وانحسرت قاعدته الاجتماعية، وتحوّل إلى العائق الأكبر أمام خروج شعبنا من أزمته، وبات مشروعه الوحيد يكمن في التشبث بالسلطة بأي ثمن. كما كنّا ندرك الطبيعة القمعية الاستثنائية لنظام صدام حسين، وتضخم أجهزة السلطة التي أقامها، وقهرها للمجتمع وتجريدها

اياه من جميع أشكال التنظيم والتعبير الحر المستقل، وقمعها، على مدى ثلاثة، عقود للأحزاب والقوى المعارضة والمخالفة للنظام بالرأي . إضافة إلى الخراب الهائل الذي الحقه النظام بالبلاد في الحروب المدمرة الثلاث التي أشعلها والحصار الشامل الذي تسبب في فرضه على شعبنا لأكثر من 12 سنة ، وما نجم عن ذلك كله من سقوط ملايين الضحايا، وخاصة من الشباب والاطفال.

كما تسبب النظام ، في نهجه وممارساته ، بتدمير اقتصاد البلاد وتبديد ثرواتها وعسكرة المجتمع، وقدم خدمات كبيرة للامبريالية طمعا في دعم دولها له في صراعه مع الشعب ومن اجل البقاء في السلطة. ومارس سياسة الارهاب الشامل والقتل الجماعي، واستخدم الاسلحة الكيماوية وانتهج سياسة عنصرية شوفينية بحق الشعب الكردي وابناء القوميات والمكونات الاخرى، من التركمان والاشوريين والكلدان والسريان والايزيديين والصابئة وفي ظل صمت اقليمي ودولي.

واقترنت الازمة الداخلية المتفاقمة، بعزلة خانقة للبلاد عن محيطها العربي والاقليمي، كما عن العالم. وكان النظام، بسبب من طبيعته وعموم نهجه وتوجهاته، يفاقم هذا المأزق، وقد تحول هو نفسه باستمرار الى عقبة كأداء امام أي مسعى للخروج من النفق المظلم الذي ادخل فيه شعبنا ووطنا.

ورغم اللوحة الشائكة، المعقدة، والتداخلات الاقليمية والدولية، تبنى الحزب مشروع التغيير الجذري، وهو المشروع الوطني الديمقراطي المستند الى كفاح شعبنا وقواه واحزابه الوطنية والديمقراطية،والذي يمكن ان يحظى بدعم شرعي ونزيه من الرأي العام العالمي والقوى والمؤسسات الدولية .

لقد واصل شعبنا نضاله ضد طغمة صدام حسين رغم القمع الدموي، وتفنن السلطة الارهابية في اساليب الترويع والتصفيات الجسدية، وفي حملات التضليل والتشويه والديماغوجيا، وفي محاولاتها ترميم قاعدة نظامها واجهزته القمعية وبناء الجديد منها.

وفي مقابل ذلك تواصلت مقاومة جماهير شعبنا واخذت اشكالا واعتمدت اساليب متعددة، عنفية وغير عنفية، ومنها الانتفاضات والهبات الجماهيرية، ومظاهر الرفض السلبي. وامتد السخط والتذمر والاحتجاج الى فئات وشرائح واسعة داخل مؤسسات الدولة، المدنية والعسكرية، ومنظمات حزب السلطة.

لكن اتساع الرفض الجماهيري للنهج الدموي للنظام لم يقترن بنمو مناسب في النشاط الكفاحي المنظم ضده . وهو ما نجم عن عوامل مختلفة ، كان في مقدمتها تعثر الجهود لتوحيد عمل الاحزاب والقوى المناهضة للدكتاتورية. وارتبط التعثر، في جانب اساسي منه، بالاستقطاب الذي نِشأ في اوساط المعارضة ، خاصة غداة اقرار لكونغرس الامريكي " قانون تحرير العراق" واعلان واشنطن، في وقت لاحق، نيتها احداث تغيير في العراق . وتجلى الاستقطاب في مراهنة اغلب اطراف المعارضة على العامل الخارجي في اسقاط الدكتاتورية، وعلى خططه للتغيير في العراق عن طريق الحرب. في حين رأت اطراف اخرى، بينها حزبنا الشيوعي العراقي، ضرورة الاعتماد في ذلك على جماهير الشعب، وعلى وحدة قواه واحزابه الوطنية، وعلى المساندة الدولية النزيهة والمشروعة، رافضة الحرب والتدخل الاجنبي وسيلة لتحقيق التغيير المنشود . ومع اقتراب شبح الحرب شدد الحزب على تزايد الحاجة الى استنفاد الوسائل الاخرى، وبضمنها عقد مؤتمر دولي حول القضية العراقية وتفعيل قرار مجلس الامن رقم 688 الداعي الى حماية حقوق الانسان في العراق، رافضا ما يمكن ان ينجم عن الحرب من احتلال وحكم عسكري لبلادنا . ورأى ان البديل للنظام الدكتانوري يجب ان يكون حكومة عراقية ائتلافية .

الحزب ومؤتمر لندن للمعارضة
وشدد حزبنا الشيوعي على تحقيق وحدة عمل المعارضة العراقية واعتبر ان هذه الوحدة ينبغي ان تكون مجسدة لاستقلالية القرار العراقي المعارض، ومبنية على اساس برنامج وطني ديمقراطي يعبر عن المصالح العليا للشعب، ومعتمدة حركة الجماهير ونهوض القوات المسلحة وجامعة اياها في تيار جارف ، تتصدره قيادة سياسية- ميدانية ملتصقة بالناس وهمومهم وحاجاتهم الفعلية، وتستند في الوقت نفسه الى دعم دولي شرعي ، رسمي وشعبي .

ولم يجد حزبنا في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية ، ما يلبي ذلك ، فضلا عن انه جاء في وقت كانت تقرع فيه طبول الحرب ، لذا فانه لم يشارك في ذلك المؤتمر وما تلاه من مؤتمرات واجتماعات اخرى اعتبرت مواصلة له ..

موقفنا من خيار الحرب
بعد الاعتداءات الارهابية الذي شهدتها الولايات المتحدة يوم 11 ايلول 2001، انطلقت التهيئة لحملة العسكرية وسط اجواء "الحرب ضد الارهاب" التي اعلنتها الادارة الامريكية ، ونفذت اولى حلقاتها بشن الحرب في افغانستان

وقد أدان حزبنا وقتها، بشدة ، اعتداءات 11 ايلول، وبيّن دوافع ظاهرة الإرهاب نفسها وجذورها وسبل مواجهتها. لكنه رفض اللجوء الى القوة والتدخل العسكري خارج اطار الامم المتحدة، ومن منطلقات يغلب فيها الغموض والالتباس والعشوائية، والخلط بين الارهاب والمقاومة المشروعة، وعدم التمييز بين ارهاب كل من الدول والجماعات والافراد .. الخ.

وأكد الحزب في الوقت نفسه ضرورة ان يتم ، تحت اشراف الامم المتحدة ، اعتماد تعريف واضح ودقيق للارهاب، وان يـميّزعنه حق الشعوب المشروع في النضال ضد الاحتلال، ومن اجل تقرير المصير والاختيار الحر لانظمتها الاجتماعية - السياسية ، وفي الكفاح ضد الانظمة الدكتاتورية والفاشية.

لقد أطلقت أحداث 11 أيلول العنان لليمين المحافظ المتطرف في الولايات المتحدة، لتنفيذ مخططات الهيمنة على العالم. فراح يفتش عن المواقع الرخوة فيه، وكان العراق بين اضعفها. فهو بلد تحكمه طغمة دكتاتورية ملطخة الايدي بدماء الشعب، ويواجه نهجها الارهابي في الداخل والحربي العدواني ضد الجيران، ادانة واسعة، . وفي الوقت نفسه ثبت انتاجها وحتى استخدامها اسلحة الدمار الشامل ، وظلت تتصرف بطريقة توحي باستمرار امتلاكها هذه الاسلحة، ورفض التخلي عنها. حتى غدت السياسة الرسمية الامريكية تعدها احدى قوى "محور الشر" التي يجب التخلص منها باسرع ما يمكن . وقدم السلوك المريب من جانب النظام الدكتاتوري، الذريعة التي كانت الولايات المتحدة تبحث عنها لتبرير شن الحرب على بلادنا، ومهد السبيل لاقدامها عليها. اضافة الى سعيها لتامين مصالحها ،ولاسيما الاستراتيجية .

ان حزبنا يرفض خيار الحرب باعتبارها الخيارالاسوأ والاشد تدميرا وتخريبا. منطلقا من الاعتبارات التالية:

- ان رفضه لها مبدأي – اخلاقي، ينطلق من واقع ما سيتعرض له شعبنا من اهوال في حرب شاملة ، تستخدم فيها الاسلحة الحديثة كبيرة التدمير ، ومن خسائر في الارواح قبل الممتلكات . فهي ستكون كارثة بكل معنى الكلمة على صعيد الحاضر، كما ستمتد آثارها الى المستقبل.

- انه يرفضها لانها ستأتي كذلك بالاحتلال والحكم العسكري ، ولن تجلب الديمقراطية .

- ان رفضه لها كوسيلة للتغيير لا يعني التخلي ، ولو للحظة ، عن الايمان بضرورة

التغيير ذاته ، والخلاص من النظام الدكتاتوري واقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

- كما ان رفضه الحرب كخيار ، لا يعني وقوفه متفرجا على ما يحدث ، وقد سعى بالفعل لطرح خيارات افضل لانجاز عملية التغيير والخلاص من النظام ، وهي تتركز في العمل على تأمين تبني مشروعه الوطني الديمقراطي .

لكن الحزب اكد في الوقت عينه ان رفض خيار الحرب لا يعني ان الشعب سيترحم على النظام الدكتاتوري في حال اسقاطه، او ان الحزب سيتردد في مواصلة النضال ضد الدكتاتورية، حتى تخليص شعبنا منها.

وكما سبقت الاشارة كان حزبنا، وهو يرفض الحرب ويحذر من مخاطرها، يشدّد على اعتماد وسائل واساليب مغايرة، داعياً، مع أطراف سياسية أخرى، إلى جمع جهود الاحزاب والقوى الوطنية العراقية، والسعي للحصول على اسناد خارجي، يستند الى الشرعية الدولية ، لتلك الجهود المشتركة من اجل اسقاط النظام والخلاص النهائي منه.

وفي هذا السياق عمل الحزب لاقامة تحالف وطني واسع، ولاستنهاض الجيش وعامة القوات المسلحة، كي ينجز العراقيون عملية التغيير بأيديهم، وكي يمكن بالتالي استبعاد الحرب وويلاتها، ثم عواقبها التي يعاني شعبنا اليوم منها الكثير.

وعلى طريق تحقيق هذه الاهداف طرح الحزب مشروعه الوطني- الديمقراطي آنف الذكر كخيار امثل لحل الأزمة العميقة الشاملة التي كانت تخنق شعبنا وبلادنا. غير ان هذا المشروع لم يحظ ، للأسف ، بالتجاوب المرتجى من طرف القوى السياسية الاخرى المناهضة للدكتاتورية ، التي كان معظمها فاقدا الامل في امكان تحقيق التغيير بالاعتماد على القوى الداخلية اساساً .

وفي غضون ذلك أكّد الحزب، تكراراً، أن أسلوب تغيير النظام، وطبيعة القوى التي ستنهض بمهمة التغيير، سيكونان مقررين في تشكيل البديل الذي سيقوم في البلاد، وتحديد طبيعة وطريقة تعامله مع قضايا الشعب الملحة.

وفيما راح احتمال اندلاع الحرب يزداد رجاحة ، كنا قد عقدنا العزم على ان نكون مع شعبنا والى جانب جماهيره ومطالبها وان نستعد لتداعيات خيار الحرب واستحقاقاته.

و كنا ندرك، في الوقت نفسه، ان الخلاص من النظام الدكتاتوري هو واحد من اهم سبل تفادي الحرب. لذلك ، وانطلاقا من الحرص على شعبنا ووطننا ، دعونا الدكتاتور قبل اندلاع الحرب، مع كثيرين غيرنا، الى التنحي عن السلطة ومغادرة البلاد ، رغم توقعنا ان يرفض ذلك بالنظرالى ما عهدناه فيه من غطرسة، ومن استعداد للتضحية بكل شيء من اجل البقاء في كرسي الحكم. كما دعونا الى عقد مؤتمر دولي برعاية الامم المتحدة حول القضية العراقية . ثم عدنا بعد اندلاع الحرب وحددنا المهمة المزدوجة المتمثلة في ضرورة ايقافها من جهة ، والخلاص من النظام الدكتاتوري من جهة اخرى . ودعمنا ثانية فكرة تنحي صدام كوسيلة لوقف الغزو ، ولإطلاق عملية التغيير في بلادنا وتجنيب شعبنا وبلادنا العواقب الخطيرة للحرب .

الا ان الدكتاتور ، وكما كان متوقعا ، صم آذانه مرة اخرى ازاء تلك الدعوات المخلصة لتجنيب الشعب ويلات الحرب ، وفضل ان يعرض الشعب والبلاد الى ما تعرضا اليه من خسائر كبيرة، ومن دمار وخراب واسعين ، ومعاناة معيشية وصحية وحياتية شديدة شملت ملايين المواطنين .

ومثلما اصر رأس النظام على عنجهيته ونهجه ، اصرت الادارة الامريكية على اعتماد الحرب خيارا وحيدا ، باسم تغيير النظام تارة، وباسم تدمير اسلحته المحظورة تارة اخرى ، او باسم هذا وذاك وغيرهما من الاهداف المعلنة . وشهد فجر الخميس العشرين من اذار 2003 قيام القوات الامريكية بشن الهجوم الصاروخي الامريكي الاول ، معلنة بدء الحرب .

بعد ما يقارب الثلاثة اسابيع من بدء الحرب تهاوت اشرس دكتاتورية في تاريخ العراق الحديث منذ الحرب العالمية الثانية . وبانهيارها تحققت ارادة الغالبية الساحقة من ابناء شعبنا ، من العرب والكرد والتركمان والكلدان والاشوريين والسريان والارمن وكذلك من الطوائف الايزيدية والمندائية والشبك وغيرها، وهم الضحية الاساسية لقمعها وظلمها وممارساتها المنافية لابسط حقوق الانسان . ولاشك ان العزلة الداخلية الشديدة والعميقة التي كانت تحيق بها ، تفسر جانبا هاما من انهيارها السريع، ولاسيما في بغداد .

وكنا، ونحن ندرك طبيعة النظام وواقع حاله ، لا نتوقع له ان يصمد طويلا امام القوات الامريكية والبريطانية الغازية، والمدعومة باحدث وسائل التكنولوجيا العسكرية ، ولا ان تسفر الحرب ، التي رفضناها باعتبارها اسوأ الخيارات لاسقاط النظام ، الا عن الحاق المزيد من الاذى بالعراقيين والعراق ، وعن تسليم مفاتيح السلطة في البلاد الى القوى الاجنبية وبما يخدم مخططاتها الاقليمية والعالمية .

وفي مجرى الحرب، لم تكن جماهير شعبنا الواسعة متحمسة للحرب والاحتلال ، لذلك لم تستقبل الجيوش الغازية بالورود والاحضان ، لكنها، من جانب آخر، لم تقف الى جانب الطاغية ولم تدافع عنه ، بل تركته وزمرته يواجهون مصيرهم الذي لم يشك احد في انه سيكون الهزيمة والسقوط . وقد عاقب شعبنا بموقفه هذا الدكتاتور ونظامه على ما اقترفه بحقه من انتهاكات وآثام وجرائم.

لقد كان طبيعيا ألا تأسف جماهير الشعب على سقوط الطاغية وحكمه، وألا تذرف الدموع على رحيله. غير ان ابتهاجها بسقوطه ونظامه ، لم يعن ولا يعني بحال انها كانت مسرورة بالغزو والاحتلال .

في مواجهة الواقع الجديد
جاءت نتائج الحرب والانهيار السريع لماكنة النظام العسكرية ، ولمؤسسات الدولة كلها، لتؤكد إفلاس الدكتاتورية وزيف ادعاءاتها وخواء مؤسساتها وانفضاض الشعب عنها وطموحه للخلاص منها. وفي سابقة تاريخية لها دلالات كبيرة في العراق وفي المنطقة، آثر الشعب أن يتخذ موقفاً مترقبا إزاء صراع بين قوة اجنبية يعرفها تمام المعرفة، وبين نظام مقيت يضمر له اشد الكراهية متطلعا الى الخلاص منه. وجاء يوم انهيار الدكتاتورية في 9 نيسان 2003 ليجسد تعقيدات وتناقضات الوضع الجديد. فقد كان، من جانب ، يوم تخليص الشعب من نير الدكتاتورية العاتية، وفي الوقت ذاته يوم ايذان بواقع الاحتلال البغيض.

ان الحرب ، وقد ادت الى انهيار النظام ، جاءت ايضا بالاضطراب وانعدام الاستقرار . فقد تنكر المحتل للالتزامات التي تفرضها المعاهدات الدولية ، مثل معاهدة جنيف حول مسؤولية قوات الاحتلال ازاء المناطق المحتلة . وادى التخلي كليا عن تلك الالتزامات، في النهاية، الى انفلات الامن وشيوع الفوضى ،وانتشار حوادث سلب الممتلكات العامة ونهبها واشعال الحرائق فيها.

كذلك لم يرافق انهيار النظام ظهور البديل الديمقراطي الذي كان شعبنا يتطلع اليه ، وانما نشأ على انقاضه فراغ سياسي وامني خطير، مازالت جماهير الشعب تعاني الامرين منه ومن تفاقمه.

وفي حينه نهضت أمام البلاد مجموعة مهام ملحة متداخلة ، يكمن جوهرها في خلق شروط إنهاء الاحتلال ووضع العراق على طريق التطور الوطني الديمقراطي .

وارتباطا بذلك، ولأجل مواجهة الأوضاع الجديدة، دعا حزبنا سائر القوى الوطنية العراقية للمبادرة الى عقد مؤتمر وطني عام ، تشارك فيه أطياف الشعب العراقي السياسية والقومية والدينية كافة ، وتنبثق عنه الحكومة الوطنية العراقية المؤقتة واسعة التمثيل وذات الصلاحيات، لتتولى تحقيق مهمات إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية ، وإعداد مشروع الدستور ومشروع القانون الانتخابي، ومباشرة الحوار مع الطرف الأمريكي لإنهاء الاحتلال. فهي حكومة كاملة الصلاحية ، تكون بديلا للنظام الكتاتوري المقبور ولسلطة الاحتلال في الآن نفسه.

غير ان فكرة عقد المؤتمر الواسع وتشكيل الحكومة الموقتة، التي كان واضحاً أنها تحظى بتأييد داخلي وعربي ودولي ، اصطدمت بعراقيل جمّة حالت دون تحقيقها.

وكان في مقدمة تلك العراقيل تبدل موقف الولايات المتحدة وبريطانيا من عقد المؤتمر المذكور ومن تشكيل الحكومة المؤقتة، وسعي الدولتين، بدلا من ذلك، إلى استصدار قرار جديد من مجلس الأمن . وبالفعل وبعد مساومات مع الدول الأعضاء في المجلس ، صدر القرار 1483 (ايار 2003) ، الذي كرس سلطة الاحتلال في العراق وشرّع وجودها.

وتجلى المعرقل الثاني في سلوك الأطراف السياسية العراقية ذاتها. فبعضها سعى إلى الانفراد في تمثيل العراقيين، وبعض آخر غلـب مصالحه الحزبية الضيقة على مصالح الشعب العامة، فيما لم يتخلص بعض ثالث من نزعة الهيمنة والزعامة. وأدى هذا وذاك وعوامل أخرى، منها غياب الارادة المستقلة لدى بعض الاطراف السياسية، إلى الحيلولة دون إقامة التحالف الواسع للقوى السياسية العراقية، الذي يمكنه الضغط على الطرف الامريكي وكسب تأييد الامم المتحدة . الامر الدي افسح في المجال للمحتل كي يمسك بالسلطة تحت غطاء من الشرعية الدولية ، يتمثل في قرار مجلس الامن الدولي آنف الذكر.

تشكيل مجلس الحكم ومشاركة حزبنا في العملية السياسية
في مسعى لإخراج البلاد من المأزق الذي انتهت اليه، عبر صيغة توفق بين الاستعداد لتنفيذ القرار 1483 ورغبة أغلبية العراقيين في تشكيل الحكومة الوطنية الموقتة، جرت مفاوضات مكثفة بين سلطة الاحتلال والأطراف السياسية العراقية، بوساطة نشيطة من جانب الدبلوماسي المغدور السيد سيرجيو فييرا دي ميلو ،الممثل الشخصي للامين العام للأمم المتحدة ، انتهت في منتصف تموز 2003 الى تشكيل " مجلس الحكم الانتقالي ".

وكانت صيغة "مجلس الحكم" قد تبلورت في هذه الأثناء، كبديل لصيغة "المجلس السياسي" عديم الصلاحيات وذي الطابع الاستشاري البحت،التي قوبلت بالرفض الواسع من أوساط شعبنا وقواه السياسية. وعبرت الصيغة الجديدة، في الجوهر، عن حل وسط بين مشروع "المجلس السياسي" الذي أرادت أمريكا ان تفرضه ، وبين مطلب تشكيل الحكومة الوطنية المؤقتة واسعة التمثيل وذات الصلاحيات ،الذي دعت له غالبية القوى الوطنية العراقية.

وجاء قبول الجانب الأمريكي المحتل، نهاية المطاف، بصيغة جهاز حكم عراقي ذي صلاحيات محدودة ، ليشير إلى إمكانات كامنة للحصول على المزيد من هذه الصلاحيات، في مجرى عمل "مجلس الحكم" وصراعه الطبيعي مع "سلطة الائتلاف المؤقتة". لذا اعتبر حزبنا هذا المجلس "ميدان صراع" اكثر منه صيغة سلطة محددة ثابتة ونهائية.

وقد اتخذ الحزب قراره بقبول عضوية مجلس الحكم، منطلقا من الاعتبارات التالية:

* موافقة غالبية الاحزاب والقوى السياسية الأخرى والجماعات القومية والدينية والطوائف في البلاد على الانضمام إلى المجلس. وإذا كان بعضها قد غاب في النهاية عن عضويته ، فلأنه استبعد بالضد من رغبته. وبذلك ضم المجلس معظم القوى التي يمكن لحزبنا التحالف معها لتحقيق مشروعه الوطني الديمقراطي.

* الرغبة العامة التي امكن تلمسها لدى منظمات حزبنا وفي أوساط جماهير أصدقائه ومناصريه، في ان يعتمد الحزب التعامل الايجابي في المرحلة الحساسة والمعقدة التي تلت التاسع من نيسان ، وألا يوفر أي ذريعة لمن يريدون الإيقاع به وعزله وحتى اضطهاده من جديد.

* ان القبول بـ "مجلس الحكم" في صيغته المطروحة، وبالمشاركة فيه، لا يعنيان بحال اعتباره بديلاً عن الحكومة الوطنية الائتلافية الموقتة المرتجاة. فهو خطوة في اتجاه إقامة هذه الحكومة ، وجزء من التهيئة لإخراجها إلى حيز الواقع على أساس برنامج وطني ديمقراطي ، يرسم طريق خلاص البلاد مما هي فيه وانطلاقها نحو إقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

* ان المجلس مثل ركناً أساسياً في العملية السياسية ، التي يتمثل هدفها النهائي في تحقيق استقلال البلاد ووضعها على طريق التطور الديمقراطي. ويمكن لحزبنا أن يلعب دوراً مؤثراً أكبر من داخلها لدفعها في الاتجاه المطلوب ، بالتلازم مع العمل خارج إطار المجلس لتعبئة جماهير الشعب، كقوة فاعلة وضاغطة، للحفاظ على المسار السليم للعملية. فالمجلس بهذا المعنى ميدان صراع ،لأن قوى وأطرافا متعددة تتجاذب العملية السياسية داخله كما تتجاذبها خارجه.

لقد نظر حزبنا الى المجلس باعتباره شكلاً لمواجهة الاحتلال وإنهائه، فرضته وقائع التطور السياسي في البلاد ، خاصة منها الخلل الجليّ في ميزان قوى الشعب وقوى الاحتلال ، وانخرطت فيه القوى المفترض اسهامها في إنقاذ الوطن من الحال التي انتهى إليها في ظل النظام الدكتاتوري وبسبب نهجه وممارسته، وهي القوى ذاتها التي كان حزبنا تحالف معها بصورة أو بأخرى في مواجهة الدكتاتورية ومن اجل الاطاحة بها.

إلا ان المجلس بقدر ما كان ميدانا للعمل من اجل قضايا الشعب والوطن، كان أيضا محدود الإطار بسبب من محدودية صلاحياته وطبيعة تشكيلته، في مقابل احتفاظ سلطة الاحتلال بالصلاحيات الكاملة وفقا لقرار مجلس الامن الدولي رقم 1483 . وبرغم ذلك وبغض النظر عن محدودية صلاحيات المجلس ونواقصه الذاتية، وضعف مبادرته وبطء تحركه، ومحدودية علاقاته الجماهيرية، وغياب ممثلي بعض القوى الاخرى عنه، وتكريسه مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية التي كانت قد وجدت طريقها الى المعارضة العراقية للنطام الدكتاتوري منذ انعقاد اجتماع فينا وصلاح الدين للمؤتمر الوطني العراقي الموحد ، وهو المبدأ الذي رفضه حزبنا على الدوام واعتبره مضرا بالوحدة الوطنية في كل الظروف والاحوال ،بالرغم من كل ذلك فقد اتخذ مجلس الحكم في فترة وجوده عديدا من القرارات الجيدة. واذا كان عجز عن اتخاذ المزيد، فبسبب من ضعف كفاءة بعض اعضائه ، فضلا عن العوائق الكثيرة التي وضعتها سلطة الاحتلال امام تنفيذ قراراته تحت ذرائع شتى، ابرزها "شحة الموارد المالية" !

واصل المجلس العمل فيما البلاد تعاني ازمات خانقة في مختلف الميادين، وترزح تحت وطأة الخراب الذي خلفته حروب النظام الدكتاتوري وسياساته الارهابية والهوجاء على كل صعيد، الى جانب العقوبات الدولية التي دامت 12 سنة، وما خلفته الحرب الاخيرة.

اسفر ذلك كله عن وضع بالغ الصعوبة والتعقيد، لم يمكن في ظله احراز تقدم نوعي في ضمان الامن والاستقرار، وتلبية الحاجات الملحة للشعب، وتأمين مستلزمات اعادة بناء الدولة واعمار البلاد.

وظل الملف الامني يطرح نفسه بحدة متزايدة، وأجمعت القوى السياسية في الرأي ان بقاءه بيد قوات التحالف يعرقل معالجة المشكلات القائمة، وان الوسائل العسكرية والاساليب الامنية تعجز، بحد ذاتها، عن تحقيق الامن والاستقرار، ولا بد إلى جانبها من وسائل اخرى في شكل اجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية وغيرها، تشكل بمجموعها تدابير متكاملة.

لقد انخرط حزبنا في العملية السياسية بالصورة المشار اليها، دون أن يعتبر مجلس الحكم ميدان الصراع الوحيد او الأساس. بل رأى فيه جبهة مكملة للجبهات الاخرى في النضال من اجل مصالح الشعب والبلاد : جبهة النضال الجماهيري التي اسهمنا فيها بنشاط ولم تتقلص نسبيا الا بفعل الاعمال الإرهابية ، وجبهة العلاقات في الداخل والخارج ، وجبهة الأعلام بأشكاله المتنوعة – التقليدية والمحدثة ، وجبهة العمل

الفكري على الصعيد الداخلي- وفي اتجاه الخارج- أيضا لكسب التضامن مع شعبنا.

لقد اكد حزبنا دائما انه ساهم في العملية السياسية متطلعا وعاملا ، مع بقية القوى الوطنية ، من اجل استعادة الاستقلال والسيادة الكاملين، وانهاء الاحتلال ، واقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، الآمن والمستقر .

موقفنا من القرارين 1483 و1511
بين حزبنا ان القرار 1483 ، الذي اتخذه مجلس الامن بالاجماع ، اضفى الشرعية على الاحتلال و"سلطة الاحتلال"، وان المجلس لم يستشر الشعب العراقي بأية صورة، ولم يستمع الى رأي ممثليه في ايّ من الشؤون التي يعالجها القرار.

لكن القرار جاء ، من جانب آخر، بتعديل ايجابي في شأن تعويض المتضررين من غزو الكويت، حيث خفض نسبة المستقطع لهذا الغرض من عائداتنا النفطية من 25 في المئة الى 5 في المئة فقط . ومع ذلك اوضح حزبنا في حينه ، ان استفادة الاقتصاد العراقي من هذا التعديل تبقى غير اكيدة وغير محسوسة، اذا لم تتخذ تدابير لتأجيل تسديد العراق الديون المترتبة عليه وفوائدها . واكد في الوقت نفسه ان القرار 1483 ليس كلمة نهائية، وان من الواجب السعي الى تعديله بما ينسجم مع مطامح شعبنا ومطالبه المشروعة، وذلك من مهمات الاحزاب والقوى الوطنية العراقية قبل غيرها، التي يجدر بها ان تبادر الى طرح الامر وان تسعى الى كسب الدعم الدولي له.

أما القرار 1511 الصادر عن مجلس الامن في تشرين الاول 2003 ، فقد اكد الحزب انه جاء بفقرات ايجابية نسبة الى القرار 1483 . غير ان اعداده وصياغة نصوصه جرت في غياب ممثلي شعبنا العراقي ، تماماً كما كان الحال عند اصدار القرار 1483 ، الذي يمكن اعتبار القرار الجديد امتداداً له من نواح عديدة ، وليس نفياً.

وقد نص القرار 1511 على تشكيل قوة متعددة الجنسيات تحت قيادة موحدة . واشارت الفقرة 15 منه الى ان مجلس الامن سينظر في مهام القوة المذكورة واحتياجاتها خلال فترة لا تزيد على سنة واحدة من صدور القرار، فيما يترك امر بقائها مفتوحاً ويربطه باتمام العملية السياسية . علماً ان نص الفقرة يسمح بالاستنتاج ان هذه القوة يمكن ان تبقى حتى بعد تشكيل "الحكومة العراقية الممثلة للشعب والمعترف بها".

وتجلت الجوانب الايجابية للقرار في تأكيده الطابع المؤقت للاحتلال ، ودعوته سلطة الاحتلال الى اعادة مسؤوليات وسلطات الحكم الى الشعب العراقي ، وابرازه دور مجلس الحكم في العملية السياسية ، واعترافه بالمجلس ووزرائه ، وتأكيده ان الاجهزة التي تشكلها الادارة المؤقتة العراقية هي التي ستدير شؤون العراق بالتدريج . ورسم القرار دوراً للامم المتحدة اكثر فاعلية في العملية السياسية-وهو ما رأى حزبنا ضرورة تعزيزه- لا سيما بالارتباط مع المباشرة بتنفيذ اتفاق 15 تشرين الثاني 2003 بشأن نقل السلطة.

كذلك حدد القرار موقفاً واضحاً في رفضه العمليات الارهابية و"المقاومة "المزعومة ، ودعا الدول الاعضاء الى منع تسلل الارهابيين الى العراق والحيلولة دون حصولهم على الاسلحة والتمويل.

نقل السلطة
ارتباطا بجهود مجلس الحكم وسعي الاطراف السياسية المكوّنة له الى تأكيد ارادتها المستقلة ، وبالتغير في الموقف الأمريكي ازاء معالجة الوضع القائم في العراق نتيجة انعكاس الاحداث فيه على الرأي العام ومؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة ، وبفعل تحول الموضوع العراقي ،في حينه، الى قضية اميركية داخلية وجزء من حملة التحضير للانتخابات الرئاسية ، وبتأثير تزايد الضغط العالمي والعربي والإسلامي في اتجاه إنهاء الاحتلال، وصدور القرار 1511 عن مجلس الأمن ، نشأ وضع جديد عجّل في البحث عن سبيل لانهاء سلطة الاحتلال ، ونقل الحكم الى أيدي العراقيين.

وبناءً على ذلك جرى التوقيع في 15 تشرين الثاني 2003 على اتفاق تسريع نقل السلطة ، ليتم ذلك في 28 حزيران 2004 . ورغم ملاحظاتنا على الاتفاق المذكور،فقد اعتبره حزبنا خطوة في الاتجاه الصحيح لتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات ، تضع البلاد على طريق إنهاء الاحتلال وإقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

وبعد المباشرة بتنفيذ الاتفاق، ثار جدل حول آلية تشكيل السلطة البديلة لسلطة الاحتلال. فقد رأى فريق في مجلس الحكم ان الانتخاب هو الآلية الواجب اعتمادها. فيما رأى الفريق الآخر وبضمنه حزبنا، ومع تمسكه هو ايضاً بمبدأ الانتخاب، إن إجراء الانتخابات في تلك الظروف غير ممكن لأسباب سياسية وأمنية وادارية وغيرها.

ورأت بعثة خاصة أرسلتها الامم المتحدة إلى العراق لحسم الجدل ، ان الأوضاع القائمة آنذاك لا تتيح،بالفعل، اجراء الانتخابات المنشودة.

و بدا واضحاً في الوقت نفسه ان طريق المؤتمرات المحلية في المحافظات والانتخابات الجزئية، الذي اقترحه الجانب الأمريكي ، لا يؤمّن من جانبه تشكيل مجلس وطني كفء وقادر على استلام السلطة وتنفيذ الاتفاقات بما ينسجم مع مصالح الشعب.

وجرت نقاشات واسعة بين اطراف العملية السياسية وسلطة الاحتلال والامم المتحدة ، اسفرت عن تغيير بعض أولويات هذه العملية . حيث تم الاتفاق على التوجه ،اولا، نحو تشكيل حكومة مؤقتة، تأخذ على عاتقها التفاوض لضمان انتقال طبيعي وسلس للسلطة ، وتتخذ الاجراءات لعقد مؤتمر وطني ينتخب مجلسا وطنيا مؤقتا ذا صلاحيات محدودة ، ويطلق التحضير لانتخاب الجمعية الوطنية الانتقالية.

وكان نقل السلطة في الموعد المتفق بشأنه (حزيران 2004) مسألة ذات أولوية فائقة، اوجبت تامين مستلزمات تنفيذها طبقاً للجدول الزمني المنصوص عليه في

اتفاق 15 تشرين الثاني 2003 .
وكان قد سبق ذلك انجاز مجلس الحكم، في 8 آذار 2004 ، واحداً من ابرز استحقاقاته أمام الشعب، وأمام الأمم المتحدة التي طالبته بجدول زمني لاستعادة السلطة، حيث توج جهوده لوضع قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية (الدستور المؤقت) بتوقيع القانون، ومباشرة البحث في الآلية الجديدة لتشكيل بديل سلطة الاحتلال. واعتبر حزبنا قانون ادارة الدولة، برغم جوانب الضعف في بعض مفرداته وفي طريقة اعداده ايجابياً في جوهره ومفاهيمه العامة، يلبي المطالب الملحة والمشروعة لاطياف مجتمعنا ومكوناته السياسية والقومية والمذهبية والثقافية.

حول تشكيل الحكم العراقي المؤقت
تمضت المداولات والحوارات التي شارك فيها مجلس الحكم وسلطة الاحتلال وممثل الأمين العام للأمم المتحدة بالتشاور مع ممثلي الرأي العام العراقي، عن نتائج تمت صياغتها في ملحق لقانون ادارة الدولة العراقية ، ثبتت فيه الأركان الثلاثة للحكم المؤقت :

-مجلس الوزراء ورئيس الوزراء، وهما نواة الحكم الجديد وركنه الأساسي،

-هيئة الرئاسة : رئيس للجمهورية ونائبان،

-المجلس الوطني المؤقت، الذي تقرر أن ينبثق عن مؤتمر وطني.

يضاف اليها ،بالطبع، الركن الرابع ، وهو سلطة القضاء. وكان من أهم مهمات الحكم الجديد وخصوصاً مجلس الوزراء، اتمام عملية نقل السيادة في آخر حزيران، وممارسة السلطة، وإعادة الأمن والاستقرار، والتهيؤ لأجراء الانتخابات العامة في موعد لا يتجاوز أواخر كانون الثاني 2005 .

وإسترشاداً بمواقفنا وخطنا السياسي العام، ساهم ممثلو حزبنا بشكل مباشر في الحوارات الثنائية، والمتعددة الاطراف مع الجهات المعنية بالقضية العراقية، محلية ودولية.

ولم تجر المشاورات حول تكوين الحكم المؤقت بعيداً عن تأثير توازن القوى بين المتحاورين، والأجواء العامة التي تسود البلاد، والضغوط الدولية والإقليمية.

وتمثل في الوزارة الجديدة عدد اكبر من القوى السياسية ومن ابناء المحافظات ، كما انها ضمت نسبة نساء اكبر.. وارتباطاً بذلك، كله، وانطلاقاً من قراءة حزبنا لتعقيدات الوضع وصعوباته وما كان يحمل من مخاطر وتحديات كثيرة، ورغبة منه في الاسهام في تيسير تقدم العملية السياسية، وتسهيل عملية نقل السلطة والسيادة، فقد اتخذ موقفاً ايجابياً ازاء ما جرى وما انطوت عليه التغييرات الأخيرة في بنية الحكم. لقد سعى الحزب الى إسناد كل ما هو ايجابي ، ونقد كل ما يعرقل نقل السلطة وإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة والاستقلال وبناء المؤسسات الديمقراطية، وما يرتكب من اخطاء وما يبرز من ثغرات. وكما انطلقنا عند مشاركتنا في مجلس الحكم من النظر اليه باعتباره منبر صراع من اجل تقليص امد الاحتلال وتدشين العملية الديمقراطية، فان حزبنا نظر الى مشاركتنا في الحكم المؤقت باعتبارها اسهاما في السلطة الجديدة لانجاز مهمات الطورالاول من المرحلة الانتقالية ، وتدشين اسس العملية الديمقراطية، وصياغة الدستور الدائم، والدفاع عن المصالح الاساسية لشعبنا لاسيما الكادحون وعموم شغيلة اليد والفكر، واستكمال السيادة والاستقلال الوطنيين، ودعم الاجراءات الايجابية ، على ان يقترن ذلك بنقد اية ثغرات ومظاهر سلبية في اداء الحكم .

القرار 1546
واعتبر حزبنا القرار رقم 1546 الصادر عن مجلس الامن في 8 حزيران 2004، دعما للخطوات المتخذة على طريق انهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية الكاملة، وللعملية السياسية،. ومما له دلالته ان القرار اكد حق الشعب العراقي في تقرير مستقبله السياسي بحرية، وفي ممارسة كامل السلطة، والسيطرة على موارد البلاد المالية والطبيعية. ورغم ان القرار لم يتبن، صراحة، قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية، الا انه اقر الجدول الزمني لاستكمال هذه المرحلة، كما اعطى دورا اكبر للامم المتحدة وصولا الى انتخابات كانون الثاني 2005 . ووفقا للقرار فقد تم انهاء الاحتلال "رسميا" وتولت الحكومة العراقية المؤقتة مهامها .

وقد عانت الحكومة المؤقتة من ظروف صعبة تمثلت في التركة الثقيلة للنظام المقبور وما ترتب على الاحتلال من نتائج واستشراء للارهاب والصراعات اللاشرعية بين بعض القوى السياسية، يضاف الى ذلك مشكلة حل الجيش والتردد في معالجة قضايا ومشاكل موظفي الدوائر المنحلة والادارة غير الموفقة لهيئة اجتثاث البعث وتردي الخدمات وضعف المبادرات لتطويرها والسكوت عن اخطاء وممارسات "قوات التحالف"،ويضاف الى ذلك ضعف كفاءة بعض وزرائها وغياب الروح الجماعية في العمل . ان ما ذكر اعلاه اثر على قدرة الحكومة المؤقتة في انجاز الكثير من المستحقات الواجبة التحقيق.

