| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الثلاثاء 2 / 7 / 2024 أرشيف المقالات
إبسن.. الحداثة المسرحية
د. جواد الزيدي
(موقع الناس)
صدر عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع كتاب "إبسن.. الحداثة.. الجماليات.. الشخصيات النسائية" للباحث رضا الظاهر في 246 صفحة من القطع المتوسط، ضمن ما يتم تصنيفه بالنقد الثقافي، بمعنى أنه جزء من الدراسات الثقافية التي تتداخل فيها العلوم والاتجاهات، وليس الاقتصار على دراسة ما كتبه "إبسن" في المسرح فقط، ذلك الفن الذي عُرف فيه، بدءاً من المقدمة وصفحات الكتاب الأُولى التي خلت من إشارات تخص يوميات الكاتب، بل تم تبويبها على أنها "أسئلة إبسن" وهي قد تكون أسئلة المؤلف نفسه التي يطرحها على الكاتب والمسرحي، أو تقصي مسيرته النضالية تجاه الجمال والتنوير الفكري، وعمق التأثير الذي ما زالت تمارسه هذه النصوص في الحياة الاجتماعية منذ القرن التاسع عشر حتى الآن.
هذه المقدمة الطويلة التي توازي فصلاً كاملاً من الكتاب تنطلق من رؤية ذاتية لإمكانية قراءة نصوص "إبسن" بوصفه رائداً للحداثة المسرحية، ورؤيته الثاقبة لتأويل البنيات الاجتماعية والدوافع النفسية، وهو الذي يقف بمنتصف الطريق بين المثالية والواقعية جذري الأُصول الفلسفية، إذ يرى أنهما طريقان جماليان يؤديان إلى الهدف المثالي نفسه في تصديه لتحليل روايات جورج صاند وقصص بلزاك الواقعية المفرطة من جهة ثانية، مستعرضاً الأثر الذي تركته مسرحياته، والجدل في الحياة الثقافية الأوروبية آنذاك.
وضمن هذا الجدل القائم يعد المحتوى الاجتماعي العميق والقيمة الجمالية الرفيعة والروح المسرحية المكثفة في دراما "إبسن" مصادر للحيوية والتنوع المتواصلين في تقديم مسرحياته، وتعني هيمنة الجماليات الحداثية أوائل القرن العشرين وحتى الآن.
وتكشف موضوعاته اهتمامه بالثقافة الرأسمالية، فقد أثار تحول الأسواق الأدبية والصراعات المالية في وقت مبكر من سيرته في محتوى مسرحياته وشكلها، تلك التي تُركز على الحياة الاقتصادية للقرن التاسع عشر، بما يُشبه النبوءات المستقبلية التي تُحيط بآليات القرنين العشرين والحادي والعشرين بما تحمله من موضوعات جمالية وخصائص فنية مقرونة بالتطورات الكبرى للقرنين اللاحقين، فصورت أعماله مشاعر اغتراب الفرد عن المجتمع، والأغلال التي تُكبل فرديته والكشف عن ضواغط الحياة الحديثة بتصويره الصراعات الداخلية التي تحيط المرء وتؤدي إلى تدميره. ومن بين القيم التي ذهب إليها هو مفهوم الحرية وقيمته باعتقاده أنها ضرورية للإنجاز الذاتي، وتمييزه بين القابلية والرغبة، والإرادة والظروف، والتناقضات الحاصلة من خلال الاشتباك المفهومي لدى البعض وعدم التمييز بين كل منها.
ثم يفرد المؤلف فصلاً عن ريادته للحداثة المسرحية التي توافقت مع الحداثة الأوروبية والثورة الصناعية فيها، والتحولات الكبرى وتوسع المدن والتخطيط الحضري لها، بما يدفع الفنان والأديب إلى رسم خارطة جمالية لمواءمة تلك التحولات، التي جعلت من النتاج المسرحي يتسم بالمسرح الهادف، وبدأ الاهتمام بمنجزات التحليل النفسي في ميدان السايكولوجيا وتحديد الملامح والصفات الداخلية لشخصياتهم التي يرسمونها على الورق والاقتراب من الواقعية بوصفها اتجاهاً يعرض الخصائص البنيوية للشعوب والمجتمعات والابتعاد عن المثالية، بوصفها اخفاقاً جمالياً وتسجيل عجزها عن التعامل مع الحياة الجديدة ومشكلاتها. وفي هذا المبحث يشير الباحث إلى رؤية "أبسن" في فلاحه بإثارة النقاش بشأن شرور الرأسمالية، ممثلاً في بعض أبطاله الذين يمرون بمشكلات عدة تنبع من الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية، وهو تبشير بالفكر الاشتراكي أو الحداثة بسماتها الواقعية، في اللحظة التي يكشف فيها عن مظالم الرأسمالية.
وفي فصل "استكشاف حرية الاختيار" يُشير إلى علاقة "هولدرلين" وصديقيه "هيغل وشلنغ" وإعجابهم بالأفكار الرئيسة للجماليات المثالية، ويعد تمييز "كانت" بين الحرية "مملكة العقل وإرادة الإنسانية والمخيلة والعالم الأخلاقي والإبداعي" والضرورة "مملكة القوانين الطبيعية، عالم العلم" إضافة نوعية لذلك الجدل، لأن "كانت" أول من فتح الباب واسعاً للتفكير النقدي وبداية حقيقية لعصر التنوير والتفريق بين العقل العلمي والنظري، وأول من تحدث عن الخبرة والتجربة وفضاء الحرية، بوصفه فضاءً منتجاً للجماليات والإبداع الفني، والضرورات التي سطرتها لحظاته الجمالية التي تُعد ملخصاً لفلسفته العامة، واصفاً بذلك عالم الحرية وهو عالم الوعي والمخيلة والإرادة، العالم الذي تخلق فيه الخيارات الأخلاقية والجمالية، وإن الحرية تعني إدراك الضرورة وتتجلى في الوحدة الديالكتيكية بين قوانين الطبيعة الموضوعية المستقلة عن وعي الإنسان على فرضية استيعابه لهذه القوانين.
كما وخصص الباحث هامشاً كبيراً لتحليل أعمال "إبسن" المسرحية مثل "بيت الدمية، وعدو الشعب، والبنّاء العظيم، وعندما نستيقظ نحن الموتى" وغيرها في ضوء فلسفته العامة ورؤيته الخاصة التي تبناها في النظر إلى العالم وتفسيراته لتلك العلاقات المعقدة، بيد أنه بذل جهداً واضحاً في تبيان علاقة أبسن بالنسوية، هذا الموضوع الذي أثار جدلاً واسعاً بين المهتمين بالشأن المسرحي والنقدي على السواء، مُقرناً ذلك بالتهميش الذي يعانيه جزء واسع من البشر ومن ضمنهم النساء، وتحريضهم لتشكيل حزب سياسي يواجه هذا التهميش. وإزاء البحث المستند إلى الموضوعية والعلمية في الاستنتاج يتوصل إلى مصادر الشخصيات النسوية التي تم توظيفها داخل المتن السردي لمسرحياته التي تم ذكرها مسبقاً، وهي شخصيات نسوية رئيسة ومطلقة البطولة في إشارة إلى امكانية المرأة في خوض هذا الصراع الأزلي مع الرجل، واستطاع تحليل كل شخصية ومرجعها الاجتماعي والثقافي من خلال متبنيات واضحة تؤسس لمبادئ الانتصار للمرأة أو لمفهوم النسوية.