| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأربعاء 12 / 3 / 2025 وردا البيلاتي كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
دور المادة في حياة الإنسان
وردا البيلاتي
(موقع الناس)
خلال استضافتي لدى فلاح في قريته التي تشتهر بزراعة التفاح الأمريكي، دار بيننا حديث بعد العشاء عن الوضع السياسي في البلاد. تطرقت إلى سياسات حكومة البعث التي لا تتسامح مع أي معارضة، فمصير كل من يعارضها هو السجن أو الإعدام. تحدثت عن الحرب المستمرة، التي تُسقط ضحايا لا حصر لها، حتى أصبحت كل عائلة عراقية تقدم شهيدًا أو أكثر في سبيل بقاء "قائد الضرورة" صدام حسين
عندما انتهيت من حديثي، التفت إليّ الفلاح بابتسامة وقال:
"أنا فلاح بسيط، ولا أتدخل في السياسة. أنتم السياسيون لكم أهدافكم، لكنني لا أجد فيها مصلحة. انظر إلى بستان التفاح هذا، ما أجمله! غدًا يأتي تاجر لشرائه، ستكون معنا ايضاً"
في صباح اليوم التالي، وبينما كنا نتناول الفطور، توقفت سيارة بيك أب أمام البيت، ونزل منها اثنان من التجار. رحب بهم الفلاح ورافقهم في جولة داخل البستان. كانت الأشجار مثمرة لكن التفاح لم ينضج تمامًا بعد. عرض التجار شراء المحصول بمبلغ 5000 دينار عراقي، وهو مبلغ كبير في وقت كانت قيمة الدينار تعادل ثلاث دولارات. لكن الفلاح رفض العرض، وطلب 8,000 دينار.
أثار موقفه استغرابي، فقلت له: "لماذا لم تبيع؟ قد يتلف المحصول إذا هطلت الأمطار أو حدث أي طارئ. ابتسم وأجاب:” هذه تجارة وكل تجارة فيها ربح وخسارة"
بعد شهر، زرته مرة أخرى، فاستقبلني بوجه مشرق. سألته: "كيف سارت تجارتك؟" ضحك وقال " بعت المحصول ب 8000 دينار، كما أردت،
ثم أكمل حديثه "مستذكراً الماضي، كنا سابقا نزرع الحنطة ونأخذها إلى المطحنة
، لكن الطحين لم يكن يخلو من الحصى. اليوم، أشتري الطحين جاهزًا بخمسين دينارًا للشوال، وأشتري الشاي واللحوم وكل ما أحتاجه بسهولة. أبنائي معلمون في بغداد، أساعدهم في شراء بيوت من أرباح التفاح. حياتي مستقرة، وليس لي رغبة في السياسة أو عداء مع النظام"
المادة محور حياة الإنسان، حيث تتغلب المصالح الاقتصادية على الاهتمامات السياسية. بالنسبة لهذا الفلاح، النجاح في تجارته وتحقيق الاستقرار لأسرته كان الهدف الأسمى، بينما بدت السياسة بالنسبة له عالماً بعيدًا لا يعنيه. في ظل الظروف القاسية، مثل الحروب والأنظمة القمعية، يصبح السعي وراء البقاء وتوفير الحياة الكريمة أولوية يتجنب معها كثيرون الانخراط في صراعات لا يرون مصلحتهم فيها.
"ماركس يؤكد أن المادة ليست مجرد جانب من جوانب الحياة، بل هي الأساس الذي يقوم عليه المجتمع بأكمله. البنية الاقتصادية تحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية، والصراعات الناتجة عن توزيع الثروة والملكية هي القوة المحركة للتاريخ. من هذا المنظور، فإن المادة ليست منفصلة عن حياة الإنسان، بل هي جوهرها، وكل ما هو فكري أو سياسي نابع منها".