| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

الثلاثاء 13/4/ 2010

 

غائب طعمة فرمان .. 30 عاما من النفي والابداع في موسكو

عبدالله حبه – موسكو

تحتفل الاوساط الادبية في هذا العام بمرور 20 عاما على وفاة الروائي العراقي غائب طعمة فرمان الذي يعتبر بحق" اول كاتب عراقي رفع الرواية العراقية الى مرتبة النضوج " كما قال جبرا ابراهيم جبرا. وقد تشكلت في العاصمة الروسية التي امضي فيها الكاتب حوالي 30 عاما من عمره لجنة لتنظيم الاحتفالات بهذه المناسبة. وتقرر ان يقام معرض لأعماله المترجمة البالغة حوالي 84 كتابا ولمجموعاته القصصية والروايات وتوضع لوحة تذكارية برونزية عند مبنى دار النشر" التقدم " التي كان يعمل فيها وان يقام احتفال ومعرض للصور الفوتوعرافية والكتب في نادي الكتاب بموسكو يشارك فيه العديد من الادباء والمترجمين العراقيين والعرب والروس الذين عملوا مع غائب او ترجموا اعماله الى اللغة الروسية. وجرى منذ ايام لقاء في السفارة العراقية بموسكو شاركت فيه السيدة اينجا فرمان ارملة الفقيد وحفيده وممثل اتحاد الكتاب في روسيا الاتحادية وبعض المستعربين والمترجمين الذين عملوا مع غائب طعمة فرمان ابقا. وقد اعرب عبدالكريم هاشم مصطفى سفير العراق في روسيا مشكورا عن دعمه للمبادرة ووعد بتقديم كل مساعدة ممكنة في تكريم ذكرى الكاتب الراحل.

وفي الحقيقة ان ما كتب عن غائب طعمة فرمان في الصحافة العراقية حتى الآن لا يكشف بصورة كاملة قدراته الابداعية التي جعلت النقاد العرب يضعونه في مقام نجيب محفوظ وحتى الكتاب العالميين. وربما ان غائب طعمة فرمان الكاتب العربي الوحيد الذي حصل على وسام رفيع في جمهورية الصين الشعبية ارفق بشهادة وقعها شو أن لاي رئيس وزراء الصين آنذاك. كما منح غائب وسام الاستحقاق السوفيتي الذي سلمه اليه في 16 كانون الاول عام 1967 ياسنوف رئيس هيئة رئاسة السوفيت الاعلى. ومنح ايضا الكثير من الشهادات التقديرية من اتحاد الكتاب السوفيت واللجنة المركزية لنقابة العاملين في مجال الثقافة ولجنة الصحافة في مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي. صفوة القول ان غائب الذي اسقطت عنه الجنسية العراقية وعانى من حياة النفى قد لقي التقدير في المنافي.

ولا ريب في ان الاحتفال بوفاة غائب طعمة فرمان في الارض التي ترقد فيها رفاته بمقبرة "تريوكوفو" في موسكو(المقبرة الثانية بعد مقبرة نوفوديفيتشي التي تضم رفاة مشاهير الشخصيات) تمليه الظروف التي جعلت غائب يختار روسيا مكانا لأقامته على مدى عشرات السنين. وقد كتب هنا اولى رواياته الرائعة " النخلة والجيران" وطلب من الفنان ماهود احمد الطالب في معهد سوريكوف يومذاك تصميم الغلاف لها.وواصل هنا كتابة رواياته الاخرى بالرغم من انشغاله كمترجم في دار" التقدم" التي كانت مورد رزقه الرئيسي، لأن الناشرين العرب الذين نشروا رواياته كانوا من البخل بحيث لم يدفعوا له احيانا سوى مكافآت رمزية لا تتجاوز بضع مئات الدولارات عن نشر اعماله. علما ان الترجمة كانت تشكل عبئا ثقيلا على غائب حيث ان دار النشر كانت تكلفه احيانا بترجمة نصوص تبعث على السأم. فوجدته مرة في شقته في مطلع الستينيات حائرا امام كتاب حول تربية الضأن في تركمانيا، وكان في حالة يأس تام في البحث عن التعابير والالفاظ الغريبة لديه في القواميس.ومرة أخرى وجدته يترجم مادة حول محطة كهرمائية بكل ما تتضمنه من مصطلحات هندسية. مما زاد في الطين بلة ان شقته القريبة من محطة مترو الجامعة في الاعوام الاولى من وجوده بموسكو كانت تطل على موقع للبناء تعمل فيه الجرارات بضجيج مستمر طوال النهار. ففي مثل هذه الظروف وجب على غائب العمل من اجل دار النشر من جانب ، والانصراف للتأليف من جانب آخر. وكان يجد المتعة والارتياح فقط لدى لقاء الاصدقاء ومنهم الفنان محمود صبري او الموسيقار فريد الله ويردي او الشاعر عبدالوهاب البياتي او الدكتور صلاح خالص وغيرهم من المثقفين العراقيين والعرب الموجودين في موسكو في تلك الفترة. كما كان يصغي بأهتمام الى احاديث العراقيين حول حياتهم وذكرياتهم خلال اللقاء معهم في مقهى فندق موسكو ومقهى فندق " انتوريست". ومارس غائب نشاطا كبيرا في جمعية الادباء والفنانين العراقيين في الاتحاد السوفيتى التي ترأسها وشارك في جميع فعالياتها. وبعد احداث شباط 1963 الدامية في الوطن شارك مع محمد مهدي الجواهري ومحمود صبري وصلاح خالص وعبدالوهاب البياتي وآخرين في حركة الدفاع عن الشعب العراقي. وللأسف لم يتبق شئ من خطبه واحاديثه في الاجتماعات واللقاءات التي جرت بهذه المناسبة.

انني تعرفت على غائب لأول مرة في اثناء زيارتي الى بكين بعد قيام ثورة 14 تموز عام 1958 وكان يعمل آنذاك في دار نشر صينية.فوجدته يرتدي الزي الازرق الذي كان سائدا في ايام ماوتسي تونغ ويبدو شبيها بالصينيين. وقد اشار الى هذا احد المعارف مازحا فأعتبرها غائب من باب المديح له. ثنم التقيته مرة آخرى في جريدة " اتحاد الشعب" لدى عودته الى العراق ومشاركته في الاشراف على صفحة الادب والفن حيث عملنا سوية. وكتب غائب مرة في احدى النشرات الصادرة بموسكو عن كيف تلقى نبأ قيام ثورة 14 تموز فقال:" كنت في بكين اقيم في شقة قريبة من دار النشر التي كنت اعمل فيها، وكان جاري الفتينامي يحييني في الصباح " نيهاو"( يعني مرحبا) فأرد له بمثلها واحيانا بأحسن منها ، حسب قدرتي على الكلام بالصينية، في ذلك الحين ومزاجي ايضا. ولم يحدث شئ غير اعتيادي يخرج عن هذا الاطار بيني وبين جاري القادم من هانوي طوال السنة ونصف التي اشتغلت فيها هناك، الا في صباح الرابع عشر او الخامس عشر من تموز عام 1958، حيث توقف جاري طويلا محاولا ان يخبرني عن شئ خطير حصل في وطني ، مستخدما كا مفرداته الصينية والفرنسية والفيتنامية. ولكنني لم أفهم كلماته واشاراته وتعابير وجهه الا ان حكومة جديدة شكلت في بغداد. فقلت : أوه ، هذا متوقع. ولا يبشر بخير ، فقد كان في ذهتي الاتحاد الذي كان مقترحا بين العراق والاردن مقابل اتحاد مصر وسوريا. وخابت مساعي جاري في اثارة اهتمامي ، فلجأ الى استخدام تعابير " روفيلتسيون" و" كوب دي تا" (انقلاب) و " هن هاو " (يعني جيد جدا بالصينية). وتناول يدي عنوة ، وهزها بقوة وصافحني ، بل خيل ألي انه سيعانقني ويأخذني بالاحضان. ونزلنا الدرج متلازمين بالايدي، وكأننا رفاق سلاح من الدرجة الاولى. وعند ذلك فقط استبشرت خيرا.

وما ان قضيت ساعة في غرفتي حتى جاء مدير دار النشر وعلى وجهه ابتسامة عريضة ، وهنأني بحرارة ، بل واخبرني بأسم القائد الجديد : عبدالكريم قاسم".وذكر غائب لاحقا كيف تقاطر عليه معارفه ليزفوا اليه البشرى السارة وكان آخرهم كاتب الماني اسمه"تورك" الذي اصطحبه مع اصدقاء آخرين الى مطعم " بان هوي" في بكين للأحتفال بهذه المناسبة حيث أولموا وقصفوا حتى الصباح حين طردهم صاحب المطعم.

لقد تواصلت فترة التكيف للحياة الجديدة بموسكو طوال الاعوام الاولى من وجوده وعمله فيها. وفي الواقع انه لم يكتب في تلك الفترة شيئا كثيرا ، ولو انه كان يفكر في كتابة القصص استمرارا ل " المخاض " و" مولود آخر". فكان يعمل في الترجمة في الصباح ويقضي الامسيات في صحبة الاصدقاء او الشخصيات الكثيرة من سياسية وثقافية التي كانت تزور موسكو بين حين وآخر.وانصب اهتمامه على تسقط اخبار البلد وبالاخص اخبار الاصدقاء والمعارف.وقد اقتنى لهذا الغرض جهاز راديو يابانيا بوسعه التقاط المحطات العربية او بي-بي-سي بالانجلزيية. ونظرا لوجود جالية عراقية كبيرة آنذاك فكان دائما في صحبة أحد من الناس ولاسيما طلاب الادب والفن. علما بأنه نادرا ما كان يزور المسارح او الكونسرفتوار وسبب احجامه عن زيارتها هو صعوبة اللغة الروسية. ولم يتغير موقفه منها الا بعد زواجه من اينجا الفتاة القادمة من سيبيريا التي التقاها صدفة في مكتبة لينين حين ساعدته في قراءة الكروت بحثا عن احد الكتب. وحسب روايته فقد وجد صعوبة في التفاهم معها لأنها كانت تجيد الالمانية اما لغته الروسية فكانت ما زالت ضعيفة.وتنتمي اينجا الى عائلة من الوجهاء في العهد القيصري حيث كان جدها حاكما لمنطقة نالتشيك في شمال القوقاز وعانى ابوها بعد ثورة اكتوبر من الاضطهاد وهرب الى سيبيريا.وقصة حب غائب لأينجا طويلة فقد كانت اول فتاة يرتبط معها بمشاعر عاطفية صادقة.ولو انها تكدرت بعد مولد ابنه سمير.فأنه اراد مواصلة اسلوب حياته السابق في لقاء الاصدقاء والسهر معهم ، بينما كانت تريد زوجته ان يكرس وقته الى العائلة فقط.

وحدث الانعطاف في حياته الابداعية بعد ان اجريت له عملية جراحية في مستشفى النقابات تم فيها استئصال احدى رئتيه. وبدا حين زرته في المستشفى ضعيفا وفي حالة نفسية صعبة وصار يتحدث عن الموت وعن الغربة وعن مأساة الشعب العراقي. ولكن فترة النقاهة اعادته الى مسار حياته الاعتيادية. وقد حدثني مرة عن فكرة روايته " النخلة والجيران". وكان من عادته ان يعطي مسودات رواياته الى الاصدقاء لمعرفة رأيهم فيها. والحق انني حين اخذت منه الدفاتر التي دون فيها "النخلة والجيران" صعقت لما تتسم به من صدق في رواية الاحداث وسلاسة في الاسلوب والتركيب الروائي المحكم. فلم يكن غائب من هواة المحسنات اللفظية والصور الغريبة والتعابير الشاردة كما يفعل ذلك كثير من الكتاب في ايامنا. وبعد ذلك رافقته في مسيرته الابداعية وكنت اطبع على الآلة الكاتبة بعض اعماله.والطريف انه كان في اثناء الكتابة يهتم بخلق الاجواء والشخصيات وليس باللغة .وعندما طبعت له على الالة الكاتبة رواية " الآم السيد معروف" اعاد لي قسمين منها بعد اجراء تعديلات كبيرة عليهما.وكان يرتكب احيانا الاخطاء اللغوية التي يتم تصحيحها لدى المراجعة.ولربما ان تجربته الشعرية غير الناجحة في ايام شبابه قد تركت بصماتها على ابداعه النثري. ويبدو نثره احيانا شبيها بالشعر ولاسيما في خلق الصور الفنية. لكنه لم يلجأ الى الغلو في استخدام التعابير الشعرية بل اهتم بموسيقاها وحيويتها. وكان على حق حين كتب عن لغة الشعر قائلا:" خليق بالشعر وهو موكل بالجمال ألا يستعبد، وألا يركن الى قوة اللغة الوهمية ومستلزماتها، خير له ان يجعل لغته الخاصة لغة الجمال الموسيقي، والتراكيب الحية، وان يحمل كل لفظة وكل مقطع معنى شعرياً منسجماً مع المقطوعة الشعرية. وخير له ان تكون لغته حية نابضة غير قاموسية.ان اللغة القاموسية لغة ميتة مبادة، لغة لا روح فيها ولا معنى، ولكن اذا استعملت في محلها اللائق، ووجدت الصيرفي الذي يستطيع ان يستفيد منها افادة كلية كانت صورة حية نابضة تحمل الذهن الى التفكير، وأخلق بالشعر ان يعرف هذه البديهية، ويلبس اللباس الحي المنسجم. والذي يؤسفني ويؤلمني اننا قد تعودنا ان نقرأ الشعر كما نقرأ النثر، قراءة سطحية، ونمر بمعانيه الواضحة، كما نمر بخبر محلي في احدى الصحف اليومية، ومن دون ان نشارك الشاعر بتجاربه. اننا اصبحنا- او هكذا خيل لي- نزعق زعقات جنونية كلما رأينا شعراً يحتاج الى تفكير غير قليل، واستيعاب كلي للمعاني الروحية، والى تجارب ماضية ترقد في حاستنا الواعية. اننا صرنا نهرب من الشعر السامق في سماء الابداع الحافل بصنوف الاكتشافات النفسية لأنه يدعونا الى ان نخلو ساعات بفكرنا وحواسنا، لأننا تعودنا ان نقرأ الشعر في المحال العامة وفي الطرق وفي الوقفات العابرة تزجية للوقت، وطلباً للتسلية، وترويحاً للنفس كأننا أطفال نتلهى بصور مزركشة ذات ألوان مغرية."

لكن غائب التزم بنثره بما كان يريده في الشعر. وكان احيانا يعيد كتابة المقطع من الرواية عدة مرات – كما يشاهد ذلك في دفاتره - من اجل خلق الصورة الحية التي يريدها للشخوص والاحداث. وفي عام 1966 صدرت في بيروت روايته الاولى "النخلة والجيران" التي جذبت اهتمام النقاد والقراء. وفيما بعد اخرجت على خشبة المسرح بإعداد قاسم محمد. وفي عام 1967 نشرت روايته" خمسة اصوات" التي ترجمت الى اللغة الروسية من قبل بورتسوف وفارلاموفا. ولا صحة لما كتبه البعض حول قيام زوجته بترجمة اعماله الى اللغة الروسية ، لانها لا تحسن اللغة العربية اصلا. وقد تحدث النقاد عندئذ عن تأثر غائب بالادب الروسي. وفي الواقع ان غائب الذي تخصص في دار" التقدم" بترجمة الادب الروسي قد نقل الى العربية اعمال وبوشكين وتولستوي وشولوخوف قد اخذ الكثير من المهارة الحرفية لكتاب روسيا العظام لكنه بقي وفيا لأظهار الجو العراقي واستخدام الالفاظ العراقية في رواياته. والجدير بالذكر انه كتب جميع رواياته بعيدا عن العراق ووسط ثلوج موسكو.وبغد وفاته ترك مخطوطة ترجمة رواية الكسي تولستوي " بطرس الاكبر" التي ترقد في ادراج طاولته حتى الآن وعلى مدى 20 عاما دون ان تجد الناشر الذي يتولى طبعها، بالرغم من محاولات ارملته لنشرها.وحسب قولها فأنه بذل جهدا كبيرا في ترجمتها بالاخص بعد ان اتقن لغة الكاتب حين ترجم سابقا روايته الاخرى " درب الالام".

ان الاحتفال بالذكرى العشرين لوفاة غائب طعمة فرمان يعتبر ايضا واجبا على وزارة الثقافة العراقية واتحاد الادباء وجميع الهيئات الثقافية في وطنه. ونحن نتمنى ان تبدأ في بغداد ايضا التحضيرات لها وذلك بأعادة طبع اعماله وربما اصدار ترجمة رواية " بطرس الاكبر " وكذلك اقامة نصب في المربعة حيث امضى فترة طفولته ويفاعه.

   
   وسام الصداقة الصيني                 وسام الاستحقاق السوفيتي


آخر صورة لغائب طعمة فرمان قبيل وفاته


هنا يرقد غائب طعمة فرمان في مقبرة ترويوكورفو

 

free web counter