|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأثنين  7  / 10 / 2019                                 د. شابا أيوب                                   كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

الدولة المدنية والدولة العلمانية والفرق بينهما
(3)

د. شابا أيوب
(موقع الناس) 

ما الفرق بين الدولة العلمانية والدولة المدنية؟
يكتنفُ استخدام مفهومَي «الدولة المدنية» و«الدولة العلمانية» في الخطاب العربي اليومي غموضٌ وخلطٌ وملابسات. وبرأي البروفيسور حبيب عبد الرب سروري (12) ثمّة مبدآن عَلمانيان جوهريان ينبثقان من فصل الدين عن الدولة :
المبدأ الأوّل: تفصلُ الدولة العلمانية بين مجالين مختلفين في حياة الناس: العام والخاص. المجال العام (الذي يضمّ المدرسةَ، والفضاءَ المدني عموماً) مكرّسٌ لما يخدم جميع الناس، بغضّ النظر عن أصولهم وألوانهم ومعتقداتهم الدينية أو ميولهم الإلحادية. لا مرجعية فيه لأي دينٍ أو فلسفةٍ إلحادية. أما المجال الخاص فيستوعب كلَّ المعتقدات والرؤى الشخصية، دينية كانت أم لا دينية أو إلحادية.

المبدأ الثاني: تضمنُ الدولة العلمانية المساواة الكلية بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم، واللامتدينين والملحدين أيضاً. تدافع عن حريتهم المطلقة في إيمانهم أو عدم إيمانهم (حريّة الضمير) وتحترمها بحق (12).

إليك أهم الفوارق بينهما
1 العلمانية والمدنية كلاهما لا يدعوان إلى مفهوم ديني للدولة. لكن العلمانية ترى ان الدين لديه شكل معين للدولة وبالتالي فهو خطر يجب فصله. بينما المدنية ترى ان الدين ليس لديه شكل للدولة.
2 العلمانية تدعو للمساواة. المدنية تدعو للعدل. المساواة تعني فرض قانون واحد على الجميع دون اعتبار الاغلبية او المناسب للناس. العدل يراعي الاغلبية ويراعي المناسب للناس.
3 التشريع والقوانين في العلمانية يجب فصلها عن الدين وتبقى وضعية. المدنية ترحب بحصول التغيير عبر الأغلبية لانها تحترم الاستحقاق الديمقراطي. وبالتالي يجوز للأغلبية الفائزة تعديل القوانين مع مراعاة الشكل المدني للدولة.
4 العلمانية لا تهتم بشكل نظام الحكم : ملكي، جمهوري، عسكري، حزبي. المهم هو فصل الدين عن الدولة وقوانينها. لكن المدنية تشترط التداول السلمي المدني للسلطة. وبالتالي لا تقبل بملكية ولا عسكرية ولا ديكتاتورية ولا جمهورية لزعيم ابدي. إذْ لا بد في المدنية ان يتم التداول السلمي المدني للسلطة بشكل دوري عبر الديمقراطية.

بالإضافة إلى ما ذُكر يلزم توضيح ما أضافته الدولة العلمانية للحضارة الإنسانية، وما لا تمتلك الدولة المدنية شروط تحقيقه .
1. هو انهاء الصراعات والإضطهاد الطائفي والحروب الدينية في الدول التي ترسَّخَ فيها هذا المفهوم، بفضل مبدئه الثاني (المساواة الكلية بين كل المتدينين بمختلف مذاهبهم، واللامتدينين والملحدين ). صارت هذه الحروب والصراعات شبه مستحيلةً اليوم في المجتمعات العلمانية بفضل المساواة المطلقة بين الجميع. لعل عدم اعتناقِ مفهومِ الدولة المدنية للمبدأ العلماني الثاني لا يبعث الأمل الجاد بامكانية التساوي الكليّ الحقيقي بين مختلف الفئات الدينية أو العرقية في دولنا المدنية المنشودة، أو بامكانية القطيعة مع ما يؤدّي إلى تمييز فئةٍ عن أخرى. ناهيك أن أدبيات الدولة المدنية لا تضمن الاعتراف بحقِّ عدم الإيمان أو الإلحاد.

2. إلغاؤها المطلق لِشرعية أية «فتوى» دينية أو سياسية تمسّ حياة عالِمٍ أو مفكِّر، أو تمنع إصدار أي كتاب.

3. ثمّة أيضاً إنجازٌ حضاريٌّ علمانيٌّ هام: تحوّلَ الدين في الدول العلمانية إلى سلطةٍ روحية خالصة، لا يستطيع السياسيّ التحكّم بها. لا يمكنه مثلاً إعداد الخطب الدينية التي تُلقى في المعابد .

يبدو واضحاً التفوق الحضاري للدول العلمانية على بقية العالم بفضل المدرسة العلمانية، فهذه المدرسة التي يَدرس فيها أبناء ذوي الديانات والمذاهب المختلفة و أبناء غير المتدينين معاً بشكلٍ حضاريٍّ متآلفٍ متناغم، مفصولةٌ تماماً عن تأثير أي دينٍ كان، أو فلسفةٍ مُلحِدة. تُعلِّمُ الطالبَ كيف يُفكِّر بروحٍ نقديّة، كيف يحكم لوحده دون أي يقينٍ مسبق بأية عقيدةٍ أو أيديولوجية، كيف يمارس حريّته في التحليل والتمحيص، وكيف يبني شخصيَّته المستقِلّة. تُكرِّس هذه المدرسة في الطالب العقليّةَ العلميّةَ الخالصة وتُنمِّي استخدامَها لِفهمِ الكونِ والحياة عن طريق الإكتشافات العلمية والتجربة والبرهان، وعبر دراسةِ نظريات العِلم الحديث، تسمح له هذه المدرسة أيضاً الانفتاحَ على استيعاب كلِّ التراث الفكري الإنساني بمختلف تياراته الفلسفية، دينية أو لادينية.

لا يوجد في مشروع الدولة المدنية، الذي تُلوِّحُ به الثورات العربية حتى الآن، أية رغبةٍ جليةٍ في قطيعةٍ جذريّةٍ مع فلسفةِ وتكوينِ المدرسة العربية الحالية (13) ، التي انجبت بامتياز اجيالاً ممن تعلموا الخضوع للحاكم المستبد، وترعرعوا في ثقافة التفسيرات الظلامية للكون والحياة. وبالرغم من توسّع انتشار العلمانية دوليّاً، يجد مفهومُ العلمانية عراقيل وكوابح لا حدّ لها في مجتمعاتنا العربية، تنذر بصعوبةٍ هائلة ستواجه عَلمنَة دولهِ المدنية المنشودة.

لعلّ أبرز مناهضي هذا المفهوم هم الظلاميون الذين يمارسون تجاهه تضليلاتٍ ذكيّة. يرافقهم بالطبع الطغاة العرب الذين يتدخّلون بضراوة في شؤون الدين ويستخدمون الفقيه مطيةً للسيطرة على أدمغة أبناء شعوبهم، وممارسة دكتاتورياتهم.

ليس هؤلاء فحسب، بل هناك العديد من السياسيين و الكتاب العرب الذين يعتبرون مفهوم العلمانية بكل بساطة، مفهوماً استعمارياً كونه انطلق من الغرب، رغم تِكرارهم لمصطلحاتٍ نهضت أيضاً في الغرب ذاته كالديموقراطية وحقوق الإنسان.

ظلّت نماذج الدولة العلمانية المطبقة نماذج غربية بامتياز، والدول العربية والإسلامية التي حاولت أن تطبق هذا النموذج كانت أشبه بالمسخ ، لأنها بالرغم من المحاولات الدؤوبة لجعلها علمانية وفق النموذج الغربي ” كتركيا مثلا ” اصطدمت دائما مع القيم الإسلامية المتجذرة في الشعب.

