مقالات وآراء حرة
الذكرى الطيبة لأم أسماعيل
حارث النقيب
غادرتنا قبل ايام حليمة عبدالله، أم الشهيدين اسماعيل وغانم وشقيقة المفكر الشيوعي المرحوم عامر عبدالله، بعد عمر طويل كان مؤزرا بألم كبير ومجللا بحزن عميق لغدر الايام وقساوة الزمن. فاضافة لشظف العيش واشكال الحرمان التي طبعت حياة عائلتها، إلا ان هناك ما هو امَّضْ في الالم واشد قساوة من قساوة الايام وابعد غورا في النفس من اي آلام او حرمان. عندما يفقد المرء جزءا من كيانه ولا اي مرء ولا اي جزء. عندما تفجع الام بفقد فلذات اكبادها وهي صابرة تواجه الايام بارادة قوية وعزيمة اشد، ونفس توشحها روح الدعابة والمواقف المأثورة لديها، إلا ان ما يتخلل تلك النفس من جمرات لوعة الفقد لإعَّز ما تملك، لم يكن ليبين او يظهر على محياها.
فقدت ابنها الاصغر غانم عام 76 ولم يكمل الثانوية بعد، عندما اعتقلته اجهزة امن النظام السوري"البعثية"، لا لسبب إلا كونها اجهزة نظام مستبد وقمعي وجوده من وجودها في غابة عالمنا العربي. وبعد زمن قصير بدأ النظام العراقي واجهزته "البعثية" حملته الارهابية، فاعتُقل اثنان من ابناء شقيقها حاتم عبدالله، فلم يكن امامها سوى التشبث بالمستحيل لانقاذهما، فقد عهدت غدر البعث ونكثهم لعهودهم، فتوجهت الى بيت طاهر توفيق الوزير وعضو القيادة القطرية، مستحثة ليست جيرة العمر بل ومستثيرة شيئا من رواسب صلة الرحم التي توهمت انها ما زالت قائمة، وتاركة جانبا بل قل نسيت وتناست ما قد يكون في الحسبان ولو لساعة ، اذ هي إلا لحظة مصيرية.
اخبرته بان ابناء شقيقها قد اعتقلا، فاجابها: سيطلق سراحهم ان لم يكن لديهم شئ ، وان كانوا شيوعيين فليعطوا براءة ويخرجوا، واستطرد قائلا: لو كانت كفي شيوعية لقطعتها ورميتها للكلاب. ليس مستغربا ان يقول طاهر ما قال من الفاظ تنطق من هو طاهر، وتعبرعن نفس يندفن الحقد المريض فيهاعلى الاخرين. فهو المعهود عنه ايذائه للاخرين من ابناء مدينته حين كان شابا وبعثيا، عندما كان يسطو على بساتين الاخرين سارقا ثمارها، والاكثر من ذلك عندما كان يقوم بخنق دجاج شقيق الفنان العراقي الكبير نوري الراوي ورميه في النهر، وعندما مسكه يوما بعد فعلته وهو على ضفة النهر يتأمل المنظر اشباعا لنزعة ايذاء الاخرين والتلذذ بما يقوم به ، سأله من فعل هذا؟ اجاب : انا، عندما اخذ يضرب بكفه الايمن على صدره، مزهوا بفعلته.
بعد ذلك مباشرة تعرضت المرحومة للاعتقال من قبل اجهزة الامن فاطلق سراحها، واعتقل ابنها اسماعيل محلها، واخذ الامن يناوبون اسماعيل ووالدته في الاعتقال، يخرجون والدته بعد اعتقال ساعات تسمع ما لم يسمعه احد الا في دوائرالامن ، هذه اللغة العربية متداولة فقط في اقبية اجهزة امن البعث العربي العراقي والسوري.
في احد ايام اذار 80 اعتقل اسماعيل ولم يعد، إلى أنْ اخبرتهم اجهزة الامن يوم 10 تموز بان عليهم استلام جثته مع قرار بمنع اقامة مراسيم العزاء.
كانت العلاقة القائمة بين ام اسماعيل وشقيقها عامر تبعث على الغبطة والحسد في آن واحد، فلديها اكثر من حنان الام وحنوها عليه وابعد من عطف الاخت على اخيها، كانا يرتبطان بعلاقة نموذجية قل نظيرها وهما اللذان ينطويان على نفس كريمة قل نظيرها ايضا، فكأنهما روح واحدة بجسدين.
كانت ام اسماعيل صورة لامهاتنا اللواتي عانين كما عانت وتألمن كما تألمت، فالسكينة لروحها الطاهرة والخلود لذكراها الطيبة العطرة والصبر لبناتها واحفادها وذويها.