انعقاد المؤتمر الوطني وانتخاب المجلس الوطني المؤقت
ظل شعبنا العراقي منذ انهيار النظام الدكتاتوري ، يتطلع إلى منبر وطني يعتمد تقاليد العمل الديمقراطي ويعزز الصلات بين القوى السياسية والاجتماعية ويخلق علاقات جديدة مبنية على الاحترام المتبادل، ويقيم مؤسسات ديمقراطية شرعية تدافع عن مصالح الوطن العليا.

وفي هذا السياق جاء التئام المؤتمر الوطني العراقي المؤقت في ايام 15- 18 آب 2004 وفقاً لما تم الاتفاق عليه في ملحق قانون ادارة الدولة العراقية ، خطوة هامة نحو تحقيق التطلع المذكور. حيث شارك فيه أكثر من 1300 مندوب ومندوبة ، اسسوا للركن الرابع للحكم العراقي المؤقت الى جانب مجلس الوزراء ورئاسة الدولة وسلطة القضاء.

ورغم أن المؤتمر انعقد في ظروف اتسمت بتصاعد اعمال العنف والنشاطات الارهابية والتخريبية ، وان صعوبات جديّة ظهرت خلال فترة التحضير لعقده ، فضلاً عن النواقص التي رافقت اختيار المندوبين ، فقد كان محطة ذات اهمية في العملية السياسية ، وخطوة ضرورية على طريق انجاز مهام الفترة الانتقالية. ولعل ابرز ما ميّز المؤتمر، رغم كل الصعوبات، هو المشاركة الواسعة لممثلي مكونات المجتمع العراقي القومية والدينية والمذهبية ، وتياراته السياسية التي تعبر عنها أحزاب وتجمعات وطنية وقومية وإسلامية ، ساهمت عقوداً طويلة في مقارعة الدكتاتورية وكافحت ضد سياسات التعصب والتمييز القومي والطائفي ، الامر الذي اضفى عليه بعداً وطنياً عاماً . كما انه تميز باسهام للمرأة لم يسبق لسعته مثيل.

وبجانب ذلك بيّنت طبيعة النقاشات في المؤتمر وتنوعها ، أنه تحول فضاءً رحباً يستوعب شتى الافكار والآراء والمقترحات ويؤمّن تفاعلها . وبرغم تعقيدات العملية السياسية وتنوع المشاكل وتباين المقاربات ، سادت المؤتمر الروح الديمقراطية ، وبدا جلياً ان هناك امكانية فعلية لتحقيق توافقات سياسية وصياغة برنامج وطني ديمقراطي يجتذب مختلف اطياف ومكونات الشعب العراقي.

واكدت اعمال المؤتمر ونتائجه ، ان مبدأ التوافق في الظروف الملموسة ، مبدأ هام لتجميع طاقات أوسع مكونات الشعب العراقي وقواه الفاعلة ، ولوضع البرنامج آنف الذكر موضع التنفيذ.

لكن حزبنا اكد كذلك ضرورة تأشير النواقص والثغرات التي رافقت الإعداد لعقد المؤتمر، بأمل تلافيها لاحقا، خصوصا عند التحضير للانتخابات الوطنية العامة المباشرة في كانون الثاني 2005 وذكر منها:

ان عملية انتخاب مندوبي المحافظات الى المؤتمر شهدت انتهاكات للتعليمات والضوابط المقرة ، وان هيئات مشرفة وبعض أعضاء الهيئة العليا ومؤسسات سياسية ودينية وغيرها ساهمت في ذلك في حين ان بعض المحافظات لم تشهد انتخابات اصلا، وتم اختيار المندوبين بالتوافق.

ان بعض الاطراف السياسية والاجتماعية قاطعت المؤتمر، وبعض التنظيمات لم ترغب في المشاركة في أعماله، مما عرقل المساعي المخلصة التي بذلت من اجل تجميع كل القوى العراقية للمساهمة في هذا الجزء المهم من العملية السياسية.

وفي مقابل ذلك توّج المؤتمر اعماله بانتخاب مجلس وطني مؤقت من 100 عضو، تمثلت فيه أطياف المجتمع العراقي المختلفة.

باشر المجلس عمله وهو يدرك انه ليس بالمؤسسة ذات الصلاحية التشريعية الكاملة، ولكنه أيضا ليس مجرد جهاز استشاري ، وان نشاطه وعمله يعتمدان الى حد كبير على جدية أعضائه وهمّتهم ونشاطهم وتنسيق جهودهم.

ويمكن القول، عموما،ً أن انعقاد المؤتمر ونجاح أعماله، وانتخاب مجلس وطني مؤقت واسع التمثيل السياسي والاجتماعي، لأول مرة في تأريخ العراق المعاصر، شكلا خطوة كبيرة في اتجاه بناء المؤسسات الديمقراطية، والسعي لاقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

انتخابات كانون الثاني 2005
استكمال تشكيل الحكم العراقي المؤقت بدأت مرحلة الاعداد لاجراء الانتخابات العامة لاختيار جمعية وطنية تأسيسية انتقالية، يكون من ضمن واجباتها واولوياتها صياغة الدستور الدائم والتحضير لاستفتاء شعبي عليه ، ثم لانتخابات عامة ثانية اواخر عام 2005 ، ينبثق عنها برلمان فحكومة وطنية، الامر الذي يعني استكمال الطور الثاني والاخير من المرحلة الانتقالية.

وكان من شأن ذلك كله أن يوفر المستلزمات المادية والمعنوية لانهاء الوجود العسكري الاجنبي واستكمال مقومات السيادة والاستقلال، واتمام بناء المؤسسات الديمقراطية الكفيلة بمنع عودة الديكتاتورية الى بلادنا.

وقد القى هذا كله على عاتق حزبنا والقوى السياسية الاخرى الساعية الى انجاز المهمة المزدوجة المذكورة اعباء كثيرة، وتطلب تعبئة قوى شعبنا، وقيام القوى الديمقراطية على وجه الخصوص وحزبنا بشكل اخص، بدور فاعل في هذه العملية الصعبة والمعقدة، ولكن الواعدة.

بحثت الأطراف المعنية ، في حينه ، مسألة اجراء الانتخابات في وقتها المحدد، باعتبار ذلك حاجة سياسية، يرتبط بها اضفاء الشرعية الكاملة على السلطة ومؤسسات الدولة العراقية. فشرعية الحكم كانت آنذاك مستمدة من قرار مجلس الامن الدولي الرقم 1546، ومن كون الاطراف الوطنية المشاركة فيه تمثل شرائح واسعة من الشعب وتحظى بالاعتراف العام . وكان المطلوب ترسيخ هذه الشرعية عبر حصول الحكم على ثقة الشعب في انتخابات حرة نزيهة وتحت إشراف الأمم المتحدة.

وكان موقف حزبنا واضحاً لجهة الرغبة بان يشارك في الانتخابات كل العراقيين ، داخل الوطن وخارجه ، على تنوع مذاهبهم الفكرية والسياسية ومواقفهم إزاء الوضع القائم ، وعلى اختلاف قومياتهم ، من النساء والرجال . وكنا نرى ان التحجج ـ على اساس موقف مسبق ـ بعدم امكان ان تكون الانتخابات حرة ونزيهة ، سيسهم في توفير المبررات لإبقاء التدخل الأجنبي فترة أطول ، بدعوى عدم توفر الأمن ، والخوف من الفوضى وتأثيراتها على المنطقة والعالم.

وحرص حزبنا ، باعتباره طرفا مشاركا في العملية السياسية ، على إنجاح عملية الانتخابات . فنشط ممثلوه في اللجان والهيئات التي هيأت لهذه الانتخابات واعدت وثائقها، فيما ساهمت صحافته ومكاتب علاقاته في الترويج لفكرة الانتخابات وضرورتها . وعمل الحزب على حشد المواطنين وتأمين مشاركتهم في العملية الانتخابية ، الى جانب تهيئة منظمات الحزب ورفاقه وأصدقائه للانخراط في العملية وتأمين حضور للحزب في البرلمان الجديد ـ الجمعية الوطنية الانتقالية. رغم تفهم حزبنا للطروحات التي كانت تؤشر لصعوبة اجراء انتخابات سليمة ومشاركة اوسع القوى فيها جراء الظروف السياسية والامنية المعقدة .

ومن تلك المنطلقات وبالاستناد اليها ، سعى الحزب للدخول في ائتلافات وتحالفات مع القوى والاحزاب السياسية الوطنية والديمقراطية الاخرى . وعندما لم يتحقق ذلك، خلافا لما كانت عليه التوافقات في لقاء دوكان وما سبقه ، خاض الانتخابات في قائمة " اتحاد الشعب "مع عناصر ديمقراطية مستقلة وممثلين عن بعض الطوائف والاقليات.

كنا نؤكد باستمرار أننا نريد انتخابات حرة، نزيهة، تعكس حقا إرادة العراقيين وتطلعهم إلى حياة مستقرة آمنة، والى بناء دولة القانون والعدل واحترام حقوق الإنسان، واننا نريد تأسيس تجربة تقدم نموذجا متقدما عصريا، يليق بشعب وادي الرافدين وتراثه الحضاري الثري . واكدنا ضرورة التنافس على أساس البرامج السياسية وما يميز كلاً من القوائم والمرشحين . وكنا نريد للتجربة أن تكون بعيدة عن كل ما يمكن ان يثلم صدقيتها ، منطلقين في ذلك من قناعة راسخة بأن إجراء انتخابات بمساهمة واسعة من أبناء الشعب العراقي ، وتتمتع بالمزايا التي اشرنا إليها ، سيكون ردا حاسما على قوى الشر والعدوان والجريمة والإرهاب ، وسيدفع المزيد من العراقيين للمساهمة في العملية السياسية والمشاركة في رسم مستقبل بلدهم ، وسيمكننا من التقدم على طريق البناء الحقيقي لمعالم الديمقراطية ومؤسساتها، وإحداث نقلة نوعية في حياة المواطن العراقي على مختلف الصُعد.

لقد كان ممكنا لانتخابات كهذه ان تكون ممارسة أولى في الطريق الصحيح، وان تمهد لإجراء انتخابات أخرى سليمة، معافاة . ومن هنا دعونا الجميع الى الحرص على تحقيق ذلك، دون اعتبار لمقعد إضافي في الجمعية الوطنية ، ودون السعي لتثبيت حقوق مكتسبة في ظروف غير مستقرة. فمن المهم أن ينتصر العراق وشعبه وإرادته ، وأن تكون الولادة سليمة.

وكنا ندرك ونحن ندخل الانتخابات، التي كان إجراؤها بحد ذاته مكسبا كبيرا ، أنها لا تجري في ظروف طبيعية ، مثالية ، بل في ظل ضعف التقاليد الديمقراطية والوعي الانتخابي وتغييب إرادة العراقيين لسنوات طوال بأساليب وطرق شتى .

وهذا ما انعكس ، للأسف ، في الممارسة الانتخابية التي شهدت الكثير من الثغرات والنواقص والتجاوزات الجديّة والكبيرة ، في طول البلاد وعرضها ، ولجوء بعض القوائم إلى مختلف الانتهاكات الفظة ، بهدف الحصول على مقاعد إضافية في الجمعية الوطنية . هذا فضلا عن سوء ادارة العملية الانتخابية من قبل مفوضية الانتخابات.

وبتأثير الظروف والعوامل المتداخلة المذكورة ، بما فيها رد الفعل على ممارسات النظام السابق من اضطهاد قومي وتمييز طائفي وقمع سياسي ، اعطت اغلبية المواطنين، في اللحظة التاريخية المحددة من الصراع السياسي، اصواتها للطائفة والقومية والعشيرة وللسلطة الحاكمة ، ولم تصوت على اساس مصالحها الاجتماعية ، ولا على اساس البرامج السياسية للكتل المتنافسة.

في نيسان 2005 أقراجتماع اللجنة المركزية وثيقة تقييم للحملة الانتخابية، اوضح فيها ان النتائج التي تحققت لا تعبرعن الثقل السياسي والنوعي للحزب في المجتمع والحياة السياسية للبلاد.

انتخابات مجالس المحافظات
جرت انتخابات مجالس المحافظات بتاريخ 30 كانون الاول 2004، و تنوعت أشكال مشاركتنا فيها، ففي بعض المحافظات اشتركنا باسم حزبنا الشيوعي وفي محافظات أخرى اشتركنا بعناوين متنوعة، طبقا لنوع وشكل تحالفنا السياسي في المحافظة المعنية. وكانت تلك الانتخابات بمثابة الايذان ببدء الدورة الاولى لمجالس المحافظات.

لا شك أن الدور المناط بمجالس المحافظات هو دور كبير، ويمكن ملاحظة احد مؤشرات ذلك من خلال حجم التخصيصات التي وضعت لها في ميزانية عام 2007، حيث كانت لها الحصة الأكبر

ونرى ان العمل في مجالس المحافظات والمجالس البلدية ميدان هام لما له من تماس مباشر بحياة الناس ومصالح الجماهير والمشاكل التي يواجهونها، وما يمكن لها ان تقدم من خدمات ضرورية للناس.

وهناك الكثير مما يمكن ملاحظاته على عمل مجالس المحافظات والبلدية ، واليقين انه يمكن ان تقدم الافضل لو احسن تنظيم العمل فيها وابعدت عن الصراعات والمنافسات الحزبية والطائفية الضيقة

ويقينا ان هناك دورا كبيرا يمكن ان تنهض به مجالس المحافظات والبلدية ، فعلينا متابعته والاهتمام به ،لاسيما نحن على اعتاب دورة انتخابية جديدة لها.

تشكيل الحكومة الانتقالية واداؤها
ومع التأكيد على أهمية انتخابات كانون الثاني (2005) باعتبارها حدثا تاريخيا ذا دلالات ومعان سياسية بالغة الأهمية، إلاّ إنها أنتجت اختلالا كبيرا في ميزان القوى جراء تعميق الاستقطاب الطائفي - القومي . وانعكس هذا الاختلال في تشكيل، ثم في أداء الحكومة بمكوناتها الثلاثة حسب قانون إدارة الدولة: مجلس الوزراء، رئاسة الجمهورية، ورئاسة الجمعية الوطنية. فلم تجتمع الجمعية الوطنية الا بعد ثلاثة اشهر، وحالت تركيبتها وغلبة مقاعد الائتلاف الموحد والتحالف الكردستاني عليها دون ادائها دورها الرقابي بالمساءلة الحقيقية للسلطة التنفيذية ، واختزل دورها واقعا في كتابة مسودة الدستور. كما لم تتشكل الوزارة إلاّ بعد استعصاء وتأخير، وعلى وفق قاعدة المحاصصة بين القائمتين الفائزتين في الانتخابات .

ومن جانبنا دعونا، مع اطراف سياسية اخرى ، وارتباطا بظروف البلاد وحاجتها ، الى تشكيل حكومة وحدة وطنية واسعة التمثيل ،ذات برنامج يتضمن التزامات محددة ، وهو ما لم يتحقق .

ودار بين القوى والاطراف المتنافسة ، في ضوء ما افرزته الانتخابات في بُعدها السلبي من مظاهر استقطاب طائفي وقومي ، وما عكسته من ضعف في الوعي السياسي والانتخابي ، صراع حول الرؤى والتصورات في شأن مستقبل العراق السياسي . وجرى ذلك في ظل ميزان قوى غير مستقر، نجم عن عدم مشاركة فئات واسعة في الانتخابات ، بسبب الوضع الامني المتدهور في بعض المناطق ، ولرفض بعض الاطراف السياسية المشاركة .

لم يشارك حزبنا في الوزارة الجديدة ،ولم يتخذ موقفا مسبقا منها - بالمعارضة أو بالتأييد . بل اوضح اننا سنحدد موقفنا وفقا لما تنتهج هي من سياسات ، وما تتخذ من إجراءات ، وبناء على توافق هذه السياسات والإجراءات مع مصلحة الشعب والوطن، ومصلحة العملية السياسية والمسيرة الديمقراطية في البلاد. فنؤيدها حين تأتي متوافقة ، ونعارضها عندما لا تكون كذلك.

واكد الحزب ان ايدينا ستكون ممدودة للتعاون والتنسيق لما فيه خير الشعب والوطن ومصلحتهما. لكنن،ا في الوقت عينه، سنكون واضحين في نقدنا لكل موقف او اجراء يضر بتلك المصلحة ، او يخل بالتوجه نحو بناء الديمقراطية ومؤسساتها ، وسنقول لا لكل مسعى هدفه الهيمنة او الاستئثار، وكل محاولة لمصادرة الآخر ورأيه ودوره تحت أي مسمى . وسنقول نعم لاحترام التعددية الفكرية والسياسية والحق في الاختلاف والتنافس النزيه على اساس البرامج السياسية ، خدمة للشعب ولتطلعه الى حياة آمنة كريمة مستقرة، في عراق ديمقراطي فيديرالي موحد.

وعموما فان تشكيل الوزارة من القائمتين الفائزتين (الائتلاف والتحالف ) اساسا ، اوجد نقطة ضعف في مرتكزات وتوجهات الحكومة وادى الى خفض مستوى أدائها وتعزيز الفردية، واسهم في مفاقمة الاوضاع العامة واضعاف العمل الوطني الموحد الضروري لمواجهة التحديات الخطيرة. وجاءت حصيلة عمل الحكومة لتؤكد ما كنّا خشيناه وحذرنا منه . فما من مؤشر موضوعي لتقييم أدائها وإنجازها الا واظهر ضآلة ما حققت ، فضلا عن التراجع في معالجة ملفات اساسية.

الدستور والموقف منه
في اطار استحقاقات العملية السياسية شكلت عملية كتابة الدستور وإقراره من قبل الشعب في الاستفتاء العام منتصف تشرين الاول 2005 استحقاقا رئيسا. فالدستور يمثل المنهاج الذي تعتمده الدولة العراقية، وتشيّد على وفق مبادئه المؤسسات السياسية والحقوقية للعراق الجديد، وتنظم توزيع السلطات في ما بينها.

تشكلت لجنة كتابة الدستور بعد الانتخابات العامة بما يزيد على اربعة اشهر، من 55 عضواً يمثلون اللوائح الانتخابية والتيارات السياسية الممثلة في الجمعية الوطنية، وطغى على تشكيلتها الاستحقاق الانتخابي ( حجم كتلة الناخبين المصوتين للقائمة المعينة ، معبرا عنه بعدد مقاعدها في البرلمان ). وبالنظر الى أهمية وثيقة الدستور، كان هناك اجماع على إشراك ممثلين عن القوى والمناطق التي لم تجرِِ فيها انتخابات. وكان من رأينا أن تكون مشاركة ممثلي المناطق المذكورة على اساس التيارات السياسية (الإسلامية، الديمقراطية ، القومية) وليس على أساس كونهم من "العرب السنة" كما أراد الآخرون . فمثل هذا التوصيف يحمل معان طائفية يتوجب عدم تكريسها. وفي النهاية ارتفع عدد أعضاء اللجنة إلى 71 عضوا .

واثر ذلك انطلقت عملية كتابة الدستور وسط جو من التوتر وتصعيد سقف المطالب . وكان هناك عديد من النقاط التي ظلت موضع تجاذب ، ومنها الموقف من شكل الدولة العراقية ، والفيدرالية وحق تشكيل الأقاليم وصلاحياتها وتوزيع الثروات الوطنية ، وتشبث البعض بالدولة المركزية ، اضافة الى الموقف من العلاقة بين الدين والدولة.

ووصل الحال في اللجنة أواخر تموز 2005 الى طريق مسدود، الامر الذي فرض عقد لقاء للقيادات السياسية بهدف تحريك الوضع والوصول الى حالة من التوافق بين الكتل المختلفة .

ورأى الحزب في تقييمه لعملية اعداد مسودة الدستور انها اخذت الكثير من الجهد والوقت ، وجاءت حصيلة لمناقشات طويلة ومناورات سياسية ، وانها تنطوي على الكثير من القضايا والاشكالات المثيرة للجدل ، وتعكس ميزان القوى السائد عند اعدادها. لقد قيّم حزبنا مسودة الدستور ايجابيا في اطارها العام ، لكنه تحفظ على العديد من فقراتها وموادها ، خصوصاً تلك التي تخل بالطابع المدني - الديمقراطي المنشود للدستور، وتلك التي تقيد حقوق المرأة. ويمكن القول ان هناك قضايا كثيرة انفردت في التحكم بها القائمتان الرئيسيتان (الائتلاف والتحالف) ، ما يعني ان مسودة الدستور صيغت أساساً بالاستناد إلى الاستقطاب السائد في الجمعية الوطنية.

واعتبر الحزب الوثيقة محصلة توافق رؤى مختلفة ، يتوجب عدم النظر اليها كوثيقة نهائية ، خاصة وانها احتوت آليات وضوابط تتيح تعديلها في المستقبل ) المادة 126 من الدستور). فما لم يسمح توازن القوى في البداية بتحقيقه ، يمكن العمل لانجازه، لاحقا، عبر تراكم المستلزمات الضرورية ، وبما يؤمن ترسيخ مباديء واسس الدولة الديمقراطية العصرية.

هذا فضلا عن ان الاطراف المختلفة اتفقت على تسوية تقضي بالمشاركة في التصويت على الدستور واجراء التعديلات عليه،لاحقا، بعد انعقاد مجلس النواب وفقا للمادة 142 من الدستور .

صوت لصالح الدستور الدائم 78% من الناخبين ، وبذلك حظي بموافقة غالبية الشعب. وحسب قانون ادارة الدولة فانه يدخل حيز التنفيذ بعد اجراء الانتخابات العامة الثانية (التي جرت بالفعل في 15 كانون الأول 2005 ) وتشكيل مجلس النواب المنتخب للحكومة الجديدة.

لكن الحزب رغم ملاحظاته على المسودة ، رأى في اقرار الدستور محطة هامة وكبرى في العملية السياسية الجارية والمرحلة الانتقالية . كما اعتبرها لحظة تاريخية تسجل لانتقال سلمي ، بإرادة الملايين من ابناء الشعب العراقي على اختلاف منحدراتهم واتجاهاتهم السياسية والقومية والدينية ، من مرحلة الدساتير المؤقتة والمعلقة الى فضاء الدستور الدائم وما يفترض ان يقوم بجانبه من مؤسسات تكون رافعة لإقامة الدولة الديمقراطية المدنية الاتحادية.

ان شعبنا هو صانع هذه المأثرة ، فقد شارك في الاستفتاء ليس فقط بهدف ابداء الرأي حول مسودة الدستور، بل وللتعبير عن العزم على المساهمة في العملية السياسية ، التي انضم اليها، رغم الصعوبات المعروفة ، ابناء شعبنا في المناطق التي لم يتسنَ لها المشاركة في الانتخابات السابقة . وذلك مؤشر على تلمس الطريق السليم الى ترسيخ الممارسة الديمقراطية والأخذ بها وسيلة لإبداء الرأي ، بل وحتى للمعارضة.

لقد قدم التوجه الى صناديق الاقتراع يوم 15 تشرين الاول 2005 البديل المقبول والمرتجى عن النهج المدمر القائم على الإرهاب والقتل والتفخيخ ، وشل الحياة العامة و تدمير مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية ، التي ما زالت تحبو، بأمل ان يقوى عودها وتقف على ارجلها ، لتسهم في اعادة الأمن والاستقرار وفي تطبيع الأوضاع والسعي الجاد لمعالجة الملفات الساخنة التي تمس حياة المواطن اليومية في الصميم.

وعبر حزبنا عن التطلع الى ان يكون الدستور الدائم اداة اضافية لتعزيز الوحدة الوطنية وترسيخها ، وتجاوز حالة الاستقطاب القومي - الطائفي في المجتمع ، واعلاء شأن المواطنة والتعامل مع المواطنين العراقيين على قدم المساواة بغض النظر عن انتماءاتهم ومشاربهم .

وبعد اقرار الدستور دعا الحزب الى دراسته واستيعابه والدفاع عن ايجابياته العديدة ، الى جانب مواصلة العمل لتعديل الفقرات التي تشكل خللا في طبيعته الديمقراطية المدنية. فعن هذا الطريق نراكم عناصر ومستلزمات التصدي للتفسيرات الضيقة لمواده ، ونزود المواطن بأدوات معرفة حقوقه كما نص عليها الدستور. وستكون العبرة في تطبيقه والقوانين التي ستصدر بالاستناد اليه . كذلك دعا حزبنا الى جعل اقرار الدستور الدائم نقلة هامة في ترسيخ الحياة الدستورية البرلمانية ، وخطوة على طريق تعميق الممارسة الديمقراطية وبناء دولة المؤسسات والعدل والقانون واحترام حقوق الإنسان .

انتخابات كانون الاول 2005
حظيت انتخابات كانون الاول 2005 باهتمام كبير من لدن حزبنا ، الذي اكد انها ، بجانب كونها استحقاقا قانونيا - سياسيا - معنويا ، كانت ممارسة سياسية لتداول السلطة سلميا ، وركنا اساسيا في الممارسة الديمقراطية. فهي ليست كل الديمقراطية ، لكنها تتكامل مع اركانها الاخرى.

وكانت منظمات الحزب قد شرعت بالاعداد المبكر لخوض الانتخابات البرلمانية الثانية ، مستندة الى خلاصة تجربة الحزب في الانتخابات الاولى ( كانون الثاني 2005 ) . وكان لا بد من جهود كثيفة لتجاوز النواقص والاخطاء التي شخصتها وثيقة التقييم المقرة في اجتماع اللجنة المركزية في نيسان 2005 ، ولمواجهة ما نتج عن الانتخابات الاولى من استقطاب طائفي - قومي ، ترك بصماته على مجمل العملية السياسية وعلى تشكيل الحكومة واداء الجمعية الوطنية.

وفي مجرى الاستعداد للانتخابات كان على حزبنا أن يبلور آلية المشاركة فيها. وكانت امامه ثلاثة خيارات :

-المشاركة بقائمة منفردة كما في انتخابات كانون الثاني 2005 ؛

-المشاركة بقائمة تحالفية للقوى الديمقراطية ؛ المشاركة ضمن تحالف انتخابي واسع.

وعلى أساس تحليل ملموس لتوازن القوى السائد في حينه، وانطلاقا من :

* طبيعة الصراع الدائر؛

* الحاجة لانقاذ الوطن عبر مشروع وطني ديمقراطي ؛

*لقاءالمشتركات بين قوى وطنية وديمقراطية وليبرالية ؛

* ضرورة مواجهة الاستقطاب الطائفي – القومي الذي اتضحت معالمه في صياغة التحالفات والقوائم الانتخابية ؛

* تقديراتنا الموضوعية لقوى اليسار الديمقراطي وامكانياتها ؛

وبعد المشاورة الواسعة في عموم الحزب وإستفتاء كادره ، تقررأن نتوجه الى التحالف الانتخابي الواسع. وقد تجسد هذا التحالف في " القائمة العراقية- الوطنية " وما ضمت من قوى واوساط هي، عموما، ديمقراطية وليبرالية.

وكان مدخل البحث عما هو مناسب في الظروف الملموسة آنذاك مشروعنا للبديل الوطني الديمقراطي ، الذي يهدف الى اعلاء شأن المواطنة العراقية ، وتعزيز الوحدة الوطنية ، وتحقيق المساواة بين المواطنين بغض النظر عن الجنس والقومية والدين والطائفة والمذهب والمعتقد والفكر والموقع الاجتماعي والاقتصادي . هذا المشروع الذي يجسد طموح الشعب الى اقامة النظام الديمقراطي ودولة القانون والمؤسسات.

وعند اعلان مساهمتنا في "القائمة العراقية الوطنية " ، وانطلاقا من تجربة الحزب السابقة في التحالفات المؤقتة والاطول مدى ، اكدنا ان أي تحالف لا يمكن ان يلغي الاستقلال الفكري والسياسي والتنظيمي للحزب ، ولا حريته في التحرك واتخاذ المواقف التي تنسجم مع منطلقاته ومبادئه وفي الدعوة لها حاضرا ومستقبلا.

ورأى حزبنا ان الانتخابات الثانية جرت ، هي ايضا ، في ظروف غير طبيعية ، وفي ظل ضعف الوعي والتقاليد الديمقراطية ، والتركة الثقيلة للاستبداد المديد ، والتركة الاخرى للاحتلال وتأثيراته ، والازمة المحتدمة التي تتمثل عناوينها في اضطراب الوضع الامني ، وتوتر العلاقات السياسية ، وضعف التنسيق او انعدامه بين اركان الحكومة بمعناها الواسع ، والاداء الحكومي الضعيف ، والاحتقان السياسي - الاجتماعي ، وتردي ظروف المعيشة والخدمات العامة ، واشتداد الاستقطاب الطائفي- القومي ، وتعزز دور الميليشيات ، وغير ذلك مما ترك بصماته على مجرى العملية الانتخابية ونتائجها.

الا ان اجراء الانتخابات ، والاسهام الواسع فيها مرة اخرى ، شكلا تحدياً كبيراً للقوى المعادية لشعبنا وللديمقراطية والامن والاستقرار، وتمسكاً بالعملية السياسية، وادراكاً لضرورة انجاز آخر محطاتها والعبور الى مجلس منتخب وحكومة جديدة تمتد ولايتها اربع سنوات. واكتسبت الانتخابات اهميتها ، ايضا ، من المهام الكبيرة التي تنتظر مجلس النواب ، وفي مقدمتها ما له علاقة بالدستور والتعديلات المحتمل ادخالها عليه ، وتشريع القوانين التي ترسم بمجموعها معالم عراق اليوم والغد.

لكن المؤسف إن الانتخابات سجلت منذ مرحلة التحضير لها ، وخلال الحملة الانتخابية ، وفي يوم الصمت الإعلامي ، وحتى في يوم الاقتراع ذاته ، ثم عند فرز الأصوات ، تورط بعض القوائم في الكثير مما هو محرم وغير مشروع ومخالف للتعليمات والانظمة الانتخابية - بما فيها الانظمة التي وضعتها المفوضية العليا المستقلة للانتخابات - ولقانون ادارة الدولة ، الى جانب الكثير من التجاوزات والانتهاكات الفظة المسيئة ، التي وصلت حد ازهاق ارواح مرشحين ونشطاء سياسيين، بينهم العديد من رفاقنا ، وخروج اجهزة الدولة ولاسيما الامنية عن الحياد المفترض فيها.

وفي المراحل المختلفة من العملية الانتخابية قدم العديد من القوائم والكيانات ، ومنها القائمة العراقية الوطنية ، 1985 شكوىً الى المفوضية العليا للانتخابات ، التي لم تتخذ إجراءً فاعلاً في شأنها ، بل وبعكس المتوقع اعلنت عن نتائج جزئية غير مصدقة ، ثم اضطرت لاحقا الى تعديل أرقامها !

وكان موقف الحكومة وأجهزتها هو الآخر مخيباً للآمال ، حيث اختارت السكوت ولم تتحرك للتحقيق في الاعتداءات التي استهدفت مقرات احزاب وتنظيمات معروفة ، منها حزبنا الشيوعي ، ولم تلاحق القتلة ومن يقف وراءهم ، تمهيدا لاحالتهم الى العدالة . وقد اشّرهذا، وغيره، نكوص الحكومة عن أداء واجبها بتوفيرالحماية والأمن للعملية الانتخابية ، والسهرعلى إنجاحها ، وهو ما اثار بجانب ضعف اداء المفوضية وعزوفها عن اتخاذ الاجراءات الكفيلة بضمان سلامة الانتخابات ونزاهتها وشفافيتها - موجة واسعة من الاستياء والاحتجاج من جانب المواطنين والكثير من الاطراف المتنافسة في الانتخابات ، ومنها القائمة العراقية الوطنية.

وعلى خلفية ذلك كله تنادت القوى والكيانات التي اعتبرت نفسها متضررة ، لتشكيل "مرام" وهي حركة متنوعة الاطراف والاهداف ، استهدفت التعبيرعن الاحتجاج ، والمطالبة بتدقيق نتائج الانتخابات ، والنظر في الشكاوي والطعون المقدمة في شأنها . وعند فحص الطعون لم يتصف اداء المفوضية ، مرة اخرى ، بالحياد والكفاءة ، ولذا طالبت "مرام" باستقدام فريق تحقيق وتدقيق دولي ، وهو ما حصل فعلا . واكد التقرير الذي قدمه الفريق، في ما بعد، صحة ما ذهب اليه المحتجون . وارتباطا بذلك اضطرت المفوضية الى التجاوب مع بعض الشكاوي ، فألغت 227 صندوقا ، اي ما يعادل حوالي مئة الف صوت . ورغم اننا ،كحزب، لسنا طرفا في " مرام " فقد اوضحنا انها ادت مهمتها في حدود ما قامت به بعد اعلان نتائح الانتخابات.

وأشّر تقريرا الفريق الدولي والمفوضية، رغم كل ما فيهما من نواقص، الخلل الذي رافق العملية الانتخابية وحقيقة وقوع التجاوزات والانتهاكات. وتضمن تقرير الفريق الدولي ،ايضا، توصيات هامة، سيتوجب الاخذ بها مستقبلا عند اجراء انتخابات تتصف بالشفافية والنزاهة.

لقد شهدت الانتخابات الثانية ، شأن الاولى ، انتهاكات جدية وتزويراًً مفضوحاً وواسعاً في الداخل وفي الخارج . ولم يجر التصويت بمعزل عن حمى التعبئة الطائفية والقومية ، وتغليب الولاءات التقليدية على الولاء للوطن ، ولا عن التدخلات الخارجية متعددة المصادر والمقاصد. وقد ادى هذا وذاك الى استبعاد التصويت على اساس البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومع ذلك ، وبفعل جملة من العوامل الموضوعية والذاتية ، جاءت الانتخابات ببرلمان (مجلس نواب) جديد مختلف عن سابقه ويتسم تركيبه بتوازن نسبي ، حيث لم تتمكن ايّ قائمة من احراز الاكثرية المطلقة فيه ، الامر الذي يفسح، موضوعيا، لنشوء تكتلات وائتلافات مفتوحة ، وشهدت الفترة الاخيرة بوادر اولية لمثل هذه التكتلات.

وبغض النظر عن كل شيء، وانطلاقا من الشعور بالمسؤولية الوطنية، دعا حزبنا الى التعامل الايجابي مع نتائج الانتخابات، دون ان يعني ذلك تزكية كاملة لها او التغاضي عما شابها واثقلها من ممارسات مسيئة لها كممارسة ديمقراطية.

الحكومة الجديدة
ارتباطاً بما افرزته الانتخابات وما رافقها واعقبها من تداعيات ، وما يواجهه شعبنا ووطننا من مهام، و اخذاً بالاعتبار تجربة الحكومة السابقة ، تبنى حزبنا الدعوة الى تشكيل حكومة وحدة وطنية ، حكومة واسعة التمثيل تضم ممثلي القوى السياسية الفاعلة في مجلس النواب وغيرها ، على ان يتم تشكيلها وفق برنامج سياسي متفق عليه ، وعلى ان تشارك الاطراف المساهمة فيها في رسم السياسات وصنع القرار، بعيدا عن المحاصصة الطائفية والقومية ، وعن منطق الاغلبية الفائزة المقررة ، ولكن من دون تجاهل للاستحقاق الانتخابي.

ورأى حزبنا ان تشكيل الحكومة على اساس من الحوار والتوافق الوطني واعلاء قيم المواطنة والوحدة الوطنية ، من شأنه ان يشيع الامل والتفاؤل ويعزز اجواء الثقة ويدفع العملية السياسية قدما الى الامام . واعتبر الحزب ذلك البداية السليمة لاي جهد وطني حقيقي ، لانقاذ الوطن من ازماته واعادة الامن والاستقرار الى ربوعه.

وبعد فترة الجمود التي اعقبت جريمة تفجير المرقد الشريف في سامراء في 22 شباط 2006 ، دخلت الاحزاب والكتل البرلمانية في جولات مفاوضات على مدى اربعة اشهر، تبلورت خلالها مجموعة من المواقف والاجراءات . فقد جرى الاقرار باهمية وضرورة تشكيل حكومة وحدة وطنية والابتعاد عن المحاصصة الطائفية ، وتهيئة الظروف لمساهمة القوى والكتل المشاركة في الحكومة كافة ، مساهمة حقيقية وليست شكلية . وفي ضوء ذلك تم وضع برنامج مشترك للحكومة الجديدة ، كما جرى الاتفاق على وضع آليات ملموسة لترجمة معنى المشاركة الفاعلة في صنع القرارعبر تشكيل المجلس السياسي للامن الوطني . وفي السياق نفسه تم الاتفاق على هيكلية لجنة الامن والدفاع في مجلس الوزراء وآلية اتخاذ القرارات فيه ، كما تم وضع مباديء واسس نظامه الداخلي .

لقد كان ذلك كله بمثابة خطوات في الاتجاه الصحيح نحو تشكيل حكومة الوحدة الوطنية ، وكان مفترضاً ان تتحول هذه الخطوات لاحقا الى اجراءات تترجم وتجسد التوافق السياسي في توزيع المسؤوليات. غير انه برزت، بشكل حاد، رغبة بعض الاطراف في الحصول على حصة من المواقع السيادية غير قابلة للتنازل ، الامر الذي ادى للعودة الى نهج المحاصصة الطائفية – القومية ، بل والتخلي عمليا حتى عما طالب به البعض من تقيّد بالاستحقاق الانتخابي . وجرى حرمان " القائمة العراقية الوطنية" من فرصة الحصول على موقع " سيادي " رغم موقفها الايجابي في كل مراحل المفاوضات .

وبعد انتظار طويل ومفاوضات عسيرة ، حبست الجماهير خلالها الانفاس تطلعا لولادة الحكومة الجديدة (بمعناها الواسع )، جاءت هذه دون مستوى الآمال والطموح ، ولم ترقَ الى مستوى حكومة وحدة وطنية ، وحملت ثغرات جديّة القت وتلقي بظلالها على عمل الدولة ومؤسساتها، وعلى اداء وعمل تلك الهيئات نفسها .

ولم يكن الطريق نحو تحقيق حكومة وحدة وطنية حقيقية سهلا في ظل ما أفرزته الانتخابات الاولى والثانية من استقطاب طائفي - قومي ، واستمراء البعض هذا الاستقطاب طمعا في تحقيق اكبر قدر من المكاسب ، دون ادراك للمخاطر الناجمة عن ذلك .

وجرى هذا والبلد يكاد يحترق في دوامة المعضلات والاستعصاءات التي تطوقه من كل جانب ، والشلل الذي اصاب الدولة واجهزتها بسبب بقاء الحكومة الانتقالية حكومة تصريف اعمال لفترة تقرب من اربعة اشهر، رافقها تذمر واستياء من جانب المواطنين.

اننا نرى في تشكيلة الوزارة الحالية خليطا من استحقاق وطني واستحقاق انتخابي ، من المحاصصة الطائفية – القومية. والنزوع الى تجاوزها ، وصولا الى تحقيق حكومة الوحدة الوطنية الحقيقية . وان تشكيلها، على هذا النحو، يشير الى امكانية تجاوز الطائفية عند اسناد المسؤوليات في مؤسسات الدولة ،وهو ما لم يتحقق بعد بسبب اعتماد نهج المحاصصة الطائفية والاستئثار بالقرار . ولوحظ مؤخرا تطور ايجابي في الخطاب السياسي تجسد في مشروع المصالحة ومحتوى واتجاهات خطة امن بغداد( خطة فرض القانون).

عملت هذه الحكومة وتعمل في اجواء غير طبيعية وصعبة ، ووسط تركة ثقيلة ، وارهاب منظم، وفي ظل سلبيات الحكومة السابقة ، اضافة الى الفساد الاداري والمالي ، والمحاولات المحمومة لافساد جهودها .

وبرغم مضي فترة غير قصيرة على تشكيل الحكومة فان من الصعب الحديث عن تحقيقها اشياء ملموسة ، ولا سيما من تلك التي تمس حياة المواطن مباشرة . وهي تبقى مطالبة، قبل كل شيء، باعادة اجواء الثقة بين اطرافها ، والعمل كفريق عمل وطني واحد وفقا للبرنامج المتفق عليه بين الكتل السياسية . كما ان عليها اتخاذ تدابير وخلق اجواء يتلمس فيها المواطن توجهاً جاداً لمعالجة ما يعانيه وينوء تحته من اعباء ، وبما يؤشر استعادة الثقة بين الدولة والمواطن . ومن اجل ذلك يتوجب ان تتعامل الدولة ووزاراتها ومؤسساتها باعتبارها ملكاً لكل العراقيين . كما يتوجب ان تعمل بجد على تطبيق برنامجها كاملا وفي كل المجالات ، والسعي بشكل خاص الى وقف التدهور الامني ، ووضع حد للقتل والتهجير بسبب الهوية المذهبية ، واعادة الامن والاستقرار الى جميع ربوع البلاد .

ونرى ان الوضع الراهن يحتاج الى تفعيل كل الاليات التي جرى الاتفاق عليها لجهة مشاركة اطراف العملية السياسية في اتخاذ القرارات حول القضايا الاساسية وتحمل مسؤولياتها في تنفيذها والابتعاد عن النظرة الحزبية والطائفية الضيقة في اسناد المسؤوليات واعتماد الكفاءة والنزاهة والوطنية في ذلك . ويتوجب الامر اعادة النظر في دور وعمل المجلس السياسي للامن الوطني بما فيها اعادة النظر في عمله وتركيبته واليات التعامل مع قراراته وتوصياته وان تجد طريقها الى التنفيذ والتطبيق الملموس .

واذا كان من الصعب توقع نجاح ملموس خلال الفترة القريبة القادمة لجملة من الاسباب والعوامل الموضوعية والذاتية ، غير انه يتعين على الحكومة ان تضع اقدامها في بداية الطريق الصحيح لاتخاذ اجراءات ملموسة لتنفيذ مشروع المصالحة وفرض الامن والاستقراروضمان نجاح خطة فرض القانون وحل المليشيات ونزع فتيل الاحتقان الطائفي وانعاش الاقتصاد الوطني، إذ ان المهم بالنسبة للناس هو ان تشيع الامل في نفوسهم، من جديد، بالقدرة على معالجة المهمات الكبرى المعلقة

هذا وكان حزبنا قد حدد موقفه من الحكومة الحالية بتأكيد دعمه لها في اجراءاتها ومواقفها التي تخدم الناس وتلبي حاجاتهم وتستجيب لمطالبهم ، الى جانب تأشير وانتقاد اوجه القصور ومواطن الخلل في عملها وادائها .

مجلس النواب
بدأ مجلس النواب أعماله متعثرا بعد تأخر زاد على اربعة ، رغم انه ظل البلد – وما زال حتى الان- بأمس الحاجة الى برلمان حيوي وفعال، يسهر على احترام الدستور والتزامه، ويكون عاملاً اساسياً في تنفيذ الاستحقاقات الكبيرة، المتمثلة في انجاز المصالحة الوطنية، ومواجهة نزعات التعصب الطائفي والعرقي، وتأمين الوحدة الوطنية وصيانتها، والعمل بكل الوسائل القانونية والشرعية على استعادة الامن والاستقرار في ربوع الوطن. وقد شددنا في هذا الخصوص على وجوب استبعاد الأمثلة السلبية في الطرح، التي صبت الزيت على نار الصراعات والفتن الطائفية المفتعلة، واسهمت في تأجيج اجواء الانفلات الامني والنشاط الارهابي.

واكدنا ان على المجلس ايجاد اجواء عمل تتسم بحيوية النقاش وطابعه البناء، رغم الاختلاف البيّن في وجهات النظر، والانصراف الى البحث في امور تهم المواطنين والبلاد حاضراً ومستقبلاً. كما ينبغي ان تختفي مظاهر التوتر والتشنج، وان يصار الى احداث نقلة في الخطاب السياسي نحو الروح الايجابية، وانتظام الجلسات وتضاؤل الغيابات.

ومن الضروري الى جانب ذلك، النهوض بعمل المجلس. وهذا يتطلب تحسين ادارة عمله، وانتظام عمل رئاسته، وتقيدها بالنظام الداخلي للمجلس، وسعيها الى إشاعة الأجواء الطبيعية البعيدة عن التوترات، وخلق روح الانسجام بين اعضاء المجلس، فضلاً عن التحضير الجيد للجلسات، وتوزيع جدول عمل كل منها مسبقاً على الأعضاء.

ومن الواضح ان المجلس يستطيع ، اذا ما طور كل ما هو ايجابي في ممارساته واستبعد ما هو سلبي ، حتى وان تطلب الامر تعديل نظامه الداخلي، تجسيد دوره الدستوري في العلاقة مع مؤسسات الدولة الأخرى، واحتلال موقعه بجدارة كمؤسسة تشريعية ورقابية ترسي أسس صرح العراق الجديد، الديمقراطي الفدرالي العصري.

موقفنا من القائمة العراقية
كما سبقت الاشارة فان القائمة العراقية الوطنية هي تحالف انتخابي التزمت الاطراف المشاركة فيه ببنامج يعارض الاستقطاب الطائفي وياخذ بمبدأ المواطنة ويدعو الى اقامة النظام الديمقراطي ودولة القانون والمؤسسات وينبذ العنف والارهاب .وفي مجرى العمل برزت العديد من الصعوبات ذات الصلة بتنظيم عمل القائمة وبنائها على اساس مؤسساتي ينتظم فيه التشاور وبلورة مواقف قائمة من الاطراف المساهمة فيها ، كما تباينت الرؤى حول العملية السياسية وافاقها وسبل تقويمها واصلاحها . ان حزبنا اكد في اكثر من مناسبة حرصه على تطوير عمل القائمة وتفعيل عملية صنع القرار فيها جماعيا وتطوير ادائها ، وان استمرار عملنا ومشاركتنا في القائمة مرهون بتحقيق كل هذا وفي الاساس مدى الالتزام ببرنامجها المتفق عليه .

الاوضاع الاقتصادية –الاجتماعية
يعيش الاقتصاد العراقي أزمة عميقة وشاملة تمتد ، لجملة من الاسباب، جذورها إلى السياسات الاقتصادية للنظام المباد، وظهرت تجلياتها بوضوح إبان الحرب العراقية- الإيرانية ، ثم استفحلت واتسعت مدياتها واتخذت بعداً كارثياً غداة حرب الكويت وتداعياتها ، خاصة منها الحصار الاقتصادي المنهك.

وكان المؤتمر السابع لحزبنا ( 2001 ) قد خلص في التقرير السياسي الصادر عنه الى ان نهج النظام الدكتاتوري وخططه واجراءاته في المجال الاقتصادي ، ومجمل سياسته الهادفة اولا وقبل كل شيء الى حماية سلطته وادامتها ، الى جانب العواقب الثقيلة للحصار الدولي ، كل ذلك خلف آثاراً سلبية عميقة في واقع المجتمع العراقي ، وتشويهات في حياته وبنيته ومثله ، وافضى الى تحلل في النسيج الاجتماعي والاسري ، وتصدع في منظومة القيم الاجتماعية والاخلاقية ، وانتعاش للوشائج التقليدية السلبية. وبات من الصعب العثور على دور للفئات الوسطى ، التي كان لها، حتى الامس القريب، موقع ودور فاعلين في الحياة العامة للبلاد.

وخلال السنتين اللتين اعقبتا المؤتمر السابع وسبقتا سقوط النظام المذكور، ظلت العقوبات الدولية المفروضة على البلاد منذ 1990 من قبل الامم المتحدة تعمق التشوه في البنية احادية الجانب للاقتصاد العراقي ، وتلقي بثقلها على المسيرة الاقتصادية والتنموية . وادى ذلك الى المزيد من تخلف مؤشرات الاداء الاقتصادي الاجمالية والقطاعية ، وارتفاع مؤشرات التضخم النقدي والكساد الاقتصادي ، وشيوع حالات الفقر، وتفشي ظاهرة البطالة في الاقتصاد، وعبء المديونية والاستدانة الخارجية ومظاهر الفساد الاقتصادي والمالي والاداري وغير ذلك ، وبالتالي تكريس الطابع الريعي، غير الانتاجي، للاقتصاد العراقي .

واكتسبت الأزمة ملامح جديدة بعد سقوط النظام في 9 نيسان 2003 ، واحتلال البلاد وتكريس ذلك دولياً في قرار مجلس الامن الدولي رقم 1483، وما اعقب ذلك من آثار سلبية جرّاء السياسات الاقتصادية لسلطة الاحتلال.

وفي الظروف الجديدة ، ومع اشتداد أزمة القطاعات الإنتاجية وانحسار دور الدولة الاقتصادي والتنظيمي ، نما قطاع واسع من أنشطة اقتصاد الظل غير المحكوم بضوابط وتشريعات محددة ، مستوعبا قسماً من العاطلين عن العمل والمهمشين اقتصادياً.

وتتسم نشاطات هذا القطاع ، التي يغلب عليها الطابع الخدمي البدائي ، بضعف الإنتاجية وقلة القيم التي تخلقها وتردي ظروف العمل وكثافة استغلال العاملين وانتشار عمالة الأطفال فيها . ويحتل التهريب والتزوير وغيرها من النشاطات غير المشروعة، دوراً غير قليل في تحريك هذا القطاع.

وهكذا وبعد ما يزيد على ثلاثة عقود من سيطرة النظام القمعي الدموي على مقاليد الحكم في بلادنا ثم انهياره بسرعة قياسية ، وبعد 23 عامًا من الحروب والحصار الاقتصادي ، تحول العراق من دولة تتمتع بالعديد من مقومات القوة الاقتصادية ذات الموارد الطبيعية الهائلة والإمكانات البشرية المؤهلة ، إلى كيان ذي وضع كارثي على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والإنسانية.

وقد طرحت غداة الاحتلال تساؤلات عدة بخصوص مستقبل العراق الاقتصادي، ومدى قدرته على مواجهة المشكلات التي تهدده ، لا سيما في ظل تصاعد الجدل بشأن عمليات إعادة إعمار بنيته التحتية المدمرة، وتكاليفها ، والدور الذي سيلعبه النفط العراقي في إعادة الإعمار هذه .

المعالم الأساسية للسياسة الاقتصادية المنتهجة خلال فترة النظام الدكتاتوري
انطوت مسيرة التنمية الاقتصادية في العراق ابان العهد الدكتاتوري على مكامن خلل عديدة وخطيرة، تمثل أهمها في اهمال القطاعات الانتاجية لصالح الاعتماد احادي الجانب على مصدر وحيد للدخل ، هو إيرادات القطاع النفطي. وقد اعتبر اقتصادنا سريع العطب لأنه يعتمد على هذا المصدر، الذي ترسم استراتيجيات انتاجه وتصديره وتسويقه في الخارج ، وبذلك فهو يخضع لفعل عوامل خارجية اساسا . من جانب آخر ، وبما أن عائدات هذا القطاع تشكل اهم جزء في الدخل القومي وفي ميزانية الدولة ، فإن خيارات البلاد الاقنصادية تظل على الدوام محكومة بحجم هذه العوائد ، وتتأثر بأي تغيرات سلبية تطرأ عليها.

ويمكن تلخيص أهم النتائج الفعلية للسياسات الاقتصادية التي اتبعت في العهد المذكور ، خصوصا خلال " الحقبة النفطية " الممتدة من سنة 1973 حتى بداية ثمانينات القرن الماضي ، بما يلي :

* ان التراكم الهائل للعوائد النفطية وارتفاع معدلات الاستثمار لم يواكبهما تغيير يعتد به في هيكل الاقتصاد، بل ظلا يتسمان بالسمات التقليدية ذاتها : غلبة الإنتاج الأولي ، هيمنة القطاع الإستخراجي ، وضعف الصناعات التحويلية. فبرغم تأميم ملكية الشركات النفطية الأجنبية في عام 1972، والذي كان خطوة مهمة سياسياً، لم يتغير في العوائد النفطية شيء سوى الزيادة التي طرأت عليها ، وتحسن القدرة الحكومية - غير الذكية - على إخفاء آثارها السلبية ، من خلال التوسع الكبير والسريع في الإستيرادات . وتزايدت خطورة إهمال العمل باستراتيجية تنويع مصادر الدخل القومي ، بوعي او من دونه ، والاستمرار في سياسة الاعتماد المفرط على الإيرادات النفطية في تمويل الاستهلاك والاستثمار والتشغيل الحكومي وتمويل الاستيراد.

* وارتبط تنفيذ الاستثمارات الضخمة بتزايد نشاط الشركات متعدية الجنسية ، التي نفذت الجزء الاعظم منها، ما أدى الى تعظيم التبعية الى الخارج وإكسابها أشكالاً جديدة غير مألوفة في حينه و بالغة الخطورة.

* من جانب ثانٍ حدثت تغيرات هامة في البنية الطبقية للمجتمع ، ونشأ أساس طبقي جديد استند اليه النظام الحاكم في حينه. كما نشأت تحالفات جديدة نتيجة لصعود فئات جديدة ، في مقدمتها البرجوازية البيروقراطية وبعدها البرجوازية الطفيلية .

* وحدثت تغيرات اساسية في أنماط الاستهلاك ، حيث زاد الميل للاستهلاك الترفي ، وامتد ليطول بشكل متفاوت عموم الطبقات والفئات الاجتماعية . غير أن النتيجة أو الاثر الأهم لـ " الفورة النفطية " في سبعينات القرن الماضي تمثلت في تنامي نزعات الزعامة الاقليمية المستندة الى حجم العوائد النفطية ، ومحاولة توظيفها في معادلات تتجاوز الحدود ، خصوصا بعد الثورة الايرانية عام 1979.

وحين قرر النظام الدكتاتوري شن الحرب على إيران سنة 1980 ، كانت خيوط الكارثة الاقتصادية قد بدأت بالظهور .

ثم جاءت الحرب لتظهر هشاشة القاعدة التي أستند إليها الاقتصاد العراقي . حيث دمرت خلال الأشهر الأولى للقتال طاقات التصدير النفطي ، وترتب على ذلك تلاشي أهم مصدر للإيرادات ، وانخفاض الدخل الحقيقي للبلاد من نحو 26 مليار دولار في عام 1980 الى نحو 10 مليارات في العام التالي ، الأمر الذي ادى الى استنزاف الاحتياطات المالية من العملة الصعبة ، وازدياد الاقتراض من الخارج ، وتعمق المشاكل البنيوية التي كان الاقتصاد العراقي يعاني منها . وقاد ذلك كله الى توقف الانفاق التنموي نهائياً في عام 1982.

لكن الأثر الابرز خلال هذه الفترة كان تعاظم عسكرة الاقتصاد العراقي ، التي كانت قد بدأت منذ أواسط السبعينات بشكل واضح .

وعندما توقف دوي المدافع رسميا في آب 1988 ، كان الاقتصاد العراقي يعاني من أزمة خطيرة تمثل أبرز معالمها الأساسية في :

- الهياكل الارتكازية والانتاجية المدمرة ؛

- ضآلة الموارد اللازمة للنمو؛

- المستويات العالية للدين الخارجي؛

- المعدلات المرتفعة لخدمة الدين ، التي تستنفد الكثير من موارد البلاد الشحيحة أصلا؛

- التوجه المتزايد نحو استيراد المواد الغذائية ؛

- تعطل الجزء الاساسي من قوة العمل التي جندت في القوات المسلحة ؛

-التضخم المفرط ؛

-استمرار انخفاض عوائد البترول ؛


-السياسات الاقتصادية الجديدة للحكومة وأساساً ما سمى بـ " الخصخصة ".

تضافرت هذه العوامل لتفاقم الأزمة الاقتصادية ، التي حاول النظام حلها بجراحة قيصرية خارج الحدود ، عن طريق غزو الكويت ، الذي ترتبت عليه لاحقا نتائج كارثية . فلا جدال في أن الازمة التي أحاطت بالاقتصاد العراقي كانت عاملاً حاسماً، إن لم تكن العامل الأهم، في إتخاذ قرار غزو الكويت واحتلالها وضمها .

وحلت كارثة حرب الخليج الثانية بعد سبعة أشهر من الغزو، فيما كان يطبق نظام صارم للعقوبات بحق العراق طبقاً لقرارات مجلس الامن الدولي . واسفر ذلك كله في النهاية عن دمار مادي مباشر قدر حجمه بـ 250 الى 300 مليار دولار، فضلا عن الخسائر غير المباشرة.

كان للحرب التي شنتها " قوات التحالف الدولي " بهدف معلن يتمثل في اجبار النظام الصدامي على الانسحاب من الكويت ، كما كان لنظام العقوبات الدولية الصارم الذي فرض على البلاد غداة غزو الكويت ، عواقب مدمرة لاقتصادنا ومجتمعنا .

فقد ساهمت العقوبات في تعميق الأزمة الاقتصادية الداخلية وتعظيم أضرارها، حيث تراجع انتاج النفط الى حوالي سبع ما كان عليه قبل الغزو. وترتب على ذلك هبوط مريع في الناتج المحلي الاجمالي وتراجع في معدل دخل الفرد الواحد من السكان الى اقل من عشر مثيله سنة 1980 . كما كان للعقوبات أثر بالغ في شل الاقتصاد العراقي وأنشطته الانتاجية، شديدة الاعتماد على المواد الأولية والسلع الوسيطة المستوردة ، نتيجة ً لتقلص الاستيرادات بنسبة 90 في المئة

وفي الوقت الذي تعطل فيه معظم معامل وورش البلاد ، وتعرض القطاع الزراعي والانتاج الوطني عموماً إلى الإنهيار، انتعشت السوق السوداء وعمليات التهريب وغيرها من النشاطات غير الشرعية ، التي اتسعت لتصبح المتحكم الرئيس في مفاتيح الاقتصاد الوطني . وسيطر على هذه الأنشطة، في غالب الأحوال، أفراد ومجموعات وثيقو الصلة برؤوس وأركان النظام المباد من جهة ، وباوساط الجريمة المنظمة، بحيث اكتسب جزء كبير من الاقتصاد العراقي ملامح إقتصاد "مافيوي". وصاحب ذلك كله مزيد من الضعف في دور الدولة وأجهزتها ، خصوصاً في مجال توفير الخدمات العامة ، وهو ما تجلى في التردي المريع في خدمات التعليم والصحة ، وفي المنافع العامة كالماء والكهرباء والنقل.

ولم تتسبب هذه التطورات، مجتمعة، في مجرد زيادة التدهور في مستوى معيشة أغلب فئات وشرائح المجتمع ومفاقمة معاناتها ، وإنما أحدثت تحولات ذات طابع بنيوي على المستويين الاقتصادي- الاجتماعي والاجتماعي- السياسي ، طاولت التركيبة الطبقية للمجتمع وبناء الدولة ومؤسساتها.

فمن جانب تعمق الاستقطاب الاجتماعي واتسعت الهوة بين فئات محدودة اجتمعت في يدها مفاتيح السلطة السياسية والاقتصادية جميعا ، وبين الأقسام الواسعة من المجتمع التي حدث تدهور متسارع في مواقعها، خاصة منها تلك التي يضمها مصطلح " الطبقة الوسطى" الحديثة من موظفين مدنيين وعسكريين وأصحاب مهن حرة وتجار صغار، وهو ما نجم عن تقويض مداخيلها ومدخراتها بفعل التضخم المفرط ، خاصة في الفترة السابقة لتطبيق برنامج النفط مقابل الغذاء ، وعن الانخفاض الشديد في موارد الدولة، وانحسار رقعة سلطتها وتدخلها ، وتفشي الرشوة والفساد في مفاصلها . حتى أصبحت معيشة اقسام المجتمع هذه مرهونة، الى حد كبير، بتدفق المؤونة الحكومية ( البطاقة التموينية) .

ولم تخرج عواقب نظام العقوبات الشاملة عن اطار توقعات حزبنا وتقديراته ، التي جعلته يدعو مبكرا إلى رفع الحصار الاقتصادي عن الشعب العراقي وتشديد العقوبات السياسية والدبلوماسية على النظام الدكتاتوري، وهو ما تجلى في شعاره المعروف " لا للحصار ... لا للدكتاتورية".

بعض اتجاهات التحولات الطبقية – الاجتماعية في المرحلة الراهنة
تعرضت بنية المجتمع العراقي ومكوناته الطبقية إلى تبدلات متواصلة فرضتها حالة عدم الاستقرار ونهج وسياسات النظام المباد، واطلقت حراكاً اجتماعياً أفضى إلى طمس المعالم والحدود الفاصلة بين الفئات والشرائح الطبقية وأعاق عملية تبلورها.

حيث ازيحت القوى والمجموعات الاجتماعية التي كانت تحظى بدعم النظام المباد ورعايته ، من مواقع النفوذ والتأثير السياسي والاقتصادي ، وفقدت الامتيازت التي كانت تنعم بها والمصالح التي كانت لها داخل العراق . وبالمقابل ظهرت فئات وشرائح اجتماعية جديدة تتداخل أنشطتها التجارية مع عمليات السطو والنهب التي ترافقت وانهيار النظام والدولة العراقية ، واتخذت طابعاً منظماً في الأشهر الأولى من الاحتلال .

واتخذ هذا التحول -بين ما اتخذ -طابعا طفيليا ، ذلك ان النشاطات المذكورة تتركز بصورة رئيسية في مجال التداول وليس في مجال الانتاج وخلق القيم . وتحصل الفئات المشار اليها على مداخيل وتجني أرباحاً من تلك الانشطة القائمة على الوساطة فضلاً عن الأنشطة اللاشرعية كالتهريب وفرض الاتاوات والاستحواذ على ثروات الآخرين.

وفي معرض تحليله للتطورات الحاصلة في بنية المجتمع العراقي خلال السنوات التي سبقت عقده، أكَد المؤتمر السابع لحزبنا (2001) ان الفترة المذكورة شهدت اتخاذ اجراءات حكومية لحساب " منتسبي العائلة الحاكمة وحاشيتها وتجار الحصار والطفيليين الآخرين " ، الامر الذي ادى إلى تعميق " التفاوت والاستقطاب الاجتماعيين في البلاد " وتكريس " هيمنة البرجوازية الطفيلية على مقدرات البلاد ومصالح المجتمع " . وقد تمخضت تطورات السنوات الأخيرة عن تحول في بنية الائتلاف الطبقي السابق (ائتلاف البرجوازية البيروقراطية الطفيلية) لصالح الفئات البرجوازية الطفيلية، بعد أن ظلت البرجوازية البيروقراطية تهيمن عليه عدة عقود.

لهذا يمكن الاستنتاج أن الفئات البرجوازية الطفيلية التي نمت بعد سقوط النظام السابق هي امتداد لتلك التي كانت قد ترعرت في كنفه ، وشكلت احد مكونات الائتلاف الحاكم آنذاك . وتقوم شرائح من هذا النوع من البرجوازية بدور حلقة وصل بين أقسام من رأس المال الدولي في الخارج ، وبين عمليات تفكيك وتصفية ركائز العمليات الانتاجية ، وانتشار الفساد الاقتصادي الواسع واعمال السلب والنهب في الداخل . ومن جهة أخرى يتعين التأكيد أن الطفيلية ليست ظاهرة قاصرة على القطاع الخاص أو النشاط الخاص، بل إنها تمتد الى قطاع الدولة، ويعني هذا أن الطفيلية مرتبطة بالشرائح المختلفة للبرجوازية . وهذا التحديد ليس حكماً اخلاقياً، بل هو نابع من التأمل العميق في طبيعة الشرائح ، التي بدأت خلال السنوات الاخيرة التي سبقت سقوط النظام الدكتاتوري تحتل " مواقع ريادية " في هرمية التشكيل الاجتماعي ، والتي لا تكمن خاصيتها الأساسية في المساهمة في تحقيق التراكم الرأسمالي المطلوب ومن ثم في تحقيق تقدم المجتمع ، بل ببساطة في العيش عالة عليه ، وامتصاص ثرواته واستنزاف قواه الانتاجية . وهذا ما تؤكده تجربة السنوات الثلاث ونصف السنة الاخيرة ايضا .

لقد تميزت عمليات النهب والسطو بسعة النطاق ، وقد ساهمت فيها اطراف متباينة الأهداف والنوايا ، بدءاً بعصابات المافيا ، مرورًا بالجماهير المعدمة اليائسة ، وانتهاءً ببعض القوى التي استطاعت تنظيم عمليات تهريب وبيع ممتلكات الدولة خارج حدود البلاد ، وتحويل أثمانها الى رساميل وضعت في خدمة أنشطتها السياسية / التجارية.

وارتباطا بحقيقة كون المنتصرين في الحروب يفرضون عادة شروطهم ، عملت سلطة الاحتلال بقيادة الحاكم المدني بول بريمر على اعادة بناء الاقتصاد العراقي من خلال اتخاذ جملة اجراءات اقتصادية ، استهدفت تكييف الاقتصاد العراقي وتحضيره لمرحلة جديدة تسمح بدمجه في الاقتصاد الراسمالي العالمي . ولهذا كنا شهود خطاب اقتصادي جديد يرفع رايات " الاصلاح الاقتصادي " والخصخصة دون قيد أو شرط .

وانعكس احتدام الصراعات الطائفية وحالة الاستقطاب التي ترافقها على وحدة الانتماءات الطبقية ، وعلى تبلور الوعي الخاص بكل طبقة وفئة ، مؤديا الى تشظي قطاعات منها على اسس طائفية أو جهوية . الامر الذي جعل الولاء والانحياز الطائفيين من المعالم المميزة لهذه المرحلة . ويؤثر هذا التشظي سلبا كذلك في تبلور الوعي على أساس طبقي ، أي في بناء وحدة الطبقة على اساس مصالح طبقية مادية ملموسة مشتركة ، وليس على اساس الانتماء الطائفي. ومن جانب ثانٍ تتطور هذه الظاهرة لتشكل عائقاً أمام عملية تبلور الوعي بالمصالح الوطنية ، وإشاعة وترسيخ فكرة المواطنة . كما تشكل إتجاهات التطور هذه والعمليات الجارية في سياقها مكمناً رئيساً للقوى التي تكبح عملية بناء دولة ديمقراطية عصرية ، وتدفع في اتجاه دولة طوائف.

ان للدولة في العراق دوراً مميزاً في بناء المجتمع العراقي وفي جدلية حركته . فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود سادت دولة استبدادية ، سعت بشكل تسلطي الى الغاء الصراعات الاجتماعية والطبقية ، من أجل تأمين ظروف اكثر ملائمة للفئات التي صعدت الى السلطة على اكتاف انقلاب القصر ، لتتحول الى فئات سائدة . لذلك اعتمدت القمع والاقصاء إزاء القوى السياسية والاجتماعية الاخرى ، كي تستأثر بالوظيفة السياسية وتهيمن على القرار السياسي والاقتصادي .

وقد أدى ذلك الى ترجيح وزن الدولة في التشكيلة الإجتماعية ، والى تفتيت مجموعات كاملة من القوى الإجتماعية . لذلك فإن فشل هذا النمط من الدولة لا يكمن في السياسات الإقتصادية المنتهجة ، ولا في النوايا الواعية أو اللاعقلانية لدى من يمسكون بمقاليد السلطة السياسية فحسب، بل وفي شكل الدولة نفسها وفي محتواها الإجتماعي وعلاقته بالمسار التاريخي لتشكل الطبقات الحاكمة . ومن هنا أهمية النضال وراهنيته من أجل فك التشابك بين المجتمع المدني ومؤسسات السلطة السياسية ، بما يتيح خلق الشروط لتطور المجتمع وتحرره من سطوة الدولة الاستبدادية وعسفها وقمعها في آن ، وبما يحول دون صعود بدائل استبدادية ايضا تحت يافطات مختلفة، فيما تحتاج البلاد الى دولة جديدة تمثل نفيا لكل اشكال الاستبداد.

ويتعين الانتباه الى بعض خصائص نمو البرجوازية البيروقراطية الحالية أو بعض شرائحها في الاقل ، ومنها اكتساب قشرتها العليا، من جديد ، ملامح الطائفية - المناطقية وكون مراكزها الوظيفية تعتمد على علاقاتها ببعض الكتل والجماعات الحزبية . ما يعني ان تماسكها الداخلي يقوم على الانتماء الى الطائفة أو على رابطة المنطقة الجغرافية ، بدلاً من رابطة الانتماء الاقتصادي .

وعندما يتكرس الطابع الطائفي-المناطقي لبناء الدولة ، ينشأ تناقض بين الدور السياسي التقليدي للدولة ، المتمثل في تأمين ديمومة النظام المسيطر دون عوائق ، وبين دورها الاقتصادي المتمثل في تأمين " الريع " لـ " الاقطاعات الطائفية - االمناطقية " الطامحة الى السلطة والثروة ، والتي بدأت تحتل مواقع السيطرة على المفاصل الاقتصادية والسياسية والامنية الاساسية.

الصراع على الجبهة الاقتصادية : المحتوى والتجليات
ان المعلم المميز لهذه الفترة (منذ 9 نيسان 2003 ) ، التي هي كذلك امتداد للفترة التي سبقتها، هو تفاقم التفاوت الاجتماعي ، وتعمق الفرز الطبقي والاجتماعي ، واستشراء البطالة ، وتعاظم التهميش الاجتماعي الذي بات ينذر بتوترات اجتماعية ، قد تصعب السيطرة عليها اذا ما تفجرت التناقضات المكبوتة اليوم بفعل عوامل عديدة ، بعضها يقع خارج الاقتصاد طبعاً.

وتشير الحصيلة الملموسة الراهنة لما تراكم من آثار السياسات التي نفذها الاحتلال ، إلى أن نمطا جديدا لتوزيع الدخل يفرض نفسه الآن لمصلحة رأس المال وبالضد من مصالح العمل في محوره الرئيسي. فهذه السياسات أثّرت سلبا على دخول ومستوى معيشة الطبقات الكادحة والفئات الوسطي، وأدت في المقابل إلى تحسن واضح في دخول واستهلاك بعض الشرائح، وعلى الخصوص من يعمل في أنشطة ذات علاقة بالمشاريع التي نفذتها سلطة الاحتلال، أو المشاريع المرتبطة بقطاع التجارة الخارجية الرسمي ، أو المضاربات أو التهريب وغيرها من الأنشطة.

ولم يكن عمق تأثير هذه السياسات أفقيا فحسب، أي على مختلف الطبقات الاجتماعية ، وإنما راح يؤثر عليها بشكل عمودي، أي داخل فئات الطبقة الواحدة . فهناك ، داخل الطبقة الواحدة ، فئات معينة تضررت ضرراً كبيرا من تلك السياسات ، في حين انتفعت شرائح اخرى محددة في الطبقة ذاتها . وتحتاج هذه الملاحظة إلى مزيد من الدراسات العيانية ، لكشف العمق الفعلي للتأثير المشار إليه .

ومقابل ذلك تجب الإشارة إلى ما يسمى محلياً بـ " الحواسم " ، وهي تلك الجماعات التي تغيرت أوضاعها الاقتصادية بسرعة قياسية ، بفضل ما نهبت من موارد الدولة ومؤسساتها المالية والاقتصادية ، وما انتزعت من المواطنين عن طريق الابتزاز والتهديد والخطف. الأمر الذي أدى إلى "حركية اجتماعية " فريدة ، وبناء تناسبات للقوى لا تعبر بالضرورة عن الحركة الطبيعية للديناميكات الاجتماعية المتعارف عليها.

العراق ، إذن، أمام خريطة جديدة لعلاقات القوى الطبقية والاجتماعية ، هي الآن قيد التشكل تحت وقع سياسات إدارة الأزمة المعتمدة من جهة، ومن جهة ثانية سعي بعض الأطراف الداخلية والخارجية لدفع البلاد سريعا على طريق اقتصاد السوق المنفلت عبر إزالة الضوابط ، وحجب الصلاحيات عن مؤسسات الدولة ، وفتح الاقتصاد العراقي على مصراعيه ، وتهيئة الأجواء لفرض ايديولوجيا الخصخصة دون قيد أو شرط.

بذلك تكون قد انطلقت في بلادنا عملية تغييرات اقتصادية بنيوية ، ظهرت معها تناقضات جديدة بجانب القديم منها. فثمة محاولات قوية للسماح للرأس المال الأجنبي بالتحكم في المقدرات الاقتصادية للبلاد تحت أغطية مختلفة. ذلك ان الموقع الجغرافي المتميز لبلادنا ، وتوفرها على احتياطيات هامة من المواد الأولية والخامات (الطبيعية والمعدنية) ، إضافة إلى مصادر الطاقة وفي مقدمتها النفط الخام ، كل هذا يجعل منها مصدر جذب وإغراء للعديد من القوى الرأسمالية العالمية ،لا سيما الولايات المتحدة التي تعتبر العراق جزءاً من استراتيجيتها للأمن الاقتصادي القومي لما يملكه من احتياطي كبير جدا من النفط الخام والغاز الطبيعي.

وفي ظل الظروف الراهنة تنشأ تناقضات في مواجهة سياسة الاعتماد المفرط على آليات السوق و"التحرير الاقتصادي" وجعل التنمية مرهونة لدور القطاع الخاص. فبسبب ضعف الأخير لاسباب تاريخية معروفة ، فهو في مرحلته الراهنة ، مرهون في نموه وتطوره بحماية الدولة على ضعفها (وهي في طور التشكل واذ تتنازعها رؤى مختلفة) لا بمبادئ " الحرية الاقتصادية. ولكن بالمقابل ، يدعوا مناصرو النهج الليبرإلى الى رفض الدور الراعي للدولة ، ومعارضة التدخل الاجتماعي والتنظيمي والرقابي .

من ناحية أخرى ، يلاحظ في السياسة المالية تناقض غريب بين "خطة " الواردات التي تطبق سياسة تحرير تشدد على ضرورة ضمان " حياد " الدولة ، و"خطة " النفقات التي تتسم بالإفراط والتوسع ، في مسعىً لتهدئة توتر الفئات المهمشة الصاعدة حديثاً في سلم النفوذ السياسي ، ومعالجة العوارض الجانبية لموجات الإنفاق والتجهيز غير المتوازنة.

ولعلنا نتذكر المسعى الحثيث لسلطة الاحتلال والقوى المرتبطة بمشروعها الاقتصادي ، إلى تبني سياسات تستهدف خلق ارضية لتطور رأسمالي تابع ، يتيح اندماج الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الرأسمالي العالمي ومراكزه ، ويعيد إنتاج هذه العلاقة من دون عوائق . وقد عبّرت السياسات الاقتصادية لسلطة الاحتلال في حينه عن " مشروع اقتصادي " جذري ، ينطلق من المصالح الستراتيجية والايديولوجية اليمينية للمحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية ، التي تعمل في اتجاه الهيمنة على الاقتصاد العالمي . ويمكن ملاحظة هذا التوجه في مفهوم " اعادة الاعمار " الذي روجت له سلطة الاحتلال كمفهوم هندسي خالٍ من اية مضامين اجتماعية- اقتصادية ، بدلا عن مفهوم التنمية الاقتصادية.

موقفنا من " الإصلاحات الاقتصادية " وخصخصة الاقتصاد
أصبحت قضية الإصلاح الاقتصادي في بلادنا حاجة فعلية ، في ظروف التشوهات العديدة التي تعرض لها الاقتصاد، والتي نجمت عن جملة اسباب وعوامل داخلية وخارجية ، تتمثل في الحروب والمقاطعة الدولية والسياسات الاقتصادية المتبدلة باستمرار، وفي الظروف المعيشية المتدنية ، علاوة على التطورات الاقتصادية الدولية. ومن جانبها زادت سياسات الاحتلال من حدّة أزمة الاقتصاد العراقي وانتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي وتفاقمها.

وتؤكد الأزمة الشاملة للاقتصاد والاختلالات العميقة التي خلّفتها الفترة الماضية ، ضرورة الشروع بإصلاحات اقتصادية تستند إلى استراتيجية للتنمية ، تهدف إلى إحداث تغيير في البنية الأحادية للاقتصاد العراقي ، والى تقليص اعتماده الاساسي على العوائد النفطية ، وتحديثه ، وتحقيق توزيع أكثر عدلاً للدخل والثروة ، والعناية بالفئات الاجتماعية الأكثر تضررا ً. وينبغي أن يشمل الإصلاح المطلوب الأطر والتشريعات والآليات المنظمة للنشاط الاقتصادي ، في جوانبه السياسية والحقوقية والإدارية والاقتصادية والمالية . فيما تفرض المتطلبات التمويلية الهائلة لإعادة الأعمار الاستعانة برؤوس الأموال الخارجية ، وتوفير شروط مناسبة لاجتذابها ، كي تسهم في تطوير القاعدة الإنتاجية وتحديث الاقتصاد الوطني .

وإذ لا جدال في حاجة الاقتصاد العراقي إلى إصلاح جذري، فان المشكلة تكمن في مضمون هذا الإصلاح . فما يجري الترويج له من إصلاح انما يهدف إلى اعتماد السوق محورا للنشاط الاقتصادي وآلية لممارسته وتوجيهه ، بجانب الترويج لمفهوم وممارسة الخصخصة من دون أن تسبق ذلك دراسات جدوى حقيقية . وينافح صقور الخصخصة و " الإصلاحات الاقتصادية " مؤكدين أن هذه العملية يجب أن تنطلق من تضييق دور الدولة الاقتصادي ، وإعطاء القطاع الخاص الأولوية في السياسات الاقتصادية ، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية ومتعدية الجنسية.

وفي مواجهة الخيارات الستراتيجية الكبرى التي تواجه الإقتصاد العراقي ، تتعرض الإرادة الوطنية إلى الضغط الابتزازي من جانب صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية والدول الدائنة المنتظمة في نادي باريس التي اشترطت لخفض ديون العراق الخارجية بنسبة 80 في المئة ان يتم تطبيق "اصلاح اقتصادي" واسع ، يفرض على الحكومة العراقية – بين امور اخرى - خصخصة المنشآت المملوكة للدولة ، والعمل تدريجياً على إلغاء الدعم الحكومي بجميع أشكاله ، وإزالة القيود الضريبية والكمركية على تبادل السلع والخدمات مع الأسواق العالمية.

ويندرج هذا الضغط في سياق هجوم إيديولوجي يتمثل في إصرار المؤسسات الدولية المتخصصة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تحديداً) والقوى المسيطرة في البلدان الرأسمالية المتطورة ، على تقديم الديمقراطية باعتبارها صنواً لاقتصاد السوق وحصيلة للتحرير الاقتصادي الليبرالي ، والتأكيد أن الديمقراطية سبب ونتيجة معاً للنمو الاقتصادي وفق المشروع الذي تطرحه هذه المؤسسات.

ويلاحظ أن الخطاب الليبرالي الجديد روّج ويروّج لمفهوم الخصخصة دون مساءلة ، كأنه مسلمة من مسلمات هذا الفكر لا تحتاج إلى مناقشة . كذلك يجري الترويج لمفهوم اقتصاد السوق ومضامينه وآلياته التحريرية بعد حصره بالخصخصة ، بينما المعروف عن اقتصاد السوق انه نهج لتوزيع الموارد عن طريق آليتي السعر والمنافسة.

ويقتصر النقاش في هذه القضايا ذات المساس بمستقبل البلاد ومصالح الشعب عموماً ، على حلقات ضيقة من الخبراء والاستشاريين ، في ظل غياب واضح لآراء وتصورات الفاعلين الاجتماعيين الآخرين ، بل وانعدام اي نقاش مجتمعي حقيقي وجاد حول قضية تخص المجتمع بأسره . وتتمثل خطورة هذا المدخل في كونه يفضي الى فصم الترابط الجدلي بين التنمية والديموقراطية ، الذي تحتاجه بلادنا اليوم بعد عقود من العسف والاستبداد.

ويتبين من تجارب البلدان التي طبقت شروط صندوق النقد الدولي ، أنها واجهت ازمات اقتصادية عميقة يتجلى أهم مظاهرها في معدلات بطالة مرتفعة وافقار شامل وتهميش اجتماعي واستقطاب حاد. ومن حقنا ان نتساءل، واقتصادنا يعاني ازمة بنيوية عميقة هي جزء عضوي من الازمة الشاملة التي تمر بها بلادنا في لحظة تطورها الحاسمة اليوم : هل حقا أن الخصخصة و" الاصلاحات الاقتصادية الكبرى " المطروحة ضمن وصفة صندوق النقد الدولي وشروطها المعروفة ستؤمـّن تطوراً حقيقياً ، على عكس التجارب السابقة في مختلف بقاع العالم ؟

وفي ظروف الازمة الاقتصادية البنيوية ، والفوضى الامنية ، والاستقطاب السياسي الراهن ، لن يؤدي الرهان على الخصخصة ، في الواقع، سوى الى خلق الشروط لتبلور استقطاب اقتصادي - اجتماعي اعمق ، ونشوء مافيات اقتصادية توظف حجمها الاقتصادي لضمان مواقع في البنية السياسية . كما سيترتب على ذلك تهميش القطاع الصناعي والهبوط بقدرة الصناعات المحلية على منافسة المنتجات القادمة من الخارج ، وبالتالي تعريض صناعات وفروع صناعية الى الانهيار (والعديد منها انهار فعلا) ، اضافة الى تدهور القطاع الزراعي بفعل تقليص الدعم الحكومي ورفع الحماية عنه، مما يؤدي الى عجز المنتجات الزراعية عن منافسة مثيلاتها من المنتجات الاجنبية المستوردة ، التي بدأت فعلا تغزو الاسواق المحلية ، وتعميق الاختلال في الميزان التجاري من خلال مقص التجارة الخارجية.

إن حزبنا إذ ينبه إلى اضرار الانسياق وراء وصفات صندوق النقد الدولي ، لا يدعو إلى انغلاق الاقتصاد العراقي بل إلى انفتاحه على الخارج ، والاستفادة من الجوانب الايجابية لعولمة الحياة الاقتصادية وفق شروط مناسبة.

كما اننا لا نؤيد تبني " القطاع العام " دون قيد أو شرط ، بل نعتمد رؤية نقدية للاوضاع التي سادت في هذا القطاع ، وتحليلَ العوامل والاسباب الفعلية التي ادت الى ما تعاني منه مؤسساته اليوم . ويبدو ان المسالة لا تكمن اليوم في خصخصة او عدم خصخصة هذا القطاع ، بل في بلورة منهجية واضحة تتيح التغلب على آليات النهب التي تعرض ويتعرض لها هذا القطاع ، واجراء تقييم اقتصادي شامل وموضوعي لمؤسساته قبل الاقدام على أي اجراء لتغيير الملكية . وهذا يشكل مدخلا جديدا يتيح امكانية اعادة بناء القطاع العام استنادا الى معياري الكفاءة الاقتصادية والوظائف الاجتماعية التي تؤديها الدولة في الحقل الاقتصادي . والامر المطلوب بحدة في هذه الفترة هو تدعيم الرقابة المجتمعية على هذا القطاع ، واعتماد مبدأ الشفافية في تسييره ، وتنشيط دور الفاعلين الاجتماعيين المختلفين، بما يعيد الاعتبار الى الترابط الجدلي بين التنمية والديموقراطية .

وقد بينت الحياة وتجارب التاريخ عدم صواب الرؤية التي تعتبر القطاع العام شرا مطلقا والقطاع الخاص خيرا مطلقا، والعكس صحيح ايضا. ويعني ذلك ان البديل يكمن في استراتيجية تنموية متكاملة ، توظف كل القطاعات (العام والخاص والمختلط والتعاوني).

ان تجارب الخصخصة ودروسها تشير إلى الأضرار التي تترتب على الاكتفاء بقرار تتخذه السلطة. فالخصخصة عملية من حلقات مترابطة يشترط تطبيقها تسلسلاً زمنياً يستغرق سنوات . ولنا في تجارب بعض البلدان العربية أمثلة شاخصة . وعلى ذلك فإن خصخصة أي مؤسسة أو قطاع ينبغي أن تتصف بالشفافية ، وان تدر أفضل عائد على الدولة ، وان تضمن إنتاجية وكفاءة أعلى في القطاع المعني ، وأن توفر السلع والخدمات للمواطنين بأسعار ونوعية أفضل .

ان مصلحة الاقتصاد الوطني والعاملين في مؤسسات الدولة ، والاعتبارات الاقتصادية البحت، تقضي بان تقوم الدولة بتقديم الإعانة والدعم اللازمين لإعادة تأهيل هذه المؤسسات ، وتمكينها من استئناف عملها بعد أن توكل إدارتها إلى عناصر كفوءة ونزيهة ومخلصة ، ومن ثم إمهالها فترة زمنية معقولة لتثبت جدواها الاقتصادية . وبعدئذ تدرس أحوالها ويتخذ القرار المناسب بشأن بقائها جزءا من القطاع العام ، أو خصخصتها جزئياً أو كلياً ، أو الاكتفاء بخصخصة إدارتها مع الاحتفاظ بملكيتها العامة . وينبغي أن تدرس حالة كل مؤسسة على انفراد ، مع الأخذ بعين الاعتبار تعدد أشكال الملكية وإمكانية الفصل بين الملكية والإدارة.

ان النهوض بالاقتصاد العراقي وتأمين تجاوزه أزمته البنيوية الراهنة ، لا يمر عبر الرهان على قطاع دون غيره ، بل ان المطلوب في هذه المرحلة هو إقامة علاقات تكاملية بين القطاعين الخاص والعام ، واعتماد المنافسة في بعض المجالات ، فضلاً عن إطلاق شروط المبادرة لاقامة وتطوير مختلف أشكال الملكية : العامة والخاصة والمختلطة والتعاونية ، وبما يستجيب لحاجات الاقتصاد الوطني وتطوره المتوازن .

وقد بينت تجارب النصف الأخير من القرن العشرين فشل مشروع التنمية المستند إلى تنظيم الحياة الاقتصادية من قبل الدولة حصراً ، وكذلك المشروع الذي يعتمد على قوى السوق كلياً . وتؤكد الدروس المستخلصة من هذه التجارب أن آلية السوق وحدها لا تؤدي إلى التخصيص والاستخدام الأمثل للموارد ، بل ان منطق تعظيم الأرباح يقود إلى نمو اقتصادي غير متكافيء اجتماعياُ وإقليمياً وقطاعيا ً. فالسوق لا يرسي ذاته بنفسه ، بل يستدعي تدخل الدولة لوضع القواعد والمؤسسات المنظِمة له . ولهذا فالحاجة تتطلب ، في هذه المرحلة ، وضع قوانين لمنع الاحتكار ، وحماية المستهلك ، وضمان حقوق العاملين .

يمكن القول اذن ان الخصخصة من جانب ، والقطاع العام من جانب آخر ، لا يمثلان خيارات اقتصادية صرف، بل هما يعبران، ايضا، عن خيارات سياسية كبرى وخطيرة، في آن واحد، تتعلق في جوهرها بمحتوى الدولة العراقية الجديدة ، وشكلها ، والوجهة التي تتخذها بالاستناد إلى الارادة العراقية الوطنية والديمقراطية.

موقفنا من الاستثمار الاجنبي: بين الامكانية والضرورة
لابد من الاشارة، اولا، الى ان الاستثمار ضرورة لكل الانظمة الاجتماعية- الاقتصادية المعاصرة، وان كل نظام في عالم العولمة اليوم يحتاج الى جهد الآخرين ، والى نقل التكنولوجيا، والى استخدام طرائق الانتاج الحديثة وغير ذلك . وعلى هذا فان العراق بحاجة الى قانون استثمار، ينظم انتفاع اقتصاد البلاد من الرأسمال الاجنبي ، والحصول منه على اكبر المنافع . وان من الضروري تفهم واستيعاب الدور الذي يلعبه رأس المال الأجنبي في مستقبل التطور الاقتصادي في بلادنا ، كحقيقة وبدون أية ملابسات ايديولوجية مسبقة.

وقد طرحت الحكومة مشروع قانون للاستثمار ، دار حوله نقاش واسع في مجلس النواب . وساهم حزبنا من خلال ممثليه في الحكومة ومجلس النواب في مناقشة مسودة القانون ، وسعى الى إدخال تعديلات تهدف الى الأخذ بخصوصيات الإقتصاد العراقي والظروف التي تمر به البلاد. وبيَن أن العراق ليس مثل دول اخرى تتهالك على الاستثمار الاجنبي ، بسبب جفاف منابع ثرواتها الوطنية وضعف مصادر التمويل الذاتية . وإن المشكلة الأساسية انما تكمن في الوضع الامني المتدهور، الذي منع البلاد من استعادة اموالها وقدراتها السابقة ، وجعلها بحاجة الى الدعم الخارجي . وفي الأوضاع الراهنة لا يحكم اجتذاب الراسمال الاجنبي الى العراق حجم الإغراءات والامتيازات التي تقدم له، وإنما توفير بيئة سياسية واقتصادية واجتماعية آمنة ومستقرة ، ووضع إطار تشريعي واضح. ونبّه الحزب ايضا إلى أنه لا يجوز الانطلاق ، عند صياغة هذا القانون ، من الحالة الاسثنائية القائمة ، فمعطيات الوضع ستتبدل ايجابياً مع أي نجاح يتحقق على طريق إعادة الأمن والاستقرار في ربوع البلاد .

واكد حزبنا، كذلك، ضرورة أن يتضمن القانون ما يربط بين منح الامتيازات والاعفاءات الى المستثمرين من جهة ، وتوظيف استثماراتهم في المجالات الانتاجية المتطورة وفي نقل التكنولوجيا الحديثة الى العراق من جهة ثانية . كما دافع عن التعديلات التي تدعو إلى منح الإعفاءات الى المستثمرين الذين يشركون رؤوس الاموال الوطنية العراقية في مشاريعهم ، ويستخدمون في انجازها نسبة اعلى من العمالة العراقية ، ويغطون احتياجاتهم السلعية والخدمية مما يوفره الانتاج المحلي ، وغير ذلك مما يسهم بشكل أفضل في تحقيق الأهداف التنموية لاقتصادنا العراقي . وبهذه الطريقة تتحول الاعفاءات والامتيازات الى ادوات اقتصادية ومحفزات للنشاط الاقتصادي.

لقد منح قانون الأستثمار الأجنبي الذي اقره مجلس النواب ، طيفاً واسعاً من الحوافز والإغراءات والتسهيلات الضريبية والإدارية والتنظيمية للمستثمرين الاجانب ، ترقى إلى مستوى ما تمنحه دول الجوار وغيرها من دول المنطقة . كما تضمن ضوابط ايجابية ، كتلك المتعلقة بتملك الأراضي ، وفرض التزاماً على المستثمر الأجنبي باستخدام عاملين عراقيين في ما لا يقل عن 50 في المائة من فرص العمل التي يوفرها . لكنه من جهة ثالثة لم يأخذ بمبدأ فرض نسبة مشاركة عراقية ، من الدولة أو من الرأسمال الوطني الخاص ، في رأسمال الشركات التي تستثمر في العراق . كما أباح التأجير لمدة 50 سنة ، مما يسمح بالألتفاف على مبدأ عدم جواز تملك الأرض من قبل المستثمر الأجنبي ، وبالمثل خلا من آليات تسمح بتوجيه أو تشجيع الرأسمال الأجنبي على التوظيف في القطاعات والمجالات التي تحظى بأولوية في ستراتيجية البلاد للتنمية الأقتصادية .

ويمكن توقع ان يؤدي وضع قانون الاستثمار الاجنبي موضع التطبيق مع تحسن الاوضاع الامنية الى دخول احتكارات وشركات ذات قدرات ساحقة الى السوق العراقية . ولاجدال في ان رأس المال الوطني العراقي لن يتمكن من خوض المنافسة في السوق، آنذاك ، الا اذا اشركته الشركات المذكورة في عملها وتمويلها .

من جانب اخر لابد من الاشارة الى ان رأسماليتنا المحلية لم تبلور ، لجملة من الاسباب، مفهوماً وموقفاً واضحاً من الاستثمار المحلي طويل الأمد (الصناعي بشكل خاص) وذلك لكونها ما زالت مترددة وغير واثقة من نفسها، وتتجنب المجازفة بتوظيف مدخراتها في مشاريع بعيدة المردود(ارتباطاً بطول دورة استعادة رأس المال) . وهي ترحب، وان على استحياء، بدخول الرأسمال الأجنبي ، وترغب في التعاون معه باعتباره وسيلة اساسية وناجعة لتطوير نفسها والخروج من حالة التردد والركود.

الموازنة الفيدرالية للعراق هل يمكن ان تساهم في بلورة استراتيجية تنموية فعالة؟
أولى حزبنا أهتماماً كبيراً للموازنة الفيدرالية خلال السنوات الأخيرة ، وساهم بفاعلية في مناقشة مراحلها جميعا على صعيد الحكومة ومجلس النواب ، كما سعى الى إثارة نقاش علني واسع حول توجهاتها ، بسبب كونها المحرك الأساس للاقتصاد الوطني ، والأداة الرئيسية لتنفيذ السياسية الإقتصادية في البلاد . ومنذ سقوط النظام الدكتاتوري ، نشأ ميزان قوى جديد ترجح فيه كفة القوى السياسية التي تحمل في المجال الاقتصادي- الاجتماعي رؤى وتصورات ومشاريع تدعو إلى نهج إصلاح اقتصادي ليبرالي ، يهدف إلى إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي بما يضمن السير به على طريق اقتصاد السوق ، والانسجام مع إملاءات صندوق النقد الدولي . ويجد كل ذلك ترجمته في اولويات الموازنة ، ونسق الأنفاق وتوزيعه بين القطاعات والانشطة الأقتصادية والاجتماعية المختلفة.

وشهدت ميزانيات السنوات 2005 ، 2006 ، و2007 نمواً مهماً في الحجم ، حيث ارتفع إجمالي المبالغ المخولة بانفاقها من حوالي 36 تريليون دينار (ما يعادل 24 مليار دولار) إلى 50.9 تريليون دينار (ما يعادل 34 مليار دولار) ثم الى 51.8 تريليون دينار (ما يعادل 41.1 مليار دولار) على التوالي . ( يرجع الفارق الملحوظ في المبلغ المدرج بالدولار لسنة 2007 الى اعتماد سعر صرف للدولار في هذه السنة يبلغ 1260 دينارا ، فيما كان سعر الصرف المعتمد في السنتين السابقتين 1500 دينارا للدولار .)

وإذ تعكس الزيادة في حجم الميزانية الفيدرالية تطوراً ايجابياً ، يجسد ما دأب الحزب على تأكيده من أن العراق يمتلك موارد ذاتية كبيرة كفيلة بتغطية قسم مهم من احتياجاته التمويلية ، إلا إن موازنات السنوات الماضية ، وآخرها موازنة عام 2007 ، عكست في بنائها ومصادر ايراداتها وتوزيع نفقاتها ‘ إضافة إلى الاختلالات الهيكلية لاقتصاد البلاد التي سبقت الإشارة إليها، عدم وضوح واتساق في الأهداف ، وغياب خطة تنمية استراتيجية واضحة المعالم.

ولعب حزبنا دوراً نشيطاً في مناقشة الموازنة الفيدرالية لعام 2007 ، سواء في مرحلة إعداد مشروع قانونها واقراره من قبل الحكومة ، أم لاحقاً عند مناقشتها واقتراح التعديلات عليها في مجلس النواب. وكان مما سجله عليها أنها تدعو إلى اعتماد آليات السوق والقطاع الخاص ، في الوقت الذي يفتقر فيه العراق إلى سوق منظمة والى شروط وآليات التنافس التي تميز السوق الحرة . كما أنها (الموازنة) ترسم هدف تحقيق اصلاحات اقتصادية وفق مفهوم صندوق النقد الدولي، وتكرس الطابع الريعي للأقتصاد الوطني بايلائها اهتماما ضعيفا للقطاعات الانتاجية وفي مقدمتها قطاعا الزراعة والصناعة ، وتتسم حصة الميزانية الاستثمارية فيها بضعف نسبي مقارنة مع الميزانية التشغيلية . وهي في جانبها الضريبي ، تعرِِِض الصناعات الوطنية الى خطر العجز عن منافسة المنتوجات المستوردة ، نظرا الى انخفاض الرسوم الكمركية على الواردات .

وحـذر حزبنا في الوقت ذاته من التداعيات السياسية والاجتماعية للتقليص الشديد للدعم الحكومي، خاصة في ما يتعلق بالبطاقة التموينية والمشتقات النفطية . فمن شأن ذلك ان يفاقم الأوضاع المعيشية للمواطنين ، وللفقراء منهم وأصحاب الدخول المحدودة والمتوسطة قبل غيرهم ، وان يزيد معدلات التضخم ، ويخفض القدرة الشرائية للمداخيل . وشدد الحزب كذلك على ضرورة توفير التخصيصات المناسبة للأنشطة التي تؤدي الى خلق فرص عمل ، مشدداً على جعل مكافحة البطالة هدفاً رئيسياً للموازنة .

ودعا الحزب مجلس النواب والحكومة للالتفات إلى الخلل في الجمع والتنسيق السليمين بين السياستين المالية والنقدية، وضرورة التحديد الدقيق لمسؤولية كل من الحكومة والبنك المركزي في مجال رسم السياسة النقدية في ضوء المادة 110- ثالثاً من الدستور ، التي تنص على أن رسم السياسة النقدية هو اختصاص حصري للسلطة الاتحادية.

ورغم بعض الجوانب الايجابية المتمثلة في ارتفاع تخصيصات الموازنة الاستثمارية بالمقارنة مع العام السابق ، والمبالغ الكبيرة المخصصة للتعليم والصحة وشبكة الحماية الاجتماعية ، فإن الميزانية لا تحتوي على توجهات واضحة وفعالة في خصوص بناء اقتصاد عصري متطور ، متحرر من مظاهر التخلف والتبعية ومن الارتهان إلى العوامل الخارجية ، وفي مقدمتها اسعار النفط الخام .

القطاع النفطي: مصدر للتكاثر المالي أم قطب للتنمية؟
ظل القطاع النفطي ، بسبب السياسات التي اعتمدها النظام المباد ، والاوضاع والتعقيدات الامنية وتفاقم الارهاب ، والصراع الدائر حول شكل ومضمون الدولة العراقية الجديدة، يعاني جملة مشكلات وصعوبات حالت دون احداث نقلة نوعية في نشاطه ، ودون تحويله من قطاع للتكاثر المالي الى قطب للتنمية ، يسهم في بناء شبكة من الصناعات الامامية والخلفية . فقد بقي هذا القطاع يشكل حوالي ثلاثة أرباع الناتج المحلي الاجمالي ، في حين تمثل العوائد المتأتية من الصادرات النفطية حوالي 93 في المئة من الايرادات الحكومية . يضاف الى ذلك ان 98 في المئة من عوائد الصادرات النفطية يوجه الى تمويل المصروفات الاستثمارية والاستهلاكية وتمويل الاستيراد .

وكشف تقرير لوزارة النفط أن العراق خسر عائدات كبيرة جراء المشكلات التي تواجه عمليات إنتاج وتصدير النفط الخام خلال الفترة بين عام 2004 ومنتصف عام 2006، واضاف ان التصدير يتوقف على مستويات حجم الانتاج من النفط الخام ، وقد اتسمت هذه المستويات بالتذبذب في السنوات الثلاث المذكورة . ويعزو التقرير اسباب انخفاضها الى جملة مشاكل ومعوقات ، منها عدم تنفيذ الخطط الاستثمارية ذات الصلة بزيادة الإنتاج ، وانخفاض إنتاجية الآبار النفطية المنتجة ، وعدم تطوير حقول جديدة ، واستنزاف الآبار، مما أدى إلى عدم توسع القدرات الإنتاجية . فيما يؤدي التدهور في الاوضاع الامنية الى عزوف الشركات العالمية والمقاولين عن الاشتراك في المناقصات ، وتؤدي كثافة عمليات التخريب التي تعرض لها القطاع النفطي ومنشاته ليس فقط الى اعاقة عملية اعادة بناء هذا القطاع ، وانما ايضا الى تهديم جوانب واسعة منه.

وطبقاً لمعطيات موثقة فانه خلال الفترة من 12 حزيران 2003 حتى 4 ايار 2005 ، على سبيل المثال لا الحصر ، تعرض القطاع النفطي الى 227 حادثة هجوم وتخريب . وقد ادت هذه العمليات الى حرمان العراق من نحو اربعة مليارات دولار سنوياً من العوائد النفطية . علما ان التخريب لم يقتصر على انابيب التصدير، وإنما شمل مختلف المنشآت النفطية ومن بينها انابيب النفط الخام التي تغذي مصافي النفط العراقية . وادى هذا الواقع الى حرمان العراق من استغلال طاقته التكريرية ، الامر الذي فاقم من حدة الاعتماد على استيراد المنتجات النفطية ،حيث تراوحت كلفة شرائها بين 2 و3 مليارات دولار سنويا.يضاف الى ذلك عمليات تهريب النفط ومشتقاته .

وبالمقابل فان انعدام المرونة اللازمة لتصدير النفط الخام يعد واحدا من أسباب استمرار تدني مستويات التصدير ، نظرا لعدم توفر السعات التخزينية وتضرر محطات الضخ الرئيسية ، اضافة الى مشاكل أخرى في منظومات التصدير ، وضعف مولدات القدرة الكهربائية والاعتماد على الشبكة الوطنية المتقطعة.

وتفيد البيانات المتعلقة بتنفيذ مشاريع إعادة تأهيل منشآتنا النفطية واعمارها ، بأن نسب الانجاز فيها متدنية لأسباب مختلفة ، منها عزوف الشركات الأجنبية عن التعاقد في العراق بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة، وانتظار صدور قانون النفط والغاز الذي اقره مجلس الوزراء مؤخراً، بأغلبية أعضائه واحاله إلى مجلس النواب لمناقشته وتشريعه بعد أن أحاط اعداده في مراحله الأولى التكتم.

ونظرا الى ما للثروة النفطية من أهمية فائقة بالنسبة لبلادنا ومصالحها الوطنية ، فأن من الواجب ان تتم مناقشة مسودة القانون بشفافية وعلى نطاق واسع . وفي هذا الصدد اكد حزبنا الحاجة الى قانون ينظم النفط والغاز ، والحديث يدور عن ماهية هذا القانون وكيف يمكن له ان يصون هذه الثروة الوطنية وتامين ان تذهب مواردها الى احداث نهضة في البلاد على مختلف الصعد والتعامل معها بما يضمن حصة الاجيال القادمة ايضا من مواردها ، مع تاكيدنا بان الاستثمار الوطني المباشر هو الطريق الاسلم والافضل .

ولأجل التغلب على الصعوبات والمشاكل المشار اليها يتوجب اتخاذ جملة اجراءات ، نذكر منها:

-المباشرة بتطوير العديد من الحقول المكتشفة والتي لم يتم تطويرها بعد (وبعضها حقول عملاقة) مما يتيح رفع السعات الانتاجية الى حجوم اعلى (يقدرها بعض المتخصصين بحوالي 6 – 8 مليون برميل يوميا). غير ان عملا كهذا قد يتطلب الاستعانه المشروطة، وضمن ضوابط محدودة تضمن حقوق البلاد، بالاستفادة من الشركات الاجنبية ذات الامكانيات التكنولوجية الحديثة والقدرة على الاستثمارات الكبيرة.

-استكمال تأهيل منشات انتاج ومعالجة ونقل النفط والغاز ، وتوسيع منافذ التصدير وتقليص الاثار السلبية على البيئة والحفاظ على هذه الثروة من الهدر وبالاخص بالنسبة للغاز.

- تشجيع القطاع الخاص بتمويل الجانب الخدمي وفق عقود مرضية للطرفين.

-اعادة تشكيل شركة النفط الوطنية كشركة قابضة تتولى الادارة والاشراف على عمليات الاستكشاف والانتاج والتطوير ، مع اعادة هيكلة شركات الانتاج الحالية لزيادة كفاءتها ، وتشكيل شركات جديدة حسب الواقع الجغرافي.

-العمل المكثف لمضاعفة طاقات التصفية ومعالجة الغاز ، لضمان الاكتفاء الذاتي أولا ثم التحول الى تصدير الطاقات الفائضة من المنتجات والغاز الحر السائل بالتمويل الذاتي، أو من خلال الاستثمارات الاجنبية والمحلية مع ضمان اشراف الدولة.

-اعادة تأهيل منشات الصناعات البتروكيمياوية وزيادة طاقاتها ، لتحقيق الاكتفاء الذاتي وتغذية منشآت القطاعين العام والخاص بما يحتاجانه لانتاج الاسمدة والمواد البلاستيكية وغيرها.

-وضع حد لتهريب النفط الخام والمنتجات النفطية بكل الوسائل الممكنة.

- العناية بالكوادر النفطية وتكثيف برامج التدريب والتأهيل ، لسد النقص في الكوادر الذي خلفته الحروب والحصار الاقتصادي، وخلق قاعدة جديدة من الكوادر النفطية ، والعمل على رفع المحفزات المادية والمعنوية للعاملين. كما ان من الضروري تأمين ظروف عمل افضل للعاملين في القطاع النفطي ، بما في ذلك السكن الصناعي وتسهيلات السكن الخاص.

-تطوير القدرات الذاتية للكوادر بانشاء معهد عالٍ متخصص في البحوث والدراسات النفطية ، يتولى الاشراف على المعاهد النفطية القائمة ، مع تطوير مراكز التدريب في مختلف مواقع العمل الرئيسية.

القطاع الصناعي: من المراوحة الى الانطلاق
واجهت الصناعة الوطنية في مراحل تطورها المختلفة عددا من السياسات والاجراءات الفاشلة ، التي اضعفت بشكل كبير تطور وتنامي القطاع الصناعي بمختلف فروعه.

وكانت سياسات النظام المباد وحروبه العبثية الأشد وطاة ، وادت الى تدمير البنية الصناعية في بلادنا. فتعطل الانتاج في المنشآت الصناعية ، وخصوصاً المدنية ، بسبب عدم توفر المواد الأولية والوسيطة وصعوبة الحصول على المواد الاحتياطية ، كما تخلفت التقنية المستخدمة نظرا الى عدم مواكبة التطورات الفنية والتكنولوجية في العالم . وقاد هذا كله الى هبوط في مستويات الانتاج وضعف في القدرة التنافسية للسلع العراقية.

وبعد سقوط النظام الدكتاتوري ، ونتيجة للسياسات الاقتصادية التي نفذتها سلطة الاحتلال والحكومات التي تعاقبت بعدها ، وجدت الصناعة العراقية نفسها امام تدفق هائل لسلع قادمة من الخارج ، تتمتع يميزات تنافسية افضل من السلع المحلية وتباع باسعار ارخص ، الامر الذي ادى الى تهميش وتعطيل الكثير من الصناعات المحلية.

وتعاني الصناعة العراقية ، في الظروف الراهنة ، جملة من المشاكل والمعوقات ، من بينها :

* تقادم وسائل الانتاج وهيمنة الاساليب القديمة وغير الكفوءة ، التي ادت الى ركود أو تدني مستويات الانتاج ، الى جانب عدم اضافة خطوط انتاجية جديدة أو ادخال تكنولوجيا حديثة ، الامر الذي ادى، ويؤدي، الى ارتفاع تكاليف الانتاج ومن ثم الى ضعف او انعدام القدرة على منافسة السلع الاجنبية.

* ضعف رؤوس اموال القطاع الخاص نتيجة جملة من العوائق الذاتية والموضوعية ، وما اتبع من سياسات اقتصادية ومالية ، مما حال دون تحقيق التراكم المطلوب لرؤوس الاموال، الذي يحتاجه الصناعي لتطوير مصنعه أو تجديده . هذا اضافة الى عدم وجود نظام تمويلي متكامل ، يمكنه المساهمة الفعلية في تطوير هذا القطاع ومؤسساته.

* ضعف دور الصناعات الصغيرة والمتوسطة ، بل واندثار الكثير منها نتيجة الظروف الامنية المتردية واوضاع الخدمات وانقطاع التيار الكهربائي وغيرذلك.

* الظروف الامنية وحالة الاستقطاب الطائفي ، التي ادت بدرجة كبيرة الى هجرة الصناعيين الى بلدان اخرى ، بحثا عن بيئة استثمارية افضل وظروف اكثر امانا لهم ولعائلاتهم.

* التدفق العشوائي للسلع الاجنبية من مناشيء مختلفة وخصوصا من دول الجوار ، وعدم اخضاعها لقوانين التقييس والسيطرة النوعية . مما ابعد القطاع الصناعي، بشقية الحكومي والخاص، عن ميدان المنافسة وادى الى تدني مستويات الانتاج المحلي، نوعا وكما.

* تخلف الخدمات المصرفية وما ينجم عنه من اعاقة للنمو الصناعي . ومعلوم ان القطاع المصرفي العراقي ما زال يعاني مثل غيره من القطاعات الاخرى من آثار ظروف الفترة السابقة

* عدم التنسيق بين المشاريع الصناعية ضمن القطاع الواحد أو مع القطاعات الاخرى، بسبب عدم وجود سياسات اقتصادية واضحة .

وتكشف أوضاع الصناعة العراقية عن التناقض القائم بين مصالح الرأسمال الوطني الصناعي و نهج الانفتاح نحو الأسواق الخارجية، دون حد أدنى من الضوابط وإلاجراءات الحمائية التي تسمح للمنتج المحلي أن يتهيأ ويتكيف لشروط المنافسة الخارجية . ويسهم مثل هذه السياسات ايضا في زيادة حجم البطالة ، وأضعاف القدرات التنموية للبلاد . وقد دعا حزبنا الى أخذ مطالب ومصالح الرأسمالية الصناعية الوطنية بعين الاعتبار في السياسة الاقتصادية للدولة ، وتقديم الدعم لها في ظل الظروف الاستثنائية وخلال فترة التكيف للأوضاع الاقتصادية والتجارية الجديدة.

ولأجل تمكين القطاع الصناعي، العام والخاص، من استعادة عافيته والتغلب على المعوقات التي تكبح نشاطه، يدعو الحزب إلى تبني الدولة سياسة صناعية متكاملة تستند إلى ستراتيجية تنمية واضحة ، وتعمل على :

-تفعيل صندوق التنمية واستحداث مصادر تمويل جديدة لتمويل المشاريع الصناعية واقراض الصناعيين بشروط ميسرة.

- تبني الدولة انشاء مدن صناعية حديثة ذات بنى تحتية ، وامدادات من الخدمات الاساسية التي يحتاجها النشاط الصناعي كالطاقة والماء وغيرهما .

- ايلاء الاهتمام الضروري للصناعات الصغيرة والمتوسطة ، مع العمل على اعادة توطينها لتحقيق الاستفادة القصوى من المنشآت، ولتجنب الاحتكاك المباشر بالصناعات الكبيرة ، التي يمكن ان تؤثر سلبا على تطور الصناعات الصغيرة والمتوسطة.

-اعادة النظر بالقوانين والتشريعات الحالية بغية تكوين بيئة استثمارية مناسبة ، تهدف الى اجتذاب رؤوس الاموال العراقية المغتربة ، وتمكين الصناعة العراقية من الانفتاح الكامل على العالم المتطور.

-تدريب وتأهيل الصناعيين العراقيين في المجالات المختلفة وعلى اتباع الاساليب الادارية الحديثة ، من خلال المشاركة في المعارض الدولية والاقليمية وحضور الندوات التي تقيمها المنظمات المعنية بالشأن الصناعي.

القطاع الزراعي : الحاجة الى انطلاقة جديد
شهد هذا القطاع خلال العقود الاخيرة تراجعا كبيرا. وكان لحروب النظام المنهار، والحصار الاقتصادي وما تركه من اثار مدمرة ، اضافة الى شيوع الاهمال ، وعدم العناية بالارض ، وتفشي الأوبئة ، وازمات المياه .... الخ، كان لها الاثر البالغ في تراجع الانتاج الزراعي في البلاد ، حتى صارت حصته في الناتج المحلي الاجمالي حوالي 7 في المئة فقط ، في حين لا يزال حوالي ثلث سكان العراق يعمل في هذا القطاع ويعتمد عليه.

ومن العوامل المهمة التي تقف وراء انخفاض مستوى الانتاج الزراعي صعوبة حصول الفلاحين ، لا سيما صغارهم ، على القروض ، وشحة ما يحصلون عليه من البذور والاسمدة والمبيدات والادوات الزراعية ، فضلا عن ارتفاع اسعارها ، وارتفاع تكاليف الخدمات الزراعية . ولعل من الوقائع الخطيرة التي لا تتهدد مستقبل الزراعة وحسب ، وإنما مستقبل التطور الاقتصادي – الاجتماعي بأسره في العراق ، فشل مشاريع البزل وشبكاته في وقف زحف الملوحة في التربة ومنع تردي خصوبتها ، نتيجة الاهمال الشديد وانصراف السلطة الدكتاتورية البائدة عنها نحو الحروب الداخلية والخارجية. وأسفرت سياسات الحكومات المتعاقبة والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي رافقتها ونجمت عنها، عن تحولات عديدة على صعيد البنية الطبقية في الريف.

وبعد انهيار النظام الدكتاتوري واحتلال العراق ، تدهورت أوضاع المنتجين الزراعيين والفلاحين عموماً وتكبدوا خسائر كبيرة ، نتيجة فتح الحدود العراقية على مصاريعها دونما ضوابط، وتدفق المنتوجات الزراعية المستوردة التي تمتاز بكلفة اقل من كلفة المنتجات المحلية. وخلال الفترة ذاتها حدث حراك سياسي واجتماعي. فقد تصاعد نشاط الملاكين وتنامى نفوذ الاقطاعيين في بعض المناطق ، التي شهدت استيلاء هؤلاء على بعض اراضي الاصلاح الزراعي ، التي كانت قد وزعت على الفلاحين بموجب القوانين الصادرة بهذا الخصوص، من دون ان تتحرك الجهات الرسمية المسؤولة بدءاً من "سلطة التحالف المؤقتة" بقيادة بريمر وانتهاءً بالحكومات التي تلتها. وشهدت الفترة هذه احتدام الصراع الطبقي في الريف متمثلا بالهجوم على مصالح الفلاحين والسعي، تحت ذرائع مختلفة، للاستحواذ على اراضيهم بالقوة، وقد نهب بعضها فعلا . وشهدت مناطق عديد نشوء تحالفات ميدانية بين الفلاحين والجمعيات التعاونية والمهندسين الزراعيين وغيرهم، في مسعى يستهدف التصدي لهذه المحاولات. وبذل رفاقنا من الفلاحين والمنظمات الحزبية المختلفة ، جهودا مثابرة للتثقيف بموقف حزبنا من القضية الزراعية وانحيازه موضوعيا الى جانب الحركة الفلاحية الديمقراطية والفلاحين الفقراء، ولبث الوعي في اوساطهم، وحثهم على التمسك باراضيهم، والتلاحم معهم في التصدي لهذه الهجمات ، التي شنتها القوى الساعية الى ارجاع العجلة الى الوراء.

ان القطاع الزراعي، شأن القطاعات الأخرى، يمر بمرحلة صعبة، وهو يتطلب اعادة النظر بجهود التنمية الزراعية والتوصل الى حلول شاملة للقضية الزراعية، باعتبارها تمثل جزءاًعضويا من القضايا والمشكلات المجتمعية الكبرى.

البطالة - اهدار للعنصر البشري
باتت البطالة من أخطر المشكلات التي تواجه بلادنا اليوم . فتزايد اعداد العاطلين عن العمل يشكل امعانا في هدر المورد البشري ، مع ما ينجم عن ذلك من آثار اقتصادية واجتماعية وخيمة. كما ان لتفاقم البطالة ، لا سيما بين الشباب الذين لا يتحسسون - فوق ذلك - وجود افق قريب لتحسن أحوالهم، تداعيات اجتماعية خطيرة . فالبطالة ليست فقط سببا رئيسا في انخفاض مستوى معيشة فئات شعبية واسعة وافقارها ، بل وتوفر بيئة خصبة لنمو الجريمة والتطرف وأعمال العنف ، وتشكل مستودعا لتفريخ الارهابيين . ذلك ان الفئات المهمشة عادة ما تكون تربة مناسبة لنمو الاتجاهات والخيارات المتطرفة . ووفق احدث الاحصائيات الرسمية ، يعيش في العراق اليوم اكثر من 20 في المئة من السكان ( اي ما يزيد على خمسة ملايين نسمة ) دون مستوى الفقر أو حد الكفاف ، وكشفت دراسات معتمدة دولياً أن اكثر من نصف الشعب العراقي (حوالي 16 مليون نسمة ) يعيشون بدولار واحد يوميا .

وتسهم معدلات البطالة المرتفعة في زيادة الاستقطاب في توزيع الدخل والثروة في المجتمع العراقي . وحسب أحدث مسح للأحوال المعيشية في البلاد اجري عام 2004 ، يتلقى أفقر 20 في المئة من السكان أقل من 7 في المئة من اجمالي دخل الاسر العراقية ، في حين يتلقى أغنى 20 في المئة ما نسبته 44 في المئة من الدخل، أي ستة أضعاف ما تتلقاه الاسر الفقيرة.

وتتعدد تقديرات معدل البطالة في بلادنا . فحسب مصادر وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي بلغت نسبتها لدى الفئة العمرية 15 سنة فما فوق 28 في المئة ، لكن هذه النسبة تصل إلى 50 في المئة حسب تقارير بعض المنظمات الدولية . ومما يؤشر الأبعاد المقلقة للمشكلة ويفرض وضعها في أولويات اهتمام الحكومة وسياستها وإجراءاتها الإقتصادية والاجتماعية ، ان معدل البطالة بين الشباب الحاصلين على التعليم الاعدادي والجامعي يصل الـى حوالي 40 في المئة .

إن ظاهرة البطالة ليست وليدة المرحلة الراهنة وحدها ، بل تمتد أسبابها وعوامل انتاجها واتساعها إلى الفترة التي هيمن فيها النظام الدكتاتوري ، ثم تفاقمت بقوة في الفترة التي تلت سقوطه.

وان بعض هذه العوامل ذو طابع بنيوي ، يرتبط بالهيكل المتخلف والاحادي الجانب للاقتصاد العراقي ، وبارتفاع معدل النمو السكاني واختلال العلاقة بين مدخلات ومخرجات النظام التعليمي فيما يكمن البعض الآخر في السياسات الاقتصادية المتبعة ، كتراجع الإنفاق الاستثماري الحكومي الموجه لمشاريع التنمية ، بسبب تكريس الجزء الاعظم من تلك الموارد خلال فترة النظام الدكتاتوري للعسكرة وبناء المؤسسات الامنية والانفاق على الحروب ، إضافة إلى تراكم أعباء المديونية الخارجية ، وخاصة أعباء الفوائد والأقساط المستحقة للسداد .

وفي الفترة التي أعقبت سقوط النظام ، لم تساعد السياسات التي انتهجتها سلطة الاحتلال والحكومات اللاحقة في التوصل الى حلول جذرية لمشكلة البطالة ، بل تواصلت عملية اعادة انتاجها.

ولا شك أن عائقاً أساسياً يحول في الوقت الراهن دون التخفيف من هذه المشكلة ، وهو يتمثل في الاوضاع الامنية؛ المتردية ونشاط القوى الارهابية ، والتخريب المتواصل الذي تتعرض له الهياكل الارتكازية الانتاجية والخدمية ، وتعطل الجزء الاكبر من المنشآت والشركات والورش التي تعود الى مختلف القطاعات (العام، الخاص، المختلط، التعاوني....الخ).

ويسعى حزبنا الى جعل مكافحة البطالة في مقدمة أهداف السياسة الاقتصادية للدولة ، والى اتخاذ الاجراءات الكفيلة بالتوصل الى حلول لهذه الظاهرة المتفاقمة وللتغلب على الاختلالات ، ومن بينها تشجيع القطاع الخاص على زيادة حجم المساهمة في النشاط الاستثماري ، وتخفيف المخاطر الناجمة عن تطبيق برامج " الإصلاح الاقتصادي " ، والتوسع في تنفيذ المشاريع العاجلة الكفيلة باستيعاب اكبر عدد ممكن من الأيدي العاملة ، لتخفيف البطالة المرتفعة في اوساط شريحة القوى العاملة ، وزيادة الاعتمادات المالية لمشروعات الأشغال العامة.

ويدعو حزبنا، في الوقت ذاته، إلى تقديم القروض للأسر الفقيرة من شريحة العاطلين عن العمل لمساعدتها في القيام بأنشطة انتاجية ومشاريع صغيرة . وذلك من خلال زيادة الاعتمادات المالية وتنويع مصادرها وبالتالي تنويع قنوات ضخها (شبكة الضمان الاجتماعي ).

التضخم الراهن
استفحلت ظاهرة التضخم، أي الارتفاع المستمر في الأسعار، في زمن النظام الدكتاتوري، حتى بلغت معدلاته مستويات غير مسبوقة، وتحول إلى ما يسمى بالتضخم المفرط. وأنعكس ذلك في التدهور المتسارع في قيمة الدينار العراقي على مدى عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ، بحيث انخفض سعر صرفه من أكثر من ثلاثة دولارات للدينار قبل الحرب العراقية - الايرانية إلى حوالي ثلاثة آلاف دينار مقابل الدولار الواحد في الفترة التي سبقت سقوط النظام .

وللتضخم آثار مباشرة على المداخيل ، حيث يتسبب في خفض قدرتها الشرائية ، أي خفض ما يمكن شراؤه من سلع وخدمات لقاء الأجر أو الراتب الذي يحصل عليه الفرد . وان أكبر المتضررين من التضخم هم ذوو الدخل الثابت ، من موظفين وعسكريين ومتقاعدين وغيرهم . وهذا ما يفسر الانهيار الكبير في مستوى معيشة هذه الشرائح الواسعة ، التي تعد من أهم مكونات "الطبقة الوسطى" . وبالنسبة للفئات الكادحة ، يزيد التضخم من شقائها ومن معاناتها في الحصول على أسباب العيش الكريم . وقد استمرت ظاهرة التضخم في الاوضاع الجديدة التي تلت سقوط النظام، وان اختلفت أسبابها .

ووفقا لبيانات البنك المركزي ، سجلت معدلات التضخم تسارعاً ملحوظاً في الأعوام الأخيرة حيث بلغت حوالي 70 في المئة نهاية تموز 2006 ، مقارنة مع الشهر نفسه من عام 2005 . وقد بيّن البنك المركزي إن هذا الاتجاه يشير إلى أن الاقتصاد العراقي، بشكل عام، يغرق في ما يسمى الركود التضخمي ( أي ارتفاع الأسعار مع استمرار انكماش الانتاج وارتفاع معدلات البطالة ) وعند مستويات تثير القلق ، في وقت ما زال قطاع النفط يعاني من تدن في مستويات الإنتاج. .والملاحظ أن معالجة هذه الظاهرة ذات طابع جزئي ولا تصل إلى جذورها . فالبنك المركزي رفع سعر الفائدة ثلاث مرات خلال فترة قصيرة ليصل إلى 14 في المئة ، بهدف الحفاظ على قيمة الدينار ، وتخفيف الضغوط التضخمية . لكنه زاد بذلك من تكلفة الإقتراض ولم يعد يشجع على الاستثمار.

ان التضخم في بلادنا ظاهرة اقتصادية، مركبة ، لا يسهم في تشكيلها عامل اقتصادي واحد كارتفاع أسعار المشتقات النفطية أو الزيادة في السيولة النقدية ، بل هي ناجمة عن ضعف في الانتاج وتدهور في انتاجية القطاعات الاقتصادية لا سيما قطاع الزراعة والصناعة التحويلية ، وتعطل الخدمات العامة ، وتداعيات الوضع الأمني على رفع تكاليف الانتاج والاستيراد ، وعلى توفر المعروض في الأسواق . ومن أهم عوامل ارتفاع معدلات التضخم في الفترة الأخيرة ، الزيادة الكبيرة في أسعار المشتقات النفطية الناجمة عن الشحة في العرض وعن رفع الدعم لأسعار المشتقات ، نزولاً عند شروط صندوق النقد الدولي ومجموعة نادي باريس .

ويبدو ان المشكلة الحقيقية تكمن في غياب السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية المتكاملة والمتناسقة ، والمستندة إلى ستراتيجية اقتصادية وتنموية واضحة . وإذا كان رفع الدعم عن أسعار المشتقات النفطية مثّل الدفعة الاولى للتضخم الجامح ، فإنه يمكن لهذا التضخم أن يزداد تفاقما مع تطبيق الشروط الاخرى المتمثلة بالغاء البطاقة التموينية ، وخصخصة القطاع العام وما تؤدي اليه من تفاقم مشكلة البطالة وعواقبها .

ان مواجهة اخطار التضخم الجامح لا تتحقق إلا من خلال اعتماد سياسات اقتصادية متوازنة ، تعمل بأتجاه تحقيق الرفاهية الاقتصادية للفرد والمجتمع ، وذلك ببلورة وتبني استراتيجية جديدة للتنمية ترمي إلى تفعيل مختلف قطاعات الاقتصاد العراقي والنهوض بقدراته ، وتؤهله للانفتاح على الاقتصاد العالمي .

الخدمات بين انسداد الآفاق والبحث عن حلول
شهدت الفترة الماضية تدهورا كبيرا في الخدمات ، لا سيما في مجالي الوقود والكهرباء. وقد كنا شهود طوايبر طويلة من السيارات تقف لساعات طوال وربما لايام امام محطات الوقود. ورغم ما اتخذ من اجراءات من طرف وزارة النفط فان المواطن مازال يعاني من شحة الوقود، وما زالت المشاكل قائمة وذات صلة ، ايضا، بتأمين ايصال الوقود الى مراكز الاستهلاك ، فضلا عن الفساد والتخريب والتهريب . وشهدت بعض الفترات تحسناً نسبياً الا ان الاختناقات ما تزال قائمةً.

وترجع الحكومة اسباب تفاقم الوضع في مجال المحروقات الى الوضع الامني المعقد والعمليات الارهابية، والى الفساد الاداري والمالي ، والى العدد الكبير من السيارات الذي دخل العراق بدون ضوابط ، والى عدم احترام مجهزي المشتقات النفطية في دول الجوار لالتزاماتهم التعاقدية بشكل منتظم.... الخ . ورغم صحة هذه الاسباب الا انها وحدها غير كافية لتفسير هذا التدهور، ومن الصحيح الاشارة ايضا الى ان الاجراءات التي اتخذتها الحكومات المتعاقبة بما فيها الحكومة الحالية دون المستوى المطلوب لمواجهة هذه التحديات .

ان هذه الازمة المستمرة والتي تتفاقم بين الحين والاخر ترجع ايضا الى عدم القدرة على السيطرة على عمليات التهريب، التي تحظى بدعم عناصر من داخل المؤسسات المعنية ، بنت وشائج وتحالفات متنوعة مع عصابات مافيا منظمة ومتخصصة ، تدر عليها عمليات التهريب هذه ارباحا طائلة.

ومن اسباب تفاقم ازمة الوقود ايضا وجود اختلالات وخروقات عدة في بنود العقود المبرمة لاستيراد المشتقات النفطية. وطبقا لمصادر مختلفة فان اغلب العقود الموقعة منذ سقوط النظام السابق ابرمت مع تركيا والكويت وايران . وقد حدثت خروقات واضحة في توريد الكميات المتفق عليها في العقود المبرمة ، من مثل اعتذار الجانب الكويتي والجانب التركي اكثر من مرة عن توريد الكميات المتفق عليها ، مستفيدين من حقيقة عدم وجود اجراءات جزائية بحق الجهة الموردة في حال تأخرت او اعتذرت عن تنفيذ بنود العقد. علما ان الامر لا يتعلق هنا بالعقود الموقعة حسب ، بل ايضا بتأمين وصول كميات الوقود المتعاقد عليها، والتي غالبا ما تتعرض لهجمات الجماعات المسلحة او للتهريب من قبل العصابات التي تسطو على شاحنات النفط بعد عبورها الحدود العراقية ، في غياب القوى الامنية الضرورية لحمايتها ، كما هي ضرورية لمراقبة محطات الوقود.

وفيما يتعلق بالكهرباء شهد قطاعها تذبذبا كبيرا في الانتاج ، ادى الى تعطيل الكثير من المشاريع الصناعية والخدمية واوقف العديد من المصانع والمؤسسات المتوسطة والصغيرة التي تعتمد على الكهرباء. ومن الضروري الاشارة هنا الى ان العراق كان يعاني هذه الازمة منذ عهد النظام السابق . غير ان احداث 2003 وما تلاها من اعمال نهب وسلب شملت معظم المؤسسات الحكومية، ومن بينها مشاريع الكهرباء ، فضلا عن الاعمال العسكرية المباشرة ، والاهمال في ميادين الصيانة والتشغيل، واستهداف المنشآت الكهربائية من قبل القوى الارهابية ، كل ذلك فاقم المشكلة . كما كان لانسحاب بعض الخبراء الاجانب بسبب سوء الوضع الامني ، وتصاعد اعمال الترهيب والاختطاف ، وندرة المواد الاحتياطية ، وعدم كفاية الملاكات ، وتعرض بعض المحطات الكهربائية الموجودة في المناطق الساخنة لاعمال التخريب المتواصلة ، دورها في التأثير سلبا على اداء المنظومة الكهربائية عموما ، واسهمت في زيادة ساعات القطع التي وصلت في العديد من المناطق الى اكثر من عشرين ساعة يوميا . فيما ادت عمليات سرقة الاسلاك وابراجها وخطوط نقل الطاقة الى كبح عمل المنظومة وتاخير مواعيد التشغيل ومفاقمة الازمة في قطاع الكهرباء.

وأصبح توفير الخدمات مطلباً شعبياً شديد الألحاح، وشرطاً لمعالجة الأزمات الحياتية في جميع المجالات، الامر الذي يستدعي من الحكومة إيلاء أكبر الإهتمام لتأمين الحلول وتوفير مستلزمات تحقيقها.


ومن الإجراءات الملموسة الواجبة في هذا الاتجاه :

* استكمال اعادة تاهيل وتحديث محطات التوليد والتوزيع وخطوط نقل الطاقة الكهربائية مع الاجراءات التقنية والبشرية لحمايتها.

* اعتماد استراتيجية جديدة لتوليد الطاقة الكهربائية تهدف الى مضاعفة القدرات الانتاجية وتنويع مصادر الانتاج ، بالتمويل الذاتي أو بالقروض والاستثمارات وفق افضل شروط التعاقد.

* تشجيع المشاريع والبحوث الهادفة الى تطوير مصادر الطاقة المتجددة كالمياه والشمس .... الخ، والاهتمام بحماية البيئة.

* توعية المواطنين وحثهم على استخدام الاجهزة والمعدات الكهربائية قليلة الاستهلاك للطاقة وتشجيعهم على الترشيد.

* رعاية الكوادر العاملة في قطاع الكهرباء وتكثيف برامج تدريبها وتأهيلها وزيادة الحوافز المادية والمعنوية للعاملين عموماوتحسين ظروف سكنهم وتوفير الحماية اللازمة لهم خلال ادائهم لعملهم.

ومعلوم انه منذ الخلاص من النظام السابق وأبناء الشعب يتطلعون الى رؤية توجه جاد لمعالجة الطائفة الواسعة من الازمات والاختناقات التي خلفها لنا ذلك العهد في مجال الخدمات عموما . وبينما تتواصل التصريحات الحكومية عن رصد مبالغ ضخمة لضمان انسيابية تلك الخدمات، لا يتلمس المواطن أي تحسن، بل يلاحظ تراجعا على طول الخط ، خاصة في ميادين الماء وشبكات الصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليم والنقل ...... الخ.

وعلى سبيل المثال تشكل خدمات مياه الشرب ونوعيتها مصدر قلق كبير لعموم ابناء الشعب . ووفقا للاحصائيات الصادرة عن وزارة التخطيط والتعاون الانمائي (2005) والتقرير التحليلي بالتعاون مع البرنامج الانمائي للامم المتحدة فان نسبة السكان الذين يحصلون على مياه صالحة للشرب لا يتجاوز 33 في المئة في الريف و 60 في المئة في المدن . وفي المقابل يشكل ضعف شبكات الصرف الصحي مصدرا من مصادر التلوث البيئي ، خاصة في المدن الكبرى. ان الحاجة قائمة لوضع اجراءات لحل مشكلة مياه الشرب في الريف والمدينة وبناء محطات التصفية الصغيرة والمشاريع الكبيرة .

وفي ما يخص البطاقة التموينية والاهمية القصوى لاستمرار تجهيز المواطنيين بمفرداتها، فقد تميّزت الفترة الماضية بجملة ظواهر ، نذكر بين اهمها :

* عدم انتظام توزيع مواد البطاقة .

* التفاوت في تجهيز مفرداتها ، وهي في جميع الاحوال لا تستلم كاملة.

* رداءة نوعية المواد الداخلة فيها.

* زيادة ثمنها الى ثلاثة اضعاف.

* عدم توزيع النفط والغاز ضمن موادها في جميع المناطق، رغم وجود قرار بذلك .

* تدخل جهات مختلفة غير حكومية وتحكمها بالبطاقة ومفرداتها .

وتبقى الحاجة قائمة الى دعم البطاقة وتأكيد ضرورة انتظام توزيعها في مواعيدها وتحسين مفرداتها. غير انه يلاحظ ان الحكومة اعتمدت في ميزانية 2007 نفس المبالغ التي خصصت في ميزانية 2006 لتغطية كلف البطاقة التموينية ، والتي كانت اقل مما خصص في عام 2005 ، مع وجود شكوك جدية في نسبة التنفيذ ، اضافة الى عدم مراعاة ارتفاع الاسعار ومعدلات التضخم .

ويواجه المواطنون، من جانب آخر، أزمة نقل خانقة ، زادت من حدتها شحة المشتقات النفطية ، فارتفعت بشكل كبير أسعار النقل سواء، داخل المدن أم في ما بينها. وليس هناك ما يشير الى توجه جدي حكومي لمعالجة هذه الأزمة التي تتفاقم يوما بعد آخر ، فيما تبرز الحاجة بصورة متزايدة الالحاح الى أن تولي الحكومة اهتماما فائقا الى إعادة وسائط النقل العام وتشغيلها. اضافة الى استحداث شبكة طرق داخلية وخارجية تتناسب والزيادة الحاصلة في عدد وسائل النقل .

اضافة لذلك هناك شريحة واسعة من المتقاعدين ما زالت تعاني من عدم استقرار الراتب التقاعدي وعدم البدء بتطبيق قانون التقاعد الجديد . في وقت يلاحظ فيه التفاوت الكبير في رواتب العاملين في الدولة ومن دون وجود قانون ينظم ذلك . وينبغي ان يشمل القانون الجديد المتقاعدين القدامى والجدد .

ونتيجة لكل الصعوبات والاشكاليات الجدية الاقتصادية والاجتماعية والامنية ، فقد ازدادت معاناة المواطنين ولم تعد توجد فئة بمنأى عنها ، كما انها شملت مناطق العراق باكملها بما فيها كردستان . ولذا اتسعت في الفترة الاخيرة مظاهر الاحتجاج والاعتصامات الشعبية والجماهيرية في مدن مختلفة، جوبه بعضها بقسوة. وهذه التحركات مرشحة لان تتصاعد على خلفيات اقتصادية – اجتماعية مما يتطلب اهتماما خاصا بها.

وحتى نضع الامور في نصابها الصحيح، نود التأكيد مجددا على اننا ندرك تماما حجم التركة الثقيلة التي ورثناها عن النظام السابق ، ولكن من حق المواطن ان يرى توجهاً واضحا وسياسة متكاملة مرسومة بدقة وعناية، تستفيد من الامكانيات والطاقات العراقية لرسم معالم الخروج من دائرة الازمات ، التي تحيط بالوطن والشعب، الى عتبة العيش الكريم والرفاه والاستقرار.

الفساد المالي والاداري : الحاجة ملحة الى معالجات جذرية
ليس سرا ان ظاهرة الفساد ملحوظة في معظم بلدان العالم، لكن بدرجات متفاوتة ومستويات مختلفة. ويقدر البنك الدولي حجم الضرر الذي يلحقه الفساد بالاقتصاد العالمي مبلغا بحوالي 1.5 تريليون دولار (1500 مليار دولار) في العام ، وانه يقلص معدلات نمو الدول بمقدار نقطة واحدة في المئة سنويا.

وفي ما يتعلق ببلادنا هناك اليوم حقيقة صارخة تتجلى في كون الفساد أصبح وباءً مستشرياً ينخر في مفاصل المجتمع كافة ، وبشكل خاص في مؤسسات الدولة واجهزتها .

ولا بد من الاشارة الى ان هذا الفساد المستشري اليوم ليس نتاج المرحلة الحالية فقط ، بل هو كذلك امتداد لـ " التقاليد " التي رسخها النظام الكتاتوري المباد ، وان اجراءات سلطة الاحتلال وسياساتها ساعدت في بلوغ الفساد هذه المديات الخطيرة . وارتباطا بذلك حذرت منظمة "الشفافية الدولية" في تقريرها الصادر يوم 16-3-2005 من أن عملية إعادة إعمار العراق يمكن أن تتحول إلى " أكبر فضيحة فساد في التاريخ " .

ومن المفيد التذكير ان للفساد اثارا اقتصادية واجتماعية مؤذية تتخذ اشكالا مختلفة ، منها : تضخيم الكلف الاقتصادية للمشاريع والنشاطات الاقتصادية، واضعاف النمو الاقتصادي . وبهذا المعنى يمكن القول ان الفساد يعتبر عاملا معيقا للاستثمار. هذا فضلا عن الجوانب الاخلاقية والمعنوية السيئة المرافقة لهذه الظاهرة، والمهددة للقيم السامية المفروض توفرها في العاملين في مجالات الدولة والخدمة العامة.

إن عدم الالتزام بمقومات الشفافية في ما سمى بعملية إعادة إعمار العراق بعد سقوط النظام الديكتاتوري ، أدى إلى انتشار الفساد على نطاق واسع . وقد نجم ذلك عن تدفق الأموال من دون إجراءات صرف أصولية ، وعدم حصر ما تم العثور عليه في الوزارات والمصالح الحكومية الاخرى من اموال وممتلكات بعد انهيار نظام صدام حسين، إضافة إلى ما تركه النظام نفسه من ارث كبير في ميدان الفساد .

ورأى التقرير آنف الذكر أن ما كان نادي باريس يسعى الى فرضه وهو يشدد على خصخصة الشركات الحكومية العراقية كشرط لإعادة جدولة ديون العراق ، " قد يتيح مجالا أوسع لممارسة اعمال فساد " .

وفي ظل انعدام استراتيجية تنموية واضحة ، تنامى دور الفئات المرتبطة بالتهريب وبرأس المال التجاري والمضارب ذي الطابع الطفيلي ، المرتبط ، عبر وشائج مختلفة، برأس المال الاجنبي، وهو ما يسهم في استشراء الفساد. لهذه الاسباب ، وغيرها ، يمكن القول ان الفساد لم يعد مجرد نشاطات فردية أو محدودة ، اذ امتد ليشمل قطاعات المجتمع والدولة والاقتصاد كافة . انه ظاهرة اقتصادية / اجتماعية / سياسية مركبة، لذلك فهو يحتاج الى مقاربة مركبة. وتعني الملاحظة السابقة ان الفساد لم يعد يتجلى في حالات متفرقة هنا وهناك، بل صار بنية تزداد رسوخاً ، وتتحول، أكثر فأكثر، إلى أرضية ينهض عليها بناء فوقي متشعب يخترق كل شيء - من الإدارة إلى الوضع الاقتصادي الذي أنجبه نمط تنمية ملتبس ، إلى " نمط الثقافة " السائد ، إلى الهيكلية التنظيمية التي تجعل مالكي السلطة قادرين على ترجمة ملكيتهم الرمزية والمعنوية إلى ثروة . وطبيعي أن هذه العمليات تجري في غياب المؤسسية وغياب دور الرأي العام والرقابة المؤثرة والفاعلة ، وضعف القضاء النزيه والمستقل ، وعدم ممارسة السلطة التشريعية الرقابة الشاملة الضرورية، وأخيراً غياب الشفافية في عمل الدولة وفي عملية اعادة بنائها ، التي تتجاذبها مصالح متناقضة واستراتيجيات اعادة بناء مختلفة.

وفي ضوء ما سبق يمكن القول إن معالجة الفساد في بلادنا لن تكون مثمرة وناجحة ، إلا عندما تكون معالجة سياسية- اقتصادية- اجتماعية في وقت معا . فحملة مكافحة الفساد، مهما اشتدت ومعها العقوبات الرادعة بحق الفاسدين والمفسدين ، يمكن ان تخفف من آثار المرض لكنها لا تعالج أسبابه، ولن تؤتي ثمارها اذا لم يكرس الانتباه، في الوقت ذاته، الى المناخ السياسي / الاجتماعي ، الذي نما وترعرع فيه الفساد، ووصل إلى ما وصل إليه اليوم . وفي ضوء هذا تبرز الضرورة الملحة لإعادة العلاقة الطبيعية بين السلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية ، بما يفسح في المجال لفصل القضاء عن المصالح السياسية المتناقضة، ولتوفير التربة الملائمة لممارسة القضاة دورهم الطبيعي في تكريس سيادة القانون وقيم العدالة في المجتمع . هذا الى جانب الحاجة الى إشاعة اختيار الأشخاص الأكفاء والنزيهين لشغل المناصب العامة ، وتكريس حرية التعبير عن الرأي والنشاط السياسي . فمناخ الحرية هو المناخ الوحيد الذي يؤمـّن تصحيح الأخطاء، ومراقبة الأداء العام لكل مسؤول، وفضح أي سلوك يتجاوز الصلاحيات والمسؤوليات العامة .

وفي مقابل ذلك لا بد ان تنصب الجهود على تعزيز دور منظمات المجتمع المدني في مكافحة الفساد وبناء قدراتها في هذا المجال . فثمة تجارب عديدة تشير إلى أن جهود بعض المنظمات غير الحكومية في رصد حالات الفساد وحماية المجتمع منها ، يمكن ان تؤتي ثمارها في فضح الممارسات الفاسدة ، وتعبئة الرأي العام للضغط من اجل وضع سياساتٍ قوية لمكافحة الفساد.والعمل على اصدار قانون ينظم عملها ويحميها .

وإذا كان مثل هذه المعالجة الجذرية لظاهرة الفساد هدفاً بعيد المنال في المدى المنظور، بسبب طبيعة وحجم الخراب الاجتماعي وضعف مؤسسات الدولة وخصوصا الامن والقضاء ، فإن أسلوب المحاسبة والمعاقبة (الذي قد يطال بعض الرموز الفاسدة، بين فترة وأخرى) ينبغي ان يترافق مع اجرءات فورية ، تساعد على محاصرة بؤر الفساد وعزلها في جزر صغيرة ، بما يخفف إلى الحد الأدنى من مخاطرها تجاه المجتمع والدولة.

وينبغي لهذه الإجراءات الفورية ان تنطلق من ادراك ضرورة تحسين الوضع المادي للعاملين في الدولة ، بما يوفر حداً من الأجور يتناسب مع متطلبات المعيشة ومستويات الاسعار، ويقيهم من الانحرافات التي تفرضها وطأة الحاجة الى مستلزمات الحياة المتنامية باستمرار ، نتيجة اعتماد " انماط تنموية " وسياسات اقتصادية ملتبسة ، تفضي الى تعميق الاستقطاب الاجتماعي بدلا من تقليصه

لقد اكّدنا في العديد من المناسبات، أن القضاء على الفساد يستلزم اعتماد جملة اجراءات ، نذكر من بينها:

تجنب الانتقائية واعتماد منهج شامل في معالجة المشكلة ، فلا يجوز التسامح او السكوت على مخالفات صارخة باتت تزكم الانوف ، بسبب الخوف ممن يقف وراءها !

-الاخذ بقاعدة الاولويات في عمل مفوضية النزاهة والمفتشين العامين في الوزارات.

- ربط الاعلان عن قضايا الفساد باجراءات سريعة ورادعة.

- تحييد قضايا الفساد، أي الا يعمد أي حزب الى الدفاع عن محازبيه حال اتهامهم بالفساد. وان تكون للقضاء الكلمة الفاصلة، بعيدا عن الاتهامات الكيدية.

- إبعاد قضايا الفساد عن الصراعات الحزبية.

-ديمومة الحملة ضد الفساد بغض النظر عن تبدل الحكومات ، وضمان نزاهتها ووصولها الى غايتها المرجوة. مع التاكيد على اهمية التوعية بمخاطر الفساد المالي والاداري عبر الاعلام ومناهج التعليم وغيرها ، وتوفير الحماية للقضاة والشهود وغيرهم في قضايا مكافحة الفساد .

ظاهرة هروب رؤوس الاموال العراقية الى الخارج
شهدت السنوات التي سبقت انهيار النظام الدكتاتوري ، ارتباطا بتطور الاوضاع في البلاد وقتذاك وتزايد احتمالات سقوطه ، عملية نزوح لرؤوس الاموال الى الخارج . وكان قسم منها يعود الى النظام وحاشيته وحزبه ، وقسم آخر الى الفئات الطفيلية التي انتعشت في كنفه وعلى خلفية الحصار الاقتصادي والتطبيقات الملتبسة لقرار مجلس الامن الخاص بالنفط مقابل الغذاء.

وبعد السقوط وما رافقه من انفلات امني ، وما تعرضت له مؤسسات الدولة الادارية والمالية من نهب وسرقات واسعة ، ظهرت الى الوجود شريحة جديدة اختار لها الناس مصطلح " الحواسم " . وهي شريحة من أثروا بلمح البصر بفضل تلك السرقات ، وتغيرت مواقعهم الاقتصادية بسرعة مماثلة . وكانت هناك ايضا اموال طائلة تحت تصرف بعض كبار رجال مخابرات النظام السابق واجهزته ، والتي وضعها رأسه تحت تصرفهم ليستخدموها عند حدوث تطورات او انهيار النظام ذاته. وقد لجأ كثيرون من هؤلاء " القطط السمان " الجدد الى عمليات غسيل واسعة للاموال المذكورة ، من خلال توظيفها في مشاريع وشركات تجارية في العديد من البلدان المجاورة ، التي غضت النظر عن مصادر هذه الاموال. وجرى في بعض هذه البلدان سن تشريعات تكفل استيعاب هذه الاموال من دون عوائق.

ومنعا للالتباس لا بد من الاشارة الى انه ليس من الصحيح التعميم واعتبار رؤوس الاموال المهاجرة الى خارج العراق جميعاً ، من اموال " الحواسم " ورجال النظام السابق . فهناك رؤوس اموال لصناعيين وتجار ورجال أعمال وغيرهم اضطرتهم الظروف الامنية السيئة والاحتقان الطائفي والتصفيات على اساس الهوية المذهبية والدينية وعمليات الخطف والتهديد بالقتل والابتزاز ، وغيرها من التعقيدات والمشاكل ، للانتقال الى خارج البلاد بحثا عن الامان وعن فرص استثمارية افضل .

وفي تقرير صادر عن دائرة مراقبة الشركات في الاردن مثلا ، ظهر ان المستثمرين العراقيين يتصدرون قائمة الاستثمار في الشركات هناك ، وقد بلغت استثماراتهم منذ بداية عام 2006 حوالي 8.3 مليار دينار اردني بعد ان كانت 7.9 مليارا في عام 2005 . واشار التقرير ذاته الى حركة ملحوظة للاستثمارات العراقية الموظفة في مختلف القطاعات الاقتصادية الاردنية ، والى ان اغلبها يتركز في قطاعات الخدمات والصناعة والتجارة والمقاولات.

عملية " اعادة اعمار العراق " بين الآمال والواقع
عقب تغيير النظام الدكتاتوري بادرت مجموعة كبيرة من الدول والامم المتحدة والمؤسسات الدولية الى اطلاق الحملة العالمية لاعادة اعمار العراق . وعلى هذا الطريق انعقد المؤتمر الدولي للمانحين في تشرين الاول 2003 في العاصمة الاسبانية مدريد . وتم في هذا المؤتمر الاعلان عن تعهدات مالية تبلغ قيمتها حوالي 33 مليار دولار. كما تقرر اعتماد خطة لانفاق هذه المعونات في تنفيذ مشاريع كثيرة في مختلف القطاعات ، وفق تقرير كان معداً مسبقا للمؤتمر تحت عنوان " تقييم حاجات اعادة الاعمار في العراق " وذلك في سنوات 2004 – 2007.

لقد مضى على هذه التجربة اكثر من ثلاث سنوات ، ولم يبق لاطارها الزمني سوى القليل . ولكن حسابات البيدر لا تطابق حسابات الحقل كما يقال ، إذ ان كثيرا من الوعود ظلّت حبرا على ورق . وبعيدا عن التعميمات فان التقييم الموضوعي لهذه التجربة يكشف لنا عن جملة حقائق :

الحقيقة الاولى : ان وتيرة التنفيذ لم تكن بمستوى الالتزامات المتفق عليها ، فما تحقق من الالتزامات يقل عن 50 في المئة (حوالي 15 مليار دولار) .

الحقيقة الثانية : ان جزءا كبيرا (حوالي 40 في المئة) من كلفة المشاريع المنفذة ذهب الى الامن والنفقات الادارية . ويشير بعض المصادر الى ان هناك حوالي 40 شركة اجنبية امنية خاصة ، تضم في صفوفها حوالي 25000 شخص يتقاضون رواتب واجورا عالية.

الحقيقة الثالثة: ان حصة اعادة اعمار الهياكل الارتكازية والمرافق الانتاجية والخدمات الاساسية (الكهرباء، النفط، مكافحة الفقر والبطالة ....الخ) كانت دون المستوى المطلوب .

ومن المفيد الاشارة الى ان الكثير من الجهات المانحة ، دولا ومؤسسات ، تبرر التأخر في تنفيذ تعهداتها بالاوضاع الامنية المتدهورة والنشاطات الارهابية ، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو : هل ان هذه الجهات لم تكن على دراية بالاوضاع هذه؟

الانضمام الى منظمة التجارة العالمية : ضرورة ام امكانية؟
منح قيام منظمة التجارة العالمية الاقتصاد العالمي سمات جديدة ، اسهمت في إكسابه ملامح تكشف جوهره الرأسمالي بصورة أكثر وضوحا ً. فقد أوكلت إلى هذه المنظمة ، ومعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ، إدارة وتنظيم العولمة المتعاظمة للحياة الاقتصادية ، وإكسابها وتيرة متصاعدة من خلال تحرير التجارة من جميع القيود ، وفقا لما تنص عليه اتفاقية المنظمة ذاتها ، وإعادة تشكيل نظام العلاقات الاقتصادية الدولية وفق مباديء وقواعد الليبرالية الجديدة. ونظراً لطبيعة توازنات القوى على صعيد المنظمة العالمية هذه ، يتعين على العراق أن ينسق مواقفه التفاوضية مع الجبهة الواسعة للبلدان النامية التي تخوض منذ سنوات مفاوضات حامية مع البلدان الرأسمالية الرئيسية. ويتطلب هذا رؤية واضحة ومحددة للطريق الذي تريد بلادنا أن تسلكه ، فالجدل حول انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية لن ينتهي إلا بانتهاء الجدل حول توجهها وهويتها الاقتصادية ، ويتطلب ذلك إجراء دراسات تفصيلية تحدد مدى انسجام الانضمام للمنظمة مع استرتيجية البلاد التنموية .

وفي كل الاحوال فإن دخول العراق الى منظمة التجارة الدولية في هذه المرحلة من التطور سيطرح امام اقتصاده طائفة من التحديات والاستحقاقات الاقتصادية الجديدة ، التي قد تصعب عليه مواجهتها .

والسؤال المطروح هو : هل أن الاقتصاد العراقي الذي يعيش أزمة بنيوية عميقة متمثله بضعف هياكله وأنشطته الانتاجية وطغيان الطابع الريعي عليه ، بسبب من الاستراتيجيات الخاطئة التي اعتمدها النظام المباد، والحصار الاقتصادي الجائر وكذلك السياسات المنتهجة بعد سقوط النظام ، هل انه قادر على مواجهة تلك الاستحقاقات والتحديات ، وخلق ديناميكيات تنموية جديدة تمكنه من احداث قطيعة فعلية مع الاوضاع الراهنة؟

خلاصات ودروس
ثمة خطابان لمعالجة أزمة الاقتصاد العراقي ، الاول موجه للمشاعر، لا يؤسس لمعرفة صادقة بالواقع الاقتصادي الكارثي ، بل ينحو إلى تبسيط المشكلات الفعلية ، ويتعامل معها كمشاكل "عادية" من النوع الذي يواجه اقتصاداً نامياً في طور الأزمة. ومثل هذا الخطاب لا يبصرنا بالمشكلات، إنما يعتم عليها.

أما الآخر فيشدد على ضرورة رؤية المشكلات الراهنة والمستقبلية بحجمها الفعلي ، ليس بهدف التعجيز، بل من أجل التفكير العميق بوسائل حلها.

ورغم اختلاف المتخصصين في الشأن الاقتصادي العراقي حول تشخيص الأزمة التي يعاني منها الاقتصاد العراقي وسبل معالجتها ، خصوصاً طبيعة الاصلاح الاقتصادي وإعادة الهيكلة المطلوبين ، إلا أن هناك اتفاقاً عاماً على أن بلادنا تحتاج الى عقود عدة بعد لحظة انطلاق العمل التنموي ، لكي تستطيع الوصول الى المستوى الذي كانت عليه عشية الحرب العراقية الإيرانية ، وإن حجم الدمار الذي تعرض له اقتصاد البلاد يحتاج الى استثمارات ضخمة تبلغ مئات المليارات من الدولارات.

ويرتبط إنعاش الاقتصاد العراقي مستقبلاً بمجموعة من العوامل ، أهمها العوائد النفطية ، وديون البلاد الخارجية ، وتعويضات الحرب ، والاستراتيجية الاقتصادية التنموية المطروحة .

ولابد من الاشارة الى أن مشكلة التنمية في بلادنا تكمن، أساساً، في الاستخدام السيئ للعوائد النفطية . لهذا فإن أي مشروع بديل يجب أن يعيد هيكلة القطاع النفطي ، ليكون أحد وسائل التنمية الاقتصادية وليس عبئا عليها. ومن هنا ضرورة بناء معادلة جديدة للتنمية ، تشدد أولا على تنمية مستدامة ومتوازنة ، وتأخذ بنظر الاعتبار حاجات التطور الاقتصادي الفعلية.

لقد بيـّنت التجربة التاريخية حقيقة مفادها أن الاعتماد الكثيف على النفط ، كمصدر وحيد للدخل والنقد الأجنبي ، انما يعكس هشاشة بنية الاقتصاد الوطني . ومن هنا ضرورة العودة الى اعتماد إستراتيجية للتنمية الاقتصادية – الاجتماعية ، تكفل تحويل القطاع النفطي من قطاع مهيمن ومصدر للعوائد المالية فقط (أي للتكاثر المالي وليس للتراكم) الى قطاع منتج للثروات ، يكون قطبا لقيام صناعات أمامية وخلفية تؤمن ذلك التشابك القطاعي المطلوب لتحقيق أنطلاق تنموي حقيقي .

ليست هناك حلول سحرية سريعة للمشكلات الفعلية التي يعانيها الاقتصاد العراقي. لهذا فإن نجاح استراتيجية التنمية يقترن اقترانا وثيقا باجراء تحليل اقتصادي – سياسي ذي مضمون اجتماعي ، يتعامل مع الطبيعة الشاملة للازمة القائمة. وبعبارة أكثر تبسيطا فإن السياسات المقترحة في الاستراتيجية لا بد أن تقوم على الفهم المتكامل للظروف والقوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية الرافعة وطرق تفاعلها ، وعدم تجاهل تطورات الاقتصاد العالمي ، والاستفادة من الجوانب الايجابية من العولمة مع العمل على تقليص آثارها السلبية.

ولا يمكن للمعالجات الاقتصادية، حصرا،ً أن تحقق الأهداف التنموية ما لم تقترن بسياسات وإجراءات تتناول البعد الاجتماعي ، وتركز على إشكالية الديمقراطية ومؤسساتها التي ينبغي أن توفر الشروط المثلى لتحقيق رقابة مجتمعية ، قادرة على مراقبة كيفيات التصرف بالعوائد المتأتية من تصدير النفط ، بما يخدم تحقيق التنمية بوتائر متصاعدة من جهة، ويؤمّـن التوزيع العادل لثمار هذه التنمية. ومن هنا أهمية الربط الصحيح بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في ظروف بلادنا الملموسة ، فذلك هو السبيل الوحيد القادر على إخراج بلادنا من محنتها وأزمتها البنيوية.

وتظل المديونية عبئاً ثقيلاً على موارد البلاد ، يتطلب معالجة جذرية . فرغم اختلاف التقديرات لحجم الديون التي تسبب فيها النظام السابق ، فإنها تقدر بعشرات المليارات من الدولارات ، وهي ستلقي بثقلها على اية سلطة جديدة وتجعل من قدرتها على الخروج من الازمة اكثر تعقيدا. لذا يصبح التحرك النشيط في المحافل الدولية لكسب أوسع تأييد لمطلب إلغاء هذه الديون أو خفضها إلى أدنى الحدود ، أمراً يحظى بأولوية خاصة . وقد أسفرت جهود الحكومة المؤقتة العراقية عن توقيع إتفاق في اطار نادي باريس ، يقضي بتخفيض ديون العراق بنسبة 80 في المئة على عدة مراحل ، مقابل التزام الحكومة العراقية بإجراء إصلاحات إقتصادية هيكلية على وفق شروط صندوق النقد الدولي وسياسات التكييف الهيكلي، التي تهدف إلى تحويل الاقتصاد العراقي تماما نحو اقتصاد السوق وإطلاق آلياته . وبموجب هذا الاتفاق ، الذي يرهن خفض الديون بإجراء الاصلاحات الاقتصادية ، يمارس صندوق النقد الدولي ضغوطه على الحكومة العراقية ، ويحد من حريتها في رسم السياسة الاقتصادية للبلاد.

وإذ يجب التمسك بكل ما تحقق على صعيد خفض وإلغاء الديون، ومواصلة المساعي مع الدول الدائنة الأخرى التي لم تفعل ذلك بعد ، فإن من غير المقبول أن تنزع أو تهدد قدرة الحكومة العراقية المنتخبة والمؤسسات التشريعية على رسم واعتماد الخيارات الاقتصادية والتنموية للبلاد، أو أن تفرض عليها سياسات تؤدي إلى إرهاق كاهل الفئات الشعبية ، وتضعف الانتاج وتشيع البطالة.

أما على الصعيد الاجتماعي، فإن أية استراتيجية يراد لها النجاح ، يجب أن تعمل على تحديد طبيعة الحاجات الأساسية والضمانات الاجتماعية للمواطنين ، كالخدمات الصحية والتعليمية الأساسية وتقديم الإعانات المالية في حالات البطالة والعجز عن العمل والشيخوخة. إن المظلة الاجتماعية مطلوبة في بلادنا الخارجة من سنوات القهر والقمع والحصار، التي تضررت خلالها قطاعات واسعة من مجتمعنا ، وينبغي أن تتوفر لها الشروط الضرورية لتجاوز التهميش ، ومن ثم الانخراط في الديناميكية الاجتماعية عبر تأمين العمل ، أو ضمان حد أدنى معقول من الدخل ، وبما يضمن الارتقاء بنوعية الحياة في البلاد.

وينبغي أن تحتل مهمة توفير فرص عمل جديدة مكانة خاصة في المرحلة الراهنة ، بسبب البطالة الواسعة وآثارها السلبية على الأفراد والمجتمع . ولا شك أن مكافحة البطالة تتطلب دعم إنشاء وتطوير المشاريع الإنتاجية والخدمية الصغيرة والمتوسطة ، التي تستثمر مزيدا من الأيدي العاملة ولا تحتاج إلى رؤوس أموال أو عملة صعبة كبيرة، ولكنها تساهم في معالجة العديد من المشكلات الاقتصادية.

