| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

مقالات وآراء حرة

 

 

 

                                                                                 الأربعاء 10/4/ 2013

     

رواية - مرافئ الحب السبعة - لعلي القاسمي

د. منتصر أمين

بين الشعر والمونولوج يا وطني المستحيلّ ! إني أفتش عنك منذ سنين، بين ركام الذكريات، وأبحث عنك في فضاءات الأوجاع والأحزان والنكبات...

صدر عن المركز الثقافي العربي عمل روائي جديد بعنوان ’مرافئ الحب السبعة‘ للكاتب العراقي المقيم في المغرب علي القاسمي. وقد جاء هذا العمل في ثوب سردي يتشح بنفَس شعري راق. والرواية تتحدث عن رحلته الطويلة بدوائرها المتماسة والمتقاطعة، رحلة ذلك المثقف المغترب الذي يحلم بالعودة إلى وطن عاد جريحاً أو ظل جريحاً، وقد ترك جرحه أثراً كبيراً في جبين هذا المثقف.

وتعتبر هذه الرواية من الروايات التي تلقى قبولاً وإقبالاً حيث يتسم أسلوبها السردي بالانفتاح، وهو من أقوى مميزاتها؛ ذلك أن الرحلة بصورة عامة هي تجربة إنسانية تتسم بالانفتاح، وقد صاغ الكاتب رحلته على أنه عابر سبيل يقتحم خلوة الحدود التي ظن بعضنا أنها ما زالت صامتة.

وسوف أقف في قراءتي لهذه الرواية عند ثلاثة مقاطع أرى أنها ذات دلالة كبيرة تنعكس على عملية فهم الرواية وتلقيها، كما أزعم أن الكاتب نحى من خلالهما نحواً من التجديد:

المقطع الأول، وهو المقطع رقم (1) من القسم الأول في الرواية حيث يؤسس نقطة البدء التي يحلم الكاتب بالعودة إليها طيلة رحلته وكان لها دور كبير في تشكيل أحداث الرواية، بل في كثير من الأحيان نراها تتشابك مع هذه الأحداث وترتبط بها وفق علاقة تتراوح كثيراً بين السبب والنتيجة.  كما أن هذا المقطع يتسم بصبغة شعرية سيميائية متميزة.

المقطع الثاني يعبر عن الذات والنموذج، وهو المقطع الذي جاء على صورة مونولوجية رائعة ناجى فيه الساردُ الأديبَ اليهودي ’سمير النقاش‘ عاقداً مقارنة بينه وبين ’سليم‘ في صورة تشبه ’العقدة‘ وتصوّر ذلك الصراع النفسي والفكري داخل الذات، ويمثل المقطع بالإضافة إلى هذا تناصاً موقفياً استطاع من خلاله أن يعبر عن أزمته.

المقطع الثالث هو المقطع الأخير من الرواية حيث يرتبط بالمقطع الأول من حيث البناء المونولوجي المتسم بالشعرية بحيث يجعلنا الكاتب نرى المقطعين مرتبطين في نسق دائري يحيل الأول فيه إلى الأخير، ويحيل الأخير فيه إلى الأول، فترتبط نهاية الرواية ببدايتها، وترتبط البداية بنهايتها في دائرية قصصية تبحث مع الكاتب عن نقطة البدء والاستقرار.

1

في البداية جاء العنوان ’مرافئ الحب السبعة‘ فى ثوب سيميائي بارع وأيقونية تثير أول ما تثير تساؤلات كثيرة لدى المتلقي، وهي تساؤلات تشبه تلك الرحلة القاسمية في إشعاعها وانكساراتها وحيرتها، فالمرافئ تستدعي الإبحار وتحاول أن تمسك بتلابيب الشطوط عسى أن يكون ثمة رسو أو أوبة وتلاق، ولكن كثرة تلك الشطوط، وإن كانت مفعمة بالحب، مارست نوعاً من الإقصاء لتلك النقطة الصغيرة التي لم تفارق الكاتب وحلت فيه بدلاً من أن يحل فيها، وما بين ’بها‘ و’عليها‘ و’فيها‘ جاءت الرحلة ولا يدري الكاتب متى يستخدم حرف جر طال انتظاره.

إن ذلك المكان الصغير البعيد هو بطل هذه الرواية، وما زادته رحلة المرافئ إلا انغماسا في نفس الكاتب وتجذراً في قلبه وعقله، فصارت المرافئ من بلد إلى بلد، ومن حلم إلى حلم، ومن وجع إلى وجع، رحلة صاحبت بين العقل المبدع والقلب المحب، بين العقل النابه والقلب المنكسر، بين مد العاطفة وانحسار الواقع حيث يقتحم المكان مكاناً آخر دون حدود فاصلة، فيترك هذا المكان القلب والعقل بين فراغين تتماهى حدودهما فيتولد المكان من الزمان، فلا تدري أيهما الدم وأيهما الشريان، وعليه يظل البدء نهاية مرجوة، ويبقى ذلك المكان كشفاً مستوراً فى قلب الكاتب.

واتصالاً بالسيمياء في هذا السياق أرى أن اسم بطل الرواية ’سليم‘ يدفع بنا، عبر رحلته بين الأماكن المختلفة وحنينه الدائم إلى نقطة البدء، إلى الفصل بين الاسم والمسمى على النحو الذي يدل فيه هذا الاسم على تلك الذات المتوجعة مما أصابها من اللدغ، فلا نحسب مبيت البطل في هذه المرافئ إلا حالاً كبيرة الشبه بحال من قال : فبت كأني ساروتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع، يقول الكاتب واصفا ليلته :

في سريري البارد، أنا الملك المتوج، أتمدد على عرش الغربة، يحيط بي رعاياي : الهم والسهاد الأرق كل ليلة، حتى إذا مللت صحبتهم وعييت من حضورهم انصرفوا، لتحاصرني جيوش الكوابيس في منام الوحدة. لا ينسحب منها جيش حتى يحل محله جيش أكثر عدة وأكبر عدداً (ص 250).

ولعل أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية هو تجديد البناء حيث توزعت على أقسام يشكّل كلُّ قسم مرفأ من تلك المرافئ التي شكلت استقراراً فيزيائياً مؤقتاً. أما الروح في تعاملها مع هذه المرافئ، فما زالت تستلهم الماضي وتجعل منه بطلاً ثانياً له القدرة على بناء الحاضر، بل والقدرة على المزج بين الأطر الوجدانية والمعرفية للذات.

القسم الأول من أقسام الرواية قسم بعيد الدلالة والأهمية حيث يشكل البدء أو الوطن، وهذا القسم (بغداد – بيروت) بدأه الكاتب بنثر أشبه بالشعر أو قل بشعر أشبه بالنثر، وجاء الأسلوب الشرطي طاغياً على مفتتح هذا القسم لتشكل حركية هذا الأسلوب شكلاً من أشكال العتاب المختلط بالحزن، وقد لعبت فيه أداة الشرط (لو) دوراً كبيراً في بناء الحلم الذي سيظل مصاحباً للكاتب في رحلته البعيدة، وجاءت ’اللام‘ تصل بين الجواب والشرط بصورة تجعلنا نقرأ الأسلوب بتراتبية جديدة نقدم فيها الحلم مع الوعد، وحيث كان الشرط مبتغي وأصبح مستحيلاً  فصلت ’اللام‘ بين عالمي البدء والذات :  

لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب، لرممت حطام نفسي، ولملمت نفسي المبعثرة، ورسمت على شفتي بسمة، وخلعت المصاريع، وقلعت العتبات،وأوسعت لك المداخل والممرات، وفرشت لك أهداب العين والجفن.

لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب، لنثرت تحت رجليك الفل والريحان، وغسلت قدميك بحليب القبرة وعسل الملكات ودموعي، ونشفتهما بالآهات زهر الياسمين وشقائق النعمان، وعطرتهما بالعود والمسك والزعفران.

لو كنتِ أنتِ طرقتِ الباب، لأوقدت لكِ الأصابع شمعاً، وأنرت قلبك إلى سويداء القلب ودثرتك فيه، وأشعلت لكِ مهجتي بخوراً، وانشغلت بكِ انشغال الصوفي بعبور المسالك واختراق الحجب، إلى شواطئ أفقك الخفي البهي.

