| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الأحد 2/5/ 2010

 

عيد العمال وذكريات الطفولة

غازي صابر

أحياناً وبشكل مفاجئ تتساقط على قمة رأسك ذكريات لسنوات خلت ، تتساقط مثل حبيبات المطر ، ومهما حاولت أن تغمض عينيك عنها لعلها تبتعد عن تلافيف عقلك ، لكنها تواصل إنهمارها بغية أن توليها الإستذكار، فتتبعها مرغما ً وكأنك تتبع خيط من الدخان فتتعلق بها كتعلقك برائحة عبقة ملأت أنفاسك يوم ما ، وتتوهج في مخيلتك سنين كنت تعدها غادرتك منذ زمن بعيد ، لكنها تقف أمامك شاخصة بحلاوتها وعبقها الذي لازال يعطر جسدك أو بمرها الذي عاد يدور في شغاف فمك. وبلا وعي منك تلاحق مصدرها فتسحبك خلفها وأنت مثل طفل صغير تنظر إليها ولا تستطيع الكلام أو التعقيب وهكذا تسيربك في زورق من ورق وهو يتهاوى فوق نهر الذكريات حيث يشاء وتتلاعب به الأمواج ولاتصحو من وهجها إلا عندما يتشرب ورق الزورق هذا بمياه السنين ويبدأ بالتحلل فوق معمعة الأيام القاسيه ومنعطفات سنواتك التي فارقتك وفارقتها كمحطات لسفر مضني.

قد تبكي على نفسك حسرة وندامه وقد تسحب آهات على ىسنين عمرك التي مرت عليها قطارات الزمن المر، وقد تبكي لفقدانك أحبة أو خيانة عِشْرة كنت تحلم أن تدوم صافية طوال عمرك الذي مضى ، أو تضحك من نفسك بمرارة وبطعم العلقم على كل ما مضى، وقد تغمض عينيك حتى لاتتذكر طعنات و خيبات الزمن والمحن التي وضعك الأخرون بها أو وضعت نفسك أنت بها من دون دراية .وقد تحاول الهرب من هول ما مر فتدير الوجه الى الناحية الإخرى وتردد : ذلك كان من الماضي والماضي لايعود ــ ـ ـ ـ !

في خمسينيات القرن الماضي كنا نحن الفقراء في بغداد من عمال وكسبه نسكن خلف السدة من جانب الرصافة ، لم تكن سدة عادية ، كانت مثل سلسلة لتلال ترابية شامخة ، وقد إقيمت لحماية بغداد من الفيضان كما كانوا يقولون . كانت منازلنا الطينية تحيط ببغداد مثل حزام أسود متجسداً بفقرنا وجوعنا ومآسينا التي لاتحصى ، وببيوتنا الطينية المتهالكة وصرائفنا البالية الحزينة، كنا وكأننا خُلِقنا لحماية بغداد من أي خطر قادم غير الفيضان ، فخلف صرائفنا وبإتجاه ديالى كانت قطعان الذئاب وقيل حتى الخنازير والأسود كانت تمرح هناك في البراري . لكن أهلنا كانوا يشعرون برحيلهم الى بغداد ومجاورتهم لهذه السدة الصماء بأنهم قد حققوا النجاة من ظلم الشيوخ في الجنوب ومن سطوة الحوشِيَّة الذين كانوا يمتصون كل جميل في أجساد الفلاحين ويقدموه لحضرات الشيوخ ، يأخذون المال والحلال وحتى أجساد الجميلات من نساء الفلاحين.

في جانب السدة الآخر كان يسكن ويعيش أغنياء بغداد الميسورة أحوالهم ، في قصورفارهة وبحدائق كبيره . وأذكر جيداً بعض من هذه العوائل وبالذات من مناطق مثل الوزيرية وراغبه خاتون والأعظمية، و كانت السدة هي الفاصل بين الغِنى المتوقد هناك في القصور وبين الفقر الأعمى المتكدس بين ظلام بيوتنا الطينيه وهشاشة صرائفنا البالية . وخلف السدة هذه تعرفت على طائرالبوم وعلى الأفاعي وعلى العقارب وعلى الرجال الفقراء حد الجنون، وهناك فقط وأنا صبي إختزنت في ذاكرتي صور لحرمان الإنسان من حق الحياة وإهماله ، حتى رأيت هناك أنسان بوهيمي لازالت صورته عالقة في مخيلتي .

وفي كل صباح كان سكان هذه الصرائف يخرجون من أكواخهم بشكل زرافات وهم يجتازون السدة إما للعمل في دوائر الدولة كعمال وإما للخدمة في تنظيف الشوارع أو في أسواق ومحلات وبيوت الميسورين .
بعد إندلاع ثورة الرابع عشر من تموز تنفسنا نحن الفقراء سكان هذه الصرائف رائحة الإهتمام من الثوره لاسيما والعمال وكل اليسار كان وقودها وشرارتها الأولى فهم أول من ساندها و قد جندوا أنفسهم لحمايتها و أستمرار ديمومتها ، فكان تشكيل النقابات العمالية ومنظمات الطلبه والشباب والمرأه وكل منظمات المجتمع المدني . ومن بين إنجازات الثورة كانت الحملة القوية التي شنتها للقضاء على الأمية بين صفوف الفقراء وعوائل العمال ، وبدأت بالإهتمام بهذه الشريحة الواسعة .فبدأت أسمع كلمات كقانون التقاعد وزيادة الإجور والرواتب والأجازات السنوية والخ . (دير بالك على هذه الفقرة، يعني يمكن صياغتها بشكل أفضل.)

ولإنني من عائلة عمالية فقد وجدت نفسي بين فتيان المد ارس المسائية لمحو الأمية لأن عمري قد تجاوز الثامنة ، وحينها واصلت الدراسة والنجاح مما دعاهم للسماح لي بمواصلة الدراسة في المدارس الصباحية فيما بعد ، وكثيرا ً ما كنت أرتدي قمصلة أبي الزرقاء لإحتمي بها من قسوة الشتاء وأنا ذاهب للمدرسة وحتى عندما العب مع صبيان المحلة ، وكانت الدولة قد خصصت للعمال بدلات وأحذيه للعمل . وكنا نحن أولاد الفقراء سعيد منا من يشتري له أهله ملابس من اللنكات . كنا حفاة وبملابس بالية حتى أن صدام تندر علينا مرة وعيرنا بفقرنا هذا في إحدى خطبه وهو يرد على شكوى الفقراء أيام الحصار الظالم .

طويلة سلسة الذكريات التي تمر بخاطري عن إحتفالات العمال في الأول من أيار وفي كل المناسبات الوطنية . كانت كرنفالات رائعة في الحدائق والمتنزهات العامة في أجواء من الزهو والفرح ويسودها طابع التنظيم ، حتى أن هذه الكرنفالات كانت تخترق نهر دجلة ، وما أجملها وهي تسبح في مياهه مساءً.

إلا أني أتذكر جيداً وبالتفصيل يوم أخذني والدي من يدي الى بيت كبير في بغداد ورأيت هناك مجموعة من الرجال وعدد من الأطفال والصبيان ، البعض منهم يرتدون أثواب بيضاء وآخرون مثلي في أثوابهم البيتية ، كان الرجال يتبادلون التهاني ،أما نحن الأطفال والصبيان فكانوا يُدخِلونبنا الى غرفة يتعالى منها بكاء بعض الأطفال وضحك الرجال وهم في قمة الفرح والسرور. ولأول مرة أواجه برجل يرتدي صدرية بيضاء وبيده آلة تشبه المقص و أتذكر منظر الدم وكان هناك رجل يقف قريباً من صاحب الصدرية البيضاء ، رجل متوسط الطول وله بشرة سمراء وكان يمنح كل ولداً منا بعد عملية الطهور كيس صغير مملوء بالحلوى ، كان هو أكثرهم فرحا ً بما يحدث وكان يردد الهوسات الجنوبية أمامنا و يكاد يتغني ( باركنا زبيب ـ ـ ـ لا تبكي باركنا زبيب ـ ـ ـ ) .كان أسم هذا الرجل محمد وعرفت أنه رئيس النقابة كما أخبرني والدي أثناء خروجنا من المقر وهويحدثني عن عيد العمال وأحتفالهم الصباحي بهذه المناسبة .

لم تختفي هذه الإحتفالات إلا حين إغتيلت الثوره وإنجازاتها وعوقب كل من ساندها من العمال وكل المخلصين للوطن .
أحيانا ً أتسائل مع نفسي هل أصبحت هذه الأحتفالات الضخمه والكبيره والجميله من أحلام الماضي ؟ وأين ذهب هؤلاء الناس الذين كانوا يقيمون هذه الإحتفالات بأعياد العمال ؟ كيف سمح العمال ونقاباتهم للبرجوازية الصغيره وحزب البعث من إختراق صفوفهم ، كيف سمحوا للتهديد والترغيب بتحويلهم الى موظفين من الدرجه الثانية وتحويل تنظيمهم النقابي الى ما يشبه دوائر للتجسس على العمال . فكانت الكارثة لهم وكانت نهاية لكل الأفراح والمسرات . لقد حوَّل صدام وحزب البعث العمال الى كومبارس للهتاف والتصفيق بحياة قائد الإمة.

وبالخراب الحاصل اليوم وتسلط الفكر الإسلامي السياسي الذي يعتقد أن الله هو الذي يرزق وهو الذي يفقر وكأن الأغنياء وحدهم أحباب الله وكأنهم مع الأمريكان يقولون من أين يأ تي الفرح مرة إخرى ، ومن سيتغنى ويحتفل صادقا ً بواحد آيار، وأين هي الطبقة العاملة والفاعلة على مسرح البناء للحياة العراقية السعيده ـ ـ ـ ـ ؟

(الفقرة الأخيرة غير واضحة. إنطيها بعد شوية من وقتك وجهدك.)
















 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات