|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  29  / 7 / 2020                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

شهادات حية عشية اندلاع ثورة الرابع عشر من تموز المجيدة

صادق الجواهري
(موقع الناس)

خلال الاشهر الاولى من عام 1955 وصلت الى سجن بعقوبة الانفرادي وكان للتو قد انهى السجناء هناك اضرابا عن الطعام، مطالبين بتنفيذ مطاليبهم المشروعة لتأمين مستلزمات الحياة اليومية والكف عن المعاملة السيئة للسجناء من قبل ادارة السجن، وقد تحققت تلك المطالب بفضل العرائض والمذكرات وتنظيم المظاهرات لعوائل السجناء، التي كان حزبنا الشيوعي العراقي ينظمها ويشرف عليها .

لقد كان السجن عبارة عن غرف صغيرة تمتد طولاً على مسافة سبعين مترا حيث تقع الغرف على الجانبين ، يفصل الجانبين ممراً ضيقاً تقع في وسطها قاعة.

تم استقبالي من قبل رفاقي السجناء ومن ثم انفرد بي الرفيقين المحاميين الشيوعيين، الشهيد توفيق منير والفقيد عبد الستار ناجي كي يعرفا سبب حكمي ومدته، اخبرتهم أنني محكوم بستة اشهر، اثر عثور الشرطة اثناء مداهمة البيت على كتاب تأريخ الحزب الشيوعي البلشفي ورواية الفولاذ سقيناه، وبينت لهما انني انهيت من مدتي محكومتي ثلاثة اشهر في موقف النجف، فقالوا اذًا ينبغي استئناف الدعوى، قلت لهم ، لم يبقى وقتا طويلا لإنهاء محكوميتي، إلا انهم اصروا على ألاستئناف وهكذا قدموا طلبا بهذا الأمر، وبعد فترة وجيزة استدعيت الى محكمة الاستئناف في الحلة إذ تطوع للدفاع عني ضمن لجنة الدفاع عن العدالة، المحاميان موسى صبار وجواد عبد الحسين الى جانب الدفاع الذي اعده لي الشهيد توفيق منير، وبهذا قررت محكمة استئناف الحلة الغاء الحكم وتم اطلاق سراحي، إلا ان شرطة النجف لم تلتزم بذلك ولم تطلق سراحي بل ارسلتني الى معسكر الاعتقال في الشعيبة كجندي مكلف كوني طالب مفصول، وصلت المعسكر الذي يضم اكثر من مائتي طالب مفصولين بسبب نشاطهم السياسي ضمن صفوف اتحاد الطلبة او انصار السلام او من انتهت محكومياتهم في مناطق اخرى، وكان الجميع محسوبين على الحزب الشيوعي العراقي، عدا طالب واحد كانت ميوله قومية وهو معاذ عبد الرحيم من الناصرية، والذي كان مهذبا ومنسجما معنا.

طلب امر المعسكر مني الحضور بعد ان مضيت فترة لم تتجاوز شهر، وقال لي، أن محكمة التمييز اعادت الحكم عليك، وبالتالي عليك ان تدخل السجن مرة اخرىى لإنهاء الحكم، قُلت: انا سياسي وعليكم نقلي الى السجن الذي خرجت منهُ، قال لا يمكن ذلك فأن قوانين الجيش تقضي هكذا، بأن اقل من سنة لابد ان تقضيها بضيافتنا.

كان السجن عبارة عن قبو تحت الأرض فيه فتحات صغيرة للتهوية، وضم السجن حوالي 15 موقوفاً بتهمة الانتساب للحزب الشيوعي العراقي، بقضية كانت معروفة أنذاك بأسم قضية عريف رمضان وكانوا ينتظرون محاكمتهم وقد تحدثت مع عريف رمضان من اجل سحب اعترافاته.

بعد انتهاء مدة الحكم تقرر هروبي من المعسكر، وفعلاً هربت أنا والرفيق حسين العامل من معسكر الاعتقال في "الشعيبة في البصرة" حيث توجهنا بعد ذلك الى بغداد، وحال وصولي الى هناك ارتبطت بالحزب ضمن خلية مكونة من ثلاثة رفاق، سكنت مع الرفيق عباس الطباطبائي في بيت عائلة مسيحية كادحة، واوجدوا لي الرفاق عملا كمحاسب في معمل حدادة في ساحة السباع .

قبل الثورة تكررت المواعيد واللقاءات الخاطفة بالرفيق سكرتير خليتنا وفي صباح يوم 14 تموز استيقظت كعادتي لتهيئة الفطور المكون من الخبز والشاي وفتحت الراديو وإذا بي اسمع اناشيد وأغاني ترددها اذاعة القاهرة وصوت العرب ثم تلاوة قائمة بإحالة ضباط كبار على التقاعد وبيان الثورة، الذي اعلن قيام الجمهورية العراقية ونداء الذهاب الى حيث مقر العائلة الحاكمة في قصر الرحاب، ركبت دراجتي "الماتورسكل" حيث كنا نستخدمها في تنقلاتنا، وفي طريقي الى هناك شاهدت الناس على اسطح المنازل يتبادلون الأحاديث وتجمعات صغيرة هنا وهناك، عبرت على جسر مود "الاحرارحالياً" حيث شاهدت تجمعات قرب تمثال مود، و لم انتبه الى الإذاعة، وأخيرا وصلت قصر الرحاب وشاهدت الدخان في الطابق العلوي من القصر، وهنا لا يمكن وصف مشاعر الفرح الى جانب هذا انتابتني حالة من الذهول وعدم التركيز، اقتربت من احد ضابط الصف وكان حاملاً رشاشته بيده وسألته، هل أنها ثورة ؟ قال نعم أنها ثورة، قلت له هل جماعتنا هم من فجروها ؟ اجاب نعم جماعتنا، تساءلت مع نفسي، في طريق عودتي ، من هم جماعتنا ؟.

لم اذهب الى البيت يومها ، إلا اني توجهت الى ساحة السباع حيث يتمركز العمال، ولقناعتي بأن الثورة تريد دعم جماهيري وهناك وجدت في الساحة عدد من الرفاق كان من بينهم الشهيد علي الوتار وكليبان صالح وبطرس ماربين، وقد تعرفت عليهم في السجون، وهم يعبئون ويحرضون العمال على التظاهر تحركت جماهير ساحة السباع بأتجاه شارع الشيخ عمر وكانت الجماهير تنضم اليها تباعاً ثم توجهت الى شارع غازي -"الكفاح حالياً" لتلتحم بمظاهرة أخرى والمدهش ان الشوارع امتلأت بالشعارات التي تجسد ما تضمنه بيان الحزب قبل الثورة، حيث التأكيد على الجبهة والاتحاد الفدرالي، الخروج من ميثاق حلف بغداد، وإطلاق الحريات الديمقراطية، اطلاق سراح السجناء السياسيين، وهذا ما تضمنه بيان 12 تموز الذي اطلعني على مضمونه الرفيق علي الوتار، الذي لم يتسنى لي استلامه، كما ان بيان الحزب الذي صدر يوم الثورة دعى الى دعم الثورة و الى تأليف لجان الدفاع عن الجمهورية، وتنظيم فصائل المقاومة، كما بعث برقيات التأييد، والى ضرورة تجنب ابراز شعارات متطرفة تمجد هذا الزعيم او ذاك، ثم توجهت المظاهرة الى شارع الملك فيصل "الوثبة" وشارع الرشيد باتجاه وزارة الدفاع وهناك بدأ الفرز الواضح للشعارات يظهر ومنذ اليوم الاول فالجماهير تهتف "اتحاد فدرالي صداقة سوفيتية" ومجاميع صغيرة تهتف وحدة وحدة لا شرقية ولا غربية وترفع صور جمال عبد الناصر.

قبل اعلان منع التجول توجهت الى بيت الرفيق سكرتير الخلية لاستلام التوجيهات إلا أنهُ لم يكن متواجداً في البيت حينها ، فقمت بانتظاره حتى عودته حيث اخبرني بالكثير من التطورات وموقف الحزب، وحدثني عن برقية التهنئة التي وجهها الرفيق سكرتير الحزب الى مجلس السيادة ورئيس الوزراء وبيان الحزب وكذلك بيان الحزب في 12 تموز ثم طلب مني المبيت عندهم لسريان منع التجول.

لقد توسعت قاعدة الحزب الى حد كبير بدرجة لم يكن كادر الحزب قادراً على استيعاب الرفاق الجدد الذين انتموا الى الحزب، لذلك اصبح المرشحين قبل الثورة أعضاء بعد فترة من الزمن تم ترحيلي من تنظيم الاسواق التجارية الى تنظيم الميكانيك، كعضو لجنة تابعة اصبحت فيما بعد متفرعة وقد وصل عدد اعضاء الخلية الواحدة مثلاً في ساحة السباع وصل الى خمسين رفيق، حيث تقوم بعقد اجتماعاتها على سطح بعض البنايات، كما بدأ تشكيل النقابات والاتحادات والروابط ولجان الدفاع عن الجمهورية وفصائل المقاومة الشعبية ونبوأ رفاقنا المواقع القيادية فيها، ونتيجة لزيادة اعداد طالبي الانتماء للحزب اوقف الحزب الترشيح لعضويته، لكي لا يغرق الحزب بالفئات والشرائح من غير العمال والفلاحين .

كان حزبنا من ابرز المساهمين الاساسيين في التهيئة لاندلاع ثورة 14 تموز المجيدة وعمل على انجاحها بكل الوسائل، وهيأ الأجواء المناسبة لها من خلال نشاطه في جبهة الاتحاد الوطني التي كانت عبارة عن تحالف سياسي وطني عراقي تأسس في عام 1956، الى جانب حركة الضباط الاحرار الجريئة .

لقد تحققت في السنوات الاولى للثورة الكثير من الانجازات على كافة الاصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كان من ابرزها صدور قانون العمل وقانون الاحوال المدنية الذي يعد من اكثر القوانين تطورا على صعيد المنطقة، حيث انصف المرأة، الى جانب قانون رقم قانون رقم 80 لعام 1961 والذي استعاد بموجبه معظم الأراضي العراقية غير المستثمرة التي كانت تحت امتياز الشركات النفطية والتي كانت تشكل نحو 95% من مساحة العراق، أضافه للمنجزات الآخرى التي تمس حياة الفقراء والمعدمين حيث تم توزيع الاراضي عليهم مجاناً وفي مدن خططت بشكل عصري بدلاً من الصرائف والأكواخ البائسة التي كانوا يسكنوها، إلا ان الدوائر الاستعمارية واجهزة مخابراتها وعملائهم من القوى الرجعية التي خانت الوطن، تمكنوا من اسقاط الثورة في 8 شباط الاسود وتسليمها الى عملائهم الذين اعلنوا بلسان رئيسهم علي صالح السعدي بانهم جاءوا بقطار امريكي وبدأت حمامات الدم منذ ذلك التاريخ والى يومنا هذا.

المجد والخلود لشهداء ثورة تموز الخالدة والخزي والعار لعملاء الاستعمار والصهونية .

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter