| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الجمعة 26/6/ 2009



حول الانسحاب من العراق ..
إستعادة "السيادة" ام استمرار الهيمنة الاميركية؟

فالح عبد الرحمن

اعتبر كثيرون ان بداية تنفيذ الاتفاق الأميركي العراقي أوائل السنة الجارية، بما فيه انسحاب القوات الأميركية من المدن بنهاية حزيران، ثم الانسحاب الكامل في ٢٠١١، يعني اعتراف الطرف المحتل بهزيمته وفشل مشروعه الاستعماري. لكن لمّا كان "كل يغنّي على ليلاه" في العراق كما في غيره، فقد انقسم المعلقون عموماً الى فريقين: احدهما يرى ان هذا بداية إنتصار المقاومة المسلحة الناجز على المستعمر، ويطالب تبعا لذلك بمواصلة المقاومة لضمان الانتصار، فيما يراها الطرف المقابل، اي حكومة نوري المالكي ومؤيدوها، إنجازاً رئيسياً يكفل للعراق استعادة السيادة والاستقلال الكاملين، وذلك سلمياً (وكفى الله المؤمنين القتال).

لكن هذ اليقين لم يدم طويلاً، ومن هنا بعض "الحيص بيص" في المواقف، خصوصا بعد تصريحات عدد من كبار القادة العسكريين الأميركيين، من بينهم اخيرا رئيس أركان الجيش الأميركي الجنرال جورج كَيْسي، الذي قال ان اميركا تخطط لإمكان البقاء عشر سنوات بعد الموعد الرسمي للانسحاب، نظرا للتطورات الأمنية الأخيرة، وايضا تصريح الجنرال ريموند اديرنو قائد القوات الأميركية في العراق (معارضو الحرب الأميركيون يسمّونه "ثور الصحراء") عن البقاء في العراق "خمس سنوات او عشر سنوات او ١٥ سنة". وعندما سأله المراسلون عن إمكان اعلان اميركا الانتصار على "التمرّد" قبل ذلك اجاب بكل بساطة ان التمرد "لن يتوقف. أو كي؟". واذ عاد كيسي وذلك "الثور" الى التأكيد على احترام موعد الانسحاب ("الحيص بيص" يشمل الجانب الأميركي كما يبدو)، فقد نقلت وسائل اعلام اميركية عن اتفاق على اعادة ترسيم حدود المدن (بغداد بالدرجة الأولى) بما يسمح للقوات بالبقاء، ذلك لانها بالتعريف ستكون "خارج المدن". بل ان اوباما في خطابه الرئاسي الأول عن العراق أواسط شباط الماضي تحدث صراحة عن خلافات بين العسكريين الأميركيين حول الانسحاب.

لا نستطيع بالطبع الجزم بنوايا الأميركيين حول هذه القضية، ولا مجال سوى إستقراء المواقف الأميركية المعلنة أو المتظمنة في شكل يقارب الاعلان، ومن ثم محاولة ترجيح ما نرى انه الاحتمال الأقرب. ذلك ان الانسحاب، بمعنى "ترك العراق للعراقيين" كما اكد أوباما في خطابه الى العالم الاسلامي في القاهرة، اذا كان يعني الإقرار الضمني بهزيمة المشروع الاستعماري، ينطوي على محذورات استراتيجية كبرى بالنسبة الى الأميركيين، حتى بالرغم من الكارثة الاقتصادية التي حلّت بأميركا وانتشرت منها الى انحاء العالم. فالسيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية
على العراق مطلوبة أصلاً للتمكن من السيطرة على العراق وتحويله الى الاصطفاف الأميركي (او الأميركي - الاسرائيلي من جهة، ومن الثانية صف أميركا مع "المعتدلين العرب"). في قلب هذا التحويل، أو "جائزته الكبرى"، الاستيلاء على ثروة العراق النفطية الهائلة (ثاني احتياطي نفطي في العالم إن لم يكن الأول حسب البعض)، ناهيك عن موارده الطبيعية الأخرى. والمعروف ان الطرف الاستعماري لا يزال يسعى الى "الجائزة"، عبر مشروع قانون النفط والطاقة، المصمّم أميركياً والمدعوم من قبل الفئات العراقية الحاكمة حالياً، والذي لا يزال قيد الأخذ والرد من قبل البرلمان العراقي.

استراتيجية اميركا
اذا تركنا موضوع "الجائزة" جانباً، فإن "ترك العراق للعراقيين" بمعنى الإقرار، مهما يكون مموّهاً، بالهزيمة، يوجه ضربة كبرى لوضع أميركا الاستراتيجي شرق أوسطيا وإقليميا وبالتالي عالميا. فعلى صعيد الشرق الأوسط، تركزت سياسة اميركا (أميركا = اسرائيل) بعد حرب ١٩٧٣ على السعي الى إفشال اي محاولة الجانب العربي للوقوف بوجه اسرائيل. في قلب هذه الاستراتيجية، بعد خروج مصر من المعادلة، كان ضمان عزل سوريا عن العراق، عمقها الاستراتيجي الطبيعي، وبالتالي منع قيام قاطع عسكري اقتصادي سياسي قوي يهدد اسرائيل. وسنحت لها فرصة حاسمة وقتها رفعت القيادات الكردية السلاح ضد صدام حسين، ودعمها حليف اميركا واسرائيل شاه ايران الذي أفشل محاولات الحيش العراقي للقضاء على الأكراد. لم يجد صدام حسين حلاً لهذا المأزق سوى معاهدة الجزائر التي فرضها الشاه على صدام حسين في١٩٧٥، وتضمنت وقف المساعدة الى الأكراد مقابل تعديل الحدود مع العراق حسب المطالب الايرانية، وايضا، وهو الأهم، التحالف الوثيق مع الشاه، أي سقوط العراق بيد الشاه وحلفائه، وضمان القطيعة التامة مع سورية. (روت مراسلة اميركية وقتها ان هنري كيسينجر قال للسوريين في اول زيارة الى دمشق بعد عقد التحالف: "ماذا ستفعلون الآن والعراق اصبح في يدنا؟"). هذه كانت مهمة صدام حسين، واستمر في القيام بها بحماس حتى بعد اهتزاز عرش الشاه بفعل الثورة في ايران، وتخلي اميركا عنه، وانهيار النظام وهرب الشاه، ثم دعم محاولة كبار ضباطه القيام بانقلاب مضاد على الثورة، وصولا الى شنّ الحرب على ايران الثورة (بـ"ضوء أخضر" أميركي كما كشفت اخيرا محاضر رسمية أميركية -- ومن ثم دعم العراق بتأمين قروض الشركات الأميركية له، اضافة الى المال الوفير من "الأجاويد" العرب. هذا الأمر ليس من قبيل "نظرية المؤامرة" بل "المؤامرة بذاتها".

من بين أول مبادرات ايران الثورة الاسلامية الغاء التحالف الايراني - الاسرائيلي - الأميركي، واقامة تحالفها الاستراتيجي القوي مع سوريا، وهو الوضع الذي يهدد اميركا وحلفائها (اسرائيل وعرب "الإعتدال") بخطر أكبر بكثير لا يمكن السماح به مهما كان الثمن: قيام قاطع استراتيجي اقتصادي يشمل سوريا والعراق وايران، وما يعنيه ذلك من انقلاب جذري في موازين القوى شرق أوسطيا وخليجيا، وبالتالي عالميا، يهدد هذه "الإمبراطورية" المتضعضعة اصلا. (السيناريوهات هذه خاضعة طبعا لمتغيرات لا تحصى في كل مفصل منها. لكن هل يمكن لاميركا وحلفائها تجاهل هذا الاحتمال القويّ لانهيار متواصل لـ"قطع الدومنة" هذه). انه الخطر الذي اثارته الاستراتيجية "العبقرية" لدى الطرف الأميركي الذي اشعل وقاد "حرب الدمار الشامل" على العراق: الزمرة اللكيودية المتطرفة التي حكمت البنتاغون، تحت "القوميين" الأميركيين الذين لا يقلّون عنها في الولاء لليكود مثل نائب الرئيس السابق ريتشارد تشيني ووزير الدفاع رامزفيلد. هذا الاصطفاف في التسعينات وأوائل القرن الحالي تبنى ادعاء رئيسي الوزراء الاسرائيليين وقتها، بنيامين نتانياهو ثم أرييل شارون، بأن العراق يمثّل خطرا ماحقا على اسرائيل، ولذا فـ"الطريق الى القدس يمر عبر بغداد". هذه المجموعة، التي تعتقد انها "انجزت المهمة" في العراق، حوّلت أنظارها الى سوريا مطالبة بسحقها لانها "ارهابية"، وها هي الآن، بعد المتغيرات في اوضاع الشرق الأوسط، تشارك نتانياهو في نعيبه ان الخطر الداهم على أميركا واسرائيل هو ايران ولا بد من تدميرها مثلما دمرت العراق.

السيادة الشكلية
لا حاجة للتذكير بالأكاذيب الفاضحة والمضحكة التي استعملتها اميركا لتغطية نواياها الاقتصادية والاستراتيجية من الغزو والاحتلال، مثل "تحرير" العراق من الدكتاتورية، "نشر الديموقراطية".. الخ -- الأكاذيب الممتدة منذ ادارتي بوش الى الادارة الحالية. الاّ أن أميركا نفسها اعلنت تلك النوايا الحقيقية ونفّذتها ما إن نجحت في تدمير نظام صدام حسين، وتنصيب بول بريمر حاكماً مباشراً مطلقاً للعراق (متجاوزين بذلك كل ما كان يسمى وقتها "المعارضة العراقية" وتشكيلتها المتنوعة من "العملاء" والحلفاء، الموقت منهم والدائم، والمستفيدين السياسيين والاقتصاديين).

فقد سارع هذا، من خلال "أوامره" الشهيرة، الى تنفيذ المرحلة التالية على تدميرالنظام: تدمير أجهزة الدولة العراقية نفسها، بدءاً بالقوات المسلحة وقوات الأمن، ثم حلّ كل الاجهزة الادارية والاقتصادية والثقافية الرسمية (عدا النفط طبعاً) وصرف العاملين فيها دون أي تعويض. المرحلة الثالثة، المتوقعة تماماً بعد انهاء أي وجود امني وإداري، تمثلت بالتدمير العياني لكل مرافق الدولة: من المقرات والمكاتب والتجيهزات والمعدّات وصولاً الى المتاحف والمكتبات الأراشيف الرسمية وغيرها، في موجة الدمار والنهب الكبرى اجتاحت العراق. (الموجة التي اعتبرها وزير دفاع اميركا وقتها "امور تحصل!" في أي حرب.) أي ان العراقيين، بعد ما جاء به الغزو نفسه من القتل والدمار الجماعيين، وجدوا انفسهم بعد المرحلتين التاليتين في حال "اللا-دولة"، أي مجرد "بقعة جغرافية" تسكنها "كمّيات بشرية" او "مجموعات سكّانيّة" دون تنظيم اداري او اقتصادي او اجتماعي، ولا سيادة أو قوانين لها سوى سيادة و"أوامر" بريمر. باقي هذه القصة معروف: اضطرار الأميركيين الى تمويه هذا الوضع الفاضح، أولاً عن طريق مهزلة "مجلس الحكم"، ثم الدورات الانتخابية الثلاث وصولاً الى الوضع الحالي والسيادة الشكلية الحالية. ("الشكلية" هنا لا تعني "الوهمية" لأن تعقيدات وتضاربات الشأن العراقي لا تقبل هذا الاختزال، وهو ما دفع "الإمبراطورية" الى تغيير موقفها مراراً مترافقاً مع تغيّر الأوضاع. لكن هذا موضوع منفصل عن السياق الحالي قد نعود له في مكان آخر لأن السياق الحالي يتناول مواقف ونوايا الأميركيين تجاه العراق، منذ عهدي بوش الى عهد أوباما).

مناورات الديموقراطيين
هذه القصة السياسة يمكن بدأها من ٢٠٠٤، عند تجديد الرئاسة لبوش، بفضل حملة انتخابية ركزت على المخاوف من الارهاب وانكشاف اميركا امامه، أي بعد عودة الحزب الجمهوري الى السيطرة على الرئاسة والكونغرس. لكن وضع الرأي العام الأميركي كان يتغير بقوة وسرعة الى رفض الحرب والمطالبة بالانسحاب التام غير المشروط، وهو تغير تجاوز ناشطي وقواعد الحزب الديموقراطي ليشمل الكثير من الجمهوريين وغالبية كبيرة من الرأي العام. الغالبية الساحقة من اعضاء الحزب الديموقراطي في الكونغرس كانت كما نعلم في مقدمة المستكلبين للحرب، لكن رفض الناخبين لها انعكس على موقف الاعضاء وبدأوا بالمطالبة بالانسحاب التام بتوقيت معلن. هذه الاعتبارات حكمت المرحلة المؤدية الى انتخابات الكونغرس النصفية في ٢٠٠٦، حيث تمكن الديموقراطيون، للمرة الأولى منذ رمنذ زمن طويل من الانتصار على الجمهوريين.

المهمة التالية أمام الديموقراطيين كانت ادامة وتوسيع هذا التأييد الشعبي استعداداً للانتخابات الرئاسية والنصفية الثانية في أواخر ٢٠٠٨، خصوصاً مع بروز أوباما مرشحاً رئيسياً للبيت الأبيض، وهو المعروف بمعارضته للحرب أصلا وتأكيده خلال حملاته الانتخابية على مطلب الانسحاب الكامل بتوقيت معلن. وانفتحت الفرصة امام الديموقراطيين في شباط ٢٠٠٨، عندما قدّم بوش موازنته للاستمرار في تمويل الحرب. واذ أقرّ الكونغرس، بقيادتهم، الموازنة -- وما كان له رفضها وإلاّ واجه تهمة خذلان قواتهم في العراق -- لكن قرار الموافقة نصّ على الانسحاب التام بتوقيت معلن، وعدم اقامة قواعد عسكرية في ذلك البلد، والتخلي الكامل عن السيطرة على العراق موارداً وسياسة. واذ شكر بوش الكونغرس على الموافقة، فقد أبلغه في الوقت نفسه رفض بقية القرار، باعتباره تقييداً لصلاحياته كـ"القائد الأعلى" للولايات المتحدة. أي انه، بكل بساطة، عاد، شكل شبه مباشر، الى تحديد الهدف الأميركي العراق: ادامة الاحتلال عن طريق القواعد الكبرى المقامة هناك، السيطرة على العراق سياسة وموارداً. كما انه، بالبساطة نفسها، ألغى الصلاحية الدستورية الكبرى للكونغرس، أي ليس فقط صلاحية الموافقة على صرف الأموال التي تطلبها السلطة التنفيذية، بل ايضا تحديد وجهة وطبيعة الإنفاق، لضمان عدم انفاقها على هوى تلك السلطة.

من نافل القول ان الكونغرس "الديموقراطي" تلقّى الصفعة المدوية "بكل رحابة صدر"، (مثلما تلقى بارتياح صفعة اخرى من بوش عندما عزله عن تناول الاتفاق مع العراق، بدعوى انه مجرد "اتفاق" وليس "معاهدة"، ولذا فهو من شأن "القائد الأعلى" وحده). جدّية الكونغرس في موقفه من من الاحتلال والسيطرة كانت ستتمثل في الاصرار على القرار كما هو، لتحميل بوش مسؤولية نقضه بالكامل، وبالتالي تحميله تهمة خذلان القوات المسلحة، او رفع القضية الى المحكمة العليا للتحكيم في مدى دستورية موقف بوش، لكنه لم يفعل. وقد أعان الكونغرس على موقفه تجاهل وسائل الإعلام الرئيسية لهذا الموضوع الخطير، الى ان اضطرت لتناوله بعد عاصفة الغضب التي اطلقتها نشريات الانترنت المعارضة للحرب، ودعمتها بآراء عدد من أهم خبراء الدستور وكبار القانونيين. اذن يمكن القول ان موقف الديموقراطيين لم يكن غير مناورة سياسية لضمان تثبيت وتوسيع قاعدتهم الانتخابية المعادية للحرب والاحتلال في انتخاب الرئاسة والانتخابات التشريعية النصفية أواخر ٢٠٠٨، وهذا ما حصل. (الناشطون الأميركيون ضد الحرب يقولون الآن في أوباما والديموقراطيين "ما لم يقله مالك في الخمرة"، اما الرأي العام فهو مشغول بالكارثة الاقتصادية).

بأختصار، موقف السلطة التنفيذية الأميركية يتلخص بالسيطرة الكاملة على العراق: أي، فعليّا، "ماكو سيادة!" رغم كل الكلام عن "الاستقلال" و"الحرّية" الكاملة للعراقيين في تقرير مصيرهم.. الخ؛ فيما موقف الكونغرس يتلخص بالموافقة غير المشروطة (لكن الصامتة) على ذلك. باختصار ايضا: أميركا، رغم كل ما جرى، لا تزال على هدفها الأصلي من الغزو والاحتلال الذي اعلنه بريمر، اي الاستيلاء على البلد جملة وتفصيلا، أو على "حق" الرئيس في ذلك، رغم الحاجة الى كل ما أمكن من تجميل لهذا الهدف امام الرأي العام العراقي والأميركي والعالمي.

اوباما و"سيادة" العراق
العنصر المشترك بين الأميركيين المعادين للحرب والمؤيدين لها هو ان أوباما، بعد وقت قصير على دخوله البيت الأبيض، يواصل سياسة بوش الخارجية. لكنه بالطبع يصوغ مواقفه المعلنة بـ"شاعرية" وديبلوماسية أرقى بما لا يقاس من صياغات بوش الفجّة في صراحتها. لذا علينا ان نضع هذه "الشاعرية" في الحساب، خصوصا في أهم خطاب له عن العراق بعد تسلمه الرئاسة: خطابه في شباط الماضي في "معسكر ليجون" للمارينز، الذي اعلن فيه قبوله باتفاق "سوفا" لجهتي الانسحاب النهائي والتوقيت: انسحاب "القوات القتالية" في ١٣ آب ٢٠٠١٠، ثم الانسحاب التام للقوات "غير القتالية" تعدادها قد يصل الى٥٠ الف عسكري (هل نفترض انها ستكون "منزوعة السلاح"؟. وماذا عن اكثر من مئة الف من المرتزقة؟).

المشكلة اذن ليست في اعلان الانسحاب، بل هي في ما اوضحه أوباما في الخطاب نفسه حول العراق الذي سيجري الانسحاب منه، اي طبيعة ذلك "العراق" داخليا وخارجيا. الكلام "حمّال أوجه" كما يقال: هل هو مجرد الهراء المعهود عن تفضّل الإستعمار بـ"تحرير" البلد وتحقيق سيادته واستقلاله ثم تركه وشأنه بعد ذلك؟ ام هل هو اعلان عن نوايا الاميركيين حول طبيعة ذلك العراق؟ اذا اخذنا الخيار الأول فـ"ماكو مشكلة"، وما علينا سوى تمرير الوقت الى ان يحين موعد الانسحاب التام. الخيارالثاني فهو يستدعي بعض النظر.

انه يتكلم مرارا عن سيادة العراق وحريته في اختيار مستقبله، وما يتطلبه ذلك من الأميركيين، اي "العمل على قيام حكومة عراقية عادلة وتمثيلية خاضعة للمساءلة لا تقدم دعما او ملاذا آمنا للإرهابيين". واذا كان هذا كل ما يعنيه فلا بأس. ثم يوضح أيضا ان على اميركا القبول بوضع في العراق يقلّ عن "الكمال"، لأنها قامت بما فيه الكفاية وعلى العراقيين إتمام المهمة: "لا نستطيع تخليص العراق من كل المعارضين لأميركا والمتعاطفين مع اعدائنا"، فالأميركيون قاتلوا "شارعا فشارعا، اقليما بعد اقليم، سنة بعد سنة لإعطاء العراقيين الفرصة هذه لإختيار مستقبل أفضل، وعلينا الآن ان نطلب من العراقيين إغتنامها". للعراق، حكومة وشعبا، سيادته "الكاملة"، لكن السيادة هذه تشمل مواصلة العراقيين السعي لاكمال هذه المهمة، لكنها لا تشمل حقه في دعم "المعارضين لأميركا والمتعاطفين مع اعدائنا". اذا كان المعارضون هؤلاء صنف القاعدة وامثالها يمكن تفهم موقفه، ولو كان عاطفيا فقط بسبب "الثأر" بين الطرفين. لكن ماذا مثلا عن سوريا او ايران في حال تعرضهما لهجوم اميركي - اسرائيلي؟ او عن الفلسطينيين أو اللبنانيين المقاومين لاسرائيل؟ بل عن الموقف المعارض لأميركا على النطاق العربي والاسلامي والعالمي؟. (هو يتحدث عن نشر السلام في الشرق الأوسط والكلام مع سوريا وايران، وحلّ مشكلة فلسطين، ونتمنى له التوفيق!). العراق، اذن، داخلياً وخارجياً، ضمن الاصطفاف الأميركي، ضد كل معارضي اميركا؟

كيف يمكن لأميركا ضمان عدم انتقال العراق الى صف "المعارضين والاعداء"؟ العودة الى "أوامر" بحل دولة العراق "حكومة شعبا"؟ الوضع الحالي لا يسمح بذلك بالطبع، ولا مخرج سوى ضمان حكومة عراقية يشارك الأميركيون فيها على أعلى المستويات، لإفراغ "السيادة" من اي محتوى حقيقي، وهي في جوهرها فارغة من اي محتوى، فهي قد لا تعني، مبدئيا، سوى من الاعتراف بوجود تلك الدولة، فيما تجد محتواها الحقيقي في قدرة "السيد" على فرض تلك السيادة، بوسائل تمتد من الحرب الى الضغوط السلمية والإقناع. أي ان الأمر مرهون بتوازن القوى ذات العلاقة: من جهة ميزان القوى بين العراقيين حكومة وشعبا واميركا، ومن الجهة الثانية ميزان القوى بين حكومة العراق وشعب العراق. وهو يقول في هذا السياق ان: "نجاح الأمة العراقية على المدى البعيد سيعتمد على قرارات يتخذها قادة العراق والشعب العراقي الصبور. العراق بلد سيّد بمؤسسات مشروعة، ولا يمكن لأميركا بل لا يجب لها ان تحل محلهم (القادة)". واذا كان أوباما يعطي "القادة" قرارهم "المستقل" في ما يخص "الممستقبل البعيد"، فهو يتبع ذلك مباشرة بـ"لكن" قوية: "لكن بإمكان جهد سياسي ودبلوماسي ومدني من قِبَلنا احراز التقدم في العملية ويساعد على إرساء سلم وأمان دائمين". في هذا، بالطبع، ما يوحي بـ"شراكة" قوية، "على المدى البعيد"، بين "قادة العراق" و"شعبه الصبور" من جهة وأميركا من الثانية. لكن اذا نظرنا الى العلاقة كما يراها أوباما في الخطاب نفسه لا نحتاج الى أي وحي أو ايحاء لترجيح ما يقصده.

ففي كلمته المباشرة الى العراقيين، يلجأ أوباما في الخطاب الى الكذبة الأميركية الكبرى حول العراق، مواصلاً بذلك موقف بوش، ولو كان دفق "شاعري" منفلت (وأيضا مضحك، لأن لا يمكن له ان ينطلي على الرأي العام العراقي أو الأميركي او العالمي): »أمّتانا عرفتا سوية أوقاتا صعبة. لكن دماءنا المشتركة قد صهرت الروابط بيننا، والصداقات التي تفوق الحصر بين شعبينا. لقد بذلنا لكم موردنا الأنفس -- شبّاننا وشابّاتنا -- للعمل معكم لإعادة إعمار ما دمّره الطغيان، واستئصال اعدائنا المشتركين، والسعي للسلام والرخاء لأطفالنا واحفادنا، واطفالكم واحفادكم.. الخ.

ثم ينهي هذه "المناجاة" باعلانه نوايا اميركا تجاه العراق: "ليس للولايات المتحدة مطلب في أرضكم أو مواردكم، ونحترم سيادتكم ...". أي أين الحاجة لشناعة بوش حين احتفظ لنفسه علنا بحق السيطرة على السياسة والموارد؟ فـ"الروابط" "مصهورة بالدم" و"الصداقات" بين "الشعبين الشقيقين" "تفوق الحصر"، وهي ستمتمد بعدنا الى أطفالنا واحفادنا! انه دون شك يعرف انه في كل هذا يكذب، والسؤال هو اذ كانت اقواله كذبة يقصد بها تمويه هزيمة المشروع الاستعماري كما يرى البعض، فلا بأس. ام هل ينوي، بشكل أو آخر، تنفيذ كذبة هذه "الأخوّة"، بكل حذافيرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي يبدو ان لا فكاك منها؟ اذا كان هو المقصود، ماذا سيكون موقف "قادة العراق" و"شعبه الصبور" ازاء ذلك؟ هل سيكتفون بالتهليل والاحتفال باستعادة "السيادة" فيما تستمر الهيمنة الأميركية على العراق والمنطقة؟ ام هل سنرى قريبا خطوات عملية تؤكد السيادة الفعلية -- بدءاً، ربمّا، قانون وطني للنفط وسائر موارد البلد يحميها من النهب الاستعماري المزمع؟



 

free web counter

 

أرشيف المقالات