إن الشرط كأسلوب هو اختيار من الكاتب صنع به سياجاً أشبه بذلك السياج الذي فصل ’حسين‘ عن عالمه وقريته الصغيرة في مفتتح روايته، هو أشبه بعالم ’مهيار‘ المسافر عبر الجرح والنار. والناظر هنا يلحظ وحدة الشرط وفرديته وتنوع الجوابات وتشكيلها في سلسلة زمنية رائعة يمتزج فيها الماضي بماض أبعد ؛ فتبقى رحلته متشظية الأزمان؛ إن ثبات الشرط وماديته إذا ما قارناه بتنوع ومجازية الجواب نلحظ أن الكاتب إنما دلل على أنه مدفوع بغير إرادته إلى فعل الرحلة وما سوف يصاحبها من انكسارات، وقد دلل على هذا باستخدام حرف الاستدراك (لكن) في المقطع التالي:

لكن طيفك يا أثيرة، هو الذي أطل عليّ في غير الأوان، ليسخر من محاولاتي البائسة للنسيان، ويريق شرايين الذكرى في فضاء حجرتي، ويؤثث سريري بالحمى وأوجاع الذكريات

الكاتب هنا يناجي أثيرته التي تجسدت في صورة طيف يظهر دوما في غير أوانه بصورة متجددة تتجدد معها آلام الذكرى، ويظل هذا الطيف يحمل تلك البدايات الرحيمة البريئة وتلك اللحظات التي لا يفوت على الكاتب الاستمتاع بها إلا نار الحياة وبؤس الغربة التي دفع إليها.

وهنا تبدو ثنائية الذات في (أنا وأنتِ) تقيم حواراً يتكرر في مواضع عديدة من الرواية ينفتح فيه الكاتب على عالم الحاضر بأوجاع الماضي، وكلما تقدّم السرد تمادى صراع الأبدي مع المتجدد، لم يتنازل الكاتب عن حلمه القديم وظل في ’ضلاله القديم‘ لا ينساه ينتظر عودته إليه أو أن يعود إليه، فكأن الكاتب يبدأ حاضره ليبدأ معه ماضيه أو ليولد الماضي في كل لحظة من لحظات الحاضر؛ فتظل جذوره الروحية معقدة متضاربة شكّلها ذلك التناقض الزمني وتوتره ما بين الأضداد فظل واقفاً في لحظة زمنية مشدوداً إلى الماضي بقدر ما هو إلى الحاضر، وفي هذا الصراع المرير أحسب أن المستقبل قد غاب وضاع في متاهة الجب.

2

المقطع الثاني (72):

يبدأ الكاتب هذا المقطع متوجِّهاً بمناجاته إلى شخص عاش المحنة عينها، محنة الغربة والاغتراب القسري، يقول:

الآن، أخذت أفهمك، يا سمير النقاش، الآن جربت ما اجتاحك من مشاعر عاتية. لم نلتق أنا وأنت من قبل. ولكننا شربنا من الكأس المريرة ذاتها . أنت اقتلعتك الصهاينة من جذورك في بغداد ولما تبلغ الرابعة عشرة من عمرك، حين هجروا أهلك اليهود إلى إسرائيل ليحققوا حلمهم في تكوين دولة إسرائيل من الفرات إلى النيل، وأنا غرّبتني الدكتاتورية، غير أنك كنت أشجع مني‘

إن هذا المقطع هو عقدة الرواية وحبكتها المستمرة، عقدة الاقتلاع من الجذور والبحث عنها في آن واحد. الكاتب هنا يدفع بالتناص الموقفي ليس باعتباره آلية من آليات بناء النص فقط، بل وسيلة من وسائل المشاركة، لأنه دائما يشعر بالوحدة، فأراد الاستئناس بصحبة مرت على الدرب ذاته؛ فعالجت وجع الاقتلاع وحاولت مقاومته غير أن المحاولات لم تكن لتنجح أمام قسوة المعاول والديكتاتورية:

كانوا يجرونك جرا وأنت تتلكأ، تقاوم، تتلفت إلى الخلف لترى دارك ومدرستك وناديك وملاعب طفولتك، اغتالوا طفولتك يا سمير، دفعوك دفعا إلى داخل الطائرة وأنت ترفض، تقاوم، تحتج، تصرخ.

إن فكرة المقارنة دليل على الانتماء إلى ذات التجربة، تفتح أمام القارئ - كما فتحت أمام الكاتب نفسه - تساؤلات عن مواطن الافتراق:

أما أنا فقد سرت برجلي إلى مصيري بكل خنوع

إن الاستئناس بالتناص منح الكاتب انفتاحاً في السرد، فجعل صوته مختلطاً بحكاية الذات والآخر في بنية مونولوجية ينفتح فيها الكاتب على تجربته وآلامه:

في إسرائيل زودوك ببطاقة تعريف جديدة تعافها نفسك، حاولتَ الهرب مرارا والعودة إلى بغداد عن طريق لبنان وعن طريق إيران وعن طريق الهند وعن طريق بريطانيا، وفي كل مرة يقبضون عليك ويعيدونك إلى إسرائيل. أنهكك حلم العودة إلى فردوسك المفقود. ولما استحالت العودة عليك، أخذتَ تخلق فضاء بغدادياً روائياً تعيش فيه بضعة شهور، تتنفس فيه هواء بغداد، تسير فيه بمحاذاة نهر دجلة، وتمس بأناملك سعف النخيل على ضفافه، تضيف إلى عناوين رواياتك وقصصك عبارة "رواية عراقية" أو "قصص عراقية"، وهي بحق عراقية صميمة وإن كتبتها في إسرائيل، لأنها تزخر بحبك المتأجج للعراق، وأهل العراق، ونخيل العراق.

إن انفلات سمير النقاش من أسر الصهيونية لم يتحقق إلا عبر الكتابة التي أصبحت بالنسبة له حلماً يخلق من خلاله عالماً وفردوساً أسطورياً بعيداً عن ضجيج الواقع ومعاناته على الصورة التي تكون بها هذه الكتابة معادلاً للمقاومة والثبات، هذا الأمر تجده عند الكاتب كما هو عند النقاش، يقول الكاتب:

لا أدري كيف نهضت من فراشي، وجلست إلى مكتبي لأكتب، كنت ألجأ دائما إلى الخيال، ألوذ بأذياله الواهية،احتمي به في محالة لرفض الواقع المر وعدم تجرعه، للتمرد ضد الحياة القاسية، في محاولة لفك العزلة التي تحاصرني بضراوة، للتصالح مع نفسي، كنت أخشى أن تذهب العزلة عقلي، فاستنجد بالكتابة. استبدل حصناً وهمياً بالعالم المحسوس، وأخلق كائنات خيالية نبيلة عوضاً عن المخلوقات البائسة التي تحيط بي. وهكذا أخلق عالمي الوهمي بالحرف، بالكلمة، بالعبارة، ابني ذلك العالم كما أبني لغتي، وأعيش حياتي المتخيلة كما أعيش أحلامي، أفصّلها على مقاس آلامي.

وكما كانت المقارنة أداة البحث عن مواطن الافتراق فإنها تكون كذلك أداة للتأكيد، يستخدمها الكاتب لتأكيد هويته وحبه لوطنه وثباته على هذا العهد:

كنت تقول عن نفسك : " إننا عراقيون رغم كل الظرف ورغم الزمن. وهناك ما هو أكثر أهمية من أوراق التعريف. إن عراقيتنا مطبوعة في أجسامنا، في جيناتنا، والأوراق لا تغير الحقيقة، والحقيقة لا يمكن أن تمحى".

 بل يستخدمها هنا أيضاً لرصد العلاقات التي تربطه بالنقاش وتجربته:

نعم سمير إننا نسيبان ثلاث مرات: نسيبان في الإنسانية، ونسيبان في الوطن، ونسيبان في الغربة.

ومن المقارنة إلى الالتحام، من البحث عن الفروقات إلى البحث عن المتشابهات، يمتد السرد لنصل إلى المعاناة، إلى السؤال عن محبة الأوطان وسرها الذي أتعب الكاتب البحث عن إجابة له، حتى ظن أن الإجابة قد لا تتكشّف لأي منهما إلا لحظة الموت وكأنها عند الكاتب لحظة الكشف والخلاص، يقول الكاتب:

أخبرني سمير هل عرفتَ السر في هذا الحنين؟ هل اكتشفت تعويذة السحر التي يتقلدها هذا العراق الذي يجعل جمع ضحاياه، يلهجون بحبه، يحنون إليه، يبكون عليه كما يبكي القتيل حبا بقاتله؟ ألم تتكشّف لك الحقيقة، يا سمير، وأنتَ تلفظ أنفاسك الأخيرة بعيداً عن بغداد ووادي بغداد وأهل بغداد؟ في تلك اللحظة التي فارقت فيها روحك جسدك، هل تكشّفت لك الحقيقة، في تلك اللحظة البرزخية وأنت بين عالم الفناء وعالم البقاء؟، أخبرني سمير، ارفع صوتك قليلاً، فأنا لا أسمعك على البعد. قل لي كلمة السر فأنا أخشى أن أغادر هذا العالم كذلك وأنا أجهل سرّ عذابي.

إن التناص والمونولوج في هذا المقطع شكلا آلية سردية ذات دلالة وأهمية استطاع الكاتب من خلالها الانفتاح على نفسه، على تجربته، ومعاناته، على خوفه، ورجائه، وكل الأمور التي ظلت مسيطرة على نفسه طيلة الرحلة بين موانئ الحب الدفين.

3

المقطع الثالث هو المقطع الختامي في هذه الرواية، وقد مهد له الكاتب بصورة بليغة بمقطع سابق صوّر فيه شعوره بالغربة قائلاً : ’اصطفتني الغربة خليلاً، فأنشبت مخالبها في أعماق الروح وأوتار القلب، وامتصت دماء الفرحة من أوردتي وشراييني، وكحّلت عيني بالأشجان،وتمطت وتثاءبت على حبال الزمن حتى أخذتُ أخشى أنني سأكون غريباً في وطني إذا ما عدتُ إليه‘

فالغربة لم تعد بالنسبة له ذلك الهاجس الذي دُفِع إليه الكاتب دفعاً، إنما تحولت إلى صديق غادر، إلى وطن، ويا وجع المغترب أن تتحول الغربة إلى وطن، فإذا ما عاد إلى الوطن الذي يحلم به، أفقدته الغربة لذة الرجوع، ومن ثم تراه يعكس حزنه على جميع الأشياء التي رآها والتي سوف يراها، وبعثت في نفسه الأصوات آلام محنته فقال: ’أنا مريض، لأني أشعر بالغربة تسحق روحي ونفسي وعقلي وتمنى أن لو كان ’ سمكة على شاكلة واحدة من تلك الأسماك، أنساب بنعومة في المياه، وأتنقل من محيط إلى بحر، ومن بحر إلى نهر، حتى أصل نهر قريتي، لأرتشف قطرة أو قطرتين من مائه الفرات قبل أن أموت، فأنا رجل طاعن في الغربة والبؤس‘.

ما زال وطن الكاتب هنا يقرع ذاكرته ونفسه ووجدانه، ويدرك أن الرحلة الإنسانية تسير نحو مآلها وأنه لا بد من تقليص الدوائر إلى نقطة البدء، من المحيط إلى البحر، ومن البحر إلى النهر هناك على الشط يرتشف من الفرات عبيره فيعود كما كان صغيراً، يعود كي تطرق أثيرته بابه فلا يحتاج إلى عنائه.

ما زالت الأطلال تحطم نفس الكاتب تذيبه في ذكرى وطنه، ينخرط في رحلة الغرباء يبكيهم، يتوجع لهم، يبكي عليهم في قناني فرعونية لم تعد تطيق دموع من تركه الوطن، ولم تجد من يحملها إلى أهلها؛

سمعته يقول: "كانت عادة المصريين زمن الفراعنة، عندما يفقد أحدهم صديقاً أو جاراً ، يسكب دموعه عليه في قنينة مثل هذه القناني، ويحملها إلى أهل الفقيد، ليريهم مقدار حزنه عليه" ، وفجأة، وجدتني أسأل الدليل بغير إرادة مني:" ومَن يفقد الوطن، هل تكفيه قنينة صغيرة مثل هذه لدموعه؟"

وكأن الغربة صارت شركة بينهم وبينه فبكي الكاتب كلَّ غريب، بكي كل عزيز صار إلى ذلة الفقد والاغتراب؛

وفي جزيرة زنجبار، جزيرة الغربان والحنين، ذرفت دمعة على الغربة والغرباء، وذرفت دمعة أخرى علي بقايا العمانيين الذين كانوا سادة هذه الجزيرة التي عمّروها وحضّروها ورقّوها بالأمس، وصاروا اليوم فقراء غرباء في ديارهم.

وهنا تأتي نهاية الرواية بصبغة شعرية مونولوجية وكأن المونولوج هو المخرج الوحيد، وكأن الشعرية التي صبغت هذا المونولوج هي اللغة الوحيدة التي يفهمها الغريب، يقول مخاطباً أثيرته التي خاطبها في مطلع روايته غير قادر على عتابها إذ عقد حبُّها لسانه فلم يعد يعاتبها وما كان ليفعل، يقول:

اختلطت الأمور في ذهني، اكتسحها الضباب، وتلاشى الوضوح. ردي إليّ بعض عقلي كي أستطيع التفكير، كي أدرك موضعي ووضعي والزمن الذي أنا فيه، كي أتبين الأشياء حولي. أعيدي لي ذاكرتي لأذكر ما فعلتِ بي، لتلمّس جذور نكبتي، أطلقي لي لساني كيما ينطق بشيء من العتاب نحوك.

إن حرف الجر ’إلى‘ الذي طال انتظاره طوال تلك الرحلة بين المرافئ ها هو يعود الآن كي يحقق للكاتب حلمه القديم، حلم الرجوع إلى نقطة البداية ومركز الدوائر التي عصفت به بعيداً عن بلده ونفسه، ولكنه مازال في دائرة التمني، يقول:

أرجعي إليّ قدمَي كي أسير بهما إليك، كي أترك مقعدي، فقد سئمت السكون والسكوت والانتظار. أرجعيهما إلي لأبحث في غابة التيه عن نفسي. فكّي وثاق يدي لأكتب عنكِ إليكِ، لأخطّ بدمعي ودمي كلمات تضاهي غصّتي، لأسوِّد صفحات تحكي نكبتي، لعلكِ تقرئينها يوماً، فترثين لحالي وتذرفين دمعة يتيمة من أجلي.

إن بداية الرواية سطّرها أسلوب شرطي تمنى من خلاله الكاتب البقاء، وها نحن الآن في المرفأ الأخير من مرافئ الحبّ السبعة يتمنى الكاتب الرجوع، وما بين البقاء والرجوع شطوط أحلام وأوهام وعذابات عطّرها الحنين إلى الوطن بعطور حزينة جعلته يستحضر الماضي فيغيب الحاضر، ويعيش الحاضر فيلازمه الماضي ولا يغيب؛

أريد أن أتخفف من أثقالي تأهّباً لرحيل طويل. ها إني قد أسقطت جميع متاع الدنيا من مركبي المشرف على الغرق، فأنّى لي أن أمحو وشمكِ من ذاكرتي، يا سيدتي؟ كيف لي أن أمسح عطركِ العالق في أنفي، وألغي نغمة صوتك المطبوعة في سمعي، وأشطب على ألوان فساتينك الماثلة أمام عيني؟ أنّى لي أن أفعل ذلك وأنتِ تتمددين على سجادة القلب ولا تتركين فسحة لشيء آخر؟ أنّى لي أن أفعل ذلك وطيفكِ يتعقبني أينما رحلت وحيثما حللتُ؟

إن عودة الكاتب إلى وطنه هي العودة إلى ذاته، ولكن تلك العودة تستدعي التساؤلات والإجابات المطمئنة، ولما كانت الإجابات مستحيلة، فسوف تعود قراءتنا إلى بداية الرواية كي ندرك مبادئ الحركة والسكون، كي ندرك خطة البدء والنهاية حتى ينجلي ’الوطن‘ منارة تبعث لسفينة الرحلة ومركبها الصغير ضوءاً حاضراً غائباً في شريان القلب وبصر العين متآخيين. إن الكتابة هنا يزينها نبض شعري منذ بدايتها، وسيظل المونولوج بصور مختلفة ينكشف ويحتجب في لحظات بحث الكاتب عن ذاته وعن بدايته فلا تزال المرافئ حاجزاً بينه وبين نفسه، بين وطنه وحبه.

 

free web counter

 

أرشيف المقالات