|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء  10 / 5 / 2023                                سميرة الوردي                                   كتابات أخرى للكاتبة على موقع الناس

 
 

 

الترنيمة الحادية عشرة

همس القش
الزنزانة
(الجزء الثاني)

سميرة الوردي
(موقع الناس) 

فلا تعجلْ على أحدٍ بظلمٍ      فإن الظلمَ مرتعُه وخيمُ) ... (محمد بن طلحة)

احتفلا احتفالاً هادئاً بزواجهما ضم أقرب الأهل والأصدقاء، كانت في أوج جمالها وهو في قمة سعادته.
ثلاث سنوات مرت كلمح البصر، عاشتها بسعادة، زادها مولد ابنهم البكر (أسعد) مودة وهناء.
ألح عليها (نوزاد) أن تترك العمل وتتفرغ لتربية ابنها، لكنها رفضت، لأن العمل لا يشكل عندها ربحا مادياً فقط، بل لأنه يحقق شخصيتها وانسانيتها.

احتفلت بعيد ميلاد ابنها، وزعت الحلوى والكيك على زملائها وزميلاتها في العمل، عندما قدمت للمدير حصته بادرها متذكراً أن هناك من سأل عنها من خارج الدائرة، وانهم سيأتون للقائها في الأسبوع القادم، ولم يحدد لها موعداً؟!!!

ليس لديها ما تخاف منه، ولكن الهواجس والشكوك انتابتها رغماً عنها... بعد اسبوعين استدعاها المدير الى غرفته، لا مناص من الاستجابة للأمر، تداعيات كثيرة تتالت عليها وهي في طريقها لغرفة المدير، اختلط فيها الحلم في الواقع فصار من الصعوبة فرزها، الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن المعارك بين الشمال والجنوب ما أن تنتهي أو تهدأ حتى تبدأ من جديد، وصلت الى غرفة المدير ، الباب موصد، طرقته طرقاً خفيفاً، فُتحت لها، لم يكن المدير وحده بل معه رجلان لم يسبق أن رأتهما في أي مكان من الدائرة، ضخام مفتولي العضلات كأنهما من رياضيي المصارعة، جلس أحدهما مكان المدير والثاني جلس على كنبة جنبه، أما المدير فقد بقي واقفا، قدم لها كرسيا، داخلتها رهبة لم تشعرها من قبل، ارتعد جسمها، أدركت أنها في موقف لا تحسد عليه، أشار اليها أحدهم أن تجلس، جلست محاولة لملمة أفكارها والسيطرة على انفعالاتها، سألها الجالس في مقعد المدير عن اسمها ؟
أجابته بجرأة لم تتوقعها هي:
• كيف استدعيتني إذا لم تعرف اسمي!!

• إي ... نعم... سناء ممدوح العزيز
• نعم أنا هي

• كيف تعينت في هذه الدائرة المهمة؟!!!
• تعينت كما تعين الكثير من زملائي.

• إذاً لم تختاري أنت الدائرة، بل نسبت اليها عن طريق جهاز الإحصاء المركزي في وزارة التخطيط.
• أجل...

زم شفتيه وحك رأسه ووضع يده على خده متأملاً مجموعة أوراق أمامه، طال صمتهم لفلف أوراقه ونهض قائلاً :
• سترافقيننا بعض الوقت كي ننتهي من التحقيق.

طلبت منه أن يسمح لها بمهاتفة أهلها، لكنه رفض أن تتصل بأي شخصٍ، سحبها من يدها وخرجوا... سألتهما إن كانت متهمة بشيء، لم يجيبا على تساؤلها... أوصلوها الى مركز الشرطة ... أدخلوها الى قاعة واسعةٍ خالية من كل أثاث... بنايةٍ قديمةٍ عالية الأسوار... تركوها هناك ... أعياها الانتظار ... حاولت الخروج لكن الباب موصدة ... أهي تحت تأثير كابوس أم واقع لم تتوقعه... كم ستبقى؟!!

فقدت الإحساس بالزمن، ساعتها في حقيبتها، لم يسمحوا لها بجلبها من مكتبها ... تمنت لو استجابت لـ (نوزاد) عندما طلب منها ترك العمل والتفرغ لطفلهم، ولكن لا وقت للندم، تنملت أصابع قدميها، جدران الصالة تقترب وتبتعد كأنها في ارجوحة تهتز، حركت أصابعها المتنملة الا أن الألم وخزها فأسكنتها...

بعد وقت غير قصير أدخلوا اليها اناءً صغيراً فيه سائل أصفر داكن مع قطعة خبز، حاولت التحدث مع الحارس الا أنه تجاهلها وأغلق الباب، رحل خيط الضياء الوحيد، الذي تسلل من منفذ صغير أعلى السقف، لابد أن يكون الوقت ليلاً...

أين (نوزاد) ؟ ليس من المعقول ألا يتصل بمن يعرفهم من زملائها ويستفسر عنها، حزن عميق اعتصرها ودت لو تضع رأسها في حضن أمها، صمت يلف المكان، تقرفصت على الأرض، برودة المكان اخترقت جسدها، احتضنت رأسها وبكت بكاء مراً، أغمضت عينيها قليلا، لم تستطع أن تغفو، أجفلها صرير الباب أكثر من وحشة المكان، نادوا عليها، بصعوبة وقفت تتبع الشرطي الذي فتح لها الباب، ماذا يُراد منها، لو ينتهي الأمر سريعاً، الوقت كما تدل الظلال المتسللة من نوافذ المبنى فجراً.

وجه المحقق ليس فيه مسحة إنسانية، بل اتسمت ملامحه بقسوة مفرطة... انصبت كل أسئلته واستفساراته عن أبيها... لم تتذكر شيئا وتجاهلت أشياء، ومن نمط الأسئلة اكتشفت أنهم لم يسمعوا بموته، فهم يبحثون عنه كل هذه المدة، استمر التحقيق معها الى الصباح، ثم أُعيد معها ثانية، طلبوا منها أن توقع على استمارة تتعهد فيها عدم ممارستها لأي نشاط سياسي أو اجتماعي ما عدا انتمائها لحزب السلطة، في البدء رفضت وأعادوا معها التحقيق وهددوها بالسجن.

خرجت والليل في أوله، لم تصدق أنها امتلكت حريتها، سخرت من نفسها، أية حرية مشبعة بالخوف والرعب والإكراه... رغبةً بالهرب من المكان الذي هي فيه... أوقفت أول سيارة أجرة مرت أمامها... نزلت أمام منزلها، طلبت من عمتها أن تنقد السائق أجرته، الا أن عمتها لم تجده، يبدو أنه شعر بوضعها فرحل مسرعاً، مقدما ما استطاعه... لم تصدق عمتها عودتها احتضنتها وبكتا.

كان (نوزاد) جالساً في الصالة مستغرقا في التفكير، وكأنه لم يشعر بوجودها، بل تفاجأ بها، سألها دون أن ينظر اليها :
• ماذا أرادوا منك؟
ثم أضاف:
• حاولت الاستفسار عنك لكنهم منعوني.

أجابته:
• إنهم يبحثون عن أبي وعن أصدقائه وكتبه، غير عالمين بموته... احتجزوني في صالة منفردة مرعبة.
• اذهبي لترتاحي وسأذهب لعيادة أحد المرضى ...

تركها وخرج وكأن شيئا لم يحدث ... شيءٌ حطم داخله وأقام جداراً بينها وبينه... كل أملها أن يتفهم مأساتها ويواسيها... انتظرته طوال الليل ... تأخر كثيرا على غير عادته.. عندما عاد أدركت إنه لم يكن (نوزاد) الذي عاشت معه... أمسكت يده.. سحبها ببرودة صعدت الدم الى قلبها وأخجلها تلهفها عليه... كلمته قبل أن يغفو، تظاهر بالنوم ولم يجبها... برودة قاتلة احتلت الحب الذي كان... أحست بغريزة الأنثى أن عليها الدفاع عن شرفها أمامه:
• نوزاد أقسم لك أن أحداً لم ...

لم يدعها تكمل جملتها، أجابها بقسوة والعبرة تخنقه:
• كل من اقتيدت الى هناك...
• أقسم بقبر أمي وأبي

• أرجوك نامي... لا داعي لتكرار الحديث.

تأملت أن تغسل الأيام جراحها وأن يعود (نوزاد) كما كان ... لكن الأيام تمر و(نوزاد) لم يتغير... المهانة شعور لا يطاق، انسحبت للنوم مع طفلها ولم تتخل عن الأمل بعودته، الأيام تمر ولم يحدث شيءٌ بل حتى مع طفله تغير، لم يعد يلاعبه كما كان... مرارة تقطر في وجدانها... كل يوم يتفاقم عذابها، لم تعد تطق نفسها، وزاد ألمها عدم وجود عمل يُشغل تفكيرها ... كتبت لعمتها طالبة مساعدتها للخروج من المحنة وتبعد أخويها منها، صرفت كل ما لديها للحصول على جواز لها ولأخويها... لم يثنها (نوزاد) عما قررته عندما أبلغته العمة بقرار السفر ، تجهم والتزم الصمت.
حلت ساعة الرحيل... رجعت العمة الى الشمال ... ومازال الأمل يخالجها باعتراض (نوزاد) على رحيلها...

امتد الطريق في ذلك المساء خالياً من المارة موحشاً، أُغلقت جميع المحال التجارية وظل الشارع وحده زاهياً بأضوائه الساقطة من الإعلانات التجارية على أشجاره لينعكس عبر فراغاتها على الشارع.

عاقبها (نوزاد) على ذنب لم تقترفه، لم يضمد جراحها، بل زاد في تنكيله، ومع كل هذا تمنت لو يأتي ويثنيها عما اعتزمته... دفء تصاعد لحظة لمحته في صالة الانتظار، ودت لو تحتضنه لكنه جاءها معتذراً منها بجملة مبتسرة :
• أرجو أن تعذريني فإنك أنبل امرأة، وإني لن أنساك.
أجابته :
لو كنت أنبل ...

لم تكمل عبارتها، ارتفع صوت الميكروفون منادياً على المسافرين للصعود... ركبوا الحافلة.. ألقت نظرة مودعة، لم ترَ سوى الرصيف الفارغ... أدركت أن قلبها أُنتزع منها عنوة!

 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter