| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 12 / 2 / 2022 سعد السعيدي كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
الفوضى والتخبط وانعدام التخطيط للحاضر والمستقبل
سعد السعيدي
(موقع الناس)تكررت قبل سنوات الاعلانات عن افتتاح خطوط لتجميع السيارات، كلها في معامل الشركة العامة لصناعة السيارات. وهي كما هو معروف شركة قطاع عام.
من خلال البحث والتدقيق في الاخبار وجدنا خطوط لتجميع سيارات سايبا وطيبة وبيجو وبايت 25 وشيري تيكو، وكذلك خطوط اخرى لتجميع شاحنات فولفو وكابسات نفايات ازوز، ومعها يراد اضافة خطوط لتجميع سيارات الهيونداي والكيا. لكن لم نجد في نفس الاخبار من يوضح لنا اسباب انشاء كل هذه الخطوط للسيارات ناهيك عن خط اضافي لتجميع شاحنات اخرى مثل ايسوزو اليابانية. فهل ان العراق بحاجة الى كل هذا ؟ هل جرى انشاء هذه الخطوط التي تستهلك الموارد المحلية وفقا لتخطيط مسبق ؟
لقد كانت الفكرة في البداية فترة النظام السابق هي بالتوجه لتوفير سيارات الشحن والنقل والانشاءات والزراعة لتلبية احتياجات التنمية الوطنية. لهذه الاسباب فقد انشئت معامل الشركة العامة للسيارات. هذه الايام وبعد اسقاط النظام السابق رأينا الاتفاق كيفما كان مع الجميع حسب هوى المستثمرين لتجميع سيارات وشاحنات بلا تخطيط ولا هدف مع نتيجة تبذير وهدر للموارد. وهذا مع الابتعاد عن كل ما كان ينتج في السابق. فمن العناوين اعلاه يرى بانه قد جرى الاتفاق مع سبعة شركات للسيارات مع احتمال اضافة اثنتين اخريين اليها. إذ يجب ان يكون معروفا بان اي تجميع صناعي هو استثمار ليس فقط في الاموال إنما ايضا في الجهد والموارد. فهدف التجميع هو عدا عن تعلم مهارات صناعية، تقليل الاستيراد لتقليل كلفه على البلد، لا اضافة كلف اضافية اليه. ولا بد طبعا من ان تكون المشاريع مستوفية لشروط الوضوح والشفافية وانعدام الفساد.
بيد ان مع المنتوجات التجارية كالسيارات توجد مشكلة. إذ يجب تأمين السوق اللازم لبيع وتصريف كل ما ينتج من دون منافسة ما امكن كي لا يكون هناك ركود في الانتاج اولا، ثم العمل على الا ينتج الكثير منه ليتراكم اكثر من الحاجة ثانيا. فهل تحقق هذا التوازن ؟ مما نرى حدوثه هو ان معامل الشركة العامة قد امست مع اعداد ما يجمّع فيها وكأنها بابا مفتوحا لفائدة كل من هب ودب ليأتي ويفتح خطوط تجميع. وقد كان على المستثمر المحلي اجراء دراسة جدوى اقتصادية مقدما لمعرفة قدرة البلد على امتصاص وتصريف هذا المنتج في ظل انفتاح حكومي على الاستيراد وغياب تام للتخطيط. فلا يبدو من تراكم الخطوط المذكورة آنفا ان مثل هذه الدراسة قد اجريت. وربما كانت ثمة حاجة في فترة من الفترات للسيارات في البلد. لكن مع توفر هذه للناس ستتلاشى لاحقا هذه الحاجة. إن اقتناء كثرة من خطوط التجميع دون النظر للعواقب هو فوضى وتخبط. ونتساءل عن اسباب عدم الاكتفاء بخط تجميع سيارة واحدة او اثنتين مثلا مع خط لشاحنة واحدة ؟ بل لماذا لم يجر اعادة خط تجميع الجرارات الزراعية السابقة من نوع عنتر والمركبات الصناعية وهو كان استثمارا احسن ؟ ولماذا لم يجر اعادة احياء خط انتاج حافلات النقل العام السابقة من نوع الريم المعروفة ؟ من الواضح هنا ان ليس كل من يملك المال هو ممن له خبرة بالادارة والحرص على تلبية حاجات البلد.
وكان من الممكن لاجل تأمين تصريف انتاج السيارات الزائدة هذه اتفاق المستثمر المحلي مع الحكومة على حصر تزويدها هي والاخريات المحلية من مصانع التجميع هذه حصرا. وهو ما سيكون دعما للقطاع الخاص. فمن غير المعقول القيام بانتاج اعدادا كبيرة من هذه المركبات محليا لتأتي الحكومة وتفتح باب الاستيراد لمنتوج مشابه !! إذ لا يمكن العمل مع خيارين متعارضين في وقت واحد. فلا بد من التركيز على احدهما فقط الذي سيكون طبعا على حساب الثاني. وذلك لتجنب مايراه الجميع من نتائجه وهو الازدحام في الطرق والشوارع.
ومع زيادة الازدحام المروري ستكون هناك زيادة في الطلب على الوقود. وعوادم الاخير تؤثر على الصحة العامة مسببة امراضا كالربو والتنفس والامراض الجلدية قبل التأثير على ميزانية الدولة. وكلما زادت اعداد السيارات زادت معها كمية العوادم حتى تراكمها في الهواء. الآن وبسبب هذا التخبط وبحجة حل مشاكل الازدحام المروري يراد الاتيان بمشروع باهض الثمن كحل هو القطار المعلق والآخر للانفاق. وكان يمكن بدلا من هذا حل مشكلة الازدحام بانشاء الطرق الحولية بالتوازي مع تقليل ضخ السيارات الى الطرق. وكل هذا يعتمد تحققه على وجود التخطيط السليم. ولو انه جرت المباشرة بانشاء هذه الطرق منذ العام الماضي مثلا لكان قد جرى وضع البذرة الاولى لحل الإشكال. والاكتفاء بالاعلان عنه دون القيام به يشير الى تخبط واضح نرجو الا يكون متعمدا.
باعتقادنا فإن تحاشي الشركة العامة للسيارات اللجوء في السابق الى تجميع السيارات في العراق هو بسبب كثرة سلبيات العملية التي تفوق ايجابياتها. اهمها فرض استمرار معمل التجميع بالانتاج والبيع على وتيرة معينة كيلا يتعرض ربما الى الخسارة. فالمعمل لم يتحقق وجوده إلا بالاتفاق مع الشركة المصنّعة. ولهذه الشركة قطعا شروطا منها انها تريد رؤية ربحا وفيرا مستمرا مقابل استثمارها وهو امر منطقي ومفهوم. واستمرار الانتاج يتطلب وجود سوقا واسعة لتصريف المنتج بلا حدود. اي ان معمل التجميع سيقوم بحل مشكلة شركة المنشأ ولو جزئيا في تصريف انتاجها. واننا بهذا نكون قد وضعنا انفسنا في مرتبة الوكيل في خدمة هذه الشركة. ومع كل هذا توجد معرقلات من شروط اخرى لشركة المنشأ منها طبعا منع انتاج قطع الغيار فضلا عن التصدير. فشركة المنشأ لم تستثمر اموالها لخلق من ينافسها من صنع يديها. بالمقابل ستحصل هذه الشركة على الجزء الاكبر من ارباح بيع المنتوج غير استفادتها من امكانيات البلد بسوقه الواسعة ورخص تكاليف العمل فيه. وهو ما سيكون ربحا هائلا لهذه الشركة، لا لنا. اي انها ستستفيد اكثر منا بكثير، وهو ما لم يكن مقبولا لدى الشركة العامة عندما تحاشت هذا الامر وعن حق لدى انشائها فترة النظام السابق. إذ ان الغرض من انشائها لم يكن إلا خدمة مصالح البلد بالدرجة الاولى، لا مصالح الآخرين. وهي في هذا كانت استثمارا للامكانات والمزايا المحلية التي وظفت في مشاريع خطط لها لتعود على البلد وشعبه حصرا بالفائدة.
اننا نرى بوجوب الابتعاد عن فكرة افتتاح خطوط تجميع جديدة ومراجعة ما جرى القيام به. إذ يجب حسم الخيار اولا بين الانتاج المحلي والاستيراد. إذ لا يمكن جمع الاثنين مع احتمال كساد البضاعة بسببه ومع ما نراه من مشاكل ناتجة عن سوء التقدير هذا. ويبدو ان التاجر او المستثمر المحلي لم ينظر في هذه الامور الى حاجات البلد الفعلية مثلما لم يتعب نفسه في تقدير عواقب قصر نظره في خططه. وهذا هو نتيجة الجشع وعدم التروي وانعدام المعرفة بامكانيات البلد. سيأتي وقت يحتار به هؤلاء المستثمرون في كيفية تصريف منتوجهم بعد امتلاء البلد به، وحيث ربما سينتهي الامر بهم او ببعضهم الى الاضطرار لابطاء انتاج خطوط التجميع او حتى ايقافها. فالرابح في كل الاحوال من هذه العملية هو شركة المنشأ. فهي تقوم بتصريف منتوجها على حسابنا كما اسلفنا مع ضمان حصولها على الارباح باقل قدر من التعب والاستثمار. وما هذا باستثمار وانتاج محلي، بل هو غباء مطلق.
إن العراق ليس سوقا هائلا ليستوعب انواع السيارات هذه الى ما لا نهاية. وهو ليس ايضا بذي قطاع خاص راسخ ومتمكن بحيث يمكن الاعتماد عليه في ادارة الازمات والمشاكل التي يتسبب بها. فاولياء هذا القطاع يعملون فقط لملء جيوبهم بذريعة تقليل البطالة والتأسيس لقاعدة صناعية. كل هذا هو انعدام للرؤية وفشل ذريع. ونرى من الحلول لمنع تراكم السيارات في الطرق وتقليل استخدام المركبات الخاصة هو تقليل المستورد، ومعه قطعا تقليل الانتاج المحلي. والحل الآخر الموازي والمهم هو الاعتماد على النقل العام الملاحظ تغييبه في هذا الامر والذي واضح من كونه متعمد.
في سياق هذا الموضوع قد لاحظنا وجود خط تجميع لسيارات من منشأ ايراني. هنا نتساءل لماذا وجب افادة الايرانيين في تجارتهم ؟ لماذا يجب افادتهم من اسواقنا واموالنا بهذا الشكل ومن مواردنا المحلية ؟ الا يكفي تدخلهم في بلدنا وتهديدهم لمصالحنا واحتقارهم لنا ؟ للعلم فقد فشلت السيارات الايرانية في اختبارات الامان والسلامة الاوروبية...
لا يمكن الانتهاء والحال هذا من الموضوع دون ان نعرج على مجلس النواب حيث انه قد اصبح تقليدا لنا. يلاحظ صمت مجلس النواب الحريص جدا في كل دوراته السابقة على المال العام، عن اثارة ولو بكلمة امر انعدام التخطيط وهدر المال العام الناتج عن هذه الاستثمارات. فمعامل التجميع كلها تعود للدولة. وكان يجب رؤية المصلحة العامة من هذا التنازل الهائل للاستثمار الخاص. وتفسير هذا الامر واضح وهو وجود المدعو ابراهيم البغدادي الذي ذكرناه في مقالة سابقة لنا حول شركات البناء الوهمية. للتذكير فالبغدادي هو رئيس المجلس الاقتصادي العراقي الذي اسسه بعدما طرد من مجلسه السابق مجلس الاعمال العراقي لدى اكتشاف التزوير في شهادته الدراسية. وكانت تلك الشركات الوهمية اعضاء في المجلس السابق. وهو بعد تنقله من المالكي الى العبادي قد استقر به الامر بين احضان المدعو هيثم الجبوري رئيس اللجنة المالية السابقة ! من ضمن اعضاء مجلس البغدادي الحالي هو المستثمر المسمى بشركة نبع زمزم الذي اتى باحدى شركات المنشأ الاجنبية المذكورة آنفا. وهذا المستثمر الذي يرأسه المدعو غدير العطار والذي يسمي نفسه مجموعة شركات قد تحاشى التعريف بنفسه إلا بالنزر اليسير. وهو ما يضرب شرط الوضوح والشفافية التي ذكرناها في مكان سابق في هذه المقالة. فموقع شركته على الانترنت لا يذكر شيئا بشأن باقي شركاته، ولا ايضا بكلمة بشأن معامل التجميع. إنما فقط وحصرا عن الاستيراد. وبينما يحتكر هذا المستثمر والمستورد السوق العراقي كليا يسمي نفسه على موقعه مع ذلك شركة رائدة !!! وغدير العطار هذا هو عضو في مجلس الاعمال العراقي وايضا في اللاحق المجلس الاقتصادي العراقي ! وما زال المجلسين قائمين. ولا يبدو من وجود مشكلة لدى العطار مع شهادة رئيس المجلسين !! وعدا هذا لا نعرف عن تاريخ هذا العطار شيئا. هكذا نرى مصالح نيابية مباشرة في بعض امور الاستثمار في البلد. قطعا سيكشف المستقبل حقائقا اخرى حول هذا الموضوع الذي تلفه العتمة. وهذه المصالح النيابية هي ربما ما يفسر اسباب هروب مستثمرين دون سواهم.
هذا التخبط في العمل ونظيره انعدام التخطيط هو مما تعمدت حكومات 2003 إهمال معالجته. وتعمد الإهمال هو فساد. ويبدو لنا ان هذه المشاكل المتولدة في شوارع البلد تستغل لابقاء المواطنين تحت طائلة الازمات المستمرة. ومثلما ذكرنا في مقالة سابقة، كلما زادت المشاكل واهملت حلولها، كلما افاد الامر الحاكمين اكثر.