| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                الجمعة  16 / 5 / 2014

 

فن قراءة المستقبل في الشرق القديم
كتاب ألماني يسلط الضوء على أسرار قراءة الطالع في بابل

ماجد الخطيب

يعتقد شتيفان ماول، الباحث الألماني المختص بحضارات وادي الرافدين القديمة أن ملوك العراق القديم تمكنوا بفضل علمية قراءتهم للمستقبل، من إدارة ممالكهم في أحلك الأوقات، وفي مختلف الأزمات، وبقدرة تحسدها عليهم مؤسسات الدول الحديثة المعاصرة.

يرد اسم بابل في الثقافة الغربية المعاصرة، فضلاً عن حضارتها العريقة، مرادفاً للأساطير والسحر والتنبؤ بالمستقبل. ومن يتابع الأفلام الهوليوودية في العقود الأخيرة يلاحظ هذا الارتباط الذهني الغربي بالسحر الشرقي من خلال أفلام المغامرات وأفلام الخيال العلمي، وأفلام الرعب، بدءاً بفيلم"غوست باسترز"، مروراً بالـ"أمير فارس" وانتهاءا بثلاثية أفلام الـ"ماتريكس".

ويعتقد الأوربيون منذ عقود طويلة بأن سحرة بابل سبقوا نوسترداموس في استشفاف المستقبل بقرون طويلة. إذ كان عراقيو"لكش" و"لارسه" وبابل من أوائل المهتمين بطقوس قراءة المستقبل، هذا الحلم الإنساني القديم، الذي أقلق حكام الانتيكة كما يقلق بعض حكام اليوم، ويدفعهم للاتصال بالقوى الشيطاينة(كما هي الحال مع الدكتور فاوست) في سبيل استشفاف مصائرهم.

ويبدو ان سمعة العراقيين القدماء في السحر والشعوذة وقراءة الطالع لم تأت بضربة حظ، أو بفضل التنجيم، أو بسبب العلاقة بالآلهة، لأن محاولاتهم الأولى باءت بالفشل رغم كل اعواد البخور التي اشعلوها، ورغم كل الأضاحي التي قدموها، ورغم العدد الهائل من الشموع التي احرقوها في المعابد. وبقيت الطقوس الدينية في ذلك العصر الغابر أبعد ما تكون عن تلبية طموح حكام ذلك العصر في قراءة الطالع.

ويقول شتيفان ماول، الباحث الألماني المتخصص بحضارات وادي الرافدين القديمة، أن فشل محاولات العراقيين القدماء في التنبؤ بالمستقبل عن طريق الطقوس الدينية، والتعويذات السحرية، والاضاحي دفعهم إلى اعتماد البحث والتنقيب العلميين لاستقراء المستقبل. ويفسر ماول، الذي ترجم ملحمة جلجامش إلى الألمانية، على هذا الأساس كيف توصل البابليون القدماء علمياً ما فشلوا في التوصل إليه عن طريق الخرافات والأضاحي.

مؤسسات خاصة للبحث العلمي
يلخص ماول، من جامعة هايدلبيرغ الألمانية المعروفة، دراساته حول سر دراية المجتمعات الشرقية القديمة بالمستقبل، ويشير إلى ان حضارات وادي الرافدين القديمة نحت منحى العلماء اليوم، كما يفعل علماء الطقس، للتنبؤ بما قد يحدث لاحقاً. وذكر في كتابه المعنون" استشفاف المستقبل في المجتمعات الشرقية القديمة" ان الملوك الكلدانيين عرفوا قراءة المستقبل بنسبة عالية من الدقة، وقبل كل شيء، من أجل ترسيخ حكمهم وسلالاتهم.

وبعد ان تخلص الكلدانييون من طقوس الأضاحي والشعوذة أقام الملوك المتتالين شبكة من المعاهد العلمية التي تهتم بدراسة الظواهر وتحليلها واستنتاج العبر منها. وتحولت هذه الشبكة بالتدريج إلى مؤسسة علمية متشعبة، أشبه ما تكون بوزارة، تتفرع منها لجان بحث وتحليل تقدم النصائح والارشادات على غرار ما تفعله لجان في المؤسسات التجسسية الكبيرة الشبيهة بالمخابرات المركزية الأميركية.

ارتبطت هذه المؤسسة الكبيرة بالقصر مباشرة، وكان البلاط يختار العلماء والباحثين وذوي المواهب من بين المقربين من البلاط، ومن الموثوقين، برغبة عدم تسرب أخبارها وتحليلاتها إلى عامة الشعب. ويقود المؤسسة مستشار مقرب من الملك، من علماء زمانه، ويضع الملك ميزانية ضخمة تحت تصرفه.

وكانت هذه المؤسسات ترصد كل الظواهر الطبيعية والاجتماعية، والغرائبية، وتعمل على تحليل أسبابها واستقراء النتائج المتوقعة عنها والمتوخاة منها. وكانت لهذه الأسباب تتنبأ بحصول الكثير من الكوارث والحروب والنكبات إلى جانب التنبؤ بما يضمره المستقبل من خير للمجتمع.

والمهم، والحديث هنا حداثة عمل الأجهزة الاستخبارية الحالية، هو ان اللجان المختلفة تعمل بشكل منفصل عن بعضها، ولا يوجد تنسيق بينها. وتضمن هذه الطريقة للعراقيين القدماء التوثق من صحة الاستنتاجات حينما تصدر متماثلة عن أكثر من لجنة.

نموذج احتذت به الحضارات المجاورة
اصبح النجاح العلمي الذي حققه البابليون نموذجاً يحتذى به من قبل الحضارات المجاورة في فارس واليونان وايطاليا. وكانت"الوزارة" الكلدانية مثار اعجاب العلماء الاغريقيين الذين حاولوا تقليد التجربة بعد ان تسربت اخبارها اليهم.

ويورد الكتاب كيف بنى الكاهن الاغريقي بيروسيوس، الذين كان أحد تلاميذ كهنة مردوخ البابلي، أول مدرسة لقراءة المستقبل في جزيرة كوس في القرن الأول قبل الميلاد.

وكتب المؤرخ الهليني الكبير"ديودور"(القرن الأول قبل الميلاد) ان الأكديين كانوا يقرأون المستقبل بدقة بهدف تجنب المصائب، وبغية تعزيز فرص الخير في المستقبل. ويضيف ماول ان ملوك العراق القديم، بفضل علمية قراءتهم للمستقبل، تمكنوا من ادراة ممالكهم في أحلك الأوقات، وفي مختلف الأزمات، وبقدرة تحسدها عليهم مؤسسات الدول الحديثة المعاصرة.

ألواح طينية لم تصنف بعد
اعتمد شتيفان ماول، الحائز على جائزة ليبنيتز الألمانية نظير ترجمته ملحمة جلجامش عن النصوص السومرية، على آلاف الألواح الطينية المكتشفة في العراق، التي لم تصنف وتحل رموزها بعد، في التوصل إلى استنتاجاته. وكانت هذه الألواح، من العهدين البابلي والآشوري، معبأة بالمعلومات العلمية التي كان علماء الأنتيكة يعملون على تحليلها واستخلاص العبر وآليات الأحداث من خلالها. ويقول ماول ان سنوات من العمل على الظواهر والتطورات المفاجئة انجب آلية عمل علمية ممنهجة تبحث في أساب الظواهر ونشأتها وصيرورتها.

ويشرح الكاتب بالكلمات والصور كيف تحولت"طقوس" تقديم القرابين، وقراءة الطالع في الكبد والطحال، إلى ممارسات علمية تعتمد التحليل والاستنتاج. ويخصص ماول أكثر من فصل لشرح تطور طقوس تقديم القرابيين، وطريقة تحليل الثقوب في الكبد، كما يستعرض الكثير من الألواح الطينية، والمنحوتات التي تمثل الكبد وبقية أعضاء الجسم الحيوية، التي قسّمت هندسياً إلى مناطق لقراءة الطالع.

