|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الخميس  17  / 10 / 2024                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 

الشـــــــــــــــاعر مخـــلص خليل
سكنتك الخيبات …فرحلت متحدياً

باسم يحيى التكريتي
(موقع الناس)

بعــد انتظــار لسنــوات طـــوال رٌفعـــت فــــيها الاف الأدعية وآلاف النذور، كانت الأكف تبتهل لخــــــالق البشــــــــرية وأوليــــــــــائه الصــــــــــالحين.

ان يَمن على الأب (خليل إسماعيل وزوجته) رحمهما الله بولــــــيد تقُر الأعين به. في تشرين الثاني من عام 1950 في التاسع عشر منه، ولد الطفل البكر (مخلص) وأنفتح بابٌ الفرج على الأبوين بولادة اربعةٌ من الأولاد وثلاث من البنات لتبدأ رحلة مخلص مع الدلال المبالغ فيه، أحاطه الوالدان برعاية واهتمام استثنائيين، أغدقا عليه بالرغم من عُسر الحال، الوالد الكادح (خليل إسماعيل) كان رمزاً للكفاح من أجل الحياة شديداً صعبُ المراس، لكنه كريم النفس والخُلق، كان (الولد)، يشعر باهتمام أبيه به فيزداد دلالاً ورقة ورهافة حس بمرور الأعوام.

كبر مخلص ليبدأ مشواره الدراسي في مدرسة تكريت الابتدائية كما واصل دراسته الثانوية في تكريت، عشق الكتابة وكتب الشعر مبكراً كان يرتوي في اغلب كتاباته من ماء دجلة الرائق متشبثاً بضفاف الطين ورائحة المدينة العتيقة يستعيد تاريخها الذي تشربت به جدران بيوتاتها وأزقتها، تلك المدينة المرتفعة الواقعة على ذلك الجبل الصخري الممتد من سلسلة جبال حمرين. كانت القلعة محصنة بسور يمتد 4 أميال يحيط بها من جهة ويحيط بها من الجهة الأخرى نهر دجلة والحافة الصخرية الحادة للجبل.

لم ينفصل (مخلص) عن تاريخ أجداده الكدودين الكادحين اللذين عملوا على الاكلاك الراحلة الى الشمال يجدفون عكس التيار بقوة السواعد والإرادة..

اسمرُ مثل الرمحِ مشدودٌ الى مجداف
مرً كالمرودِ بالصبحِ يكحَّلُ الضفاف
يا طالما حطمّ في صدرِ الدجى مجداف
ودقّ مرساةً على حاشية الضفافْ
تعرفه الانواءُ والشطَّآن ترويه حكاياتٍ عجاف

هذا النشاط الإنساني ظل ملازماً لمخلص، في اعماقه ووجدانه، فكان عكس التيار على طول الخط.

تأثر (مخلص) بالأجواء السياسية والفكرية التي سادت مجتمع المدينة (تكريت) منذ خمسينيات القرن الماضي وما قبله فكان للأفكار الماركسية واليسار حضور فاعل في الأوساط المتعلمة، ومثقفي المدينة، وأنضم العديد الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي، كان في مقدمة هؤلاء اخواله {صالح، ويحيى عبد القادر} اذ برزا كعنصرين ناشطين في الحزب. تأثر مخلص بهاتين الشخصيتين، وكان الأقرب اليه خاله (يحيى) الذي صاحبه حتى وهو في المنفى.. سار على نهجهما واهتدى بأفكارهما أنهى (مخلص) دراسته الإعدادية انتقل بعدها الى بغداد عالم مختلف بكل شيء، بدأ حياته الجامعية طالباً في كلية الآداب جامعة بغداد، فضلاً عن عمله كقاطع تذاكر في المحطة العالمية لسكك الحديد، وبدأ بنشر كتاباته في بعض الجرائد والمجلات، من ضمنها (ألف باء) ثم طريق الشعب التي فتحت له افاقاً واسعة مع نخبة من السياسيين والكتاب والشعراء والفنانين ونخبة من الرواد والشباب، من المبدعين في الميادين كافة. اظهر منذ البدء موهبتهُ في كتابة التحقيقات الصحفية، اللقاءات، والحوارات، وتحرير المقالات، فأوكلت له مهمة الاشراف على الصفحة العمالية. فضلاً عن نشاطه التنظيمي في صفوف الحزب الشيوعي العراقي الذي انتمى اليه، قبل ذلك في هذه الاثناء تعرف على (سهام الظاهر) احدى زميلاته في العمل وتزوجها، اختارا سكناً قريباً من الجريدة وأصبح محطة للقاء واستقبال رفاقه وأصدقائه والمقربين منه عائلياً وكنت أحدهم، كان (مخلص) كريماً في احتضان واستقبال رفاقه وأصدقائه ومحبيه. بانهيار ما يعرف ب (الجبهة الوطنية) عام 1978 وبدء حملة تصفية وملاحقة الشيوعيين واعتقالهم، عقد مخلص وزوجته العزم على مغادرة الوطن الذي كان يحلم ان يكون وطناً معافى وجميلاً. فبدأت رحلة الاغتراب القسري والقاسي في المنافي بدءاً من سوريا ولبنان، ورغم صعوبة الحياة لم ينقطع (مخلص) عن العمل الصحفي في سوريا وفي لبنان، فعمل في صحافة المقاومة الفلسطينية ، كان حاضراً بوجدانه وعطائه الادبي حاملاً في داخله خيبة وطنه الأولى باعتقادي ان (مخلص) كان خلال مسيرته الشائكة المتعبة الموجعة قد اشتهى الموت لعدة مرات في بيروت ، كان يخرج صباحاً كالمجنون متجهاً الى مقر عمله وسط ازيز الرصاص ودويّ القنابل والصواريخ، كان يمشي بطوله وسط الشارع ،أطلّ عليه أحدهم من إحدى الشرفات ليصرخ فيه (ماذا تفعل أيها المجنون الى اين؟) لم يأبه للنداء وظل يواصل السير ...

في احدى الليالي في بيروت، وقد اشتد القصف الصاروخي ودوي قنابل الهاون كأنه الجحيم كان يجلس في شقته وحيداً وسط الظلام الدامس أحسّ وكأنها النهاية بل اشتهى ان تكون هي النهاية، فتح شباك غرفته وأسند ظهره الى الجدار مسلّماً روحه للمجهول الآتي كي ينتهي كل هذا الألم والأحباط ، وسط هذه الكوابيس غفا على صوت القنابل والصواريخ، استيقظ صباحاً ليجد غرفته قد غطاها التراب والجص المتساقط من جدران وسقف غرفته تحسس جسده كان سليماً , نهض , سار الى مرآته نظر الى وجهه المتسخ وشعره الذي اعتقد ان الجص قد غطاه بهذا البياض نفض شعره وغسل وجهه ورأسه . انه لم يكن لون الجص عندما نظر الى المرآة ثانية لقد أبيضّ نصف شعر رأسه، ربما هي إشارة الى ان نصف رحلة الحياة قد انتهى لتبدأ أخرى ثم عاد ثانية الى حياته اليومية ، وركب الشارع ثانيةً .

انتهت محطة بيروت هذه بالاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني ليركب البحر مع رفاقه متجهاً الى امكنة اغتراب ومنافٍ جديدة تاركاً بيروت وركامها وجثث مقاتليها ومن قبلها بغداد وخيباته ورفاقه فيها ومن قبلها تكريت العتيقة مدينة الكنائس والجوامع القديمة التي ما غابت عن روحه.

بدأ رحلة اغترابه الأخير في هولندا وبقىّ (مخلص) رغم كل تلك الانكسارات والخيبات والوجع الداخلي والمرض الذي كان ينهش أحشائه، ظل محافظاً على نهجه في ترتيب وتنسيق كل الأشياء ، كما في كلماته الشعرية الانيقة المرهفة حساً لم تستطيع بلاد الغربة من احتواء وجعه الداخلي انما عمقت انكساراته / بل انكسارنا كلنا وخيباتنا نحن جميعاً اللذين اخترنا السير في ذاك الدرب الصعب الوعر.

باحتلال الوطن عام 2003 بالتعاون مع شرذمة من العملاء والسّراق والفاسدين ليتولوا أمور البلاد. عاد (مخلص) بعد حين حاملاً خيباته الأولى عسى ان يجد ما يداوي الجراحات ، ولكن آماله خابت ، جاء ليكحل عينيه بمعشوقتهِ الازلية بغداد فوجدها قد خارت قواها ووهنت، وسكنها الرعاع وعاثوا بها , فقدت بريقها وأصبحت مرتعا للسراق وقطاع الطرق والقتلة , في الصباح خرجنا معاً متجهين الى شارع ابي نؤاس حيث مقر (طريق الشعب ) التي منحها قلبه وروحه ،مررنا اولاً الى جريدة المدى حيث الصديق (زهير الجزائري) الذي رافقنا الى مقر(طريق الشعب) التقاه عدد من الرفاق والأصدقاء : الفريد سمعان ، عريان السيد خلف ، الصديق عبداللطيف السعدي وآخرون خرجنا من هناك ، حينذاك دققت في ملامح وجهه كانت توحي بعدم الرضا، لم يكن سعيداً، كنت على يقين بأنه خرج حاملاً خيبة أخرى اكثر وجعاً وايلاماً، لم يجد في هذا البيت (طريق الشعب) ذاك البيت القديم الذي كان مسكوناً بالحب والحيوية ،بل مشعاً بهما ما هذا الذي تمنى رؤيته مخلص ؟ ظل صامتاً طوال الطريق لم يفصح عن شيء الابعد سنوات عبر الهاتف. لقد سكنته خيبة أخرى هناك بشر لا تستطيع ان تغير ما جبلوا عليه لا الظروف ولا الأماكن ولا المغريات على الرغم من القسوة، بل تجعل منهم أكثر بؤساً واحياناً مغالاة واحياناً عناداً، وقسوة لمعاقبة الذات، عملية معاقبة للذات والتكابر عليها، ربما لأنهم لا يريدون الاعتراف بالهزيمة او الخذلان ويستبدلوا جلدهم كما فعل كثيرون!! ما هذه الصوفية القاسية هذا الكبرياء والتسامي؟

يا مخلص يا أبن.. عمتي وصديقي وأخي ورفيقي لقد رحلت.. لكنك لم ترحل، أيها الانيق ماكنت تفعل ان تعيد كتابة الأشياء، أو تمزق أوراقك ، كانت الأفكار والقصائد تنهال عليك مطراً، لكنك رحلت وروحك ما تزال تهفو لطعم البدايات، للريح العنيدة التي تدفع بالاكلاك نحو الأعالي ، هكذا انت كنت تحمل صخرة سيزيف، تنظر الى السماء، تتحدى، تريد السمو، لكن جسدك خذلك يا مخلص لأنك الشاعر المرهف المناضل الشيوعي حدّ العظم فكراً، وروحه محملة بالانكسارات والوجع والخيبات (خيباتنا) التي سكنته، رحلت حاملاً بغداد الجميلة الفاتنة الراقصة العاشقة والمحبة للحياة، رحلت حاملاً ايقونة تكريت (الوطن والأم)، القديمة بتاريخها العتيق الممتد عبر الزمن الذي اقتلعته الايادي المدنسة بالعار والقُبحِ، رحلت والنهر الممتد عبر تكريت يجري في عروقك ويسكن روحك، أيها الشاعر الجميل المرهف المناضل السابح عكس التيار كأجداده القُدامىَ...

[يبني أنته والمجداف شكَّاية التوم
منْ دجلة شكِّ الكَّاع جيتو بفرد يوم !!
] *

وداعاً مخلص



*
ابيات الشعر للشاعر المرحوم صالح عبد القادر التكريتي خال مخلص
 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter