| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الثلاثاء 19 / 11 / 2024 وردا البيلاتي كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
سردار... بين بندقية الماضي ومسدس الحاضر
وردا البيلاتي
(موقع الناس)
في صباح خريفي هادئ في مدينة أربيل، وقف سردار أمام مرآة قديمة يجهز نفسه للخروج. يده تتحسس بقايا جروح قديمة على كتفه، ذكريات معارك خاضها منذ عقود طويلة. كان في شبابه أحد أبرز مقاتلي البيشمركة، رجلًا لا يُثنيه التعب عن مواصلة القتال، ولا يخشى الموت في سبيل قضية آمن بها.
ارتدى ملابسه البسيطة، وربط حزامه العسكري القديم حول خصره، ثم وضع مسدسه الصغير في مكانه المعتاد. بدا الأمر طبيعيًا له، كما لو أن الزمن لم يتغير. لكن صوت زوجته قطع عليه أفكاره:
"إلى أين، أبو رزكار؟ ولماذا تحمل المسدس؟"
ابتسم وهو يربت على كتفها. "لا تقلقي، سأتجول في البازار عند القلعة. حملت السلاح طوال عمري، لن يوقفني أحد".
ردت بنبرة قلقة: "لكنها أيام مختلفة الآن، السلاح ممنوع"
"ممنوع؟ كنت أقاتل للدفاع عن هذه الأرض، هل أحتاج لرخصة لأحمل مسدسًا صغيرًا؟ لا تفكري بالأمر"
غادر المنزل بخطوات واثقة، متجولًا في شوارع أربيل. أزقة المدينة تضج بالحياة، لكن في قلبه شعور غريب بالاغتراب. الجبال التي عاش فيها سنوات طويلة تقف في الأفق، شاهدة على قصته، بينما المدينة الحديثة تغمرها الضوضاء والتناقضات.
لم يكد يسير بضع خطوات حتى أوقفته دورية من رجال الأمن.
"أيها العم، هل لديك رخصة لهذا المسدس؟"
"رخصة؟!" قالها باندهاش، وكأنه يسمع الكلمة للمرة الأولى. "كنت بيشمركة، أحمل الكلاشينكوف والمسدس طوال حياتي. كيف تطلبون مني رخصة؟"
ردّ الضابط بصرامة: "القانون لا يعترف بالماضي. عليك أن تأتي معنا إلى المركز".
في مركز الشرطة، فتح المحقق محضرًا وسجل أقوال سردار. "لماذا تحمل سلاحًا دون رخصة؟"
رد سردار بثبات: "لأنني لم أعتد أن أطلب إذنًا للدفاع عن نفسي. قاتلت ضد الظلم لسنوات، هل أحتاج اليوم إلى إذن لحمل مسدس صغير؟"
أشار الضابط إلى أنه سيتم احتجازه حتى يوم الأحد لعرضه على القاضي.
"لماذا الأحد؟"
لأن اليوم الجمعة، وغدًا السبت عطلة رسمية.
جلس سردار في زنزانة باردة، محاطًا بأصوات صدى خطوات الحراس. بدأ شريط الذكريات يمر أمام عينيه: معارك الجبال، الليالي الطويلة حول نار المخيم، رفاق السلاح الذين غادروا الحياة مبكرًا... والآن، ها هو خلف القضبان بسبب مسدس.
المحاكمة
في يوم الأحد، وُقف سردار أمام القاضي.
"هل تعلم أن حمل السلاح دون رخصة يعاقب عليه القانون؟" سأله القاضي بلهجة صارمة.
"سيدي القاضي، كنت بيشمركة أحمل السلاح دفاعًا عن شعب كردستان. لم أكن بحاجة إلى رخصة وقتها، فلماذا أحتاجها الآن؟"
رد القاضي: "تلك الأيام مضت نحن الآن في دولة قانون"
ابتسم سردار بسخرية. "القانون؟" وهل يشمل القانون تأخير صرف رواتب المتقاعدين مثلي؟ ثلاثة أشهر لم نتقاضَ فيها دينارًا. العام الماضي، واليوم نحن في الشهر الحادي عشر ولم تُصرف رواتب الشهر العاشر. أين القانون هنا؟"
بدا القاضي متفاجئًا. حاول التهرب من الرد قائلاً: "هذا ليس من اختصاصي"
لكن سردار استمر: "إذا كان القانون يُطبّق فقط على حاملي المسدسات، فأين هو من المسؤولين الذين يصادرون حقوقنا؟ لقد صادرتم مني أربعة وعشرين شهراً من الرواتب قبل سنوات، والآن تصادرون مسدسي الصغير. هل هذا هو العدل؟"
بعد نقاش قصير، قرر القاضي إطلاق سراح سردار ومصادرة مسدسه.
العودة إلى البيت
عاد سردار إلى منزله بخطوات ثقيلة. جلس في غرفته، وخلع حزامه العسكري القديم، ثم نظر إلى صورة قديمة معلقة على الحائط. كانت له، شابًا يحمل بندقية كبيرة، يقف وسط الجبال بابتسامة مليئة بالتحدي.
أخذ صورة أخرى من درج مكتبه، هذه المرة لرزكار، حفيده الصغير، وهو يحمل لعبة بلاستيكية على شكل مسدس. تأمل الفرق بين الجيلين، بين زمن كان السلاح فيه شرفًا، وزمن أصبح فيه عبئًا.
همس لنفسه: "لقد صادروا منا كل شيء... الجبال، السلاح، حتى الأحلام.