| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأربعاء 6 / 1 / 2021 أرشيف المقالات
حلو ومر السنين.. استنهاض للذاكرة المشتعلة
د. عبد الرضا عوض
(موقع الناس)
إن فن كتابة المذكرات أو السيرة الذاتية هو نوع من الاجناس الادبية النثرية المؤثرة مجتمعيا والتي تفرض على كاتبها الترتيب الزمني للأحداث بمنطقية تكشف عن وعي منتج لها مستعيناً بذاكرته.. وفي هذا السياق يفترض الالمام – جهد الامكان - بمطلق المراحل والتركيز على الاهم فالمهم مما يندرج ضمن السيرة الشخصية ، وقبلها يعد ويرسم الاسلوب الذي يمكن توظيفه في صياغتها والاحاطة بها لتقديم تجربة ابداعية تعيد انتاج حياة شخصية تشغل حيزها المؤثر بما تقدمه من ابداع يستفز الذاكرة فيترك بصمته المؤثرة بفعله وتفاعله مع القارئ ..مركزا على تسجيل منجزه وتحليله والتعليق عليه بقصد الافادة المعرفية وتحقيق المتعة المنبثقة من ثنايا التجربة التي تعتمد البناء الفني واضفاء عنصر التشويق وجودة السرد ودقته .. لذا فهي ليست تاريخا لحياة الفرد بالمعنى الدقيق بل هي جزء من التاريخ الانساني...وهي نص يتميز بالموضوعية ويكشف عن جرأة كاتبها في عرض ما يرتبط بحياته ..وها هو السيد العميدي يبوح بأسراره وسفره الماتع..
" حلو ومر السنين " سياحة أدبية استنهض بها الأديب الفنان غالب العميدي ذاكرته وسطر لنا سفر رائع من ذكريات عصفت بحياته الشخصية متداخلاً مع مفردات وذكريات من مدينته الحلة الفيحاء التي انجبته وتربى في ازقتها ، فعلى مدى ستة عقود من عمره التقط شذرات من تلك المعاناة لينثرها علينا ، وفي هذا الحين تختلجني الفرحة مباركاً لصديقنا العميدي على ذاكرته في سرده لهذا السفر المنفرد باسلوبه التوثيقي.
عن دار الفرات للثقافة والإعلام في الحلة صدر كتاب (حلو ومر السنين) من تأليف الفنان غالب العميدي مكون من (360) صفحة من الحجم الوزيري وقد زينه بالعديد من الصور التذكارية ، وطرز مقدمته الأستاذ الدكتور علي الربيعي بكلمات رائعة اختصر فيها رحلة العميدي بقوله: (يبوح العميدي في مذكراته هذه عن تفصيلات حياته التي جاوزت السّتين بأربع سنوات، سنون سرد فيها وقائعًا سردًا دراميًا مونودراميًا مؤثرًا، تلوّنت صيَّغها بين مُعلن الأحداث وخفيّها، بين أيام حلوةٍ ومريرةٍ، بين تفاؤل وابتسامات واشراقات وبين خيبات وكدرات وعذابات، بين الأخذ والجود، بين .. بين.. الخ.) ص7 .
وقبل أن نتوغل في ثنايا الكتاب لابدّ لنا أن نقول أن الفنان والأديب الأستاذ العميدي عرف عنه شخصية قيادية ناجحة ، دؤوباً في عمله يشهد له بذلك القاصي والداني ، محباً لمدينته ، - وقد لمست ذلك عن قرب حينما أوكلنا اليه مهمة رئاسة مهرجان تمصير الحلة الخامس والسادس – ويحمل افكاراً وطنية معتدلة ، فضلاً عن منبعه الحسن الذي تمثل بإنتمائه الى سلالة آل محمد (ص) حمل صفات حسنة وقويمة ميزته بالتزامه الوظيفي صفة قل أن نجدها بين المدونين ، لقد نهل وشيد لنفسه خلفية المثقف الواعي من خلال نهمه في قراءة كل ما يقع بيده من كتب الأدب والفنون والتاريخ غائراً الى أعماق التاريخ ، فقد نشأ في بيئة لامست التطور التقني وعاشت مرحلة التطور الاجتماعي وراقب ولاحق التطور وتقلبات العصر ، فالمحلة التي غرف من تقاليدها القيم الإنسانية الأصيلة ألهمته الصبر والقناعة ، مواكبا لكبار الشخصيات الاجتماعية والأدبية فجاءت كتاباته في هذا السفر مغلفة بوجهات نظر إنسانية من جهة ، ومكملاً لإبداع مهنته المسرحية التي ابدع بها من جهة ثانية ، فقد درس الفنون ومارسها بحياته العملية، وتابع مناشطة الفكرية متابعة متحفظة بعد رحلة طويلة في اخاديد طبقات المجتمع وأصحاب القرار الإداري والوظيفي في مدينته، فعمله الوظيفي كان يفرض عليه متابعة وتعقيب لما يطرح من افكار ، فهو يتمتع بوساعة المعرفة ، ومتابعة فذّةٌ في المحورين الاجتماعي بجانبيه – الوظيفي والمدائني- ثم الثقافي ، ولا نغالي أن قلنا انه مثقف سليط شجاع ، لم يتنازل عن مبادئه التي آمن بها .
هذا المنجز كتاب مميز لأنه تعامل مع الحقائق بطريقة مجردة من الأهواء فهو يسلط الضوء على بعض المعاناة نتيجة التحولات الفكرية والتطورات العلمية والانقلابات السياسية ، وفي تدوينه لم يعتمد الأسئلة المباشرة لإنجازها ولا الأجوبة الغيبية لانحسارها، وإنما آثر أن يتخذ طريقاً مغايراً من خلال تماهي الطرح بالأسئلة وهذا ما لمسناه في ذاكرته الوقادة فهو يستهل مدونته بمقدمة جميلة جاء فيها : (التجاربُ الإنسانيةُ دروسٌ وعِبَرْ، ولكلِّ إنسانٍ تجربتُه التي يمرُّ بها مخيّراً كان أو مسيّراً، والعراقيون وبخاصَّةٍ منهم من هم من جيلي، ربّما يكونوا أكثرَ الناس الذين مرّوا بتجارب مريرةٍ لم يمرَّ بها غيرُهم من الأجيال، فجيلُنا هو جيلُ الإنقلابات العسكرية، جيلُ الحروب والحصار والإحتلال، جيلُ المفخخاتِ والإنفجاراتِ والقتل على الهوية...) ص17 .
ثم يأتي في مكان أخر واصفاً منبعه الاجتماعي من خلال لمحة عن حياة والده الكادح بصدق قائلاً: (كان على الرغم من فُقْرِه ذو حضور اجتماعي مميّز، وكان وجهاً من وجوه منطقته، طولُه الجميل وسحنتُه الحنطيّة واستقامةُ جسده، منحتْهُ هيبةً ووقار وهو يرتدي الكوفية والعقال بعد انتهائِه من عمله وتوجُّهه لأداء واجب اجتماعي ما، لأنَّه كثيراً ما كان يُستعان به في التوسّط لحلِّ مسألة ما أو إنجاز عمل يهمُّ الجميع لما يمتاز به من حِنكَة ومنطقٍ وهدوءٍ وعقلانية).ص21
لقد دون الكاتب في اول يوم دخوله المدرسة بعد أن احس باقترابه من عادات المجتمع ان الحدود بين شخصية الفرد المعاصر، وشخصية ما تلقاه من أسلافه عبر الحكايات الليلية تشكل تبايناً حلمياً قائماً على التخييل، وان تبادل الأدوار بين الجيلين تبادل اقتضته طبيعة الحياة ، وهذا ما تناوله لنا مثلاً في اول سني دراسته بقوله :(أحببت مدرستي، واظبت على الالتزام بالدوام وأداء الواجبات المدرسية رغم العوز الكبير وعدم توافر أبسط مقومات الحياة البسيطة، إذْ أنَّ بيتنا الذي نسكن فيه ما هو إلاّ غرفةٌ واحدة تم استئجارها للسكن، تُجاورها غرفٌ عدَّة استؤجرت هي الأخرى من عوائل لا تمتُّ لعائلتي بصلة، سوى أنَّهم من طبقة واحدة هي الفقراء.)ص48.
ويصف لنا محلة المهدية رغم ما نتحفظ عليه من توصيف جغرافي فالمحلة ولد وترعرع فيها متنقلاً بين حاراتها وازقتها العتيقة ومقاهيها الشعبية واهلها بمختلف توجهاتهم.ص30 فهو يسرد الينا ، بحضور جاد أحياناً ، وساخر أحياناً أخرى ، ذلك الحضور الذي يسلط الضوء وينير للقارئ العادي الطريق في محاولة فك الاشتباك بين الطباع والتطبع، ومحاولة تشكيل فريق لكرة القدم الذي حمل اسم (الطلائع الثورية) بعد أن شُخص احد الحزبيين ليكون مشرفاً عليه:ص66 ، ثم بما عايشه من خلال خدمته في التعليم بمدارس على حافات المياه وفندق (الحميضي الذي ما يزال عالقاً في ذاكرته بغرفه الواسعة و..... ص103، أو الخدمة العسكرية في غرب البلاد في منطقة نائية حدودية كنتُ قد عايشتها في تلك الحقبة.
ولو حاولنا أن نعطي توصيفاً مختصراً شمولياً لمحاور وطبيعة هذه المذكرات لما استطعنا الى ذلك سبيلا ، لأنها شكلت حزمة متأرجحة من حياة تقترب من الحلم فكان مسار الأحداث مساراً مؤلماً يقترب من مرارة قد ألف الكاتب بعضها من قبل في مستهل صباه، كما رسم هو ليقول كلمته وتركها في نهاية الأمر.
ورغم ساعة تداخل البعدين الزماني والمكاني في تلك الحقبة نتيجة التقلبات السياسة التي اعتاد عليها المواطن العراقي فقد بقيت الأسئلة عند غالب العميدي لا جواب لها ،ففي عام 1970 يستذكر الكاتب مفارقات سياسية مضحكة حين يشتم الاعلام السياسي جمال عبد الناصر ثم يرثيه بعد دقائق ،وبذلك نراه قد وجه نقداً لمؤسسات الدولة كان المفترض أن تبني الإنسان الجديد في العراق وهذا ما طرحه عن بداية تجربته الفنية فيقولً: (على الرغم من الاهتمام الكبير منّي لكلِّ ما يجري من أحداث يمرَّ بها البلد في عام 1973، إلاّ أنَّني كنتُ متواصلاً في ممارسة الهوايتين اللتين أحبهما (المسرح وكرة القدم)، فهذا العام شهد التجربة الأولى لي للصعود على خشبة المسرح ومواجهة الجمهور، إذْ كانت المسرحية الغنائية (أفراح السلف) لكاتبها (هادي التميمي) ومخرجها (سلمان نعمة) هي أول مسرحية أشارك بها ....) ص72.
إلا أنني وجدت نفسي منسجما ً مع تطلعات الكاتب بالرغم من وجود اختلافات بسيطة أحياناً فهو ينظر دائماً الى أن أنموذجه الإنساني غائباً بكل ما اعتمل حياته من تقلبات اجتماعية وفكرية وروحية ، وبكل ما صنع لنفسه من طموحات أوصلت به الى هذا المنحى من الأدب فقد أصبح رجل ناضج ، وشكل لديه ذلك بعداً أخر يلمسه المتابع وما أسميته البعد الروحي الذي يتماهى في كتاباته التي شكلت سبيكة أدبية وحوارية ماتعة اعتمدت في بناء أبعادها على أطراف من ثقافته الموسوعية وحين المتابعة في القراءة تستمر وكأنك تقرأ نصاً حواريا مسرحياً الذي اعتاد الكاتب على ممارسته طوال نصف قرن مضى ، فمن المؤكد أنه يكون استثمر خلفيته ابتداءً من سرديات ألف ليلة وليلة وانتهاءً بكتابات من سبقه من مؤلفي المسرحيات ، فنتج هذه السبيكة الأدبية التي تقاربت مع الذاكرة والتنوع الواقعي والتجانس الثقافي في صناعتها وهنا يقودنا الى توصيف جميل للفندق الوحيد في قضاء سوق الشيوخ (فندق الحميضي)ص103 ، ويسرد ذكرياته التي لم تبرح ذاكرته ، وقد لا يجد لها مثيلاً هذه الأيام.
وقد نجح الكاتب في ابراز تقلبات المجتمع وتشخيص الأمراض المزمنة التي تلبسته بفكر متسلسل واضح لم يهمل فيه جانباً ، واعتمد على تواصلية الزمن وتنوع اساليب المعيشة قديماً وحديثاً ، فقد وصف لنا بإسهاب عادات المجتمع سواء كانت في الريف من خلال عمله بالتدريس في مناطق جنوبية نائية من العراق أو في المدينة التي ولد وترعرع فيها ،معرجاً على الظرف الأمني الذي تعيشه تلك المناطق والطرق التعسفية المزمنة المؤثرة في تطبيق قوانين الدولة.
ينتقل الكاتب الى مرحلة الخدمة العسكرية أيام الحرب العراقية الايرانية فيوثق تاريخ خدمته قائلاً : (الأول من شهر آب 1982، هو اليوم الذي التحقتُ فيه بالخدمة العسكرية بعد انتهاء مدة التأجيل، لأجدَ نفسي مع زملائي الذين تخرجوا معي من معاهد ودور المعلمين من كلِّ محافظات العراق في ساحة التدريب (العرضات) لمركز تدريب مشاة الحلة، كانت تجربةً جديدةً ومختلفةً عن تجاربي السابقة، فلا حركة دون أمر، ولا تصرّف إلاّ بتوجيه، والأوقات محدَّدة على وفق جداول زمنية، وهنا لا فرق بين متعلِّم وأمي، لا فرق بين ابن مدينة أو قرية، فالكلُّ ينفِّذُ أوامرَ تبدأُ من آمر الحضيرة مروراً بآمر الفصيل وصولاً إلى أعلى الرتب العسكرية، وأيُّ خطأٍ من أيِّ شخص يتحمَّلُه الجميع، تحت شعارات كثيرة منها (الجيش مصنع الأبطال) و (عرق التدريب يقلِّل من دماء المعركة).
إنَّ هذا التناغم والانسجام والتماهي والتداخل شكل الأساس الذي قام عليه الكاتب فهو فخور بنهجه، فقد رسمَ صوراً من النضال الحقيقي وهو يعيش أتون التجربة العراقية القاسية القائمة على المحو والتهميش والخذلان للرموز الوطنية الصادقة في حبها للوطن متناول تجربته القيادية الجماهيرية من خلال رئاسته لنقابة الفنانين فرع بابل أو الوظيفية في ادارته لمديرية النشاط المدرسي فهو يتذكر لابل الموضوع راسخ في ذهنه : (رنَّ الهاتف الأرضي وكان المتحدثُ سكرتير مدير عام تربية بابل، طالباً منّي الحضور إلى المكتب لمقابلة السيد المدير العام للتربية، وكان حينها الأستاذ (عامر محمود الناجي) كان هذا في شهر آذار عام 1998، توجَّهت إلى هناك وعند مقابلتي له، فوجئتُ بطلبٍ من المدير العام لملأ استمارة الترشح لمنصب مدير النشاط المدرسي، أخبرتُه بأنَّي لم أتوقعْ هذا الأمر، ورجوتُه إعطائي فرصة للتفكير،..) .!!ص249 .
لقد قدم بتأني يرافقه التحفظ نقداً ساخراً للعديد من الظواهر المستحدثة والغريبة على اخلاق المواطن البسيط ، فهو يصوغ سبيكته بهدف المقارنة بين الواقع القسري بما فيه من احتلال مع واقعنا العربي قديماً ، وهو يتلمس ويدرك بقاء اوطاننا حبيسة الخرافة والتخلف والموت والظلامية التي جاء من يقودها الآن – آسفاً - الى واقع أسوء من الظلامية الدامسة والقهر القديم فيرصد ويذكر تلك التناقضات بعد أن أصبحت له أمراً عابرا.!!، ثم القهر في سوء ادارة الدولة والتفجيرات والعمليات الارهابية التي حلت بوطننا وحصدت ارواح الأبرياء،ص273 .
وخلاصة الأمر فإن الواقع العراقي القاسي يشكل المحور الأساس الذي بنيت عليه سيرة العميدي ، واستطيع القول ان ما اقدم عليه الكاتب ما هو إلا جزء من ملحمة إنسانية من ملاحم شعبنا العراقي المقهور الذي أضحى في متاهة لا قرار لها..
هذه مقدمة ودعوة لقراءة الكتاب لاستيضاح حقيقة شخصية رجل مارس اعمال شتى في حياة تراوحت بين الصخب والفتور والجد والهزل ، وبكتابته هذه أصبح يشكل أنموذجاً أدبياً ثقافياً وابداعياً ومدنياً بقوة الوعي الذي يسكنه، فبورك له ولنا هذا العطاء المائز..
مع الامنيات الخالصة بالتوفيق والابداع المميز .
الحلة - ليل 6 / ك2/2021