العامل المحفز، بالنسبة للملوك والعلماء، كان ايمانهم بان الآلهة تركت في هذه الأحداث والتقلبات والظواهر أدلة تحاول فيها تنوير البشر بمستقبلهم. ولهذا فقد عملوا بكل جدية من أجل فهم الرسالة الخفية التي تنطوي عليها هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك.

من الظواهر التي تابعها العلماء القدماء كمثل، وجذبت انتباههم، هي ولادة حمل صغير في منطقة معينة بعينين مختلفتي اللون. قاموا بدراسة الظاهرة، وتتبع نسل الحمل الأولى، وتنبأوا بالنسل القادم من هذا الحمل، بل ووضعوا نسبة احتمالات لولادة حمل آخر بعينين مماثلتين. سجلوا لون العين اليسرى، ولون العين اليمنى، والمنطقة التي ولد بها الحمل، والكلأ الذي تغذت عليه أمه.... إلخ. ولم يتركوا شيئاً يتعلق بولادة العمل ذي العينين الملونتين دون أن يبحثوا فيه.

المهم أيضاً، أن العلماء كانوا يبلغون القصر أولاً بأول عما يرصدونه من ظواهر، ثم يوافون الملك بتقاريرهم التفصيلية عن توقعاتهم المستقبلية بخصوص ما جرى، وما إذا كان لذلك علاقة بحكم سلالة الملك، أو بسلالة ابنه، أو بتغييرات أخرى مثل الحروب والكوارث.

تلاوين المستقبل عبر الكلايدوسكوب
وبعد عمليات الأرشفة والتمحيص والتحليل والاستنتاج يقع على العلماء الاجابة على سؤالين وطرح الجواب عليهما أمام الملك. إذ كان البلاط يتعامل مع الظواهر الغريبة كـ"نبوءات" أو رسائل فأل تبعثها السماء لتحذير سكان الأرض. والسؤالان هما: أي تأثير سيكون للـ"نبوءة" على المستقبل القريب؟ ولادة ولي عرش؟ أو حرب جديدة؟ وينتظر الملك الرد على السؤال الثاني، وهو: أينبغي عليه التحرك مباشرة(حرب كمثل) أو التأني وتحشيد القوات والحلفاء.

وتعتبر الاجابة على هذين السؤالين بمثابة القاء نظرة سريعة في المستقبل القريب، أما المستقبل الأبعد فيجري استنتاجه من دراسات طويلة الأمد وفي القضايا التي لا تتعلق بالعرش مباشرة. وكمثل آخر يجري استطلاع رأي اللجان العلمية المختلفة بخصوص بناء معبد جديد، وما إذا كانت كل الشروط مؤاتية، أو أنه ينبغي التأني في البناء ريثما تنقشع الشروط المعاكسة.

وكتب ماول:" تجري عند دراسة "النبوءة" قراءة كافة تلاوين الحالة بضمنها السلبية والايجابية، كما ينظر الإنسان إلى جسم ملون عبر الكلايدوسكوب". واستخدمت هذه النبوءات لتعزيز موقع الملك على العرش في أغلب الحالات، لكنها استخدمت أيضاً بذكاء لتعديل مسار بعض السياسات، وفي التخلي عن أو تأجيل قرارات شن الحروب.


صدر الكتاب بغلاف مجلد أنيق عن دار  س. ايتش.بيكC.H.Beck في ميونخ/2014
تأليف : شتيفان م. ماول، ويقع في 425 صفحة من القطع المتوسط


* عن صحيفة ايلاف 15 مايو 2014
See more at: http://www.elaph.com/Web/News/2014/5/904350.html



 

 

 

free web counter

 

أرشيف المقالات