في بلد مثل العراق متعدد القوميات والأعراق والأديان والمذاهب ومتعدد الثقافات ، عانى ما عاناه على يد نظام البعث من إستبداد وإقتتال داخلي وحروب خارجية كارثية، ودمار البنى التحتية، وعجز في الإقتصاد الوطني، ومديونية عالية، وحصار إقتصادي ظالم على شعبنا. أدى هذا كله إلى تراجع مريع في مستوى المعيشة وإنكفاء المواطن وراء لقمة الخبز، وإحباط شديد في نفوس المواطنين، مما دفع الطاغية صدام إلى بث الحملة الإيمانية للخروج من الأزمة التي تسبب بها نظامه، فإزداد تردد الناس الى المساجد والحسينيات والكنائس. هذا من جانب ومن الجانب الآخر سعى نظام البعث منذ نهاية 1978 إلى تصفية وإضعاف نفوذ الحزب الشيوعي العراقي وكل قوى اليسار والديمقراطية. فكان من النتائج غير المباشرة لهذه السياسات اللا وطنية بروز ظاهرة التديّن وتوسع قاعدة الأحزاب الإسلامية. وإنتهى الأمر بالإطاحة بنظام صدام وإحتلال العراق في 9 نيسان 2003 وتسليم السلطة للأحزاب الإسلاموية وخاصة الشيعية منها والتي أخذت منحا طائفياً، ودمرت ما تبقى من كيان الدولة الوطنية، وفكّكتْ النسيج المجتمعي دون أي أفق لإمكانية قيام دولة دينية أوطائفية على النمط الإيراني. اليوم نحن بأمس الحاجة لثورة دينية، ليس ثورة على الدين الإسلامي بل على مدعيّ الدين والمتاجرين فيه، ثورة لإعادة موضعة الدين في الحياة السياسية على أسس جديدة تخدم الدولة والمجتمع والأديان دون تعارض أو تضارب بينهم.

وبسبب حملات التضليل والتشويه ضد مفهوم العلمانية في عالمنا العربي والإساءة إلى سُمعتها لمدة تزيد عن نصف قرن وإعتبارالكثيرين أنّها نتاجاً غربيا صرفاً لا يتوافق مع السياق التاريخي لمجتمعنا العراقي ولبيئته الإجتماعية ، بل البعض يماهي عن جهل بينها وبين الكفر، وآخرون يرون وجود فرق بين الديانة الإسلامية والديانة المسيحية حيث يزعمون عدم وجود كهنوتية في الإسلام وأن الإسلام دين ودنيا ولا يمكن الفصل فيه بين الدين والدولة، لذلك أرى على الأقل في المرحلة الحالية أن النموذج الأنسب في التعبير عن الدولة غير الدينية في العالم العربي والإسلامي ومنها العراق هو ” الدولة المدنية “ ولكن بديمقراطية كاملة كما جاء وصفها أعلاه (آي في الجزء الأول) . فهي الدولة التي يحكم فيها أهل الاختصاص في الحكم والإدارة والسياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات وليس رجال الدين. وتجنب إستخدام مفردة العلمانية وذلك من أجل تجاوز التسمية والتركيز على المضمون.

إن الدولة التي ينشدها معظم العراقيين هي دولة المواطنة التي هي مع كل الأديان، لأن الأديان كانت ويجب أن تبقى اداة تربية وأخلاق وتهذيب للشعب وأن تُفصَلْ عن السياسة. إضافة إلى ذلك لا يمكن لتلك الدولة المنشودة أن تًقام بمعزل عن تاريخ شعبها أو الشعوب التي تمثلها وعن ثقافاتها ومعتقداتها.

 

الدنمارك ـ 4 آيلول 2019

المصادر
(12) حبيب عبدالرب سروري كاتب يمني، بروفيسور في علوم الكمبيوتر، فرنسا
(13) المدرسة والدولة المدنية ما بعد الثورة. حبيب سروري. القدس العربي، أنظرموقع الكاتب



 




 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter