|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  3  / 4 / 2015                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

إطلالة على محطات أنصارية في حياة وردا البيلاتي

فاروق مصطفى
(موقع الناس)

إن أي كتاب من الكتب التي تتضمن السير الذاتية لأصحابها تأتي عادة متضمنة احلامهم وامالهم ومناشطهم ومطامحهم، فهم يروون كل هذه الذكريات التي تفرحهم وتحزنهم بعد أَن بلغوا هذا الحد مِن أعمَارهم فيحاولون القبض على خيوطها قبل أَن تنسل وتفر من خلل أصابهم وأن تختنق كحبات المطر السائلة على زجاجات النوافذ والصديق وردا البيلاتي في كتابه المعنون "محطات في حياتي" بمثابة حكَاء يروي شريط حياته من مدراج الطفولة حتى بلوغه السبعين، ويقع الكتاب في 300 صفحة من القطع الكبير وطبع مطبعة (ازادي) اربيل عام 2017 وقد ضم ستة وثلاثين فصلا بالاضافة إلى اضمامه من ملاحق اضافها آخر الكتاب وزين صفحات الكتاب بالعديد من الصور الفوتغرافية له ولافراد عائلته وكذلك لبعض من اصحابه مما توثق للفترات الحياتية التي يؤرخ لها.

وأنا بادىء ذي بدء احيي فيه تفانيه في انجاز هذا المشروع الكتابي الذي واكبته وتأكدت من صدقه واخلاصه في ايصالِ هذا المشروع إلى النور والعلن حتى يضعه بين أَيدي المتلقين.

وجاءت مروياته غنيةً بالأحداث التي عاشها وهو يجتاز معابر حياتهِ من طفولتهِ وشبابه في كركوك ثم الصعود إلى الجبال ليخوض معترك النضال عبر الكفاح المسلح وانتقاله بين العراق وايران وسوريا وتركيا ثمً رحيله إلى جمهورية اليمن الديمقراطية (عدن) إِبان عقد الثمانين واخيرا استقراره في مهجرهِ في بلاد الدنمارك.

الصديق وردا روى ذكرياته بسلاسة بعد أَن ألبسها مفرداته الصادقة وكان موفقاً في بدياتِ فصوله عندما يبدؤها بالتعابير الأدبية الشفيفة مما يشوق المتلقي واقعاً إياه بأنه يعانق كتابا ادبياً متوحدا ومتناغما مع اجواء الكتاب ومعاناة الكاتب وعذاباتهِ وهو يصعد ويهبط سلالم تجاربه الحياتية.

يتخيل المتلقي الكاتب وردا بعد أن بلغ السبعين من عمره وهو جالس في غرفته وبيده منظار يعيد النظر عبره إلى كلً هذه المحطات التي عبرها وعرف مرارتها وحلاوتها وهو ايضا يعيدنا إلى مقولة الشاعر الفرنسي الرمزي (مالارميه): " يبدأ العالم لينتهي بكتاب جميل" يبصر مع متلقيه بان نهر حياته الجارف استقر بين دفتيْ هذا الكتاب وانه سقى سطوره بدمع قلبه كيْ يحفضها من مخالب التلف والضياع.

يستهل الكاتب كتابَهٌ بفصل عنونه بـ (حكاري) وفيه يروي عبر مرويات والده عن اصل العائلة والمكان الاول الذي وفدت منه العائلة إلى العراق، وفيه نتعرف على الامور الثقافية والعادات الاجتماعية التي سادت المجتمع الاشوري انذاك ويضيء واقع التعليم وكيف وصلت الارساليات التبشيرية من كنيسة روما الكاثوليكية والكنيسة الانكليزية، ثم ينقلنا الكاتب بعد ذلك إلى مدينة (بعقوبة) وكيفية وصول الاشوريين إلى معسكراتها ويوضح لنا بأن كلمة (بعقوبة) مفردة ارامية وتعني بيت الحارس او بيت العقوبة، ثم يعرج في الحديث على مدينة كركوك مسقط رأسه. حيث جاءَها والده بعد أن سُرِحَ من جيش (الليفي) لتوفر فرص العمل في شركة نفط العراق، ويستطرق الصديق وردا في الاستفاضةِ من ذكريات والده فينقل إلينا عبره بأنه كان دائم التهجم على الانكليز، وكانَ يعدهم بأنهم اصل كل المشاكل والمحن التي حصلت لقومه الاشوريين. ويقدر الكاتب بأنً هذه الفكرة هي اللبنة الاولى في تفكيره السياسي واهتمامه بالمشاكل الاجتماعية للوصول إلى بر الحقيقة والعدالة، وتستوقفنا محطة اخرى من محطات طفولته فيكشف لنا عن مدرسته الابتدائية التي انخرط في سلكها وكان اسم المدرسة (الامير عبد الاله) ويفيض في هذه الذكريات وكيف أَن احد المعلمين اعتدى عليه بالضرب من غير جريرة اقترفها واصيب في عينه اليمنى مما حدا به الى تقديم شكوى إلى مديرية المعارف (التربية) بواسطة جده وبالفعل تمت معاقبة المعلم حيث نقل إلى مدرسة ابعد، ثم يطلعنا على بدايات وعيهِ السياسي وكيف كانت اذناه تلتقطان بعض المصطلحات السياسية مثل (الحكم الفردي) و(الدكتاتورية) ومحاولته استيعاب معاني ومدلولات هذه المصطلحات.

ونرسو عند محطة مهمة في حياته ألا وهي افتتاحه محل للحلاقة في منطقة (الماس) وأنا مازلت اتذكر هذا المحل ومشهده ماثل أمام باصريً ففي مطلع السبعينات من القرن المرتحل كنت قافلا من بلاد الجزائر وكنت في حاجة إلى قص شعر راسي فاقترح عليً احد اشقائي أن اذهب الى محل حلاقة وردا مادحا إياه وبالفعل ذهبت إلى المحل الا أنني وجدته مغلقا ولم اكرر محاولة الذهاب إليه ثانية ويخبرنا الكاتب بأن الأمن بدأ يتحارش به ويروم الايقاع به من أجل تحويله إلى معتمد لديهم وواشي يتجسسٌ على الزبائن الذين يترددون على محلهِ، وبالرغم أَنه شرع العمل في مؤسسة نفط الشمال إلا أنه ابقى على محل الحلاقة واستمر يعمل فيه حتى نهاية عام 1975 حيث قام الأمن بغلقِه ومهره بالشمع الاحمر لأنه غدا في رأي الجهات الامنية وكرا يتردد عليه الشيوعيون والمشكوكون في أمرهم.

يفتح الكاتب لنا نوافذ اخرى لنطل منها على محطاته الحياتية فهذه المرة يحدثنا عن التجربة الاولى التي مَرُ منها في الحب والصبابة إلا أن التجربة لم تثمر ولم تعطِ اكلها. فيقع في حب فتاة اخرى التقاها في منزلهم وهي صديقة شقيقته فينال اعجابها ويوفق في كسب ودها وتختتم قصة هواه بالزواج وتغدو (أم ميسون) شريكة حياته في النضال وتحمل مشاق الكفاح وتمنحه فلذات كبده لينعم بهم ويربيهم في دوائر عَزهِ.

ومع ولوجه معترك النضال من اجل افكاره تبدأ مفارز الأمن بمطاردته ويهرب منهم ليختفي عن انظارهم في بغداد ويمكث هناك طوال سته أشهر ثم يتذكر قول أمهِ بأن يصعد الى الجبال فيقول في ص (166) " نعم في الجبل سأستنشق حريتي هناك لا احد يتبعني وسأكون على طبيعتي بأني يوماً ما سأتنفس عبير النصر على هؤلاءِ القتلة "

وتستوقفنا محطة جديدة في رحلة حياته وهي التحاقه مع رهطٍ من رفاقه الى جبال كردستان هربا من جور وغدر قوى الأمن وهناك في وادي (ناوزنك) حيث الجبال الشاهقات التي تغطيها اجمات اشجار البلوط، هذا الوادي الذي سينقلب نقطة انطلاق مفارزهم النضالية والقتالية في عمق الاراضي العراقية وتنداح تجاربه الكفاحية وتستمر شهوراُ واعواما ويتنقل بين الاقطار المحيطة بالعراق وهو في كلً هذا يزداد غنى في مداركه ويكتسب المزيد من المهارات يعبر الشتاء الى الصيف، يتعود تحمل البرد ومداهمات الثلوج ويضيء لنا جوانب من رحلتهِ التي أمضت به الى (طهران) من اجل شراء مولدة الاذاعة وجلبها الى الجبال من اجل بث اخبارهم ، ثم لقاؤه الاسطوري في قرية (موسكا) بام ميسون غير مصدقٍ يخبرنا

"أصابتني الدهشة حينما وثبت أمامي لم اصدقْ ما تراه عيناي فهل يا ترى ما اراه حقيقة ام خيال حلم أم يقظة" وتنساب هذه الاستذكارات ثم تتدفق وكانها مياه الامطار وهي تنقذف من ميازيب السطوح وهي تكشف عن افراحها واتراحها كاوية لحم الانسان لأنه يتيقن أنها اشياء عاشها الانسان ولن تعود ثانية ولكن ذاكرته تظل متشبثة بها فهو يحاول عبر الكتابة استرجاعها واستنطاقها من جديد، وينطلق قطار (وردا) الى اقطار اوربية عديدة الى قبرص، بلغاريا، تشيكوسلوفاكيا ثم يمضي إلى اليمن الجنوبي وبالتحديد الى عاصمته (عدن) واخيرا يستقر في بلاد (الدنمارك) وهو في العقد الخمسيني من العمر وهناك يعيد فتح محل حلاقته، وينجح المحل في كسب المزيد من الزبائن مستعيدا ايام كركوك القديمة.

بقي أن اقول ان الكاتب ختم سِفْرَ ذكرياته بأربعة ملاحق الثلاثة الأٌوَل حديث ومحاورات مع بعض رفاقه الذين عرفهم والملحق الرابع يدور حول والدتهِ وقد عنونه بـ (أمي) وقد صَب فيه كل مشاعرهِ النبيلة إزاء هذا الكائن الملائكي وهي التي صعدت إلى الجبال مرتين من أجل رؤيته وأَنا احيي ذكرى هذه السيدة الاشورية النبيلة متذكرا قول الكاتب المهجري (جبران خليل جبران) " أمي ..... أمتي".

 

عن طريق الشعب - 3 / 4 / 2017

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter