|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأحد  9  / 10 / 2016                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

في الذكرى السابعة لرحيل الفنانة غادة حبيب
رحيل مبكر لراصدة أحلام النساء الحالمات

محسن الذهبي -  لندن
(موقع الناس)

في مثل هذه الايام قبل سبع سنوات ، استشعر ساعي البريد ان حادث قد وقع خلف أبواب شقتها المتواضعه في أحد الأحياء  اللندني . فأبلغ الشرطة التي سكتشفت ان الفنانة العراقية المغتربة وسفيرة السلام (غادة حبيب) قد تهشم رأسها بيد أثمه ، لم تمهلها أن تكمل مشروعها الابداعي الذي كانت تخطط لاكماله بمعرضها الجديد  شتاء ذلك العام بعد أن عادت من دمشق  تحمل معها مطوى المعرض.

واليوم في ذكرى رحيلها نحاول تسليط الضوء على  جانب من أبداعها في تجسيد معاناة المراة في لوحاتها الفنية التي تركتها أرثا أبداعيا متناثر في بيوت الاصدقاء  ،  وقبل ان نستقرىء تجليات الرمز والاسطورة والبعد  الصوفي في  اعمالها ، يجب ان نعترف ان اغلب النقاد  الذين كتبوا  عن الفنانة استندوا  الى ان اعمالها تستند الى  عاهتها  فقد اصيبت بالصمم  في سن الرابعة عشرة  متناسين التأثير المباشر للموروث الرافديني والاساطير المنتشرة بين ثناياه  وصورة المرأة فيها ودراستها في مركز الفنون الشعبيه ببغداد وتاثرها بهذا الموروث ،  ووعي  الفنانة كامرأة عراقية نشأت في اجواء فنيه لها مميزاتها ومكابداتها في ضروف صعبة ومحاولاتها الجادة في خلق اسلوب متميز .

وهذا ما يذكرنا بمقولاتهم  عن الفنان  العالمي  (فان كوخ) وقصة ذبحه لأذنه والمشكوك فيها  اصلا  او حكاية الفنان السوري (فاتح المدرس) وتأثير طفلته المعاقة  المنزوية في المنزل وعلاقتها بقصر قامة الاشخاص الذين يرسمهم .

 أن اعمال الفنانة تقترن بمدلولات متحركة تحيلنا بين  الواقع والاسطورة والرمز  الحلم  فهي  تحول  الرمز والاسطورة  الى واقع  انثوي يومىء من خلال  التجليات  الى ان تصبح  تلك  الانوثة  لمغرقه  بالحلم  الى اسطورة تمد فضاء الانبعاث في اللوحة ، اذ  تتنافذ المشهدية بشكل  منفتح على  المطلق وبوابات هذا الانفتاح تتخذ بعدا ثلاثي  الابعاد حيث تتكافأ معطيات  الحواس المعطلة تنغيما مع  معطيات  الاغتراب وذلك في مقامين هما العشق للوطن وانبثاق اللهفة  واكتسابها شكلا للتنغيم الداخلي والعلوي  فتتحول اللحظة  الى انكشاف باقصى  حالتها وتنعطف البنية  المد لولية الى فضاء  واسع تطرزه  الالوان الزاهية بدلالات استرجاعيه  لحلم  ما .

فالايقاع  الداخلي  لكل  عمل  فني يوحي  بتلك الانفعالات والاشراقات واندماجها بالحلم  كخميلة  الوان  تزدان  بالبهجة والتامل لكنها  في  ذات  الوقت تنكمش  في  حزن  ما  يختزن من حزن  الموروث  العراقي  الشيء  الكثير ومن الايحاءات المغيبة لتكون محورا مركزيا في  نسيج لوحة  الفنانة  (غادة حبيب)  وما تهمس به احتمالات من  عشق  التحول يدور  بين  الانثى  والفضاء واشكالية  (الوطن -  المنفى) .

فتتسع  المدلولات  لتصب في ذات  الفنانة مشكلة من  الحيز  الحلمي  للذاكرة  المتأمله عبر تلك  اللوحات ، وتتنافذ تلك  المشاهد بمعنى منفتح على  المطلق  حيث تكشف عن هاجس الرمز الاسطوري للواقع ، فتعريه وتنزع عنه كل  الاقنعة  بسردية تشكيلية متنامية   للصراع  الداخلي  وبذلك يتداخل فضاء الوجود مع  فضاء الفراغ المنفتح على اعماق هذه البنية الدلالية الى اعلى توتر  حلمي  فضائي ملون عبر ايحاءات  الشكل  الانثوي  الطفولي  المظهر والغافي  باغمائة حلم .  فيتشعب  الرمز الى  مدلولات متنوعه بغنائيتها تغري بانبعاث المتجسد الابدي للانثى  الحلم النقيض  الصارخ  للواقع  المؤلم .

فالخلق الفني عملية منطقية للانتقال  الى  المتجدد  في  الفن وخلق منظور بصري متميز باسلوبيته  الحلمية  المرتبط  بالحياة انما هو خلق نزعة هادفة الى التحرر من قوانين تشكيل الصورة ومن فرض المحاكاة المتكررة كما في  بعض الاعمال  الفنيه ، لتنحو صوب اسلوبيه مستقلة تبحث عن الجوهر الفني والكشف تفسيرا   لشيئية ما . يقول رولان بارت (ان الاثر لا يخلد لكونه فرض معنى وحيد على اناس مختلفين ، وانما لكونه يوحي  بمعان  مختلفة لانسان وحيد ، يتكلم دائما اللغة الرمزية نفسها خلال أزمنة متعددة ..)  فهي  مذ غادرت  بغداد  الحلم  ، بقيت  ساكنه  فترة  من  الزمن   تاركتا  ريشتها  والوانها لم  يحركها  ضباب  لندن لترسم  شيء ما. تشغل  نفسها  او  تتشاغل  بالرسم  على  الزجاج او هموم الاغتراب  عبر  نشاطات اجتماعية كثيره  . لكنها  لا تتحتمل  ذلك  كثيرا فتعود لتخرج علينا  بمجموعة جديدة  من الاعمال  الفنيه والتي  تتعمق فيها  الفنانة بمدلول الانثى فتصورها باشكل متعددة .  وتطور بذلك  اسلوبها بشكل  لافت .  

فالفنانة (غادة حبيب) تشتغل  على البوح والرصد  الشعري مثلما تشتغل على على  العالم الجمالي  المرتكز على  الايقاع الداخلي  للذات الانثوية في انجاز اللامالوف ، انجازا يتعدى مسافة المدلول الاولي ، ويتحرك في معنى المعنى . تحركا يتناسب طرديا مع حركة الانزياح الايحائي المركب لتخرج بلوحاتها الى ميكانيزما الصورة وحركتها  وحواسها ومخزونها  الثقافي الاسطوري  والحلمي . للتفاعل مع هذه القصدية الانسيابية وتداعياتها مبتعده عن البنية السطحية للوحة الى البنية المعمقة .وتبقى تجربة الفنانة متميزه بالتجريب التخيلي المرهون بمنظومة العلاقات الانزياحية التي تنتجها القصدية التشكيلية  معتمده على الابتعاد عن دلالة المطابقة مقتربة من دلالة الايحاء .

ان المتأمل لاعمالها  الاخيرة يلاحظ تناوب  الايقاع بين  المرئي و اللامرئي تبعا لكثافة التخيل ووعي عين التلقي فيميز ذلك الاندهاش الهامس المنبثق من رومانسية الرمز (المرأة) وتغليفه بومضات الغموض لتنتج اعمالا ذات بعد حدسي اسطوري . وتخلق نوعا من  الدرامية  المشهدية المكثفة معتمده على هارمونية لونيه بارده  ومنفتحه على التأويل  البصري . وكاننا امام معادل موضوعي بين الجنه بنعيمها وزهو الونها وصورة  المرأة الرمز التي تجسد حلم المعاناة اليومية  والتامل  في حزانها . فاما الذي  تريد ان  تقوله  الفنانة  (غادة حبيب) غير انها تذكرنا  برصد احلامها  واحلام كل نساء الارض بغد  اكثر  رومانسية وبعيد كل البعد عن  كل  انواع  الدمار الذي  يشهده العالم انها تقلب  المعادلة فتطرح الجميل  لتذكرنا  بالقبح  اليومي والاستلاب الذي تعاني منه النساء بل الانسان  بشكل  عام .

ان  نساء (غادة حبيب) رحمها الله  مهوسات  بالحلم  مثلها ، وليبقى لهن الحلم  هو الملاذ في الحياة  والفن .
 


*
كاتب وناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا
 

 
 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter