| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأحد 3 / 12 / 2023 زهير دعيّم كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
ليلة الميلاد
(قصّة)زهير دعيم
(موقع الناس)
لم يتخطَّ حبيب العاشرة من عمره ، ولكنّه تخطّى الكثير من الأحزان ، وبكى " وشبع بُكاءً " إلّا أنّه في مرّتيْنِ اثنتيْنِ فقط ذرف الدموع المدرارة وذاق لذع الألم ، يوم فقد أباه وهو في الثامنة من عمره ، ويوم زُفَّتْ أُمّه الى رجلها الثّاني إبراهيم قبل سنتين تقريبًا ، فقد أحسّ وهو الطفل المُرهف أنّ أُمّه تُنتزعُ منه وتصبح مُلكًا لرجل غريب .
صحيح أنّ إبراهيم تودّد اليه في بداية المطاف وراح يستميله بشتّى الطُّرق ومُتنوّع الأساليب ، فلم يترك صنفًا من الشوكولاتة إلّا وأحضره اليه ، ناهيك عن الألعاب والدُّمى والكعك .
ولكنّ حبيب لم يركن اليه ولم يطمئنّ ، فكان قلبه الصّغير يُنذره بشرٍّ مستطير وخطرٍ داهم ، وبالفعل فقد صدق حدسه وصدقت أحاسيسه ، فتكشّف له الرجل عن ظالمٍ وشرس ومُقامرٍ مُتمرّس .
فسامَهُ وأمّه شتّى ألوان العذاب ، ونهب مصاغها من زواجها الأوّل وخسره على الطاولة الخضراء ولمْ يكتفِ ....
ويتذكّر حبيب كلّ ذلك ، ويتذكّر كيف أنّه كان يشبع لطمًا ولَكْمًا قبل أن يشبع خُبزًا، ولكنّ ذلك ما زاده إلّا عُنفوانًا ، فقد صمّمَ على أن يقطع الطريق ولو فوق جسر من الدّموع ، هذا ولم تشفع توسلّات الأمّ ولا دموعها ، بل على العكس فقد ازداد الأمر سوءًا بعد أن جاء الى الدُّنيا أخ صغير لحبيب .
" عنيد ، غريب ، وجه شؤم ، مصيبة " قاموس من الكلمات البذيئة كان يُمطر بها الزّوج الطفل حبيب مصحوبة بالركلات والرفس ، والأمّ المسكينة تبكي في صمت ، وأحيانًا تتوسّل وتُحلّفه بصغيره أن يدع " حبيب " وشأنه ، وأن يكون له أبًا ، أما وعدها بذلك ؟ ألَم يكن هذا هو الشّرط الوحيد ... بلى ولكن !!!
والغريب في الأمر أن الطفل حبيب لم يحتمِ ولو مرّة واحدة بأمّه ، وإنّما كان يرميها وهو تحت سيْلِ الضّربات والشتائم بنظرات عتاب ولوْمٍ ، مثل هذه النظرات كانت " تذبحها " ذبحًا وتجعلها تتمنّى لو أنها ماتت قبل أن تقترن بهذا الرجل .
على أنّ هذه المأساة كانت تنحو في بعض الأحيان نحو الهدنة ، فينسى حبيب آلامه ، ويعود الى دروسه التي بزَّ بها أقرانه ، وقد يعود الى التفكير بالدرّاجة ، فمنذ سنة وهو يحلم أن تكون له دراجة حمراء كصديقه عامر، وقد فاتحَ أمّه بالأمر فوعدته خيرًا وراحت " تسرق " الدّريهمات ؛ بل قل دريهماتها ليوفّرها حبيب في صندوق خشبيّ بعيدًا عن عيون الزّوج المقامر، الذي لا يترك فلسًا في البيت الّا ويخسره.
... وقام حبيب الى صندوقه ليعدّ النقود فغدًا عيد الميلاد ، وغدًا تكون قد مضت سنة كاملةٌ على ولادة الفكرة ، وقد وضع نُصبَ عينيه أن يشتريَ دراجة حمراء في عيد الميلاد المُقبل ، وها هو العيد قاب قوسين أو أدنى ، والنقود تكفي وتزيد ، وقد تأكّد بنفسه في الدّكّان القريب ، فكثيرًا ما قضى الدّقائق الطوال أمام تلك الدّراجة ، وكثيرًا ما خفق فؤاده وهو يتخيّل انّ الدّراجة الحمراء قد اختفت من الدّكان .
أيكون قد سبقه اليها أحد ؟! ... لا .. لا فمنذ ساعات فقط شاهدها وأنعم النظر في كلّ جزء فيها واستفسر عن ثمنها .
ولكن قد يسبقه احد اليها في هذه الليلة ، أليست الليلة ليلة عيد ، والأهل يفتكرون صغارهم في مثل هذه المناسبات ؟!
لا.. لا ... ويعود ليؤكّد لنفسه بأنّ البائع وعده وعدًا صادقًا بأنّ الدّراجة له ولن يُفرّطَ بها لأحد .
غير أنّ خاطرًا جديدًا داعب خياله ، ماذا لو أجّل موضوع الدّراجة حتى الصّيف واشترى بدلًا منها هديّةً لأمّه ، خاصّة وأنها لم تذق طعم الهدايا منذ وقت طويل .
وراقته الفكرة وصمّم وبطيب خاطرٍ أن يفاجئ والدته بهدية ، فقام الى صندوقه مرّةً أخرى ليعيد عليه الطّرح والجمع ، ولكن آهٍ لحظِّهِ العاثر ، فها هو " الشّيطان " يعود الى البيت ، وها هو صوته النكير يُجلجل في أركان البيت ، لقد عاد ينتزع من المسكينة القروش التي ما زالت بحوزتها ، فهي تعمل وتكدّ في نسج الصّوف لقاء قروش تسدّ بها رمقها ورمق صغيريها ، وكثيرًا ما فعلها وحرم صغيريها من الحليب والخبز ، فكيف به الليلة والقمار على أشدّه ؟! ... أيمكن أن يأتيَ الطّفل السّماويّ الى هذه الدنيا ولا يتبارك الزوج والأب إبراهيم ببركة القمار ؟!! جريمة في حقّ التاريخ لن يغفرها العدل له !!! .
ودارت المعركة الكلامية سِجالًا بين الزوج والزوجة ، وعلا الصُّراخ وما انجلت عنه نتيجة، بينما ركن حبيب الى النوم فهو يمتعض من هذه المسرحيات ويتمنّى لو انمحقت .
حقًّا لقد نام إبراهيم والهدية الجميلة التي سيأتي بها غدًا لأُمّه تُدغدغُ خيالَه وتُداعبُ أحلامه ... انها ستفرحُ بها كثيرًا وسيمسح من عينيها دمعة حزن.
ودقّت أجراس الصّباح ودقَّ معه قلب الصّغير حبيب دقّات متسارعة وهو يركض نحو صندوقه الخشبيّ بلهفة ..... فألفاه ... !!!!!
وبكى بُكاءً ما بكاه في حياته !!!