ومن مقومات نجاح أية استراتيجية للتنمية ، التوزيع العقلاني للموارد الاقتصادية المتوفرة على صعيد الأقاليم والمحافظات، باعتماد منظومة من المعايير تجمع بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي ، وبما يضمن نمواً متوازناً لمختلف المناطق ، ويسهم في تقليص التفاوتات الاقليمية ، وتركيز الصناعات والمشاريع في مناطق جغرافية محددة دون اخرى ، الامر الذي يؤدي الى تنامي الشعور بالغبن والتهميش والاقصاء.

الى الاعلى

اوضاع الطبقة العاملة العراقية

تردت اوضاع الطبقة العاملة العراقية في ظل النظام الدكتاتوري المقبور بصورة مريعة وتفاقم استغلالها، خاصة من يعمل من العمال في المنشات والمؤسسات الحكومية وفي مقدمتها التصنيع العسكري ، وفي ظل تعطيل قوانين العمل وفرض التنظيم النقابي الرسمي ذي الطبيعة الامنية – القمعية ، واصدار القرار الجائر رقم 150 لسنة 1987 والقاضي بتحويل العمال في مؤسسات الدولة والقطاع العام الى موظفين .

- ونتيجة للتوقف الكلي او الجزئي لآلاف المشاريع الانتاجية والخدمية ، اضطر عشرات آلاف العمال الى البحث عن مصادر بديلة للعيش في شتى المشاريع الهامشية غير المنتجة ، واتسعت ظاهرة البطالة في صفوفهم

-واليوم وبعد اربع سنوات من انهيار النظام الدكتاتوري لم تتغير اوضاع العمال نحو الافضل ، كما كان التطلع والامل ،وما زالت الحكومة مطالبة بتوفير فرص العمل ومعالجة مشكلة البطالة وتطبيق قانون للضمان الاجتماعي، والعمل على الغاء القوانين والتشريعات التي تضر بمصالح العمال وتهدر حقوقهم .كما ان الحكومة مطالبة بتقديم كل اشكال الدعم والمساعدة والرعاية الى الطبقة العاملة وحركتها النقابية وان تتشاور مع ممثليها في الامور التي تمس بشكل مباشر حقوقهم ومصالح العمال ودورهم في بناء حاضر العراق ومستقبله .

الشبيبة العراقية-الواقع، التحديات، الحلول
سعى النظام الدكتاتوري خلال فترة حكمه الى أحكام السيطرة على المجتمع عموما ، وعلى شبيبته بصورة خاصة نظرا لكونها الشريحة الاكثر ديناميكية وفعالية في المجتمع ، حيث يمثل الشباب دون سن الرابعة والعشرين حوالي نصف المجتمع العراقي، وقد عانوا من حروب النظام وويلات حكمه الكثير. وكان شعاره سيء الصيت (نضمن الشباب لنكسب المستقبل) معبرا عن رؤيته هذه ، من خلال كسب الشبيبة لمفاهيمه المشوهة والمتخلفة ، وحرمانهم من الحرية مقابل اغرائهم بالامتيازات الوظيفية والمادية . وفي حال عدم نجاح تلك الوسائل في (الكسب) كان العنف الشديد والتنكيل هو البديل! ناهيكم عن العكسرة المفرطة للمجتمع والاقتصاد، والتي نالت الشبيبة منها حصة الاسد سلبا !

لم يكن النظام المباد يسمح بنشاط سوى للمنظمة الشبابية والطلابية التابعة لحزبه (الاتحاد العام لشباب العراق والاتحاد الوطني لطلبة العراق) ، وهما أتحادان للسلطة، بأمتياز، هدفهما حصر الشبيبة ووضعهم تحت مجهر أجهزة النظام الامنية والمخابراتية ، ومراقبة نشاطاتهم وسلوكهم .

من جهة أخرى كان لتدهور الاوضاع الاقتصادية أبان فترة الحصار الظالم على العراق، دور في أنتشار الروح العدمية وفقدان الامل وتبدد الشعور بالمسؤولية تجاه الهم العام . وقد سبب ذلك ايضا هجرة واسعة الى الخارج ، ضيـّعت طاقات وامكانيات شبابية هائلة. ومن جهة أخرى نمّت هذه السياسات عند شرائح أخرى من الشبيبة الروح الانتهازية والوصولية ، والاقبال على حرق المراحل من أجل تحقيق أهدافهم الحياتية (التملك ، الزواج ، السفر..الخ).

أن تصرفات النظام المباد في مجالي السياسة والاقتصاد أدت بمجملها الى خلق قطاعات لا يستهان بحجمها من الشبيبة مشوهة الوعي، لا تشعر بالارتباط بالوطن، او بأنها معنية بالمجتمع، وهي تنحا في اتجاه الهويات الفرعية، ساعية لأعادة أكتشاف الذات أو لحفظ الذات التي شوهها النظام.

أستبشر العراقيون ، ومنهم الشبيبة ، خيراً بسقوط النظام . وعقد الجميع الامل بتحقيق مستقبل أفضل يرفلون فيه بالحرية والرفاهية والكرامة. لكن تدهور الوضع الامني والاقتصادي ، والممارسات السياسية المبنية على المحاصصة الطائفية ، اسهمت في خلق شعور باليأس والاحباط . وطبيعي ان هذه المشكلات لم تكن وليدة اللحظة ، بل كانت استمرارا طبيعيا لمرحلة الدكتاتورية ، وقد سعى البعض من القوى السياسية لاستثمارها في الوصول الى مكاسب ضيقة.

ويمكن باختصار تأشير أهم ملامح واقع الشبيبة وصعوباته في المرحلة الراهنة :

* شعور قطاعات واسعة من الشبيبة بالاحباط وفقدان الامل ، وضعف الانتماء الوطني ، وتأثر بعض المجموعات بالاطروحات الطائفية.

* أنتشار البطالة في صفوف الشبيية بشكل واسع .

* تنوع الاتحادات و المنظمات الشبابية ، وارتباط بعضها بالاحزاب السياسية ذات الطابع الطائفي و القومي ، واعتمادها اسلوب الاغراء ( المادي و المعنوي ) لكسب الاعضاء .

* - الهجرة الواسعة للشبيبة خارج الوطن بحثا عن فرص عمل أفضل أو عن الامان او عن كليهما

* - ضعف تأثير التيار الديمقراطي في الحياة السياسية، الذي اضعف بدوره انتشار الافكار الديمقراطية في اوساط الشبيبة .

* - ضعف الامكانات المالية للمنظمات الجماهيرية الديمقراطية ، الذي أدى الى ضعف فعالياتها الجماهيرية والترفيهية والرياضية ، ومن ثم تأثيرها .

* تشرذم قوى الشبيبة المؤمنة بالديمقراطية والتقدم ، وعدم تجمعها في أتحاد أو تنسيق جهود أتحاداتها .

* انتشار العفوية في تنظيم ونشاط المنظمات الشبابية ، بعيداً عن الوعي وعن اتباع أساليب فاعلة في التنظيم ، ورسم منهجية وبرامج واقعية و علمية لقيادة العمل اليومي للشبيبة . هذا اضافة الى تنامي الطبيعة الموسمية في العمل النضالي في اوساط الشبيبة.

* تدهور واقع الخدمات والامن والمستوى الاقتصادي ، وما ادى اليه من انكفاء الشبيبة واثقالهم بهموم الحياة اليومية وتفاصيلها المعقدة، على حساب الهم العام والنضال المطلبي اليومي . وقد أشارت أحدى الدراسات الى أن حوالي 87 في المئة من الشبيبة يعانون من مشاكل في الجوانب الأقتصادية والأجتماعية والامنية .

* تدهور مستوى التعليم وتخلف المناهج الدراسية وطرق التدريس ، وعدم وجود أفق واضح ومشجع للخريجين ، وما سببا من أزمة ثقة بالمستقبل، ودفعا كثيرين الى الهجرة والبعض حتى الى الانخراط في النشاط الارهابي .

* وقوع المرأة الشابة ضحية التطرف والأفكار المتخلفة وتدهور الامن والوضع الأقتصادي ، مما أدى الى غياب شبه كامل لدورها المؤثر.

* قلة الزيجات و أرتفاع نسب الطلاق في صفوف الشبيبة ارتباطا بالأوضاع الأقتصادية والأمنية ، وهو ما أضاف بعداً آخر للازمة التي تعيشها المرأة ، خصوصا الشابة .

أن الكثير من المشاكل المتصلة بشريحة الشبيبة له أرتباط مباشر بالواقع العام في البلاد ، خاصة بالاوضاع الأمنية والأقتصادية والخدماتية ، لذلك فأن حلها يرتبط بحل القضايا الاجتماعية على مستوى البلاد . وان التغلب على المشكلات المشار اليها يتطلب، في اعتقادنا، اتخاذ جملة اجراءات وتدابير، نورد منها :

* الأرتقاء بالمناهج التعليمية وطرق التدريس لتطوير قدرات الشبيبة العلمية. وهذا لا يتحقق الا من خلال بلورة استراتيجية وطنية شاملة لترقية الشبيبة وتفعيل دورها، والانفتاح على التجارب العالمية في هذا المجال .

* تعميم ثقافة حقوق الانسان والتسامح في المدارس والجامعات ، ومعاقبة كل من يروج للفكر الطائفي والعنف قضائيا .

* الأهتمام بالمنتديات الشبابية ودعمها مادياً ، وجعلها أماكن لتجمع الشبيبة (من كلا الجنسين) لإطلاق أبداعهم الفكري و الثقافي ، بعيداً عن العنف والتسلكات الضارة اجتماعياً، وتوفير الأمن والحماية لها.

* الأهتمام بالرياضة وتأهيل الملاعب الشعبية ، ودعم الفرق الرياضية في المناطق السكنية ورفدها بالتجهيزات الرياضية ، وأستخدام الأساليب العلمية في التدريب والتأهيل . كذلك أعادة فتح الاندية الرياضية وتأهيلها .

* دعم وتطوير دور المرأة الشابة من خلال :

-تعميم ثقافة مساواة المرأة في المناهج التعليمية .

-احترام حقوق المرأة في العمل والأحوال الشخصية ، وتثبيت ذلك في تشريعات .

-الأهتمام بأماكن الترفيه ( متنزهات ، مسارح ، دور سينما ) واعادة تأهيلها وتوفير الأمن فيها ، وفسح المجال أمام العوائل و الشبيبة لارتيادها من دون تدخل .

-الارتقاء بالواقع العلمي والمهني للشبيبة (خاصة العمالية) وتنظيم دورات متخصصة لرفع مستوى وعيهم وانتاجيتهم وتنويرهم بالتطورات التكنولوجية المعاصرة .

-العمل على زيادة البعثات الدراسية والدورات التأهيلية الى الخارج وتوسيعها لتشمل أختصاصات متنوعة ، وتوزيعها وفق الكفاءة و الحاجة الحقيقية للبلد ، بعيداً عن المعايير الطائفية والحزبية والمناطقية أو المحسوبية .

-وضع استراتيجية وطنية لتشغيل الشباب ، والعمل على تأسيس برنامج (صندوق) لدعم مشاريع الشبيبة (الصغيرة والمتوسطة) لامتصاص البطالة واطلاق الابداع الذاتي للشبيبة .

-الدعم المادي للمتزوجين الجدد من خلال توفير السكن والسلع المعمرة لهم ومنحهم قروضا ميسرة

المرأة العراقية تواصل النضال رغم الصعوبات
توصل المؤتمر الوطني السابع لحزبنا في سياق معالجته اوضاع المرأة العراقية في عهد النظام الدكتاتوري ، الى انها ظلت تتعرض الى مختلف اشكال العنف الاسري والاجتماعي ، وتواجه مختلف مظاهر الفساد، فضلا عن مساعي الافساد - واخطره الافساد المبرمج الكثيف ، الذي كانت تنفذه اجهزة السلطة ومنظماتها " الاجتماعية "- مستغلة ظروف الفقر والحاجة الشديدين المنتشرين ، وملوحة بالاغراءات والهراوات في آن واحد! وعملت السلطات الدكتاتورية، بجانب ذلك، على بعث الحياة في الافكار والعادات والتقاليد البالية، التي تذل المرأة وتدعو وتعمل على تخلفها وتنقض مبدأ مساواتها بالرجل ، وتبرر الظلم والعنف بحقها في العائلة، وفي بيت الزوجية، وكأم، وكمطلقة..الخ، واصدرت تشريعات وتعليمات تكرس ذلك. واسهم الدكتاتورصدام حسين شخصيا في الحملة الرامية الى سلب المرأة العراقية واحدا من اهم المنجزات التي انتزعتها في العقود السابقة بنضالها، وبدعم من قوى المجتمع الحية والتقدمية جميعا، والمتمثل في تحررها من حبس البيت وخروجها الى الحياة العامة وخوضها ميادين العمل والنشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وذلك حين دعا علنا، في حزيران 2000 لعودتها الى البيت والبقاء و"العمل" فيه!

لقد عانت المرأة ، في المدينة والريف ، ابان عهد النظام الدكتاتوري من تمييز مضاعف . فبالاضافة الى سياسة التهميش والاقصاء الموجهة ضدها كانت ضحية حروب الحكام الخارجية والداخلية ، التي تركت آثارها الاجتماعية والنفسية الثقيلة عليها. وتكفي الاشارة الى ما ذكرته الاحصائيات من انه ولغاية شباط 2002 كان يوجد في العراق أكثر من 5 ملايين و 200 ألف طفل يتيم ، يعيشون في كنف أرامل وثكالى ، ومعظمهم يعاني من سوء التغذية والأمراض المزمنة والإنتقالية، وقسم كبير منهم من ذوي الإحتياجات الخاصة .


والى جانب معاناة الكثيرات كونهن من زوجات الضحايا والمفقودين والمغيبين والاسرى في الحروب وفي السجون والمعتقلات ، كانت هناك معاناة غيرهن من حالات العزوبية التي استشرت في المجتمع جراء عزوف الشباب عن الزواج بسبب الظروف الاقتصادية الصعبة.

وما أنفكت الأوضاع الأمنية السيئة في عموم العراق بعد سقوط النظام الدكتاتوري ، خاصة أعمال التخريب والتفجيرات والقتل الجماعي ، تحصد يومياً أرواح الأبرياء من الأطفال والنساء، فيتزايد عدد الأمهات الثكالى والأرامل ، وعدد الأطفال اليتامى .

ويذكر تقرير صادر عن مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية وجود مئات الآلاف من الارامل في العراق ، فيما تؤكد سجلات وزارة شؤون المرأة وجود اكثر من 300 الف ارملة في بغداد وحدها ، وان 90 الى 100 امرأة عراقية يترملن كل يوم بسبب اعمال القتل والعنف الطائفي والجريمة المنظمة والإرهاب . وتشكل نسبة الارامل نحو 35 في المئة من نفوس العراق، ونحو 65 في المئة من نساء العراق، ونحو 80 في المئة من النساء المتزوجات بين سن العشرين والاربعين، وهو سن الخصوبة والإنجاب.

ومع تفاقم الأزمة الإقتصادية والإجتماعية ، وتدهور المؤشرات المعيشية ، وتنامي البطالة بوتائر متصاعدة ، تعاني الأمهات الأمرّين، خاصة منهن الأرامل ، اللواتي يتحملن أعباء إعالة أطفالهن اليتامى.

وفي ظروف استمرار الازمة الاقتصادية والضائقة المعيشية وما يرافقها من تفكك أسري، وكثرة حالات الطلاق والانفصال بين الازواج ، انتشرت وتفاقمت ظواهر خطيرة اخرى، مثل تسرب الاطفال واليافعين من المدارس واضطرارهم للعمل من اجل مساعدة اسرهم علىمواجهة اعباء الحياة . ويجري تشغيل الصغار، والاحداث على نطاق واسع، وفق شروط عمل مجحفة ، وباجور زهيدة جدا ، وهم يتعرضون خلال ذلك الى صنوف الاذى الجسدي والنفسي والاخلاقي . وادى ذلك الى انتشار ظواهر اخرى اشد خطورة في اوساط الاطفال والاحداث ، مثل تناول الحبوب المهدئة والمواد المخدرة ، وازدياد حالات الجنوح وممارسة الجريمة ، خاصة في الاحياء الاشد فقرا، وتسول الاطفال ، وتجارة الاعضاء البشرية.

بعد انهيار النظام السابق كانت قطاعات واسعة من النساء تتطلع الى تجاوز الحيف والتهميش الذي لحق بهن وبالمرأة العراقية عامة . لكن مسار الاحداث الفعلي يبيـّن ان تحقيق هذا الامل يصطدم بعوائق جدية . وفي ظل الاوضاع الامنية المعقدة وما يرافقها من أزمة بنيوية وفوضى اقتصادية ودور العديد من القوى التي تنظر للمرأة نظرة دونية ، يتوجب بذل المزيد في مواجهة الجهود الرامية الى تحجيم دور المرأة والى الابقاء عليها حبيسة البيت.

ان التصدي لهذه الظروف والتغلب على الصعوبات التي تواجهها المرأة ، يتطلبان العمل على تحقيق ما يلي :

* مواصلة السعي لتخليص الدستور من الثغرات التي يعاني منها في حقل المرأة ، بما يكفل المساواة التامة بين المرأة والرجل في كل الميادين والمستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والفنية دون استثناء. والتمسك بقانون الاحوال الشخصية 188 لسنة 1959 المعدل .

* إلغاء جميع القوانين المخالفة للائحة حقوق الإنسان واتفاقية القضاء على كافة اشكال التمييز ضد المرأة ( سيداو ) ، وتلك التي تستهين بدور المرأة ومكانتها في المجتمع أو تشرع التمييز ضدها.

* دعم جهود المراة للحصول على فرص عمل وضمان استقلالها الاقتصادي ، وتأمين أجر مساو لأجر الرجل في العمل المتماثل.

* تأمين فرص مناسبة لمساعدة المرأة في تحمل أعباء تربية الأطفال مع الرجل ، ومن خلال فتح دور الحضانة ورياض الأطفال ... الخ.

* خلق الظروف المناسبة التي تكفل للمرأة احتلال موقعها المناسب في مختلف المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، وتفعيل دورها في البرلمان ، وتخصيص نسبة مناسبة لها تقترب تدريجاً، ومع تطور دورها، من نسبتها الى عدد السكان .

تطورات الوضع في اقليم كردستان – العراق
شهدت الفترة التي تلت انعقاد المؤتمر الوطني السابع لحزبنا تطورات هامة في اوضاع اقليم كردستان، تناول الحزب الشيوعي الكردستاني - العراق (حشكع) جانبا منها في التقرير السياسي المقدم الى مؤتمره الثالث ( نيسان 2004). فقد تحسنت العلاقات بين قيادتي الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (أوك)، وتوسع التعاون والتنسيق بينهما، وتحققت، من ثم، خطوات ايجابية في اتجاه توحيد ادارتي اربيل والسليمانية في حكومة موحدة للاقليم .

وتحسنت علاقات الحزبين مع الاحزاب الاخرى في الاقليم ، واسهم ذلك بدوره في تقدم عملية تطبيع الاوضاع وتحقيق المصالحة الكردستانية ، وتسريع عملية توحيد الادارتين ، التي غدت مطلبا جماهيريا ملحا ، يتيح تمتين الجبهة الداخلية في المرحلة الهامة الراهنة التي تعيشها البلاد، مرحلة بناء العراق الجديد على اساس الاتحاد الاختياري ( الفيدرالي ) الديمقراطي .

وفي اطار التوجه نحو التطبيع والتوحيد تمت دعوة برلمان الاقليم للانعقاد واختيار رئاسة له ، والاتفاق على تشكيل الحكومة الموحدة للاقليم ، مع ارجاء عملية توحيد كافة الوزارات مؤقتا، وعلى ان ينجز كل شيء كاملا خلال عام من التوصل الى الاتفاق . ومن المؤمل ان تعزز هذه التطورات التجربة الديمقراطية في الاقليم ، وان تسهم في تحقيق منجزات جديدة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية وغيرها.

وخلال الاشهر الماضية ، باشرت المؤسسات الدستورية : المجلس الوطني الكردستاني ، رئاسة الاقليم ، الوزارة الجديدة الموحدة للاقليم وذات التمثيل الواسع ، مهامها ووضعت ضمن اولوياتها توفير الخدمات واعادة بناء هياكلها التنظيمية والادارية.

واعلنت حكومة الاقليم برنامجها ، وباشرت تشكيل العديد من اللجان لدراسة ومعالجة اوضاع السوق والارتفاع الجنوني للاسعار والايجارات ، والخلل في التوازن بين الاسعار والاجور ، ومسألة زيادة الضرائب . هذا الى جانب اعادة النظر بالفائض في الملاك الحكومي ، وايقاف التوظيف العشوائي ، والغاء التزكيات الحزبية في التعيين، ومنع تدخل الاحزاب في شؤون الادارة ، ووضع التشريعات والقوانين الجديدة للوزارات ومؤسسات الحكومة، والتوجه لمعالجة الازمات المزمنة في الخدمات وفي تأمين السلع الاساسية : المحروقات ، الكهرباء ، والماء ، فضلا عن مواصلة الجهد لضمان الامن والاستقرار في الاقليم .

وقد تشكل مؤخرا المجلس الاعلى للاحزاب السياسية في اقليم كردستان – العراق من رؤوساء وسكرتاري الاحزاب العاملة في الاقليم لدراسة الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على ان يتخذ قراراته بالتوافق ويرفعها كتوصيات الى المجلس الرئاسي لاقليم كردستان .

ونتيجة للتوسع في حركة الاعمار والبناء فقد ازدادت اعداد الشركات العاملة في الاقليم وتوفرت فرص عمل جديدة لأيدٍ عاملة من الفنيين والعمال من جنسيات متنوعة ، جاوزعددها الخمسة عشر الفا. والى جانب ذلك شهد الاقليم خلال الفترة الماضية نشاطا واسعا لجهة عقد المؤتمرات والمهرجانات والمعارض العلمية والثقافية والفنية.

ورغم هذه التطورات ظل الاقليم يعاني من مشاكل مزمنة ، بعضها ذو صلة بمجمل الاوضاع في العراق . ونتيجة لعدم نجاح حكومة الاقليم في ايجاد الحلول الناجعة لتلك المشاكل ، فقد شهدت مدن وقصبات في الاقليم تحركات جماهيرية احتجاجية اتخذت اشكالا مختلفة . وخلال بعض تلك التحركات حصلت مواجهات بين اجهزة الحكومة والمتظاهرين . وفي هذا الشأن اكد الحزب الشيوعي الكردستاني- العراق ان التظاهر حق طبيعي للمواطن وممارسة ديمقراطية ، الا انه رأى في تخريب المؤسسات العامة ظاهرة غير حضارية ، ودعا الحكومة الى مراعاة تطلعات الجماهير والسعي لمعالجة مشكلاتها . وفي هذا السياق اتخذت الحكومة عدة اجراءات للتخفيف من ازمة الوقود ، وقامت بزيادة رواتب ومخصصات المعلمين والمدرسين .

وفي المقابل تكررت الاعتداءات التركية والايرانية على قرى ومدن كردستانية بذريعة تصفية وجود حزب العمال الكردستاني (التركي) ، واوقع ذلك اضرارا بشرية ومادية ، الامر الذي لا بد من ادانته والتاكيد على معالجة المسألة بعيدا عن الحملات والاعتداءات العسكرية واستخدام المسألة ذريعة للتدخل في شؤون الاقليم خاصة، والعراق عامة .

في هذه الاجواء، وانطلاقا من طبيعة المرحلة الراهنة، ومن الظروف المحيطة بالقضية القومية الكردية وارتباطها الوثيق بقضية الديمقراطية في العراق، ونظرا الى حجم المهام المطروحة في هذه المرحلة غير العادية حيث يتداخل الوطني بالديمقراطي ، سعى الحزب الشيوعي الكردستاني لتكوين اطر تحالفية او تنسيقية تستطيع التصدي لانجاز مهمات المرحلة الانتقالية الراهنة . ويتعلق الامر قبل كل شيء بايصال العملية السياسية الجارية في البلاد الى غايتها، وخوض الانتخابات الوطنية العراقية (وحتى الانتخابات المحلية الكردستانية) بقائمة ائتلافية مع الاحزاب الكردستانية الاخرى ـ وهو ما تحقق بالفعل . ومن شأن ذلك ان يعزز التوجه الى بناء الدولة والنظام السياسي الجديد في العراق على اساس الاتحاد الاختياري (الفيدرالي) الديمقراطي، الذي يجسد احترام حقوق الانسان وحقوق القوميات كافة وسائر الانتماءات السياسية والفكرية والعقائد الدينية .

لقد اكد حزبنا مرة بعد اخرى الترابط الوثيق بين النضال من اجل الديمقراطية في العراق وتمكين الشعب الكردي من تقرير مصيره بارادته الحرة، وضمان تمتع اقليم كردستان بالفيدرالية المنصوص عليها دستوريا ، وضمان الحقوق القومية للتركمان والاشوريين والكلدانيين والسريان والارمن، وازالة كل ما يسمم اجواء التنوع والتسامح القومي والديني والطائفي والمذهبي والسياسي والفكري لشعبنا.

انهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية
ادى سقوط النظام بالطريقة التي سقط بها ، عن طريق خيار الحرب الذي عارضه حزبنا ، ثم احتلال الامريكان بلادنا وشرعنة هذا الاحتلال بصدور القرار 1483 عن مجلس الامن، ادى ذلك كله الى نشوء واقع جديد في بلادنا ، يجسده الاحتلال والحكم الاجنبي .

وكما اشرنا من قبل فان شعبنا رغم ابتهاجه بالخلاص من صدام حسين ونظامه ، لم ينثر الورود ابتهاجا بدخول القوات الأجنبية ولم يستقبلها بالأحضان. وهو يتطلع إلى إنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية .

أن مقاومة الاحتلال حق يكفله ميثاق الأمم المتحدة . وهي حق للشعب العراقي الذي وقع تحت سلطة الاحتلال وفقا لقرار مجلس الأمن 1483، وله ان يمارس أشكال النضال المختلفة ، لإنهاء الاحتلال واستعادة السيادة الوطنية . لكن مقاومة الاحتلال لا تعني اعتماد الأساليب العنفية وحدها، وإنما تشمل كذلك الأشكال المتنوعة للنضال السياسي السلمي . وتعلمنا التجارب ان الشعوب لا تلجأ إلى الكفاح المسلح إلاٌ حين تضطر إلى ذلك بعد استنفاد الوسائل السلمية.

وتكاد القوى الوطنية العراقية بكل أطيافها، ومنها حزبنا، تجمع على أن الأساليب العنفية ليست الأنسب والأجدى في ظروف بلادنا اليوم ، وطالما لم تستنفد الصيغ السلمية.

بل أن من شأن العمليات المسلحة في الظروف الراهنة، والعوامل المتداخلة فيها، ان تلحق الضرر بالهدف المتوخى ، والمتمثل في الخلاص من الاحتلال في أسرع وقت ممكن . فهي توفر المبرر للقوى المحتلة لإطالة أمد بقائها في بلادنا ، وتديم أجواء التوتر والقلق والخوف في أوساط شعبنا ، وتضر بالجهود الرامية إلى تهيئة شروط ومستلزمات انهاء الاحتلال وبضمنها وضع جدول زمني لجلاء قواته.

وليس غريباً أن تستثير تجاوزات قوات الاحتلال وممارساتها واستخدامها المفرط للقوة ، ردود فعل عنيفة تأخذ شكل عمليات مسلحة .

وإذ يتوجب التمييز بناء على ذلك بين الجماعات والقوى التي تقوم بالعمليات المسلحة ، ينبغي في الوقت عينه ادراك أن العنف المضاد والأساليب القسرية وحدها لا تستطيع القضاء على العمل المسلح . انما السبيل الى ذلك يمر عبر معالجة شاملة، تفضي في النهاية الى تهيئة مستلزمات انهاء الوجود العسكري الاجنبي واستعادة السيادة الكاملة . وهذا يتعارض تماما مع الاعمال الارهابية والتخريبية التي تشمل المواطنين الابرياء والمنشآت والمؤسسات والمرافق الاقتصادية والخدمية ، فضلا عن العسكرية والامنية .

من جانب ثانٍ اكد حزبنا اهمية انجاح العملية السياسية والوصول بها الى نهايتها ، باعتبار ان ذلك يسهم في تهيئة الظروف والمستلزمات لانهاء الاحتلال ووجودالقوات الاجنبية . كما طالب الحكومة بوضع جدول زمني لانجاز هذه المهمة ، ودعاها الى ممارسة حقها السيادي والحيلولة دون حدوث المزيد من التجاوزات والانتهاكات من جانب تلك القوات ، والعمل على استعادة السيطرة الكاملة على موارد البلاد والتحكم باستخدامها وفقا لحاجات البلاد وأولوياتها ، وصولا إلى استعادة السيادة الوطنية الكاملة.

ولعل من أهم شروط استكمال السيادة الوطنية ، السيطرة على الملف الأمني وإدارته وفق أولويات المصلحة الوطنية ، والتعامل معه باعتباره جزءا عضويا من سلسلة ملفات اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية واعلامية ، تسهم مجتمعة في تجفيف منابع الارهاب ، وتقلص تدريجيا القوى التي يستند اليها ، وتخلق الشروط الكفيلة بتحسين مجمل الاوضاع ، بما يؤثر ايجابا في الوضع الامني ذاته . ولا شك ان تحقيق التقدم على هذه الصعد سيتيح تحديد اجندة واضحة لرحيل القوات الاجنبية، وخلق المستلزمات المادية والسياسية لذلك.

نحو معالجة شاملة للملف الامني
توقف حزبنا باستمرار امام هذا الملف الشائك والبالغ التعقيد ، الذي ما زال يشكل الهاجس الاساسي للمواطن العراقي ، ومصدر القلق لكل فئات وشرائح المجتمع .

واستنادا الى تحليل ملموس لهذا الملف يتوجب القول ان الوضع الامني في البلاد لم يتحسن ، رغم ما تم اتخاذه من اجراءات وما تم تنفيذه من حملات وما وضع من امكانيات تحت تصرف القوى الامنية ، لا سيما في بغداد ، بل على العكس سجل تدهورا ملحوظا في مناطق عديدة ، وفي بعضها حتى لم يعد ثمة وجود لفعل الدولة ومؤسساتها، وخصوصا الامنية منها .

من جانب اخر تبقى اهداف العمليات الارهابية هي نفسها ، في السعي لاشاعة اجواء الخوف والتوتر ، ومفاقمة الاحتقان الطائفي والاجتماعي ، وسلب الاموال ، وخلط الاوراق ، ومن ثم اجهاض العملية السياسية وشل الحياة العامة . و في بعض المناطق اخذ استخدام العنف والقوة ابعادا اخرى لها صلة بتقاسم مناطق النفوذ والهيمنة والحصول على المغانم . كما يلاحظ ان بعض العمليات الارهابية يتم توقيتها لتحقيق اهداف سياسية معينة ، فيما تستهدف عمليات اخرى تكوين مناطق من لون طائفي واحد عبر التهجير الجماعي القسري لذوي اللون المغاير.

ويجري تنفيذ الكثير من عمليات الخطف والقتل والتصفيات بملابس الجيش والشرطة وباسلحتهما وسياراتهما، الامر الذي يعزز الشعور بالقلق وعدم الثقة لدى المواطنين. وقد خفت تلك الظواهر عند انطلاق حملة فرض القانون.

ويبقى تدخل بعض دول الجوار واضحا في الملف الامني ، ويتم ذلك عبر الدعم المالي واللوجستي والتسليح والتدريب وغير ذلك . في حين لا تزال اجهزة الدولة المعنية دون المستوى الضروري للتصدي بنجاح لقوى الارهاب ، ولفرض الامن والاستقرار. ويعود ذلك الى اسباب عديدة ، لعل في مقدمتها الخلل الكبير في تركيب تلك الاجهزة ، وفي بنائها على اسس بعيدة عن روح المواطنة والمهنية ، فضلا عن ضعف التسليح والتدريب .

وازدادت عمليات العنف والخطف والقتل على اساس الهوية ، لتزيد من تعقيد الوضع ، خاصة منذ تفجير مرقد الامامين في سامراء ، وهي تأخذ في بعض المناطق طابعا منظما.

ولاهمية معالجة الملف الامني فقد ساند حزبنا ودعم خطة فرض القانون على ان تشمل كافة مناطق العاصمة وتمتد الى سائر ارجاء الوطن ، مؤكدا ان معالجة الملف الامني صعبة التحقيق من دون حزمة متكاملة من الاجراءات العسكرية والامنية والسياسية والاقتصادية والاعلامية والثقافية. وقد بينت التجربة ان العمل العسكري، على اهميته، لن يفلح بمفرده في ضبط هذا الملف والقضاء على النشاط الارهابي والاعمال التخريبية

ان تحقيق أي تقدم جدي على صعيد هذا الملف مشروط باتخاذ خطوات جريئة وحازمة على طريق المصالحة الوطنية وحل الميليشيات وإزالة أجواء الاحتقان الطائفي ، وستكون لذلك انعكاسات ايجابية على سائر الملفات الاخرى .

ضرورة انهاء دور المليشيات
اكد حزبنا ان المليشيات ظاهرة غير صحية ، ولا يمكن بوجودها ان تستقيم الامور وتتوفق العملية السياسية وتترسخ الممارسة الديمقراطية . بل ان وجودها، بحد ذاته، يؤشر ضعف الدولة ومؤسساتها الامنية .

وقد تعاظم دور المليشيات ، حتى حلت في احيان وحالات كثيرة محل مؤسسات الدولة . ويعني هذا ما يعنيه من تغييب لدورالدولة واضعاف لهيبتها وعرقلة لتاسيس دولة القانون والمؤسسات وتخريب للديمقراطية.

وبعد احداث سامراء اخذ نشاط المليشيات يرتدي ، بصورة متزايدة ، طابعا طائفيا ، وتجلى ذلك في ارتكاب جرائم الخطف والتعذيب والتهجير القسري وحتى القتل ، تبعا للهوية المذهبية .

ووجد البعض في العمل لدى المليشيات مهنة تؤمن له القوت ، في وقت تستشري فيه البطالة، وتعزّ فرص العمل . فيما تشير معطيات اخرى الى تحول قسم من تلك المليشيات الى مافيا جريمة منظمة.

وثمة حجج تساق لتبرير وجود الميليشيات بدعوى انها تحمي أبناء الطائفة المعنية، وأنها نشأت كرد فعل على تجاوزات واعتداءات ميليشيات الطرف الآخر ، وأن وجودها يعوض غياب اجهزة الدولة الموثوقة. ولكن واقع الحال يشير إلى أنها لم تضمن أمن أيٍّ من الطوائف والمكونات التي تدعي حمايتها ، كما أن أفعال كل منها أصبح بدوره يثير ردود فعل مقابلة ، مطلقاً مسلسل عنف وعنف مضاد دموياً ، راح ضحيته الآلآف من الأبرياء من جميع مكونات الشعب ، حتى باتت أعمال الميليشيات تمثل عائقاً رئيسياً أمام جهود بناءمؤسسات وأجهزة الدولة وبسط سيطرة القانون وتأمين السلم المدني.

الاستقطاب الطائفي ومخاطره
تناول حزبنا في مناسبات مختلفة ظاهرة الاستقطاب الطائفي ومخاطرها على حاضر العراق ومستقبله، في ضوء حقيقة ان مجتمعنا متعدد القوميات والاديان والطوائف والمذاهب ، وان دوام انسجام مكوناته وتماسكها مرهون بالتطبيق الصارم لمبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات ، ونبذ التعصب والانغلاق، ورفض تكريس الولاء الطائفي بديلا عن الهوية الوطنية وعن الولاء للعراق كوطن للجميع.

وواضح أن تفاقم التوترات الطائفية ، التي اسست لها الدكتاتورية المنهارة ومارستها ، ناجم في جانب منه عن سياسات الاحتلال واجراءاته ، ولجوئه الى التصنيف الطائفي والقومي لمجتمعنا على نحو كرس الانقسام ، وشكل عائقاً جدياً أمام معالجة الآثار البغيضة لنظام الاستبداد.

لكنه من جانب اخر، حصيلة لاستمراء بعض القوى السياسية نهج الاستقطاب الطائفي والقومي ، بديلا عن البرامج السياسية ، في المنافسة مع القوى الاخرى للوصول الى السلطة والتحكم بمراكز القرار فيها . وقد تجلى ذلك بوضوح خلال الحملات الانتخابية في اعتماد اسلوب التهييج الطائفي، والسعي الى تأمين الفوز عن طريقه .

وتبذل قوى الإرهاب من جانبها جهودا هائلة لإثارة ومفاقمة مشاعر العداء والكراهية الطائفيين، ولاستثمارها في معركتها الوحشية لاحباط مساعي بناء الديمقراطية في العراق . ولم يكن الاعتداء على مرقد الامامين في سامراء ، وما تلاه من ردود فعل ، سوى دليل اخر على هذا التوجه الاجرامي الخطير، الذي يتوجب تكثيف الجهود لقطع طريقه.

وما زالت الصراعات الطائفية ، التي تفاقمت في الفترات الاخيرة ، تتفاعل بوتيرة ملحوظة وتاخذ ابعادا خطرة، تهدد مجمل العملية السياسية . و تعاني من ذلك على وجه الخصوص، المناطق المتداخلة طائفيا مثل بغداد، ديالى ، البصرة وغيرها. ففي الكثير من مناطق هذه المحافظات حصل فرزعلى اساس طائفي، رافقته انتهاكات فظة وعنف وعمليات تهجير قسرية متبادلة.

ويمثل اشتداد الاستقطاب الطائفي تهديداً كبيراً للعملية السياسية ، لكونه يقسِّم القوى المشاركة فيها ويؤجج نقاط الخلاف ويسهم في خلط الأوراق ويخلق ثغرات جدية ينفذ منها التكفيريون والصداميون والارهابيون ورجال المليشيات ، ويضعف العمل من اجل تحقيق الاهداف الوطنية .

ولابد من الاقرار بان شرخا كبيرا قد حصل، واندلعت صراعات فاقت الحدود في شدتها ، وليس من السهولة احتواؤها . ويحتاج الامر الى مقاربات متعددة وحلول مرنة تتطلب ارادة ومواقف سياسية واضحة وصريحة وتنازلات متبادلة ، وان تكون القوى ذات النفوذ والتاثير، ولاسيما تلك المشاركة في الحكم ، اول من يقدم عليها .

وتبقى الحاجة قائمة الى مزيد من التحرك والضغط في كل المجالات الممكنة ، باتجاه خلق مناخات تساعد على تجاوز الوضع المأزوم ، وتحول دون أي تدهور خطير فيه.

الهجرة داخل العراق وخارجه
لاسباب مختلفة تتواصل هجرة العراقيين داخل العراق وخارجه وتتزايد اعداد المواطنين الذين يتركون بلدهم تحت وطاة تأثير الاوضاع الامنية المتردية وتفاقم حالة الاستقطاب الطائفي والقتل والخطف والتهجير القسري على الهوية ، يضاف الى ذلك الصعوبات الاقتصادية وقلة فرص العمل وتردي الخدمات ،كما كان للعنف والاحتقان الطائفيين دورهما البارز في الهجرة الداخلية وما زال المهجرون قسرا يعانون الكثير .وشملت الهجرة اعدادا كبيرة من المثقفين والمختصين والكفاءات العلمية .

ان الحكومة مطالبة بتقديم كل اشكال الدعم والمساندة الممكنة للمهجرين والمهاجرين والسعي لتذليل الاسباب التي تفاقم ظاهرة الهجرة والتعاون مع المنظمات الدولية والدول ذات العلاقة في هذه الشأن،

المصالحة الوطنية
في مسعى لوقف نزيف الدم ، وصيانة ارواح ابناء الشعب على اختلاف انتماءاتهم السياسية ومنحدراتهم القومية ومعتقداتهم الدينية ومذاهبهم ، والعودة بالاوضاع في البلاد الى طبيعتها في ظل الامن والاستقرار، وضمان نجاح العملية السياسية واقامة العراق الديمقراطي الاتحادي ودولة القانون والعدل ، اطلق حزبنا غداة التفجير الاجرامي في سامراء نداءً للحوار الوطني الشامل بين القوى السياسية جميعا باستثناء الصداميين والتكفيريين وقوى الارهاب الاخرى ، اعداء الشعب والديمقراطية.

واوضح الحزب ان بلوغ هذا الحوارغاياته، يستلزم رفض أي تهميش اواقصاء لأي جهد وطني يرفض العنف كوسيلة لحل الخلاف ، ويبدي الاستعداد للجلوس الى مائدة المفاوضات لحل المشاكل القائمة ، والبحث الجدي في توسيع قاعدة المشاركة ، كضمان للسير الى الامام وانقاذ البلاد.

وانسجاما مع الموقف هذا رحب حزبنا باعلان مشروع المصالحة من قبل رئيس الوزراء ، باعتباره خطوة هامة واساسية في اتجاه تطبيع الاوضاع وتأمين استخدام كل الوسائل للانتقال بالبلاد الى اوضاع افضل، خاصة وانها جاءت في وقت تمسّ فيه الحاجة اليها، وهي تمثل طريقا للتوصل الى تسوية سياسية تضمن مصالح الجميع ، ومن شأنها ان تجتذب المزيد من القوى للمشاركة في العملية السياسية، وتخلق اجواء ثقة بين كل الاطراف .

ويعكس مشروع المصالحة من جانب آخر تطورا في منهجية ادارة الحكم، يتجلى في الانتقال من نمط معين من التفكير الى آخر، من المعالجة الاحادية (العسكرية) الى اعتماد مجموعة من الاجراءات لتحسين الاجواء ولخلق المناخات المناسبة للحوار وللتوصل الى قواسم مشتركة تقود الى حل الازمة التي تعصف بالبلاد .

ورأى الحزب ان وجهة المصالحة سليمة رغم تواضع نتائجها لحد الان ، وان من الواجب اسنادها . فالبلد عانى كثيرا، والمطلوب هو المساهمة في تفعيل ما يمكن تفعيله من ادوات ، وتوسيع دائرة الضغط الشعبي لاسناد مشروع المصالحة ، وبما يضمن تحوله الى برنامج لعمل الحكومة ومجلس النواب والاحزاب والكتل السياسية. وفي المقابل ، فإن المراهنة على فشل مشروع المصالحة انطلاقاً من حسابات سياسية ضيقة ، ينم عن نظرة غير مسؤولة أو عدم وعي لحقيقة أن فشل هذا المشروع سيدفع بالبلاد الى منزلقات خطيرة قد يطال حريقها الجميع .

ان نجاح مشروع المصالحة يتطلب جملة من الشروط :

1- توفر ارادة سياسية حقيقية لدى الاطراف جميعا ، والتعامل من جانب الكل بحرص ومسؤولية بعيدا عن الانتقائية والنزعة الانانية والتحزب الضيق والتخندق الطائفي ، والتخلص من ازدواجية المواقف ، والتحلي بالمرونة والشجاعة في تحمل المسؤولية ووضع مصالح الوطن فوق كل اعتبار.

2-تفعيل مجموعة الاجراءات التي طرحتها المبادرة ، لاسيما المتعلقة بالمليشيات والاجتثاث وغيرهما ، وبما يوفر لها الصدقية في التطبيق العملي.

3-تهيئة عوامل دعم المشروع واسناده داخليا ، عربيا ، اقليميا ودوليا.

4-ان تعتمد الاطراف السياسية المختلفة خطابا سياسيا– أعلاميا متوازنا ، يجنح الى العقلانية والتهدئة والامتناع عن التصريحات المثيرة والمؤججة للمشاعر ، والسعي الدؤوب للتثقيف ضد الطائفية ومخاطرها.

5-وقف نشاط المليشيات ايـّا كان لونها ، في موازاة الارتقاء التدريجي بامكانات القوى الامنية وبقدرتها على حماية ارواح المواطنين وممتلكاتهم . وعلى الكتل السياسية ، لاسيما المشاركة في العملية السياسية ، ان تضرب المثال الجيد في هذا الشأن وتقدم طواعية على اتخاذ اجراءات ملموسة في هذا الاتجاه .

6- العمل الجاد على بناء مؤسسات الدولة ، لاسيما الامنية ، على اساس الكفاءة والمهنية والنزاهة والوطنية ، بعيدا عن المحاصصات الطائفية والقومية ، واقدام الاحزاب والكتل السياسية على ما يطمئن المواطن الى ان تنافسها ، بما في ذلك على السلطة ، يتم بالطرق الديمقراطية والسلمية ، بعيدا عن الارهاب والعنف والاكراه .

تطبيع الاوضاع في كركوك
لا تزال قضية كركوك ، مدينة التنوع والتآخي القوميين ، والتي تفاقمت فيها في الفترة الاخيرة المشاكل الامنية وتصاعد النشاط الارهابي والتوتر الاثني ، بحاجة الى جهود مثابرة ومكثفة وارادة سياسية صادقة ونوايا حسنة ، لحلها بروح التسامح والتآخي والانسانية ، وبالتطبيق السليم للمادة(140) من الدستور العراقي . وتفعيل كل الآليات الضرورية لتحقيق ذلك ، بما فيها عمل لجنة التطبيع العليا واهمية انتظام اجتماعاتها ومنحها الصلاحيات المطلوبة وتخصيص المال الكافي لادائها مهامها خلال الفترة المحددة دستوريا ، وتطبيق قراراتها التي اتخذتها مؤخرا وصادق عليها مجلس الوزراء .

الفيدرالية والموقف منها
يرى حزبنا في نظام الحكم الاتحادي شكل الحكم المناسب للعراق. وقد تبنينا هذا الموقف منذ اوائل التسعينات من القرن العشرين ، ارتباطا بالتطورات في اقليم كردستان – العراق غداة انتفاضة آذار 1991، ونحن نرى الان ضرورة تعزيز الفيدرالية في الاقليم ، باعتبارها الحل الديمقراطي للقضية القومية الكردية في ظروف العراق الملموسة .

كما اننا نؤيد من حيث المبدأ اقامة نظام اتحادي (فيدرالي) في العراق ، وتشكيل اقاليم وفقا للدستور ولقانون تكوين الاقاليم ، وندعم توزيع الصلاحيات بين المركز والمحافظات بما يؤدي الى تعزيز اللامركزية ، سواء على نطاق العراق ككل او ضمن الاقاليم .

ونرى ان من الضروري، عند تشكيل اقاليم جديدة، مراعاة الآليات الواردة في الدستور والقانون ، والتأكد من الحاجة الفعلية لتكوين الاقليم المعني ، وتلبيته طموحات المنطقة المعنية وتعبيره عن ارادتها الحرة ، بعيدا عن الطائفية والفرض والاكراه . ومن الضروري ايضا ان يتم كل ذلك في اجواء التوافق الوطني ، وان يرتبط التنفيذ بتوفير الاجواء المناسبة ، ومراعاة الاولويات الملحة المتعلقة بانجاح المصالحة الوطنية وتهدئة الاوضاع الامنية واعادة الاستقرار. وسيكون تشكيل الاقاليم في اطار العراق الديمقراطي الموحد على هذا النحو ، بعيدا عن الطائفية والنزعات الضيقة الاخرى ، عامل استقرار وطمأنينة وتمتينٍ للوحدة الوطنية المقامة على اساس الارادة الحرة والاتحاد الطوعي .

حول التيار الديمقراطي وقواه
عكست نتائج الانتخابات العامة وتركيبة الحكومة، اهمية الدور الذي ينبغي ان تنهض به القوى الديمقراطية والتيار الديمقراطي عموما ً. وتقف عوامل كثيرة وراء عدم اضطلاع التيار، حتى الآن، بدوره هذا كاملا. ويرتبط بعض هذه العوامل بحملات القمع والتصفية والملاحقة المديدة ، التي تعرض لها حزبنا وسائر القوى والعناصر الديمقراطية الاخرى ، فيما يندرج البعض الآخر ضمن ما نجم عن التحولات العميقة التي شهدها المجتمع العراقي خلال العقود الثلاثة الماضية، وما أفرزته من تخلخل في بنيته بفعل انهيار النشاطات الإنتاجية ، وانسحاق الفئات الوسطى وتدهور مكانتها. وهناك عوامل أخرى ترتبط بالتغييرات التي شهدها العالم مع انهيار العديد من الأنظمة الاشتراكية السابقة ، فضلا عن التشتت الشديد لقوى التيار الديمقراطي نفسه وضعف نشاطها عموما.

ويتعين على قوى التيار ان تعي الواقع هذا ، ليتسنى لها التقدم بخطوات عملية وفاعلة نحوجمع طاقاتها وشد لحمة التيار وتفعيل دوره . فبناء وحدته لا بد ان يكون عملية نضالية متصاعدة، تستند إلى أسس سليمة وتتطلب التحلي بالصبر ورحابة الصدر والاستعداد لادارة حوار بناء بين مكونات التيار، والعمل الحثيث لبلورة توجهاته واطر العمل المشترك بين عناصره . وقد بذل حزبنا جهوداً كبيرة في هذا الاتجاه ، وسيواصل سعيه هذا كما سيتفاعل ايجابياً مع كل المبادرات والتحركات الرامية الى تنشيط القوى الديمقراطية وتوحيد جهودها.

العملية السياسية وتناقضاتها ، آفاق الوضع
شهدت الفترة منذ سقوط النظام الدكتاتوري حتى الان نشوء اشكالات وتعقيدات وصعوبات ، ترتبط بالتباينات والتناقضات في الساحة السياسية .

فإلى جانب التناقض بين الشعب والاحتلال ، هناك تناقض الشعب مع بقايا النظام الدكتاتوري البائد وتركته، وتناقضه مع قوى الارهاب والظلام والتطرف عموما .

وثمة من جهة اخرى الاختلافات في رؤى واجتهادات الاطراف والكتل السياسية ، سواء منها المساهمة في العملية السياسية او التي تقف خارجها .

وتتجلى التعقيدات كذلك في تصاعد إعمال الإرهاب والتخريب ، التي يسعى بعضها للظهور بمظهر "المقاومة الوطنية"، في حين لا تعدو كونها، في الغالب ، مشاريع بدائل استبدادية مناهضة للديمقراطية. وهي في سعيها للوصول إلى غايتها لا تتورع عن تقتيل المدنيين الأبرياء بالمئات والآلاف وتدمير ممتلكات الدولة (مثل معدات النفط والكهرباء) والاعتداء على الاجهزة الامنية والعسكرية حديثة التكوين ، والسعي لمنعها من اداء واجباتها وابادة منتسبيها . ونشأت اخيرا تعقيدات اخرى تتمثل في القتل على الهوية والتهجير المتبادل وتأجيج التعصب الطائفي ، الى جانب استفحال دور المليشيات ، وفرضها نفسها بديلا عن الاجهزة الحكومية ، مما اضعف نفوذ الدولة وهيبتها.

وارتبط هذا كله ايضا بالبطء في مباشرة عملية الأعمار وفي انعاش الاقتصاد العراقي ككل ، وبعدم حماية حدود الوطن ومنع تسلل العناصر المعادية . كما ارتبط بتفشي البطالة ، وتدهور الخدمات ، وتردي الاوضاع المعيشية لفئات واسعة من أبناء الشعب واشتداد معاناتها ، وتفاقم مظاهر الفساد المالي والإداري وسرقة أموال الشعب وممتلكاته ، واهدار المليارات ايام سلطة الاحتلال او في عهد الحكومات التي تلت تلك السلطة ، واستمرار عمليات تهريب النفط الى الخارج .

من جانب آخر بقيت موارد العراق محدودة ، رغم الارتفاع العالمي الكبير في اسعار النفط ، حيث لا تكاد تلك االموارد تفي باحتياجاته الاساسية ، ناهيكم عن تأمين مستلزمات اصلاح وتطوير الهياكل الارتكازية والخدمات في القطاع النفطي ذاته وفي القطاعات الإنتاجية الاخرى. ويرجع السبب في ذلك ، كما سبقت الاشارة، الى استمرار عمليات التخريب التي تعطل جزءاً من الطاقات التصديرية للنفط، كما يعود الى سوء الإدارة، وعدم تبلور استراتيجية تنموية واضحة، إلى جانب تلكؤ الدول المانحة في تسديد التزاماتها، واعتمادها أولويات لا تنسجم بالضرورة مع أولويات شعبنا وبلادنا.

استناداً الى ذلك كله يصح القول أن مؤتمرنا الثامن ينعقد في منعطف تاريخي يمر به الشعب والوطن، في لحظة يعتمد على نتائج حسم الصراع فيها الكثير مما يتعلق برسم ملامح مستقبل العراق ، وتقرير مصائره، وتشكيل نظامه السياسي اللاحق . ويتركز الصراع اليوم بين اتجاهين متناقضين :

الاتجاه الاول يسعى لاعادة بناء البلد بدءاً بضمان الامن والاستقرار وتطبيع الاوضاع وتحقيق الطمأنينة ، ومروراً بدحر الارهاب والارهابيين ، وتأمين لقمة العيش ، وتوفير الخدمات الاساسية الضرورية، وبناء المؤسسات الديمقراطية وكل ما هو ضروري لاقامة العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد ، والعمل على انهاء الوجود العسكري الاجنبي و استكمال السيادة والاستقلال.

والاتجاه الثاني يسعى الى عرقلة المسيرة السياسية الراهنة ، ومنع شعبنا من إقامة النظام الديمقراطي الفيدرالي التعددي ، معتمدا في ذلك اعمال الارهاب والعنف العشوائية ، وجرائم الاغتيال والتقتيل ، وتخريب منشآت الدولة والخدمات العامة . ويضم هذا الاتجاه بقايا النظام المنهار وحلفاءهم من قوى الظلام والإرهاب ، ومن عصابات الجريمة المنظمة ، تدعمهم العناصر المتسللة عبر الحدود

وهناك بين الاتجاهين المشار اليهما وسط واسع متنوع المنطلقات والهويات والانتماءات والتوجهات الفكرية والسياسية . لكن المصلحة الموضوعية لمعظم هذا الوسط تكمن في انتصار الديمقراطية وتحقيق الهدوء والاستقرار والحياة الآمنة ، رغم ما يتنازعه من رؤى وتصورات متباينة لمستقبل العراق السياسي ولطبيعة نظامه الاجتماعي ، وهي رؤى وتصورات تعكس مصالح طبقات وفئات مختلفة في المجتمع .

في الجانب الآخر من هذا الوسط توجد عناصر معارضة، غير مسلحة بالاساس ، تعتمد الرفض والموقف السلبي من العملية السياسية . وهناك عناصر غيرها ، تساند اللجوء الى العنف باعتباره "مقاومة وطنية"، فيما تغيب ملامحها وحضورها السياسي الفعلي في لجة الاعمال الشائنة المؤذية التي يقوم بها الارهابيون والمخربون . ولا تعدم هذه اللوحة طبعا وجود عناصر وفئات متفرجة ، انعزالية أو طامحة الى منافع خاصة ضيقة، وهي تلعب على تعقيدات الوضع ، وليس لها عمق جماهيري.

ماهي الاسباب الفعلية لتعقد الوضع؟
ثمة طائفة من الاسباب ، نورد في ما يلي اهمها :

اولا: الحرب وآثارها واستحقاقاتها . وقد اوضح حزبنا في حينه ، وكما سبقت الاشارة ، انه يرفض خيار الحرب نظراً إلى ما ينجم عنه من سقوط ضحايا ، ومن دمار وخراب ، ونظرا الى أن الحرب والتدخل العسكري الخارجي لن يأتيا بالشروط المواتية ولا بالاستقرار والطمأنينة الضروريين لاقامة الديمقراطية واعادة بناء الوطن لصالح جماهير شعبه.

وبيّن مسار الاحداث الفعلي لاحقا صواب تحليل حزبنا هذا بشأن الحرب وتداعياتها واستحقاقاتها. فعدم تحكم العراقيين المناهضين للاستبداد والارهاب والراغبين في الديمقراطية ، باسلوب التغيير، هيّـأ الفرصة للآخرين لفرض خيارهم . لذلك رافق عملية اسقاط النظام الدكتاتوري عن طريق الحرب الكثير من التداعيات والتعقيدات والمظاهر السلبية.

فلقد اشاع سقوط نظام صدام ، مثلا ، اجواء من الانطلاق غير المقيّـد . سوى أن توفر الحرية المنفلتة افاد ليس فقط الناس المتعطشين لها، بل استثمره ايضاً اعداء التغيير الديمقراطي . وهكذا فان رجالات النظام المنهار ، ورؤوس وعناصر اجهزته القمعية ، والمتطرفين وعامة قوى الردة، وجدوا الفرصة متاحة لاعادة ترتيب امورهم وتحقيق مآربهم وهم يمتلكون المال والامكانيات المتنوعة ، بدل ان يواجهوا الملاحقة ويجري تطويق نشاطاتهم وتقييدها.

ثانياً: ترتب على سقوط النظام وعلى الاحتلال، وانهيار دولة العراق "الحديثة" القائمة منذ ما يقارب الثمانين عاما ، تخلخل عاصف في التوازنات الرئيسية للكيان السياسي العراقي ، يمكن ان نلخص عناصره وملامحه على النحو الآتي:

* الفقدان الكلي للسيادة الوطنية والانهيار الفعلي للدولة "الوطنية" بفعل مشترك من النظام السابق الذي هرب ، وانسحب جميع مسؤوليه الرئيسيين في الدولة من مواقعهم ومؤسساتهم ، ومن قوات الاحتلال التي سمحت بنهب مؤسسات الدولة ودوائرها وتخريبها.

* عدم اقتران انهيار السلطة السياسية للدكتاتورية بتحطيم جميع مكوناتها البنيوية وبالقضاء على قواها. فجزء كبير من جسمها المؤسسي الحزبي والامني بقي محتفظا بامكانات عسكرية وتنظيمية لا يستهان بها فضلا عن الاموال الطائلة ، بعدما آثر من جانبه الانسحاب على المواجهة ، فيما لم تطل الملاحقة الا بعض رموزه ،حيث حوكم واعدم مؤخرا عددا منهم وبضمنهم الطاغية صدام حسين .

* تفكك التوازنات المجتمعية (ومن بينها القومية والطائفية) التي كانت تقوم عليها الدولة المنهارة ،وتحول الميزان لمصلحة المجموعات (القومية والطائفية والجهوية) التي كانت تشعر بالظلم ، وكان الظلم فعليا.

* انهيار نمط الدولة مفرطة المركزية ، القائمة على الاستبداد السياسي والسلطة الشمولية التي تستمد شرعيتها من عقيدة ايديولوجية فقدت صدقيتها نتيجة الخيبات والانكسارات والمآسي التي جرتها على الشعب.

* سعي قوات الاحتلال ، بالتعاون مع بعض القوى السياسية ، لدفع العراق سريعا على طريق اقتصاد السوق المنفلت ، عبر ازالة الضوابط وحجب الصلاحيات عن مؤسسات الدولة وفتح الاقتصاد العراقي على مصراعيه وتهيئة الاجواء للخصخصة الواسعة. وبنتيجة ذلك انطلقت في البلاد عملية تحولات اقتصادية بنيوية.

* عدم اقتران انهيار النظام الدكتاتوري بظهور مشروع سياسي اجتماعي ، مشروع وطني بديل، ولم يكن ذلك معزولا عن الدور الاميركي على مدى سنوات قبل سقوط النظام. وافرز الوضع الجديد حالة من التشتت تجد جذورها في سنوات القمع الطويلة ونتائج الحروب الكارثية والتدخلات الخارجية الاميركية والاقليمية.

* تسليم السلطة ، غداة سقوط النظام الدكتاتوري ، الى الاحتلال وليس الى ممثلي الشعب وقواه التي ناضلت ضد ذلك النظام ، وقدمت التضحيات في سبيل اسقاطه . وقد اضفيت "شرعية دولية"على وجود الاحتلال بموجب قرار مجلس الامن الدولي رقم 1483.

ثالثا: السياسات الفاشلة لـ "سلطة التحالف المؤقتة"، وسعيها الدائب طيلة فترة وجودها، الى منع تشكيل اجهزة امنية ـ عسكرية عراقية كفوءة، في ظل انهيار كامل لمؤسسات الدولة رافق عملية سقوط النظام ، اجهزة بديلة عن تلك القديمة التي انحلت فعليا، ثم اعلن حلها رسميا بقرارات شكلية صادرة عن قوات الاحتلال.

ويجدر هنا عدم اهمال جانب التقصد في هذه الامور، ضمن سياقات سلطة الاحتلال ورؤيتها الاستراتيجية لدور الجيش والشرطة والاجهزة العراقية المماثلة الاخرى ، بحيث لا يكون هذا الدور قوياً وفاعلاً. ووفقا لهذه الرؤية يحسن ان تبقى الاجهزة العراقية المذكورة تعتمد دائماً على دعم القوات الاجنبية وما تمتلك من ماكنة عسكرية ضخمة، الامر الذي يتيح اخضاعها وعملها لمنطق الاستراتيجية تلك ، وليس للحاجات الفعلية لبلادنا وما تواجه من نشاطات معادية واسعة وكثيفة ، ومن مخاطر وتحديات امنية وسياسية / اقتصادية / اجتماعية .

رابعا: سوء تصرفات الادارة الامريكية الناجم عن توجهات الاصولية الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة ، وما وضعه صقورها من خطط لـ "اعادة بناء العراق" بعد انهيار النظام الدكتاتوري . هذه الخطط التي لم تتعامل مع الواقع العراقي القائم ، بل رسمت "واقعاً أخر" وبنت ترسانتها الفكرية والسياسية والاعلامية على حسابات مقطوعة الجذور عن واقع ملموس متحرك.

خامسا: تفشي مظاهر الرشوة والفساد. وهنا ايضاً لا يمكن اخراج سلطة الاحتلال من دائرة المساءلة. فهي لم تتخذ اثناء فترة هيمنتها المباشرة الاجراءات الكفيلة بمنع تحول الفساد الى ظاهرة صارخة ، تطول مختلف جوانب عمل المؤسسات الرسمية العراقية. مع ان هذه الظاهرة لم تنشأ في ظل الاحتلال ، فجذورها – كما سبقت الاشارة - تمتد الى عهد النظام الدكتاتوري ، الذي نمت في كنفه وازدهرت .

من جانب اخر لم تكن سلطة الاحتلال نفسها محصنة ضد الفساد ، بل ان فضائح الصفقات التي ابرمت مع شركات اميركية كبرى ، حتي قبل ان يبدأ الاحتلال ، اثارت جدلا في الولايات المتحدة وغدت موضوعا لجلسات لجان الكونغرس وتحقيقاتها.

في كل الاحوال اصبح الفساد المالي والاداري اليوم ظاهرة مستشرية في مرافق الدولة ، وقد وجد في المحاصصة والتعيينات على اسس حزبية ضيقة وطائفية مصدرا اخر للنمو والتوسع ، حتى غدا التصدي له من المهام الوطنية الملحة .

سادسا : التعقيدات المرتبطة بتفاقم الارهاب والتخريب والقتل وتدخلات دول الجوار والاقليم في هذا الملف ، وما استجد في اطار ذلك من تصفيات على الهوية ، واغتيالات ، واعمال اخنطاف ، ومن تفاقم حدة الاستقطاب الطائفي . ونتيجة لذلك يبقى الملف الامني مصدر قلق وهاجسا اساسيا لعامة المواطنين ، الذين يشتد تطلعهم لمعالجة ناجعة له وتهيئة مستلزمات ذلك ومنها، على سبيل المثال، اعداد المؤسسات العسكرية والامنية على اساس الكفاءة والنزاهة الوطنية ، وأن تجسد في تركيبها وممارساتها الوحدة الوطنية والمواطنة العراقية ، وتكون ملكا لكل العراقيين بغض النظر عن انتماءاتهم الفكرية والسياسية ومنحدراتهم القومية ومعتقداتهم الدينية والطائفية والمذهبية .

سابعا: الاشكاليات والانتهاكات الفظة التي رافقت الانتخابات الاولى والثانية ، وما انتجت من موازين قوى ، ومن استقطاب طائفي – قومي ما زال يترك بصماته على مجمل الحياة السياسية . وبنتيجة ذلك تحولت محصلتها الى مشكلة بذاتها ، بدل ان تكون حلا للمشكلات القائمة ، وبما يساعد على بناء مؤسسات الدولة على اسس سليمة تعلي شان المواطنة وترسخ الممارسة الديمقراطية وبناء دولة العدل والقانون والمؤسسات .

ثامنا : ضعف التنسيق بين القوى والاحزاب الوطنية والديمقراطية ، لاسيما تلك التي ناضلت ضد النظام الدكتاتوري، وعدم ارتقائه الى مستوى المخاطر المحدقة ، وتغليب بعض القوى مصالحها الضيقة ، مما يسهّل لاعداء التغيير الديمقراطي عرقلة العملية السياسية . وفي هذا السياق يجدر التشديد على ضرورة تنشيط آلية التشاور والتنسيق بين هذه الاطراف ، كي تأخذ دورها المنشود في تفعيل مساهمة جماهير الشعب في ارساء الامن ، والتصدي لقوى الجريمة والارهاب ، ودعم العملية السياسية.

في ضوء ما مر ذكره نخلص الى حقيقة انه مع تواصل عملية تشكُّل الدولة العراقية الجديدة ، يدور صراع حاد حول شكلها ومحتواها ، وحول طبيعة وخصائص النظام السياسي والاجتماعي البديل . وتخوض هذا الصراع قوى وأحزاب ذات برامج سياسية ورؤى وتصورات متباينة . ومما يزيد هذا الصراع تعقيدا انه يدور في ظل تركة النظام الدكتاتوري الثقيلة ، وفي ظل التناقضات الناجمة عن اعتماد الحرب وسيلة لتحقيق التغيير في البلاد ، وما افضى اليه ذلك من احتلال وتركة ترتبط به ، وعن تحوّل العراق، جراء سياسة الولايات المتحدة، الى جبهة رئيسية لحربها على "الارهاب الدولي" ، والى ميدان لتصفية حسابات خاصة بها وبمشروعها الاستراتيجي في المنطقة.

وغدا النضال من اجل انهاء الوجود العسكري الأجنبي متلازماً مع النضال من أجل العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، كما غدا متشابكا مع البعد الخارجي الذي زج بقوى ارهابية غير عراقية لا علاقة لبرامجها وأهدافها بالعراق وبمصالح شعبه. وأضفى ذلك كله على اللوحة السياسية والصراعات التي تتجاذبها خصوصية و"فرادة" لم يألفها العراق في تاريخه ، بل ولا بلدان المنطقة وسواها من البلدان الموازية له في التطور.

وطبيعي ان التناقضات والصراعات آنفة الذكر القت بظلالها على أهم أحداث وتطورات الوضع خلال الأشهر الأخيرة ، وهو ما انعكس بشكل خاص في تشكيل الحكومة وفي العملية الدستورية والسياسية الجارية .

وبعد تشكيل الحكومة الحالية جدد الحزب التزامه بالعملية السياسية وحرصه الشديد على استمرارها وتنفيذ استحقاقاتها ، وفق الالتزامات التي يفرضها الدستور . ويستند هذا الموقف إلى نظرة الحزب الى العملية وادراكه أهمية إيصالها إلى نهايتها المنشودة في إقامة نظام ديمقراطي فيدرالي ، وبناء دولة المؤسسات والقانون . وهو ما لا يمكن تحقيقه من دون تأمين شروط تطبيع الاوضاع وانجاح مشروع المصالحة الوطنية ، واعادة الامن والاستقرار، واطلاق عملية البناء والاعمار، واستعادة السيادة الوطنية الكاملة وإنهاء تواجد القوات الأجنبية.

ان الوضع في بلادنا متحرك ، ومفتوح على العديد من الاحتمالات . ويبقى الكثير من القضايا مرهونا بمدى قدرة الأطراف والكتل السياسية وجماهير العراقيين عموما على ترتيب بيتهم والتصرف بحكمة لاعادة اللحمة الوطنية ، والإقدام على خطوات من شانها أن تخلق أجواء للثقة والوصول إلى قناعة بان دفع الأمور إلى نقطة اللاعودة ، هو لعب بنار لن ينجو احد من لهيبها . كما إن تطورات الوضع مرتبطة بإيجاد ظروف ايجابية عربية وإقليمية ودولية ، ملائمة لمحاصرة الارهاب وتحقيق الاستقرار وانجاح مشروع المصالحة .

لقد تحولت بلادنا الى ساحة صراع ملتهبة ، تتقاطع على أرضها وتتصادم مصالح واستراتيجيات اقليمية ودولية ، تتشابك مع الوضع الداخلي وتحاول دفع الأوضاع باتجاهات بعيدة عن مصالح الشعب وتطلعه لاعادة الأمن والاستقرار، ولاستكمال سيادته على إرضه وثرواته، وتحقيق البديل الديمقراطي، والاسراع بعملية إعادة البناء الشاملة. وفي هذه المرحلة الانتقالية التي تحتدم فيها التناقضات ويشتد الصراع حول الوجهة اللاحقة للتطور تبرز الحاجة ايضا، وأكثر من أي وقت ، الى تأمين التضامن العالمي المتعدد الأشكال من قبل قوى السلام والقوى والحركات التقدمية والديمقراطية والاشتراكية والشيوعية مع القوى الوطنية والديمقراطية العراقية ، في نضالها لقطع الطريق على محاولات اجهاض العملية السياسية ودفع البلاد نحو الفوضى والاحتراب الداخلي ، وللاسراع في تمكين الشعب العراقي من إنهاء الوجود العسكري الاجنبي ، وفتح آفاق التطور الديمقراطي للعراق ، وتقرير مستقبله السياسي و نظامه الاجتماعي وفق ارادته الحرة . فمستقبل العراق، بل والمنطقة عموماً، يتوقف إلى حد كبير على مآل العملية السياسية الجارية اليوم في بلادنا . وعلى هذا الطريق سيواصل الشيوعيون العراقيون نضالهم الحثيث، تحدوهم القناعة بانتصار القضية النبيلة التي قدموا التضحيات الكبيرة من اجلها ، قضية بناء عراق ديمقراطي فيدرالي موحد متحرر من كل اشكال الهيمنة والعسف والعنف ، ومنطلق على طريق التنمية والتقدم الشاملين.

التطورات في الوضع العربي
تركت احداث 11 ايلول آثاراً خطيرة في الوضع العربي، وبالاخص على صعيد القضية العراقية والتواجد العسكري الامريكي في المنطقة، ومسار عملية السلام والصراع العربي ـ الاسرائيلي.

ولا تزال تداعيات تلك الاحداث وما تبعها من سعي لاعادة ترتيب الاوضاع في الشرق الاوسط، وفقاً لمصالح الولايات المتحدة الامنية والاستراتيجية، في سياق "الحرب ضد الارهاب"، ثم شن الحرب الاخيرة في العراق واحتلاله، تلقي ظلالها على اوضاع المنطقة وبلدانها، لتكشف ايضاً تدهور حال "النظام العربي" وعجزه الفاضح عن مواجهة التحديات الراهنة واستحقاقاتها.

لقد اثار سعي الولايات المتحدة بعد احداث 11 ايلول لتحقيق مخططاتها للهيمنة على العالم، وبضمنه منطقة الشرق الاوسط والعالم العربي على وجه الخصوص، ردود فعل حادة على المستويات الرسمية والشعبية معاً، تراوحت بين الذعر مما وقع، والتردد في اتخاذ موقف ازاءه خشية اغضاب امريكا، والتهليل لما حصل والتشفي بضحاياه، وبين الموقف العقلاني الموضوعي المتوازن.

وسارعت معظم الانظمة لاعلان الولاء للولايات المتحدة، دون اعتبار لقضايا الشعوب العربية، وحتى بعدما ادرجت بلداناً عربية ضمن اهداف مقبلة بعد حربها على افغانستان. وعندما بدا واضحاً استهداف اسقاط النظام الدكتاتوري، عارضت الانظمة العربية عموماً ذلك ،خوفاً من تداعياته بالنسبة اليها.

وفي اثناء ذلك وفي ظل استمرار وتفاقم العجز عن تنظيم مواجهة حقيقية لخطط الادارة الامريكية، تزايدت في العالم العربي المطالبة بـاطلاق الحريات العامة والديمقراطية للجماهير كي تتمكن من الدفاع عن استقلال بلدانها والتقدم على طريق التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

إلا ان تلك المطالب المشروعة لم تجد استجابة لفترة من الزمن ، بل ان بعض الحكومات العربية استغلت بروز ظاهرة التطرف الديني ونشاط الجماعات السلفية ـ الاصولية التي تتمتع بمصادر تمويل سخية، كما استغلت الاجواء الهستيرية والاجراءات التي رافقت "الحرب ضد الارهاب"، للتضييق على هامش الحرية النسبي في بلدانها. فيما رأت الانظمة الدكتاتورية في ذلك، لاسيما نظام صدام، ما يبرر ويزكّي نهجها واساليبها الوحشية وايغالها في انتهاك حقوق الانسان.

وفي هذا السياق يؤيد حزبنا المطالب المتسعة على المستويين الرسمي والشعبي في العالم العربي، بتحقيق اصلاحات جذرية في اساليب وآليات عمل النظامين الرسمي والشعبي كليهما، بما يساعد على تجاوز الكثير من المفاهيم البالية وصيغ العمل التي تجاوزتها الحياة.

مشروع "الشرق الاوسط الكبير"
في اعقاب الحرب واحتلال العراق، وفي اطار استراتيجية الادارة الاميركية للهيمنة على العالم ومشاريعها المتعلقة ببناء "شرق اوسط جديد"، صعّدت ضغوطها على العديد من دول المنطقة، ومن ضمنها بعض من اقرب حلفائها، في مسعى لاستثمار نتائج الحرب وتوظيفها لانتزاع مزيد من التنازلات. واتخذت هذه الضغوط شكل المطالبة بالكشف عن اسلحة دمار شامل ونزعها احياناً، وفرض خطط " الاصلاح " الامريكية.

وتجلت هذه المساعي في المشروع المعروف بـ "مبادرة الشراكة للشرق الاوسط الكبير" الذي تضمنته ورقة عمل وزعتها الادارة الامريكية على اعضاء "مجموعة الثماني" لدراستها وتبنيها في قمة حزيران 2004. وتستند التصورات المطروحة في الورقة على تقريري التنمية الانسانية للعامين 2002 و2003 الصادرين عن برنامج التنمية التابع للامم المتحدة في العالم العربي. والاولويات الثلاث للتغيير المقترح هي:

1-تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح،
2-بناء مجتمع معرفي،
3-توسيع الفرص الاقتصادية.

غير ان الورقة تشير أيضاً الى ان "مبادرة الشرق الاوسط الكبير" ستعالج "الاوضاع التي تهدد المصالح الوطنية لكل اعضاء مجموعة الثماني ... التطرف، الارهاب، الجريمة الدولية، والهجرة غير المشروعة". اي ان برنامج الاصلاح المنشود يتمحور بشكل اساسي حول مخاوف اطراف خارجية والاستجابة لها، بدلاً من الانطلاق من تلبية حاجات شعوب المنطقة المعنية ذاتها.

ومن الأهداف الأخرى لمشروع "الشرق الاوسط الكبير" تسويق اسرائيل في محيطها الاقليمي، وتطبيع علاقاتها مع الدول في هذا المحيط، وهي في موقع الاقوى عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا.

وواضح ان هذا المشروع واجه صعوبات جمه ، ولم تستطع الادارة الامريكية من فرضه ، كما عجزت سياستها وسلوكها في افغانستان والعراق عن تقديم بديل ديمقراطي مقنع في المنطقة، اضافة الى حساسية ومقاومة شعوبها لفرض الاصلاح من خارجه ، يضاف الى ذلك تواصل السياسية العدوانية الاسرائيلية وانحياز الادارة الامريكية المكشوف لها .

وفي محاولة لتفادي ضغوط "الاصلاح" و"الدمقرطة" ولاحتوائها، سارع بعض الانظمة العربية على نحو استباقي لتبني مجموعة اجراءات داخلية، شملت حقوق الانسان واصلاح بعض جوانب التعليم. لكن هذه الخطوات لا ترقى الى مستوى تطلعات الشعوب المحرومة من الحريات والحياة الديمقراطية الدستورية وعامة حقوق الانسان الاساسية.

ويبرر بعض الانظمة العربية عدم استجابته لمطالب الشعوب في الديمقراطية بكونه يتصدى بذلك لاملاءات امريكا وغطرستها، او بالقول ان الصيغ المطروحة امريكياً تتعارض مع الخصوصيات المحلية الثقافية والدينية .. وما شابه، او بالعودة الى الذريعة المستهلكة والادعاء ان الاولوية الآن هي لحسم "القضايا القومية"!

لكن التجارب المريرة، المتكررة منذ حرب حزيران 1967، تؤكد ان ترسيخ الحريات والديمقراطية هو وحده السبيل لحماية الاستقلال والسيادة الوطنية والتصدي لضغوط الامبريالية وتمكين هذه البلدان من تقرير مصائرها بملء ارادتها. كما ان الاصلاح الحقيقي لا بد ان يكون نابعاً من ارادة الشعوب وحاجات تطورها الملموسة والفعلية،

وعموما نشير الى حالة من الحراك الذي لم يستقر بعد على نمط معين من الاختيارات بابعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهنا يدور صراع حاد تساهم فيه قوى عدة ومنها بالتاكيد شعوب المنطقة وقواها الوطنية والديمقراطية، ويأخذ هذا الصراع اشكالا مختلفة بما فيها العنفية. ويضيف دخول قوى متطرفة، دينية على الاغلب، حلبة الصراع تعقيدات جديدة الى اللوحة السياسية، سيما عندما تلتقي مصالح دول معينة في المنطقة، ولمنافع وقتية براغماتية ضيقة، مع تلك القوى المتطرفة.

وشهدنا خلال الفترة الماضية احداثا مهمة وتطورات ما زالت تتفاعل وتترك تاثيراتها على المنطقة ودولها وشعوبها:

1-القضية الفلسطينية والتي شهدت خلال الفترة الماضية العديد من التطورات ابرزها :
-الانقلاب الانتخابي المتمثل بفوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني والذي فاجأ الجميع، على ما يبدو، بمن فيهم الفائزون، وما سيترتب على ذلك من ضرورة الاجابة على تساؤلات عدة، لها صلة بقدرة حماس على التعامل مع ملفات التسوية السلمية واستحقاقاتها ومراجعة لاساليب وطرق عملها واستجابة لبرنامج الاجماع الوطني الذي اقرته منظمة التحرير الفلسطينية وقدرتها على تشكيل حكومة وحدة وطنية، وايضا مدى استعداد القوى الاخرى، سيما "فتح" للتعامل مع ما افرزته الانتخابات من نتائج. وسيرتبط التطور في هذا الشان ايضا بمجموعة من العوامل المحيطة بالقضية الفلسطينية، خاصة الامريكية والاسرائيلية. ويبقى من الهام التشديد على اهمية الوحدة الفلسطينية والمتحقق من انجازات على محدوديتها، لجهة نيل الشعب الفلسطيني حقه في اقامة دولته الوطنية المستقلة على ارضه


- فوز حماس بالانتخابات واستلامها للسلطة ، وعدم التعامل دوليا معها ادى الى وقف المساعدات والمعونات عنها ،مما سبب تدهورا للاحوال المعيشية للمواطنيين الفلسطنيين وشل مؤسسات السلطة وعدم التمكن من دفع الرواتب . وسبب ذلك موجة من الاضرابات والاعتصامات ، تطورت واحيانا الى مواجهات عنيفة.

-تواصل الاحتراب والتراشق وعدم الانسجام بين الفصائل الفلسطينية .

-استمرار العمليات العدوانية للجيش الاسرائيلي في الضفة والقطاع ، وبالاخص توغل وحداته في قطاع غزة واعادة احتلال اجزاء منه ، اضافة الى القصف الجوى ، مما سبب حدوث خسائر بشرية ومادية كبيرة ، وتصاعد ذلك بعد اختطاف الجندي الاسرائيلي ، وعدم اطلاق سراحه رغم الوساطات المتكررة في هذا الشان .

-كل ذلك يدفعنا للتاكيد مجددا على اهمية وضرورة الاسراع بتطبيق القرارات الدولية التي تشير الى حق الشعب الفلسطيني باقامة دولته على ارضه وانهاء اسرائيل لاحتلالها للاراضي العربية والعودة الى الحدود قبل الخامس من حزيران 1967 . وفي ذلك وحده الضمان لتحقيق الاستقرار والامان في الشرق الاوسط .

-ويجدد حزبنا تضامنه مع الشعب الفلسطيني في وجه سياسات الاستيطان العنصري والاعمال الارهابية الاسرائيلية، مؤكدا الحاجة الماسة في الظروف الراهنة الى قيام حكومة وحدة وطنية فلسطينية تستند الى برنامج واقعي ، ياخذ بنظر الاعتبار كل الظروف المحيطة بالقضية الفلسطينية. ان تحقيق ذلك سيشكل دعما لمواصلة الشعب الفلسطيني نضاله من اجل ضمان حقوقه الوطنية المشروعة وتنفيذ قرارات الشرعية الدولية بهذا الخصوص.

2-العدوان الاسرائلي على لبنان
بعد التطورات الحاصلة على صعيد العلاقة السورية – اللبنانية، إثر صدور القرار الدولي 1559، واغتيال رفيق الحريري والتداعيات التي اعقبته، وانعكاس ذلك على الاوضاع في البلدين والتفاعلات الجارية فيهما، وارتباط ذلك بمساعي اطراف عدة لتوظيف تلك التطورات لصالحها، وبعد اختطاف حزب اللة في لبنان لجنديين اسرائيليين شنت اسرائيل عدوانا همجيا واسعا على لبنان

وبغض النظر عن التساؤلات الممكن اثارتها على توقيت عملية الاختطاف واهدافها وعدم تقدير حجم الرد الاسرائيلي ، فان سعة العدوان وهمجيته وقسوته فاقا كل ما يمكن توقعه من رد على عملية الاختطاف. وبدا الامر كما لو ان اسرائيل واطرافا اخرى ، وجدت الذريعة لتصفية حسابات وفرض اجندة خاصة بها وبغيرها، ليس على ارض لبنان فقط ، بل وفي الشرق الاوسط عموما.

حظي العدوان بتواطؤ مكشوف من امريكا وبريطانيا وتم اطلاق يد اسرائيل للمضي في عدوانها واختيار اللحظة المناسبة لها لايقافه . وشهدت هذه الفترة ترويجا لمفاهيم جديدة/قديمة ومن بينها مفهوم " الشرق الاوسط الجديد " الذي طرحته كونداليسا رايس، وزيرة الخارجية الامريكية، كبديل لمفهوم " الشرق الاوسط الكبير " الذي تم الاعلان عنه في فترات سابقة.

رغم الاختلال الواضح في موازين القوى ، ولاسيما العسكرية ،ورغم القسوة والعنف وضرب البنى التحتية وتدميرها فلم يكن متاحا لاسرائيل ان تحقق اهدافها بيسر. فقد جوبهت باجماع وطني لبناني على ادانة العدوان والتصدي له ، بعض النظر عن ظروف وقوعه .

اثار العدوان موجه عارمة من الاحتجاجات عبر العالم ، ضد اسرائيل والداعمين لعدوانها . وبالمقابل تميزت ردرود الفعل العربية الرسمية بالتفاوت بين رد الفعل الخجول ، ومحاولة القاء اللوم على حزب الله . ادان حزبنا العدوان الاسرائيلي الهمجي وطالب بايقافه ، وعبر عن اسناده ودعمه للشعب اللبناني. كما اكد حزبنا ، بعد ايقاف العدوان وصدور قرار مجلس الامن الدولي رقم 1701 ، على تضامنه مع الشعب اللبناني داعيا الى تقديم الدعم والاسناد له لاعادة ما دمره العدوان ، ومساعدة الدولة اللبنانية على استعادة نفوذها وهيبتها وسلطتها وتمكين الحكومة من ادارة شؤون البلاد في جميع المناطق وان يعود لها ،عبر السلطات الشرعية، مهمة اتخاذ القرارات ذات الطابع العام والتي تخص لبنان باجمعه .

3-الانتخابات التي جرت في عدة دول ومنها العراق، فلسطين، مصر وما افرزته من نتائج وتركيبة للبرلمانات ومجالس الشعب، وموازين قوى جديدة فيها، وما سيترتب على ذلك من تاثيرات على الحياة السياسية.

4- الصراع الدائر حول الملف النووي الايراني، والتداخلات الحاصلة فيه وابعاده التي تتعدى حدود ايران الى الدول الاخرى ومنها بلادنا، والمسارات التي ستتخذها مختلف الاطراف في التعامل مع هذا الملف الشائك.

5-التطورات في السودان، بعد التسوية في الجنوب، واستمرار الصراع على وجهة الحكم وتفاعلات قضية دارفور وما حصل فيها من انتهاكات لحقوق الانسان، وعلاقات السودان وتطورها مع الدول المحيطة به.

6- التغييرات في هرم السلطة في عدد من البلدان، ولاسيما في الامارات والسعودية والكويت وغيرها، وانعكاس ذلك على انماط والية الحكم فيها، وما يفرضه توسيع المشاركة في الحكم من استحقاقات وبنى جديدة، كبرلمانات ومجالس شورى وغيرها، وقدرتها على ان تعكس مواقف معبرة عن استحقاقات يفرضها التطور في نواحي الحياة المختلفة بما فيها الاقتصادية والاجتماعية.

ان التغييرات والتطورات المشار اليها اعلاه وغيرها تعكس جملة من الامور منها :

1-حدة الصراع السياسي في هذه البلدان على السلطة وعلى مسارات التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي فيها، وما يفرضه ذلك من مراجعة لاساليب الحكم، واهمية وضرورة الديمقراطية باعتبارها حاجة تفرضها متطلبات التطور والتقدم، واداة لنهضة الشعوب ورقيها، ولارساء اسس الحياة البرلمانية الدستورية الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وحرياته.

2- الرغبة المتزايدة لشعوب المنطقة في الاستقرار والبناء والازدهار وبناء الحياة الحرة الكريمة والاستثمار الامثل والافضل لثرواتها الهائلة لصالحها وبما يجعل المنطقة واحة للسلام والاستقرار والتقدم الحضاري.

3- تواصل التدخلات الخارجية وتجسيدها في اشكال مختلفة كمحاولات فرض توجهات معينة تتعارض مع مصالح الشعوب. وتربك هذه التدخلات المساعي للوصول الى حلول عادلة سلمية لمشاكل المنطقة. وباعتمادها سياسة الانحياز لاسرائيل والكيل بمكيالين، فان الولايات المتحدة ومن يشاطرها سياستها يساهمون، موضوعيا، في حالة عدم الاستقرار في المنطقة. هذا الى جانب سياسة وممارسات السلطات الحاكمة والقوى المسيطرة في العديد من البلدان والتي فشلت في تقديم الحلول للمشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيره من الاسباب يحفز على التطرف والعنف وتنمية نزعات الارهاب والعدوان.

4- المحاولات المحمومة، ومن اطراف عدة للتمويه على حقيقة وماهية الصراع الدائر في المنطقة بغية خلط الاوراق ولاضفاء طابع معين عليه وابعاده عن ميادينه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

5- في هذه الظروف تبرز من جديد اهمية وحدة شعوب المنطقة وتعاونها وتنسيق جهود وعمل حركاتها السياسية الوطنية والديمقراطية والشيوعية من اجل ترسيخ وتطوير الممارسة الديمقراطية وضمان الحريات الاساسية والتعددية السياسية والفكرية وبناء دول عصرية يتحقق فيها احترام وكفالة حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية.

الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في البلدان العربية
من جانب آخر واضافة الى قضايا الديمقراطية وحقوق الانسان ظلت قضية العدالة الاجتماعية ايضاً في مركز اهتمام الرأي العام العربي في ظل الاوضاع المعقدة والصعبة القائمة.

واتسع، في اوساط المثقفين خاصة، نفوذ الحركات الاجتماعية، الداعية لاحترام حقوق الانسان واقامة مؤسسات المجتمع المدني واعتماد التعددية السياسية والفكرية، والدعوة الى ارساء الحياة الدستورية الديمقراطية و تحسين ظروف المواطنين المعيشية، ووضع نهاية لأنظمة الطوارئ والاحكام العرفية والاجراءات الامنية الخاصة والاعتقالات الكيفية وغيرها، التي يجري في ظلها خنق الحريات وامتهان الانسان وترسيخ الاستبداد.

فيما ظل الحال يراوح مكانه على الجبهة الاقتصادية.

وما زالت السمة المميزة للاقتصاد العربي على العموم تتجلى في طابعه الريعي، المقترن ببنية مشوهة واحادية الجانب. وشهدت الفترة الماضية تفاقماً في معدلات البطالة وتباطؤا في وتائرالنموالاقتصادي، حيث لم يتجاوز معدل النمو خلال الـ 20 سنة الاخيرة نسبة 2 في المئة، بينما يبلغ معدل التضخم 3 في المئة سنويا.

واقترن ذلك كله بتفاقم حجم المديونية الخارجية وتصاعد وتائر نموها، حيث تضاعفت الديون في العقدين الماضيين سبع مرات ، ليصل حجمها إلى 325 مليارا عام 2000 ، بعد أن كانت لا تتجاوز 49 مليار دولار عام 1980.

والى جانب ذلك تبقى ظاهرة التطرف الديني تلقي بظلالها القاتمة على المنطقة، فيما تثـقل تداعياتها على مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والنفسية في بلداننا.

ولابد من الاشارة الى أن مأزق التنمية وما شهده العالم العربي عموما من اخفاقات، لا يعزى فقط الى العوامل الخارجية، على خطورتها وآثارها السلبية الكبيرة، بل ينبع كذلك من مواطن خلل داخلية، وقصور كبير في بلورة الاستراتيجيات التنموية المطلوبة، انطلاقا من الحاجات الفعلية للتطور ومراحله الملموسة والآليات المؤسسية الضرورية لتنفيذ الاستراتيجيات تلك.

الوضع الدولي انهيار القطبية الثنائية وتداعياته
شهد "النظام العالمي" في السنوات الأخيرة تغيراً جذرياً في هياكله السياسية والاقتصادية، وفي ميزان القوى الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية، وبداية تكون "نظام عالمي جديد" خاضع لميزان جديد يستند إلى القطبية الواحدة، الأمريكية. وارتبطت هذه التحولات بانهيار الانظمة "الاشتراكية" في الاتحاد السوفياتي وبعض البلدان الاوربية (التي جرت الاشارة اليها بالتفصيل في الورقة الفكرية: خيارنا الاشتراكي)، وبروز ظاهرة العولمة بأبعادها المختلفة، وفجر هذا كله جدلاً صاخباً تناول قضايا شتى.

كذلك اقترن هذا التحول بغزو النظام المقبور للكويت، ثم اندلاع "حرب تحرير الكويت" وما تلاها، وما نجم عن ذلك من تكريس للوجود العسكري والسياسي الأمريكي في الخليج ومنطقة الشرق الأوسط.

وجسد هذا التطور، بمجمله، المسعى الحثيث لضمان انفراد " المركز الأمريكي " بإدارة الشؤون العالمية في اجواء "التوازن الإستراتيجي الجديد"، ولاعادة صوغ مفهوم "الشرعية الدولية" بما يتناسب والتطور المذكور. وأخذ هذا المسعى زخمه الطاغي بعد أحداث 11 ايلول 2001 وما خلفته بصدد مضمون الهيمنة وآليات إعادة إنتاجها على الصعيدين العالمي والإقليمي، وتوظيف ذلك كله لصالح فرض "الاستراتيجية الكونية الجديدة".

غير ان هذا المسعى الاميركي يصطدم بسعي بقية الدول والتكتلات الاقتصادية الرأسمالية الى بناء نظام عالمي متعدد الاقطاب، بديلا عن نظام القطب الواحد.

وفي ظل المتغيرات الدولية تتواصل الدعوات لاعادة النظر في هيكلية الامم المتحدة عموما ومجلس الامن على وجه الخصوص، وللبحث في توسيع عضويته واجراء تغييرات في آليات عمله.

ولابد من القول أن أحداث 11 ايلول وتداعياتها شكلت الحدث الأهم في المشهد السياسي العالمي.

وقد بيّن حزبنا في حينه (اجتماع اللجنة المركزية في كانون الأول 2001) وهو يدين التفجيرات التي حصلت في كل من نيويورك وواشنطن، انها عملية إرهابية حقاً طالت آلاف الأبرياء، واسفرت عن نتائج خطيرة ذات أبعاد عالمية.

لكن من الضروري فهم هذا الحدث / الزلزال ليس في لحظة وقوعه فقط وإنما في ما تركه لاحقاً من تداعيات واستحقاقات.

بعض معالم الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة بعد 11 ايلول/2001
وانعكس ذلك في التحولات التي شهدتها الاستراتيجية الأمريكية منذ ذلك الحين، والتي تتجلى ابرز معالمها في :

-الانفراد بالتفوق العسكري بما يحقق السيطرة الاستراتيجية الكاملة.

-التخلي عن "استراتيجية الردع والاحتواء" التي حكمت السياسة الأمريكية إبان "الحرب الباردة" وتبني استراتيجية "الهجوم الوقائي".

-صياغة تعريف جديد للأخطار التي على الولايات المتحدة مواجهتها، يجمع في "معسكر الأعداء" "المنظمات الإرهابية" ذات "التطلعات الدولية" والدول التي تساندها.

وارتباطاً بذلك باتت الولايات المتحدة تدرس احتمال استخدام السلاح النووي ضد دول غير نووية، أو ردا على هجمات بأسلحة كيمياوية وبيولوجية أو عند حدوث " تطورات عسكرية مفاجئة " ذات طبيعة غير محددة.

-توظيف المفاهيم والشعارات الإيديولوجية من قبيل شعار "محاربة الإرهاب" كأدوات أساسية في خدمة الاستراتيجية الأمريكية في الخارج.

-استكمال بناء أدوات السيطرة العسكرية على مراكز الطاقة في العالم بدءا من الشرق الأوسط وصولا إلى نفط آسيا الوسطى.

هنا لابد من التذكير بأن هذه الأفكار ليست في مجملها جديدة. فهناك إدارات أخرى سعت إلى تفضيل هذه الركيزة أو تلك. لكن الشيء المهم هنا هو انه لم يصل التفكير الاستراتيجي قبل اليوم إلى بلورة هذه الركائز بهذا القدر من التماسك والوضوح والحماسة، إلى درجة يمكن معها القول أننا نشهد انقلابا في التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية. ومسار الأحداث خلال السنوات الأخيرة أكد بما لا يدع الشك إن القضية برمتها تدور حول خلق الآليات الكفيلة بتحقيق الهيمنة على العالم وإعادة إنتاجها في أحسن الظروف وأفضل الشروط.

في التنويعات التطبيقية لتلك الاستراتيجية توالدت مفاهيم عديدة، حيث يواصل الجناح الأمريكي المحافظ المسيطر حاليا على مجريات السياسة الأمريكية جهوده لتطبيق نظريتي "التفكيك النظيف "

و"الفوضى البناءة" بهدف إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط لتكون بمثابة نموذج يطبق فيما بعد على المناطق الأخرى. وهي نظريات وضعتها وروجت لها مراكز أبحاث ودراسات أمريكية في مقدمتها معهد واشنطن الذي يسيطر عليه المتطرفون الأمريكيون.

إن منظري الاستراتيجية الأمريكية ينطلقون في بناء مفهوم " الفوضى البناءة " من فكرة قوامها أن الوضع الحالي في الشرق الاوسط "ليس مستقراً" وإن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي من نوع "الفوضى الخلاقة" التي ربما تنتج في النهاية - حسب الزعم الأمريكي والذي تحدثت عنه اكثر من مرة وزيرة الخارجية الأمريكية كوندليسا رايس- وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة حالياً.

تهدف "الفوضى البناءة " إذن الى إعادة رسم الخريطة الجغرافية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط لتكون بمثابة نموذج يطبق فيما بعد على المناطق الأخرى.

هكذا، إذن، يمكن القول أن تفكيك المنطقة هو خطوة أساسية في مخطط المحافظين الجدد في أمريكا لإعادة بناء المنطقة ورسم خريطة جديدة لها تتطابق مع مصالح الولايات المتحدة ودورها الجديد على الصعيد العالمي.

إن الاستجابة لتوسيع دائرة فهم " الفوضى البناءة",‏ راجع إلي أنها لم تعد مجرد طرح نظري فقط‏, ولكنها استراتيجية يجري تنفيذها بالملموس ووفق خطوات محددة.

ويبدو من قراءة دقيقة للافكار اعلاه ان " صناعة الفوضي " نابعة على ما يبدو من ايمان عقائدي عميق لدي من يصنعون السياسة الخارجية الأمريكية يعتمد على فكرة مضمونها ان التغيير في حد ذاته لا يكفي‏, وأن الأوضاع الداخلية في المنطقة وثقافتها تحتاج تحولا شاملا ‏. ومن هنا كان ولع المنظرين الاستراتيجيين هؤلاء بمفاهيم من قبيل " الفوضى البناءة", التي تعقبها إزالة الأنقاض والأشلاء,‏ ثم تصميم جديد لبناء مختلف.

بعض معالم التحولات في الاقتصاد العالمي
جاءت أحداث 11 ايلول/سبتمبر 2001 لتحفز انتشار "عدوى" الركود وهبوط معدلات النمو الاقتصادي، وتجعل منه السمة المميزة للاقتصاد العالمي. إلا ان موجة جديدة من التوسع الرأسمالي العالمي اخذت تتحرك في وقت لاحق.

وتتميز المرحلة الراهنة بـعدم استقرار واضح، يمثل نقيضاً لحالة الاستقرارالنسبي التي ميزت مرحلة ما بعد "الحرب الباردة".

وارتباطاً بالتغيرات الواضحة في ميزان القوى العالمي : السياسي والاقتصادي، لم تعد الدول المهيمنة على النظام الدولي الجديد تتردد من اللجوء إلى العنف السياسي، ومن ثم التدخل العسكري، لإدارة النظام وضمان اشتغال هذا المشروع "الليبرالي".

ويستمر في الوقت نفسه تعمق التناقضات الكبيرة المستعصية التي وسمت التطور الرأسمالي خلال القرن الماضي، وتخوض المراكز الرئيسية الثلاثة - الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والكتلة الآسيوية بزعامة اليابان - صراعاً ضارياً على اقتسام ثمار الهيمنة العالمية. وتنشط مؤسسات دولية مثل منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بتعاون وثيق مع الاحتكارات متعدية الجنسية والمصارف العالمية الكبرى والدول الرأسمالية المتطورة لإخضاع العالم بأكمله وشعوبه لاملاءاتها الاقتصادية والسياسية. ولكن بمقابل هذا كله، تساهم التناقضات المذكورة ويسهم تفاقمها في خلق ظروف موضوعية مواتية لتجدد نضال الشغيلة والشعوب.

ومن جهة أخرى يلاحظ تعاظم عسكرة العلاقات الاقتصادية الدولية وتوظيف القوة العسكرية لتحقيق نتائج اقتصادية. كما يلاحظ تنامي القوى الطاردة عن المركز، حيث يزداد حجم الأقطاب الأخرى الناشطة في الاقتصاد العالمي. ويتنامى كذلك النزوع نحو التكتلات الاقتصادية الإقليمية بهدف ضمان القدرة على التنافس في إطار صراع ضار من اجل الهيمنة على الأسواق ومناطق النفوذ. ويأتي هذا التطور مع تزايد الفتوحات التكنولوجية، وانفتاح العالم عبر فضاء الإنترنت والاتّصالات والإعلام الفضائي، وظهور التجارة الإلكترونية .. الخ.

وشهدت الفترة الماضية تصاعد الدعوة الى "تحرير قوى السوق" مقرونة بشعارات تجزم بتفوق القطاع الخاص على القطاع العام ( الحكومي) بشكل مطلق، وإعطاء شرعية للتفاوت الاجتماعي، والوقوف مبدئياً ضد تدخل الدولة في أي نشاط اقتصادي.

انتصارات قوى اليسار في امريكا اللاتينية
في بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين ، وبعد العودة إلى الديمقراطية في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية، اجتاحت القارة الجنوبية رياح عاتية من " الليبرالية الجديدة " التي أعادت تشكيل السياسات الاقتصادية الاجتماعية التي سارت عليها بلدان أمريكا اللاتينية منذ انتهاء عهد الديكتاتوريات العسكرية مع أواسط الثمانينات من القرن الماضي.

ولكن هذا النهج لم يستمر طويلا، وها هي الريح تغير اتجاهها نحو اليسار. فقد شهد المشهد السياسي في امريكا اللاتينية خلال السنوات الاخيرة تحولات مهمة حتى اطلق الكثير من المحللين السياسيين فكرة ذات مغزى مؤكد عمق تلك التحولات عندما أشاروا الى ان جزءا كبيرا من مساحة هذه القارة الواسعة اصبح يكسوه اللون الاحمر، للدلالة على صعود قوى اليسار هناك ووصولها الى السلطة في العديد من البلدان من خلال الانتخابات وصناديق الاقتراع. فقد تحقق الانتصار في كل تشيلي وفنزويلا والبرازيل والسلفادور والاكوادور وبوليفيا. كما عاد الساندينيون بقيادة أورتيكا الى السلطة في الانتخابات البرلمانية الاخيرة. ان هذه النتائج تبين انه لم تعد أمريكا اللاتينية هي «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة كما كان سابقا.

وبالمقابل سوف تشهد أمريكا الوسطي والجنوبية في الفترة المقبلة العديد من المعارك الانتخابية، ويتوقع الكثيرون أن تكون نتائج معظمها لصالح اليسار.

ان القراءة الصحيحة لتلك التحولات وتحديدا تفسير صعود قوى اليساري في هذه القارة المضطربة والحبلى بتناقضات اجتماعية عميقة ومتفاقمة باستمرار، وبعد عدة سنوات من انهيار المعسكر الاشتراكي في اوربا والاتحاد السوفييتي، هو دلالة تاريخية بالغة العمق، على أن النضال الطبقي والاجتماعي، النضال من اجل العدل والحرية، لا يمكن أن ينطفيء أو يموت، وأن الإنسانية في سعيها إلى التقدم تسعى موضوعياً إلى العدل الاجتماعي، إلى كسر الهيمنة الرأسمالية، وإلى بناء عالم جديد.

ان صعود قوى اليسار يأتي ردا على مشاريع وسياسات التكييف الهيكلي التي طبقها صندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية الاخرى. ويمكن القول ان انتصارات اليسار في هذه المنطقة جاءت ثمرة لانتفاضات شعبية قامت بها قطاعات واسعة من الجماهير التي ضاقت ذرعا بالعولمة الراسمالية لحساب الشركات الأجنبية الاحتكارية، وبعمليات السلب والنهب لثرواتها وفقا لسياسات وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فقد قادت وصفات " الليبرالية الجديدة " ليس الى التغلب على الازمة البنيوية العميقة التي كانت تواجهها بلدان هذه القارة بل على العكس فان تلك الوصفات المقطوعة الجذور عن الواقع المجتمعي تسببت في تفاقم تلك الازمة واكسبتها مديّات جديدة وساهمت في تعميق التبعية للعالم الراسمالي المتطور. لقد قاد النظام الاقتصادي الذي نظّر له خبراء صندوق النقد الدولي الى استقطاب عميق في مجتمعات هذه البلدان بحيث ازداد الفقراء فقرا وتعاظمت ثروة الاغنياء ممن ينتمون الى الشرائح والفئات المرتبطة بالقوى الميسطرة في العالم الراسمالي المتطور. فمن بين ما يزيد عن 550 مليونا عدد سكان القارة مازال 220 مليونا من الفقراء، بينهم مائة مليون فقراء جدا ومعدمون ويعيشون علي أقل من دولار واحد يوميا. لقد ادى هذا الاستقطاب وعمق الازمة الى تنامي حركات احتجاجية تأطرت في قوى مجتمعية عديدة مناهضة لمنطق التطور التابع في هذه البلدان، وتجسد ذلك في نتائج ملموسة على الارض من خلال صناديق الاقتراع وما أفرزته من نتائج، هي في جوهرها، تعبير عميق عن نمط التطور الذي هندسه ونفذه خبراء ومنظرو صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

هكذا، إذن، فبعد سقوط الدكتاتوريات العسكرية في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وموجة الديموقراطية التي اجتاحت أمريكا اللاتينية في عقد التسعينيات، هاهو اليسار الاشتراكي، على تنوع مشاربه ومرجعياته، المناهض للسياسة الأمريكية، يصبح معطى جديداً في القارة الجنوبية.‏

وإذا كان سقوط المعسكر الاشتراكي احدث في البداية تراجعا لقوى اليسار والتقدم الاجتماعي، فان تطور الاحداث بيّن ان المجتمع الإنساني استعاد توازنه واستعاد ثقته بنفسه، وبدأ بصياغة الأشكال الجديدة، غير المطروقة سابقاً، لتصعيد النضال الاجتماعي –الطبقي للعدل والحرية.

وثمة العديد من الدروس المستخلصة مما حدث في هذه القارة الملتهبة يتعين قراءتها، وفي مقدمتها ان العالم بحاجة الى مشروع شامل وبديل للنظام الامبريالي، بحاجة إلى مشروع- حلم يلهب خيال وطاقات الشعوب ويحررها من حاجز الخوف، وينمي ارادتها ورغبتها العارمة في التطلع الى الحرية والعدالة والمساواة.

العولمة-الظاهرة واشكال تجليها
شكلت العولمة واحدة من أهمّ وأعقد الظواهر التي برزت في أواخر القرن العشرين . ومن الضروري التمييز بين العولمة كظاهرة موضوعية تستند إلى التقدم الهائل في تقنيات المعلومات والاتصالات وتحول المعرفة العلمية إلى قوة انتاجية مباشرة، وبين إشكال تجليها والقوى المتحكمة في اتجاهاتها ومسارها الخاضعة لمنطق الرأسمال والربح. لذا فالعولمة بشكل تمظهرها الحالي، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وعلى ما تحمله من جوانب ايجابية، باتت شكلاً جديداً من أشكال السيطرة والهيمنة. لذا يجري الحديث عن "العولمة الليبرالية الجديدة" التي تنطوي عن نزعة لابتلاع العالم عن طريق آليات السوق المعولمة.

وعندما يجري الحديث اليوم عن ضرورة التصدي للعولمة فإن المقصود بذلك ليس الظاهرة الموضوعية ذاتها، إنما رفض تجليها الراهن أي العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تشق طريقها الآن لصالح حفنة محدودة من الشركات متعدية الجنسية وبعض القوى المسيطرة في قلاع رأس المال ضد مصالح الشعوب. وبمقابل ذلك يتعين التأكيد على ضرورة تنمية الجوانب الإيجابية لظاهرة العولمة كثمرة للثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة، والاستفادة منها لصالح الشعوب.

وقد نشأت في مواجهة العولمة الرأسمالية المتوحشة وتطورت حركة عالمية البعد تضم طيفاً واسعاً من القوى المناهضة لها على امتداد العالم ، وانطلقت في نضال مباشر ضد الإجراءات الجائرة لارباب العولمة الرأسمالية، وسعيها لسلب العاملين والشغيلة من المكاسب الاجتماعية والحقوقية التي احرزت بفضل نضالاتهم، مثل تقليص وإلغاء الحقوق والضمانات التي تنص عليها قوانين العمل وطرد الفلاحين من أراضيهم وتقويض الخدمات الاجتماعية.

لقد استخلص التقرير السياسي الصادر عن المؤتمر الوطني السابع لحزبنا (آب 2001) استنتاجا ما زال يتمتع براهنيته، وقوامه " أن حصيلة التطورات على المستوى الدولي تشير إلى الاتساع المضطرد لآفاق النضال العالمي في سبيل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ".

وذلك ما يجسده التأييد المتسع النطاق لشعار عولمة التضامن في مواجهة عولمة رأس المال، وفي النشاطات المتزايدة لقوى اليسار، ومن بينها الأحزاب الشيوعية، التي تكافح في ظروف بالغة التنوع من اجل بديل إنساني، يلبي طموح الشعوب في مستقبل يقوم على العدالة والديمقراطية والتقدم والاشتراكية.

ورغم الظروف الدولية المعقدة، استطاع العديد من الأحزاب الشيوعية واليسارية والديمقراطية، تعزيز مواقعها وزيادة دورها وتأثيرها في بلدانها، وفي الدفاع عن مصالح الكادحين. كما حققّت اللقاءات الدولية والمؤتمرات العلمية التي جمعت أحزابا شيوعية وتقدمية وشارك حزبنا فيها، نجاحات في بحث القضايا المشتركة على الصُعد الإقليمية والعالمية، وتقريب وجهات النظر، وتحديد مواقف معللة من الظواهر الجديدة كالعولمة وثورة الاتصال والمعلومات.

لقد أكدت هذه اللقاءات ضرورة تطوير وتنسيق الجهود من اجل تقديم تعليلات علمية بشأن تلك الظواهر، وفضح السياسات والإيديولوجية التي تقوم على الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، والنتائج السلبية التي اسفرت عنها في البلدان الرأسمالية وفي البلدان النامية على حد سواء.

مهماتنا الراهنة
إزاء التطورات في المرحلة المقبلة، المفتوحة على احتمالات عديدة، لا بد لحزبنا ورفاقه من مواجهة المنعطف التاريخي الذي تمر به بلادنا كقوة وطنية جامعة، موحِدة، تعبر دائماً عن المصالح الوطنية العليا، وعن ضمير الشعب، وتجسّد، بسياستها وممارستها، الوحدة الوطنية، فتتحول بحق إلى القوة المحركة لأوسع حركة وطنية، وفي الوقت نفسه الرافعة لأوسع حركة ديمقراطية، تبني دعائم دولة عراقية ديمقراطية حديثة تقوم على حقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، وتكافح لإنهاء تركة الاحتلال والسيطرة الأجنبية واستعادة السيادة والاستقلال وترفض الاستبداد أيا كان. واكد المؤتمر ان البديل لكل ما تشهدة بلادنا الان من ازمات واختناقات هو المشروع الوطني الديمقراطي الذي يعكف الحزب على صياغته وتقديمه كأساس لتجميع وتوحيد القوى الوطنية العراقية .

وارتباطا بذلك تنهض أمام حزبنا، ، المهمات الرئيسية الآتية:

1- إيلاء العناية اللازمة بالحزب ومنظماته والارتقاء بحضورنا السياسي والفكري والاعلامي والثقافي ووجودنا التنظيمي، نوعا وكما، وتقوية صلاتنا وعلاقاتنا بالجماهير وتبني مطالبها والدفاع عنها. وهذا يتطلب إيلاء اهتمام مضاعف بعملنا الحزبي والتوظيف السليم للإمكانيات والطاقات المتوفرة.

2- الارتقاء بنشاط الحزب على الصعد الفكرية والثقافية والاعلامية، والعمل النشيط مع الأوساط الواسعة من حملة الفكر التنويري والتقدمي ، للارتقاء بالوعي الاجتماعي وإشاعة وترسيخ القيم والمفاهيم العقلانية والديمراطية، وتلك التي تدعو لأحترام حقوق الانسان والحريات المدنية ، والنضال من أجل إعتمادها في بناء الدولة وممارسة السلطة.

3- ضمان الامن والاستقرار وعودة الحياة الطبيعية الى البلاد ودحر التخريب والإرهاب والإرهابيين من التكفيريين والصداميين والمجرمين القتلة وفلول النظام المباد . والعمل من اجل احداث نقلة هامة على صعيد معالجة الملف الامني وضمان نجاح خطة فرض القانون وشمولها كافة ارجاء الوطن ، وتأكيد اهمية اعادة بناء الاجهزة الامنية والعسكرية كمؤسسات وطنية عراقية بعيدا عن المحاصصة الطائفية والقومية واعتماد معايير الوطنية والكفاءة والخبرة والنزاهة والمهنية في بناء مؤسسات الدولة كافة .

4- مواصلة المساعي، مع كافة الجهات والمؤسسات الحكومية والسياسية والشعبية، لانجاح مشروع المصالحة الوطنية كونه الضمانة لتهدئة الاوضاع واعادة الامن والاستقرار، وبما يؤمن الظروف المناسبة للسير قدما على طريق بناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

5- العمل على تعبئة جماهير الشعب وقواه الوطنية من اجل استعادة الاستقلال والسيادة، وإنهاء تركة الاحتلال والوجود العسكري الاجنبي وبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.

6- العمل، ومع القوى الوطنية الاخرى، على بناء دولة المؤسسات والقانون ودعم القضاء المستقل وتحريم تجاوز الشرعية القانونية وتفعيل دور المؤسسات التشريعية والرقابية وخصوصا مجلس النواب ومجالس المحافظات والبلديات ومؤسسات المجتمع المدني والتاكيد على احترام حقوق الانسان.

7- دعم وتشجيع انتهاج سياسة خارجية نشطة، مستقلة ومنتجة، في اقامة افضل علاقات حسن الجوار، تقوم على الاحترام المتبادل وضمان المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، ولضمان التاييد العربي والاقليمي والدولي الفعال لشعبنا في مسعاه لبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد، وفي مكافحة الارهاب واعادة بناء اقتصاده الوطني وتمكينه من العودة لممارسة دوره الطبيعي في الاسرة الدولية.

8- السعي، بكل الوسائل والطرق السلمية والدستورية، للتصدي لمحاولات التضييق على الحريات العامة وتشويه الممارسة الديمقراطية ومنع الناس من التمتع بحقوقهم المكفولة دستوريا، تحت ذرائع وحجج تسعى لتأطير المجتمع بنمط محدد بخلاف ارادة الناس ورغباتهم وتطلعاتهم.

9- دعم الحكومة في توجهها لانهاء المليشيات وتصفيتها، لما باتت تشكله من اخطار جدية بسعيها لاحلال نفسها محل الدولة ومؤسساتها. فلم يعد مقبولا، تحت أي مبرر، الدفاع عن وجود السلاح بغير يد الدولة.

10- مواصلة الجهد، على كافة الصعد، للتصدي للطائفية وفضح مرامي الساعين الى تاجيجها والتبصير بمخاطر الاحتقان الطائفي والعنف وتصاعده، والسعي الى نبذ التوظيف السياسي للدين وإستغلاله لأغراض ومصالح فئوية ضيقة وابقائه في منأى عن التنافس والصراع السياسي، والوقوف بوجه جميع أشكال التعصب القومي والديني والمذهبي والعشائري والمناطقي، وتأكيد روح المواطنة والهوية الوطنية.

11- دعم وتطوير النضالات المطلبية الهادفة لتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين، وفي مقدمتها الكهرباء والمشتقات النفطية والماء والنقل والخدمات الصحية والتعليمية، واستمرار العمل بتوفير الخدمات الأساسية مجانا للمواطنين، وتقديم الدعم في مجال توفير المشتقات النفطية.

12- دعم نضالات العاطلين عن العمل من أجل الحق في العمل، والمطالبة بصندوق للتضامن الاجتماعي والتأمين ضد البطالة، مع إلزام الحكومة بتقديم مشروع ملموس لمكافحة البطالة باعتبارها مشكلة مركبة ذات إبعاد اقتصادية – اجتماعية - سياسية. ويمثل التوجه نحو مضاعفة تخصيصات شبكة الحماية الاجتماعية ثلاث مرات خطوة سليمة ينبغي توسيعها وتعميقها، باتجاه بناء نظام ضمان اجتماعي متكامل.

13- مطالبة الحكومة بإعادة النظر في سلم الرواتب والأجور بما يتناسب مع تحقيق العدالة والمساواة ورفع الحد الادني للأجور لمواجهة ارتفاع الأسعار والتضخم، والإسراع بتشريع قانون التقاعد وتطبيقه لضمان العيش الكريم لفئة واسعة من المجتمع وان يشمل المتقاعدين القدامى والجدد.

14- مواصلة النضال وتحشيد القوى من أجل الوقوف بوجه اعتماد آليات السوق المنفلتة والتفريط بالقطاع العام وإضعاف الأنشطة الانتاجية الوطنية والعمل على ايقاف عمليات الخصخصة في الظروف الراهنة، والكفاح ضد الوصفات المطروحة من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشأن" اعادة تكييف "الاقتصاد العراقي والتثقيف بمخاطرها الفعلية. ويتطلب هذا العمل على دعم النضالات المطلبية من اجل إعادة تأهيل المعامل والمصانع وتوفير مستلزمات ذلك ،إلى جانب ضمان إدارات كفؤة لها. وهذا لا يتعارض مع دعم القطاع الخاص وتمكينه من المساهمة الفعالة في اعادة بناء البلد وتنميته ورقيه، وتشجيع الرأسمال الوطني على الاستثمار والسعي لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية وفق ضوابط تحمي المصلحة الوطنية.

15- النضال ضد كل اشكال الفساد، ووضع القوانين والضوابط الكفيلة بعدم الإفلات من العقاب في الجرائم الاقتصادية ومن أجل استرجاع أموال الشعب المنهوبة وممتلكاته المسلوبة، والعمل على تحقيق الشفافية في أداء هيئة النزاهة وتحديد صلاحياتها ومهامها ومرجعيتها بقانون، اضافة الى تفعيل دور الرقابة المالية.

16- السعي لالزام الحكومة بمواصلة تزويد المواطنين بشكل منظم بكامل محتويات البطاقة التموينية وتحسين مفرداتها ونوعيتها، والتصدي لأي محاولة لإلغائها أو أبدالها بالنقود، أو قضمها التدريجي، مع التأكيد على رفع سقف المبالغ المخصصة لها.

17- تقوية علاقات حزبنا مع الأحزاب والقوى السياسية الأخرى، وتنشيط العمل المشترك وخاصة مع القوى الديمقراطية، وتعزيز التعاون والتنسيق مع الأطراف المتوافقة مع حزبنا أو القريبة منه في التوجه السياسي، من خلال وضع برامج مشتركة وملموسة. ومن الضروري ،خلال ذلك، ترسيخ تقاليد الديمقراطية في العلاقات مع القوى الأخرى، باعتماد مبادىء الحوار، واحترام الرأي الآخر، ونبذ العنف، والتسامح.. كما تشتد الحاجة لتطوير العلاقة بقوى التيار الديمقراطي بمعناه الواسع، ارتباطا بالسعي لتحقيق خيارنا ومشروعنا الوطني الديمقراطي.

18- العمل النشيط على تعبئة الأوساط الواسعة من المثقفين والمعنيين بشؤون المجتمع المدني لإقامة أوسع علاقات ممكنة مع الجماهير وتهيئتها فكرياً وسياسياً لمواجهة الأحداث وتطوراتها المتسارعة.

19- إيلاء الاهتمام الضروري لمسألة التضامن على الصعيد الدولي، والنهوض بالعلاقات مع القوى التقدمية واليسارية والاشتراكية والشيوعية، والإفادة من ذلك بنحو خاص في دعم جهود شعبنا لاسترداد السيادة والاستقلال، وإنهاء تركة الاحتلال والوجود العسكري الاجنبي، وإرساء أسس النظام الديمقراطي الفيدرالي في بلادنا.

ان حزبنا ليعبر عن ثقته غير المحدودة بشعبنا العراقي، وبقدرته على مواصلة مسيرته، رغم كل ما يواجهه من صعوبات وعراقيل، نحو اقامة دولة المؤسسات والعدل والقانون، واستعادة السيادة الوطنية الكاملة وبناء العراق الديمقراطي الفيدرالي الموحد.