ما لم يقله جسر المسيب ...
صباح محسن جاسم
وإذ انفلتُ من عقالي لريحٍ صرصرٍ، تُقرعُ الطبول ،
تبرقُ السماءُ في البروج ،الشبابُ الى الفرات يتقافزون .
ان عاندتُ وشمّرتُ ذراعا لن أقوى على ليّ اذرع شبيبة " الشيوخ"،
بعالي الأصوات يتنافسون،
يغمزون صبايا لاهثات خبرن عبر نهود الشناشيل، التأوهات.
وان تطلّ "روجينا" * صباحا بعطس خلخالها دربونة اليهود..
بوقع قبقابها يستاف صلادةﹰ من جذوع التوت،
يبتهج السوق وتصفّق الآبرو ** بانتشاء.
ماكنة " السنكر" تطرب لميلاد الفساتين بجود ،
وأن تدسَّ بساقيها البضتين في ماءٍ فرات، تضجُّ عذوبتُه توقَ التلاقْ .
تتقافز الأسماكُ لابطةﹰ بتباه ، فتنشغل النوارسُ بأمرٍ غيرهُ الجوع!
فلّاحُ مدينتنا أن يبيعَ محصولَ الخضار ، ابدا لن يطيل..
يحثّ حماره ضحى النهار. ينادي على من عدلَ عن الشراء، ببلاش.
إن لم يجد من مجيبٍ لخفر أو حياء، يلقي بحمل حماره في حضن " تنّوح" *** السعيد!
الليل ها هنا له رائحة الغرﹶب، الخوخ والخيار..
زفرة النهر تشابه العثور على صيد وفير.
تتجاوز الأسماك السنانير والشباك، تلبط راقصةﹰ على الضفاف.
مدينةٌ زفيرُ قطاراتها .. "العادي والسريع "، تلجمُ الفضاءَ غيماﹰ وزعيق.
تشربُ القاطرةُ العطشى ماءَ محطة القطار وسط صحونٍ من فخار،
تزفّها صهباء كما النبيذ تتبسمُ بقشطة "ام عبد الله" ، قيمر السدة اللذيذ .
قبيل ثورة تموز بآهتين او ثلاث ،
يحمل شابٌ صندوقﹶ صبغ احذية في الأزقة والشعاب.
تتقافز مناشيره السرية ببياض البراءة والكبرياء.
تعاجل السنونوات تحجب ملامح وجهه الوديع:
"الركاع" **** ، لم يكن الآ مثقفاﹰ معانداﹰ شجاع.
في المسيّب أبدا لم تسيّب عروس وفتاها المغرم بالعشق بالمرّة لم ينسبِ.
العالم وان تغنى (جواد، جواد مسيبي)، مثله كما بقية الصحب على ثبات.
كل العلامات المتقدمة للمسيّبي.. تابعوها من على سجلّ الملاحظات الخفي،
لدى السادة من غادر مرغما من الغزاة.
اواه الخمسينات مقاهي المدينة يا لطيبها الشجي:
في " مهدون" يجتمع الناس لطريفة وحكاية وغناء ،
يمهدون إلآ لفرحهم بسخاء ، يتحدثون عن بلقيسهم أول سافرة فتاة، *****
عن ابي العيس جعفر المناضل الوفي..
فيما الطناطل تتخاتل في جيوب الموسرين،
تجوب عگد اليهود معربدة تسرق الخمور من الدنان،
تروّج لـ" خطّاف القلوب" مثلما تروّع الفتية الصغار.
في الستينيات يهرع الأهالي بعصيهم يهللون لأسراب الجراد،
تتعالى مع سجر التنانير، القهقهات.
هم هكذا تعودوا : لم ينج غازٍ من جمرهم الآ بـ كيّ.
باكر الصباحات يستيقظ الناس لأعمالهم قبل الطلوع،
طواشات التمر يبزغن مع الفجر متزنرات الخصور،
وان يلتقين الصغار ينخن بالسلال، فتكشف الصدورعن خبايا الثمار!
حين يغالب المخاض الحوامل يسندن ارجلهن الى جدار.
تصل الجدّة بعد لأي ، على صراخ الوليد..
مأخوذة تصلي بأسم الرب والمسيح. تنفض فوطتها البيضاء عن ضفدع شقي،
توسّد السحاب من رضابه يستقي الملاذ.
كم يغضب الآباء لسرقة ابنهم دجاجة أضلت الطريق ،
فيتحوّل الريشُ ناراﹰ تسعرُ في البطون، تطارد الجناة البقية من حياة .
في "ام الصخول"رجل الدين يفقه في الأصول ،
يفهم في البلاغة ، اخوان الصفا وماركس.
يعاود جيرانه من النصارى ،
يقهقه عاليا لنكتة جاره الصابئي وان من بعيد.
لن يرضيَه أكل طعام من مال زاده حرام
ولا حتى قطع أشجار النخيل، فالنخلة كالسدرة قتلها لا يجوز..
ما شجّع مرة على اكل جمّارها الوئيد،
يزجر من يبيعهُ مسفوحا حذو جامعه الكبير.
"يوسف الفحام" من اعز الأصدقاء.. يمنح الناس دفأهم والشتاء،
صباحا يلذ له شواءٌ من " فشافيش"،
عند الغروب يتأمل الناس يتوضأون بين زحمة الجرار.
صعبٌ ارضاء الفحّام ،عاشق النظافة والنظام، يراقب العابرين بحلم وانتباه،
رغم عين قاصرة اجهدها السهر والهجير،
يحذّر من تلصّص المراهقين فيما يسبحون، لأفواه فساتين الصبايا العابرات.
حين يجنّ الليل ويرقد الدلّم والحمام يتوسد يوسف كيسَ فحم بالتمام،
يرقب النوتية يحطون الرحال عن السفين. وقبل ان ينام،
يتشمم عبق التنباك كما بخور ومتسلل من مستكي عانق النارنج سداد...
يكتم ضحكة قبل ان تختمَ شهرزاد ، خاتما مودعا جمع الصحب والأصدقاء.
منبّها :
إن أضيئوا الفوانيس على الرصيف ، محذرا،
مخازن الفحم من الحريق، يهذي حالماﹰ ان غالبته نشوة المساء:
أن يؤذّن الناس في المساجد كما هديل، كما يُطربُ لدقّ النواقيس في الكنائس!
وان يغنوا لعبد الحليم سعداء في الكنيس .
واذ يتابع الجسرُ الكلام :
أحبابي فقراء المال لكنهم غالبا سعداء،
ينثرون دروب بنات المدارس بالورود،
يكبرن صبايا الحي فيما الفتية عند الحدود ،
يتأخرون في العادة أو ربما أضلوا الطريق .
تُزوّج الصبايا من سواهم من خلف الخباء،
غير انهم يعاودون القدوم بهالة من بياض،
يصوصوون فلا فارق بينهم والنوارس !
هكذا يعبرون:
في اعشاشهم وعلى اقدامهم، على ألوانهم وعلى الأكتاف جمعاﹰ، يتآزرون،
تزفهم طيبةٌ تضوع شذى بعطر الورود .. فيما الملم دمعي ساخناﹰ
لجثامين عند – الشريعة – مقيدة الأيدي ، منتفخة الأوداج معصوبة العيون ،
وانتم غيركم تتناكفون، ضمرت سواعدكم التي كانت تشدني ،
فتفرق جمعكم وصخبكم، ألا يا ليتني:
..............................
ما بالها بلهاء بكماء تلكم الطبول ؟!
* روجينا : اسم لفتاة يهودية تخيط الملابس عرفت بجمالها وامتلاكها لببغاء ناطق خمسينيات القرن الماضي
** الآبرو : أوراق ملونة لأعمال الرسم للأطفال ، تعرف ايضا باسم " زرق ورق "
*** تنّوح : اسم لنهير يتغذى من الفرات.
**** الركّاع : المناضل المعروف باسم حسن الركاع قبل وبعد ثورة تموز 1958 ، قيل انه استوفى ديونا مؤجلة من سدنة الأقطاع
***** بلقيس : هي بلقيس الشيخلي ، ناشطة برابطة المرأة العراقية زوجة المناضل المرحوم جعفر ابو العيس .