|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  10  / 1 / 2018                                                                                                     أرشيف المقالات

 
 

 


الدكتور عبد الحسين شعبان وكتاب
تحطيم المرايا
في الماركسية والاختلاف

ضياء مجيد / لندن
(موقع الناس)

في البدء ما يجذب انتباه القارئ هو أن الكتاب يحمل مسحات اثنين من الكتاب، يتحدث احدهما بأسلوب فلسفي رومانسي والآخر سياسي اقتحامي، الامر الذي يبعث على الاستغراب، نوعا ما، لأن الكتاب يحمل اسم الدكتور عبد الحسين شعبان وحده، اما الاخر فيسير بالظل منه كما يبدو. لقد كتب ماركس وانجلس من قبل شيئا مشتركا كما هو الحال في ( العائلة المقدسة ) أو (البيان الشيوعي) وهو شئ جميل، لكن ما كتباه كان يحمل اسميهما معا، وهكذا مع كتاب عديدين انتهجوا نفس الطريق. حواري كقارئ سيكون مع الكاتب الظاهر وليس الخفي.

تناول الكاتب شعبان في مؤلفه مواضيع عدة عمل فيها على تحطيم العديد من المرايا تاركا اياها مهشمة متكسرة، ولم يبذل عناءا في نصب الجديد البديل. ففي وصفه لماركس يقول في ص32 (( أعتقد أن قيمة ماركس تكمن في مسألتين رئيسيتين: الأولى -أنه استطاع قراءة التاريخ على أساس المراحل التاريخية مكتشفا أن الصراع الطبقي هو الذي يحكمها. والثانية - أنه أكتشف قانون فائض القيمة مستندا في ذلك على ثلاثة مصادر أساسية: أولا - الأساس الفلسفي النابع من الفلسفة الألمانية لاسيما الهيجلية التي كانت في ذروتها، ثانيا - الاقتصاد الانكليزي لاسيما مذهب ادم سميث، وثالثا - الاشتراكية الفرنسية متمثلة بسان سيمون و برودون، لدرجة أنه واصلها في اطار هارموني و بجدلية فكرية راسخة، وأعاد ترتيب مثلثها بجعل قاعدتها عريضة وواسعة، لاسيما وقد ابدى اهتماما شخصيا بنظرية المعرفة وفلسفة الحق.))

كلمة أعتقد، التي استخدمها الكاتب هنا وفي مواقع هامة أيضاً وذات حساسية عالية ص31 و 41 و 42 وكذلك 45 وغيرها، عادة يشوبها الشك وانعدام اليقين وتحمل نوعاً من التكهن بمدى صواب ما يعتقد. أما ‘‘ قيمة ماركس ‘‘ المذكورة فهي بعيدة عن الاصطلاحية العلمية المتعارف عليها. إذ أن القيمة تعبير عن الجهد البشري المبذول على المواد خلال العملية الانتاجية لتسويقها بيعاً وشراءً. بينما الشخصيات البارزة بثقل ماركس فليست منا بالبعيدة مصطلحات ايجابية، ارقى في الوصف وأكثراستحقاقاً مثل عبقرية ماركس أو موهبة ماركس الفريدة، فهي خير ما وصف منزلته الرفيعة وأعماله الفذة. وكان الأجدر بالقول ‘‘قيمة نظرية ماركس‘‘. اما الادعاء بان ماركس استند في اكتشاف قانون فائض القيمة على ثلاثة مصادر أساسية فهو مخالف للحقيقة حتى وان شمل الطرح نقطة اكتشاف المراحل التاريخية والصراع الطبقي الذي يحكمها كما يقول. فماركس استخدم تلك المصادر في وضع اسس النظرية الماركسية بمكوناتها الثلاثة: الفلسفة المادية الديالكتيكية والتاريخية، والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية التي سميت فيما بعد بالشيوعية العلمية. لذا يبدو ان الاقتباس الذي أتى به الكاتب لم يكن دقيقا وكذا التعقيب عليه لايبدو موفقا. اذ لايوجد مثلث في النظرية الماركسية ولم يعمل ماركس على جعل قاعدته عريضة واسعة. ثم أن الأجزاء الثلاثة المذكورة تمثل كلا واحدا وتملك نفس الأهمية في إطار النظرية الماركسية التي حملت اسم ماركس بجدارة. هذا بالاضافة الى ان جعل قاعدة مثلث ما أوسع وأعرض انما يعني الانتقاص من ساقيه الآخرين، وهو امر لم يكن في حسبان ماركس او توجهاته النظرية العلمية في تفضيل أحد أجزاء نظريته على الاخرى. ويؤكد أنجلس في هذا الصدد على دور وأهمية ماركس في صياغة النظرية الماركسية قائلا:(( ان ماركس كان أعلى منا جميعا، وكان يرى أبعد وأوسع منا جميعا. ان ماركس كان عبقريا، اما نحن فكنا على أكثر تقدير موهوبين ولولاه لكانت نظريتنا بعيدة جدا عما هي عليه اليوم. ولهذا تحمل اسمه بجدارة.))

حصر السيد الكاتب ‘‘ قيمة ماركس ‘‘ كما يصفها، في نقطتين أساسيتين فقط ناسيا أو متناسيا الدور الرفيع الذي لعبه في بلورة الفلسفة المادية الديالكتيكية والتاريخية التي انتشلها من براثن مثالية هيجل والفلاسفة قبله، بالاضافة الى تحويل الديالكتيك الهيجلي المثالي إلى ديالكتيك مادي، مكتسبا حالة العلم الشامل لأعم قوانين الحركة في الطبيعة والمجتمع والتفكير، ومتحولاً إلى أداة متينة معتمدة في البحث العلمي، والى سلاح ماضٍ في الكفاح الثوري. وقد عبر ماركس حول ذلك قائلا: (( عند هيجل يقف الديالكتيك على رأسه، فيجب جعله يقف على قدميه لأجل تبيان الحبة العقلانية تحت الغلاف الصوفي)).

بعدما أشاد السيد الكاتب بدور ماركس في المسألة الأولى (( أنه استطاع قراءة التاريخ على أساس المراحل التاريخية مكتشفاً أن الصراع الطبقي هو الذي يحكمها )) ص32، نراه يطرح مفهوما مناقضا تماما، حيث يقول مؤكداً (( أثبتت الحياة خطأ أطروحة لينين من أن الماركسي لايصبح ماركسيا إن لم يؤمن بصراع الطبقات ..)) ص41. في الطرح الأول يبدو الكاتب مؤمنا عميق الايمان بالصراع الطبقي وبقدرة هذا الصراع على التحكم بالمراحل التاريخية، وفجأة يناقض أطروحته بوضع علامة الخطأ على طرح لينين للمفهوم نفسه. يجدر بالكاتب أن يلتزم الثبات في وجهته التحليلية ومزاجه الفكري لئلا يقع في تناقض مع الذات وفي وضعية النقد الخاطئ المجحف، وأن لا يأتي حكمه مغايراً لآخر لايبعد غير بضع صفحات عن الحكم الأول.

في الواقع عندما يطرح لينين هذه الفكرة فهو ينطق الحكم وفق منطق القانون الديالكتيكي، الذي يلف الأضداد ضمن وحدة يجري فيها صراع وتناحر متواصلين، سلما تارة وعنفا أخرى، إلى حين استنفاد مقومات التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الطبقية في وجودها، واختمار مقومات التشكيلة اللاحقة. وهو صراع وتفاعل في مختلف المجالات سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفكريا وكل ما التصق بالطبقات ومكانتها.

الصراع الطبقي ظاهر للعيان بشتى التجليات، سواء في المظاهرات والاحتجاجات ومن خلال شن الحروب المحلية أو الإقليمية أو زيادة الهوة بين الأغنياء والفقراء كماً ونوعاً. كما يظهر من خلال استخدام الضغوطات المتواصلة التي تمارسها القوى العاملة على قوى الرأسمال الهادفة تحقيق الدوافع المطلبية من الحقوق والمكاسب المادية، أو تحسين ظروف العمل والانتاج. وبالمقابل فان قوى الرأسمال تمارس، هي أيضا، الضغوطات المتواصلة على القوى العاملة بغية تجريدها مما كسبته طيلة صراعها الطبقي من حقوق ومصالح حيوية. غير أن ذلك لايمثل الا مظهراً محدوداً من الظواهر الملموسة. أما المظهر المادي الديالكتيكي للصراع الطبقي فيبرز عبر اسلوب الانتاج السائد في التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية من خلال وجود طبقتين احداهما مالكة لوسائل الإنتاج وأخرى محرومة منها. وهذا المظهر يدخل ضمن واحد من قوانين الديالكتيك الهامة، وهو قانون ‘‘ وحدة وصراع الأضداد ‘‘، الذي يعكس وجود الصراع ضمن وحدة المتضادات الضرورية لبقاء التشكيلة القائمة متماسكة الى حين نضوج التشكيلة اللاحقة تاريخياً.

ثم يستطرد الكاتب ص41 بقوله :(( وإذا كان العنف أحياناً علامة فارقة لبعض المحطات التاريخية، لاسيما مرحلة الانتقال والتحول والتراكم الذي قد ينفجر في لحظة تاريخية عبر طفرة تقود الى كيفية جديدة أو نوع جديد، وهو أمر ينطبق على العلوم الطبيعية وأراده ماركس أن ينطبق على العلوم الاجتماعية، فإن العنف لا مبرر له لاسيما إذا أصبح نهجاً لتصفية الحساب والرأي ومصادرة الموقف والنقد.)). يبدو الكاتب من خلال هذا الطرح العشوائي عند سوء فهم والتباس فكري يعوزه الوضوح. فهو مرتبك من حيث تسلسل الظواهر، حيث يضع التراكم بعد الانتقال والتحول، بينما هو يسبقها. فعندما يحصل التراكم من العمليات والأحداث والظواهر يمهد ذلك الى مقومات التحول والانتقال في اللحظة التاريخية المعينة، والى الانفجار الذي يقود الى طفرة باتجاه نوعية أو كيفية جديدة. وينطبق ذلك على المجتمع كما الطبيعة، ليس بإرادة ماركس كما يدعي الكاتب، بل وفق أحد القوانين المهمة في الديالكتيك العلمي وهو قانون ((انتقال التراكمات الكمية الى قفزة نوعية)). والتاريخ وملاحمه أفضل شاهد على تطبيقات هذا القانون الموضوعي، من خلال التمردات والانتفاضات والثورات الجماهيرية العاصفة التي شهدتها البشرية على مر العصور والأزمنة حيث يتراكم الغضب الجماهيري و تتلاحم الطاقات الشعبية والحماس الثوري لتتفجر في قفزة نوعية تطيح بالتشكيلة القائمة وولادة تشكيلة جديدة، وهو ماحدث عند الانتقال من التشكيلة العبودية الى الاقطاعية ومنها الى الرأسمالية. كما يظهر الالتباس واضحاً عند الخلط بين العنف الطبقي الملازم للصراع الطبقي عند الانتقال من تشكيلة الى اخرى، بكل أشكاله، والعنف السياسي الممارس من قبل السلطة في إطار التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية نفسها، عبر قوله أن العنف غير مبرر إذا أصبح نهجا لتصفية الحساب والرأي..الخ، في وقت يتحدث فيه عن التحول من تشكيلة الى اخرى عبر القفزة النوعية، التي يعتمد العنف فيها على مدى مقاومة الطبقة السائدة لعملية التحول هذه.

ثم يقفز الكاتب الى تصريح آخر مضاد لما ذكره سابقاً أيضاً ص42 بأن ((العنف، ( وفق ماركس الصراع الطبقي وليس العنف )، لم يعد هو ‘‘ قاطرة التاريخ ‘‘ كما ذهب إليه ماركس، إلا عندما يتم التراكم الكمي، ليؤدي إلى تغيير نوعي باشتراطية عنف مغاير يهدده ويوقظ عدوانيته، عند ذلك ينبغي أن يكف، بعد أن أدى وظيفته التي ستصبح قمعية لا ضد الخصم والعدو حسب، بل ضد من يعتقد أنه سيكون خصماً حتى وإن كان من صميم معسكر الأصدقاء وربما من أحد أركانه الأساسية )).

لاشك أن الصياغة المرتبكة لمثل هذا الطرح تفسد المعنى وتضيع فهم العنف المغاير وكيف يكف بعد أدائه لوظيفة مجهولة تتحول حسب رأيه إلى قمع ضد الخصم والأصدقاء. إذ أن هذا النحو من الحديث عن المجاهيل والنكرات ووضع علامات الخطأ على مقولات لينين و طروحات ماركس، دون توضيح ماصح وصلح بديلا لما يعتبره خطأً وباطلاً، ليس من شأنه تطوير النظرية الماركسية أو الإرتقاء بها. ويبدو أن السيد شعبان لا يرى الا جانبا واحداً من الصراع الطبقي وهو جانب العنف، في وقت يجري فيه عملياً ضمن أساليب سلمية هادئة أيضاً، بعيداً عن العنف والسلاح، وفي إطار وحدة أضداد متواصلة على امتداد زمني تختمر فيه ضرورات الانتقال الى تشكيلة إجتماعية إقتصادية جديدة. عندها تكون التراكمات الكمية قد وصلت حد التحول إلى القفزة النوعية الضرورية لتحطيم وحدة المتضادات، أي الوحدة التي تنطوي في إطارها الطبقات المتناحرة، وإذ ذاك يجري أو لا يجري استخدام العنف وفق الوضعية القائمة، وموقف الطبقة السائدة.

ثم ينتقل المؤلف إلى الدولة معرفاً (( إن الدولة هي إطار لتنظيم العلاقات بين الأفراد من جهة وبينهم وبين الدولة من جهة أخرى ..))ص42. يصح في هذا الإطار المثل القائل ‘‘ وفسر الماء بعد الجهد بالماء‘‘. إذ لم تنشأ الدولة في الواقع لتكون وسيطاً بين نفسها وبين الناس. الدولة نتاج أفرزه المجتمع الطبقي، وقد أنشئت لتنظيم العلاقة بين الطبقات أساساً، وبالأحرى فرض هيمنة الطبقة السائدة أي المالكة لوسائل الإنتاج على طبقة الكادحين الواسعة. وهي تنظيم يستند على قوانين تبيح لها إستخدام القوة في إطار أرض ذات أبعاد معينة. والقوانين هذه عادة ما تفرض من قبل القوى المهيمنة، أي الطبقة السائدة في المجتمع، وهذا مايجعل الدولة تتسم بالتحيز لهذه الطبقة مدافعة عنها وعن مصالحها.

يعتقد الكاتب أن ماركس كان حالماً أو طوباوياً عندما تحدث عن ذبول الدولة في مجتمع شيوعي متكامل.ص41. كان ماركس قد سبر أغوار التاريخ، ونفذ من خلال تحليلاته المعمقة إلى اسرار التحولات الإجتماعية الإقتصادية التي تنقل المجتمعات من تشكيلة إلى أخرى أرقى منها، معتبراً الصراع الطبقي محركاً للتطور و ‘‘ قاطرة التاريخ ‘‘في هذا التحول. ويبقى هذا الصراع جارياً مادامت هناك طبقة منتجة وأخرى مالكة لوسائل الإنتاج، ولا يزول إلا بزوال الملكية الخاصة، أي زوال الطبقة المستحوذة عليها، وهو مالا يمكن له التحقق إلا في إطار التشكيلة الشيوعية المتكاملة بالذات. وبانتهاء الصراع الطبقي نتيجة ذلك، توصل ماركس إلى كيفية أن الدولة تفقد أبرز مهماتها وهي المهمة القمعية، اللازمة لإبقاء الصراع الطبقي في حدود السيطرة والضبط. وإذا انتصرت الشيوعية في العالم أجمع أو على الأقل في غالبية البلدان الكبرى المتطورة، فإن التوافق بينها يؤدي حتماً الى انتهاء الدور الدفاعي للدولة ضد العدو الخارجي لأن هذه الدول تتعايش فيما بينها في سلام ووئام، وهي المهمة الأساسية الثانية لها. وعند انتقال مهمات الدولة الإدارية والمالية إلى السلطات المحلية المدنية، فإن ذلك يبين كيفية سير الدولة نحو الذبول و الاضمحلال متحولة إلى مؤسسة مدنية الجوهر والطابع. ورغم هذه الشواهد التي أكد عليها ماركس وانجلس ولينين واشبعوها بحثاً وتحليلاً معمقاً، وأن ذلك سيحدث ضمن التشكيلة الشيوعية التامة، بالذات وليس قبلها، إلا أن السيد شعبان يدحض ذلك كله ضارباً أمثلة عن المجتمع الرأسمالي و البلدان الرأسمالية المتطورة، من حيث تنامي دور الدولة فيها،ص40، ناسياً أن ما يقوله هو حاضر الواقع وحديث اليوم، وليس هناك أدنى شك بأنه لابديل للدولة اليوم والمهمات الضرورية التي تقوم بها، ولكن استنتاجات ماركس لاتمسها، بل تنطبق على الشيوعية أي عند نهاية الرأسمالية.

ثم يعود السيد شعبان الى الاعتقاد أيضاً قائلاً: ص42 (( أعتقد أن الماركسية المطبقة فشلت في نظرية التأميم الشامل بالتجاوز على حاجات الفرد وطموحه، وقد تحول مبدأ ‘‘ من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته ‘‘ إلى نوع من المساواة السلبية المتعسفة بين الأكفاء وغير الأكفاء وبين المبدعين وبين البشر العاديين، وأدى إلى قتل الطموح أو اجهاضه، وهذه مسألة ترتبط بالنظرة القاصرة إلى الفرد والفردانية. )). يبدو الدكتور شعبان مؤمناً وليس معتقداً بأن أخطاء التطبيق السوفيتي والممارسات التي حصلت أثناء حكم الأحزاب الشيوعية بمثابة خطأ في النظرية الماركسية، ويتبنى فكرة أن الحقبة الزمنية منذ نشوء الإتحاد السوفيتي وحتى سقوطه مرحلة شيوعية، وهذا بالذات ما يدفعه إلى الوقوع في خطأ غير مبرر.

لقد انتصرت التحولات الثورية في الإتحاد السوفيتي في أتون الحرب العالمية الأولى بقيادة لينين معلناً انتصار الثورة الإشتراكية الأولى في العالم. كما انتصرت مثيلاتها في بلدان أوروبا الشرقية بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اريد منها السير بمجتمعاتها في الطريق المؤدية إلى الشيوعية وفق التعاليم الماركسية. غير أنها اصطدمت بمقاومة عنيفة من جانب الدول الرأسمالية القوية والغنية مشعلة سباق تسلح رهيب مضنٍ، أنهك اقتصادها وأبعد طاقاتها الخلاقة عن التوجه نحو البناء الإشتراكي صوب الشيوعية. والاشتراكية التي ظهرت بسبب ذلك سميت بالاشتراكية العلمية والتي استبدلت بالاشتراكية الواقعية ثم الإشتراكية المتطورة. وكان الدافع لهذا التغيير الإبتعاد عما ظهر من اشتراكية غريبة في بلدان العالم الثالث، من اشتراكية ليبيا القذافي إلى اشتراكية البعث العراقي والسوري وصولاً إلى اشتراكية عدد من الدول النامية في أفريقيا وآسيا. ولهذا لا عجب أن سميت بالاشتراكية الحائرة. ورغم الإنجازات الهائلة والتحولات الثورية العديدة التي جرت في صالح الشغيلة خلالها، إلا أنها ظلت تراوح مكانها تحت وطأة أحزابها المتسلطة وحكامها ذوي الهالات الإلهية غير القابلة للإزالة حتى الموت. ولم تكن الأخطاء التى ارتكبت والممارسات الفاشلة تمت إلى النظرية الماركسية بمكان أو صلة، على الإطلاق، بما في ذلك التأميم العام والشامل لكل مجالات الحياة. وقد عاش السيد شعبان في أحضان تلك الحقبة زمناً، وهو الذي وصفها قائلاً: (( الماركسية التي وصلت إلى السلطة لا تشبه ماركسية ماركس. كما أن ماركسية مابعد المنظومة الاشتراكية السابقة لاتشبه ما قبلها..))ص27، ثم مردفاً:(( فالسلطة الحزبية التي تتبع قيادة اللجنة المركزية وفوقها المكتب السياسي ويتربع عليها الأمين العام، والمدعومة من أجهزة المخابرات والأجهزة السرية الأخرى...تخفي النواقص والعيوب والإخفاقات لاسيما في مجال هدر حقوق الإنسان والحريات السياسية والمدنية.))ص28، لذا ليس هناك من موجب إلى اعتبار الكاتب الحقبة الماضية حقبة شيوعية بتاتاً. وما ذكره ماركس حول مبدأ ‘‘ من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته ‘‘ هو مبدأ يجد تطبيقاته في إطار التشكيلة الشيوعية التي لم تنشأ في أي بلد من بلدان العالم بعد. وماركس إنطلق في طرحه لهذا المبدأ من منطلق حقوق الإنسان التي أشار إليها الكاتب نفسه في عدالة التوزيع وفي المساواة الإنسانية، بغض النظر عن الإعاقة البدنية أو القصور الذهني وانعدام الكفاءة، التي لم يكن ذلك يوماً بإرادة الإنسان أو طريق اختياره، وعلى المجتمع تحمل ذلك قانونياً وأخلاقياً واقتصادياً.

والشيء الآخر هو أن هذا المبدأ يفعل فعله في المرحلة الشيوعية، حيث تتميز بالتحفيز والحشد الهائل للطاقات البشرية الهادفة إنتاج وفرة عظمى من الخيرات المادية التي تسد احتياج كل فرد من أفراد المجتمع البشري بعد أن يكون الأخير قد تخلص من إنتاج الأسلحة واستخدامها، والذي يمثل هدراً للمال والجهد البشري وشن الحروب المدمرة للاقتصاد والانتاج المدني. عندها لن يكون هناك فقر ولا عوز ويكون بالمستطاع التطبيق الفعلي لهذا المبدأ. كما أن‘‘ التأميم الشامل ‘‘ الحاصل الذي ذكره لم يكن يهدف إلى تطبيق المبدأ المذكور، ولم يحصل تطبيق له أصلاً. إذ أن آلية الدفع في تلك الفترة كانت تجري وفق المنصب والرتبة والموقع في العمل والمجتمع. والتفاوت في الأجور والرواتب كان واضحاً. من هنا يعتبر ادعاء الكاتب تطاولا على الحقيقة وبعيداً عن التحليل العلمي والنقد الموضوعي.

عند تناول نقطة النقد الماركسي لماركس، ص 37، يقول الكاتب:((لم يكن ماركس يثق بالحقيقة كثيراً، وكان يثق بالتوصل اليها، فالحقيقة التي لا طريق لها لن تكون سوى نوعاً من الوهم المتاح لكل من لا يعرف طريقه.)). يلاحظ القارئ أن تلك هي مجموعة مصففة من الكلمات المنمقة للتعبير عن لاشىء، ويجري الصاقها باسم ماركس للدلالة على لاشيء. إذ لا مكان للثقة بين ماركس والحقيقة، ولا علاقة للحقيقة بالثقة لا عند ماركس ولا عند غيره من الفلاسفة. فالحقيقة مقولة فلسفية موضوعية لا تعتمد على الإنسان، بل تعتمد على العالم الخارجي القائم موضوعياً وعلى مدى التطابق بين المعرفة والواقع الموضوعي. كلما كانت المعرفة تمثل انعكاساً تاماً ومتكاملاً عن الواقع، أي وجود تطابق بينها والواقع المنعكسة عنه، نكون قد حصلنا على الحقيقة المطلقة. والمعرفة الصحيحة الصائبة تختبر من خلال الممارسة التي تمثل مختبر الحقيقة. غير أن الواقع الموضوعي في حالة حركة وتغير متواصلين وباستمرار. عندها ينتفي التطابق القائم بين المعرفة والواقع. وطالما أن الإنعكاس يصبح جزئياً وغير تام ينتج عن ذلك ما نسميه الحقيقة النسبية. وفي سياق التطور تزداد المعرفة نمواً واتساعاً من خلال تغييرها للَحاق بالواقع والتطابق معه لينعكس في حقيقة مطلقة جديدة. وهكذا نجد أن الحقيقة الموضوعية هي في نفس الوقت مطلقة ونسبية. فعندما تعكس بشكل صحيح وتام جانباً من الواقع تكون الحقيقة مطلقة، وبما أن الإنعكاس جزئي عن الواقع، فهي نسبية.

وبصدد الحزب من الطراز الجديد ص43، أجاد السيد شعبان وأفلح في توصيف ما آل اليه هذا الحزب من عتاقة وترهل في رحلته الطويلة ذات النيف بعد المائة من الأعوام، الحبلى بالأحداث والمآثر الثورية، التي شقت طريقها تحت قيادته وتوجيهاته. لقد عمل لينين بابداع وجهد خلاَق على تطوير هذا التنظيم الماركسي ليتماشى مع العصر الجديد الذي يعيشه بداية القرن العشرين، عصر الإمبريالية ومتطلباته في مقارعة وحشية الرأسمال الإمبريالي. وهو بهذا نجح في الإرتقاء بالتنظيم السياسي الماركسي إلى مستويات أعلى وأرقى، ليكون قادراً على إنجاز المهمات الشاقة الجديدة الملقاة على عاتقه. وبهذا أثبت لينين قدرته على إغناء الماركسية وقابلية الماركسية على الاغتناء. ولا عجب في ذلك، إذ كان لينين مجدداً، وهو الداعي إلى التجديد من خلال مقولته الشهيرة (( إن شجرة الحياة خضراء والنظرية رمادية )). وقد كشف السيد شعبان بنجاح، الجوانب السلبية في هيكلية التنظيم الحزبي من الطراز الجديد العتيق، الذي أفضى ولا زال الى المركزة المفرطة وانتفاء الديمقراطية في الحياة الحزبية درجة تأليه القيادة الحزبية ورئيسها مما يدفع إلى الديكتاتورية الحزبية المؤدية إلى اتخاذ قرارات خاطئة وخلق صراعات داخلية في البناء الحزبي. وإذا كان الحزب في السلطة فان ذلك حتماً سيؤدي، من خلال القرارات المتخذة، إلى تدمير الحياة الإقتصادية والتعددية السياسية ومنع تداول السلطة، الأمر الذي يؤدي حتماً إلى فشل النظام القائم بغض النظر عن تسميته.

نعيش اليوم في مرحلة جديدة من تطور البشرية علمياً وتكنولوجياً، مرحلة الحداثة وما بعدها، مرحلة العولمة وتحدياتها، بما تحمله من سلبيات وإيجابيات في التأثير على مسيرة التطور البشري. وهذه المرحلة تستوجب وسائل وأدوات جديدة في العمل التنظيمي والسياسي للحزب، وسائل جديدة في كسب الجماهير وتعبئتها من أجل تحقيق الأهداف الماركسية، قائمة على أسس فكرية علمية ومبنية على الديمقراطية الحقة القويمة، ووفق النهج الماركسي اللينيني الأصيل، ليقود الطبقة العاملة وجمهرة الكادحين إلى غاياتها القريبة والبعيدة.

من المرايا التي لم يقم الكاتب بتحطيمها، على عكس مرايا الماركسية، هي في الواقع مرايا فيورباخ المتعلقة بنظرته إلى الدين. حيث يظهر الكاتب بمثابة انعكاس له في آرائه ورؤاه مستنسخاً إياها بطريقته الميتافيزيقية الأنثروبولوجية ( الإنسانوية ). إذ يضع فيورباخ، الفيلسوف الألماني المادي الميتافيزيقي، الإنسان في مركز العالم وفي أساس تعاليمه الفلسفية، معتبراً إياه كائناً نفسانياً فيزيولوجياً يمثل وحدة بين المبدأ المادي والروحي. وهو بهذا يعتمد، كما يقول أنجلس، على التفسير البيولوجي للإنسان وليس طبيعته الإجتماعية. إن اعتبار الإنسان في مركز الصدارة شيء إيجابي طبعاً، ولكن ليس على حساب طبيعته الاجتماعية وعلاقته التاريخية مع أفراد المجتمع والواقع الاجتماعي الذي يعيشه.

يعتبر فيورباخ أن الدين نشأ في البداية من خلال الشعور بالتبعية إلى الطبيعة وقواها الجبارة. وبسبب الخوف الرهيب منها جعلها الهة له فأصبحت الموضوع الأول للعبادة. كما يرى أن مصدر الدين نابع من الأنا والذات الإنسانية، أي من حب الإنسان لنفسه وسعيه للبقاء وتحقيق آماله وأحلامه، بالتوسل إلى الآلهة والرب لحمايته، وهو أيضاً شيء منطقي ومبررنابع من فهمه لطبيعة الإنسان البيولوجية، وهي حسب رأيه طبيعة ثابتة وساكنة. ولكنه بهذا يتجاهل الظروف الاجتماعية ولاسيما الاقتصادية، التي تترعرع فيها عملية نشوء وتكاثر وتطور القوى المنتجة في المجتمع، حيث يتحرر فيها الانسان من تبعيته إلى قوى الطبيعة المدمرة، متحولاً من فرد بيولوجي منعزل إلى كائن اجتماعي ينتمي إلى مجموعة أو طبقة، عند انقسام المجتمع إلى طبقات متناحرة. وبهذا تنتقل تبعيته لقوى المجتمع الخلاقة، المتطورة على الدوام. فاعتماد الإنسان على الآلهة لحمايته وتحقيق طموحاته يشل إرادته ورغبته في التطور نحو حياة أفضل، واستنباط الوسائل الكفيلة بحمايته وتعميق معرفته حول العالم الواقعي المحيط به. وهكذا نشأت مقولة ماركس بأن‘‘ الدين أفيون الشعوب‘‘ انطلاقاً من تأثيره المخدر لعقول الناس ومنبع إحباط إرادتهم وأسر آمالهم في التطور والإنعتاق فكراً وعلماً وثقافةً، بانتظار الرحمة الإلهية والمكافأة الربانية الكريمة بدل العمل والإبداع.

يظهر أن السيد شعبان قد شعر بالارتياح العميق لأفكار فيورباخ هذه. فقد رأى ذاته في مرآته بالشكل الذي يأمله و يرتضيه، من دون أن يدخل في طريق البحث عن العوامل الاقتصادية الاجتماعية لظهور الدين، ولم يتطرق إلى دورها وتأثيرها الكبير في تطوره وهو شيء ليس بالغريب، لأن فيورباخ لم يقم بذلك. وبهذا انزلق الكاتب في متاهات المثالية الميتافيزيقية. وكما يعتبر فيورباخ الدين باقياً إلى الأبد، حيث يقول انجلس عنه أنه (( لايريد مطلقاً أن يلغي الدين، انما يريد أن يحسنه ))، فان السيد شعبان يتبعه هو أيضاً بقوله ص141(( إن تأثير الدين يزداد والانسان بحاجة دوماً إلى الدين منذ أن وجد وسيبقى إلى ما لانهاية.))

لم يذكر الكاتب طيلة حديثه عن الدين استغلال واستخدام الطبقات السائدة والسلطات الحاكمة والمؤسسات المختلفة للدين سياسياً واقتصادياَ لمصلحتها الذاتية. وكيف عملت على نشر الافكار الدينية الخاطئة والعقائد الغيبية البالية لتعميق الجهل والمحافظة عليه، وتعتيم عقول الناس البسطاء وإبعادهم عن حقائق الواقع الموضوعي ومنجزات العلم والثقافة التنويرية، بما يحفظ لهذه الجهات السيطرة عليهم فكرياً وعقائدياً وقيادتهم نحو الاهداف التي تصب في مصلحتها الاستغلالية الانانية الضيقة. حتى أن فتوى الحكيم التي ذكر الكاتب ص135 أنها استغلت واستثمرت وعزف على أوتارها لمحاربة الحركة الماركسية الصاعدة، كانت في الواقع بدوافع من القوى الاستعمارية المتضررة من ثورة تموز 1958، وكذلك من القوى الرجعية الداخلية والاقليمية، ومن خلال ممارسة الترغيب المالي، الذي رفضته شخصيات رفيعة من المرجعية العتيدة لمعرفتها أن ذلك من شانه أن يكون مثار فتنة كبيرة لا تحمد عقباها. غير أن الحكيم وافق على هذا الترغيب برحابة صدر وبدم بارد، مما أساء الى الحركة الوطنية كثير الإساءة، والحركة الدينية بالمثل.

كما أن من الواضح للجميع توجهات المؤسسات والاحزاب الدينية الحاكمة حالياً في تأجيج مشاعر الكراهية لكل من هو غير ديني، وتكفير المعارضين لها وإضفاء صبغة الالحاد على الاحزاب العلمانية، وفي الوقت نفسه تعمل على إشاعة الجهل وتعميق التقاليد الدينية القديمة البالية والمفاهيم التمييزية التي تقسم المجتمع إلى فئات صالحة وأخرى كافرة منحرفة.

وبالعودة إلى ص134 نرى الكاتب يؤكد بثقة عالية (( أن الدين كعقيدة يعتبر أحد أهم أركان العالم الروحي للإنسان، ولا يمكن تطويعه بواسطة سلطان أو حاكم أو حزب أو دولة أو غير ذلك.)) وهذا شيء مخالف للحقيقة والواقع. إذ نلاحظ أن الدول الديمقراطية المتطورة، سواء في اوروبا أو أمريكا أو شرق آسيا قد تمكنت من فصل الدين عن الدولة وإبعاده عن السياسة والعلم وعن سن القوانين. وهي بهذا عملت على تحجيمه والحد من تدخله وتطاوله على هذه المجالات كافة، وطوعت نشاطه ليقتصر على الحياة الروحية في الكنيسة. كما نلاحظ انحسار الدين على المدى الشعبي المدني أيضاً في العديد من البلدان التي تتمتع بفسحة من الحريات المدنية وحقوق الانسان المستندة إلى القانون. و بطرحه الأخير يؤكد الكاتب من جديد تبعيته لأفكار فيورباخ الميتافيزيقية حول أبدية الدين ونفوذه وعدم امكانية المساس به.

إن الماركسية نظرية تنبض بالحياة والحركة والقوة، وقوتها وحيويتها نابعة من الأسس المتينة القائمة عليها، و قوانين الديالكتيك العلمي المستندة إليها. وما تحتاج اليه هو رفدها بقوانين وافكار جديدة لمواصلة مسيرتها متماشية مع ضرورات الحياة الحديثة ومنجزات عصر الحداثة وكيفية استخدامها في مصلحة الانسان ومتطلبات التطور. وأن أية محاولة للسيد شعبان وغيره من الماركسيين تمثل خطوة جريئة في هذا الطريق الشائك، المليء بالتحديات المصيرية. غير أنها لن تكون مثمرة إذا اقتصرت على تخطئة هذا المبدأ أو ذاك وشطب هذه المقولة أو تلك دون إحلال البديل الصائب وإعطاء الجواب الشافي على التساؤلات الملحة التي يطرحها الواقع المتشعب والمتداخل في تناقضاته وتفاعلاته المتواصلة. ولابد من صياغةٍ واضحة المعاني، بعيدةٍ عن الغموض وقابلية التأويل الخاطئ، وفي منأى عن التفلسف العقيم الذي يدخل المؤلف في متاهات مظلمة وتيه فكري لا طائل منه ولا فائدة ترجى.



 

 

 


 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter