بغداد ، من سيفْركُ فانوسَك السحري ؟
جمالية التلقائية في ذاكرة التراث – رؤية في نصب الفانوس السحريصباح محسن جاسم
الفنان العراقي محمد غني حكمت ( 1929 – 2011) غني عن التعريف فلا سيرة ذاتية تغطي كل حبه لمنجزه أو ما رافق محطات حياته من عذابات عبر اثنين وثمانين عاما، نهل في خضمها من ذات المكنوز الخصب الذي شغف به استاذه ورفيق حياته الفنان جواد سليم حيث استلهم بجدارة الموروث الحضاري الرافديني القديم موظفا اياه برؤية جديدة .له سماته الأسلوبية المتأثرة بالنحت السومري واختامه الأسطوانية ونقوش حروف اللغات السومرية والبابلية والآشورية. اما منجزه فيتعدى الخمسين عملا نحتيا ما بين نصب وتمثال وجدارية ونافورة اضافة الى اعماله النحتية على ابواب الكنائس الخشبية خارج العراق.
في مقدمة احد اصداراته عام 1994 يذكر الفنان حكمت : " من المحتمل ان اكون نسخة اخرى لروح نحات سومري أو بابلي أو آشوري أو عباسي تولّه بحب بلده ".
رافق جواد سليم في انجازه لـ ( نصب الحرية) في روما أواخر خمسينيات القرن الماضي وساعد وأشرف على عملية صب القطع البرونزية في مدينة فلورنسا ثم نصبها بعد الوفاة المبكرة لجواد سليم عام 1961 . وعلى ذات المنوال مع الراحل الفنان خالد الرحال وانجازة لنصب قوس النصر.
يعد أحد ابرز أعضاء - جماعة بغداد للفن الحديث - ببصمته الواسعة والعميقة على الفن العراقي ، كما تشرّبت بتجربته اجيال من النحاتين العراقيين حتى رحيله ، أبدع في عمله وتميّز بعشقه لفنه فحظي بشهرة عالمية تعدت حدود الشرق الأوسط الى أوروبا. له مساهمات عديدة وقيّمة داخل العراق وخارجه بخاصة اشتغالاته الفنية على ابواب الكنائس وحصوله على شهادة تميّز بذلك.
في افتتاح المعرض الجماعي الأول، أعلنت جماعة بغداد للفن الحديث: "نحن نحلم بحلم يجمعنا مع جميع البشر ممن يحلمون ببساطة. حلم نسميه بغداد ".
عام 2003 اضطر الى ترك العراق خشية اغتياله وابنه واستقرا في عمان – الأردن.
في 15 سبتمبر 2011 وافاه الأجل ولم يبلغ مناه في رؤية نُصبه التي صمم نماذجها واصبحت جاهزة للتنفيذ.
لسوء الحظ بغداد الجميلة مرة أخرى غدت اليوم حلما لمعظم الفنانين العراقيين . وقد صدق القائل حكمت في العراق (من لا يشعر بالحب لبلده سيعيش غريبا فيه).
بعد الأحتلال اتفقت أمانة بغداد مع الفنان محمد غني حكمت لأقامة أربعة نصب تتغنى ببغداد : (انقاذ العراق) ويمثل ختما سومريا اسطوانيا وقد مال بسبب من ضربة اضرت بجزئه الأسفل فسارع يسنده شخص مفتول العضل بخمسة سواعد ، ويقع قريبا من ساحة الفارس العربي في المنصور . ونصب (بغداد) ويمثل فتاة جميلة شامخة تجلس على كرسي بالزي العربي أقيم في ساحة الأندلس ونصب (الفانوس السحري) في ساحة فتح بمواجهة المسرح الوطني ، على غرار فانوس علاء الدين السحري في قصص الف ليلة وليلة البغدادية وبارتفاع مع القاعدة يبلغ عشرة امتار. وكلها تحمل دلالات عن عمق حضارة وتراث بلاد ما بين النهرين.
النصب الرابع ( اشعار بغداد) بتشكيل كروي من حروف عربية تتضمن بيتا شعريا عن بغداد للشاعر مصطفى جمال الدين : ( بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ / الآ ذوت ووريق عمرك اخضرُ) ، ومكان اقامته في حي العطيفية – جانب الكرخ.
المفارقة ان ساحة فتح عرفت بنصب الطيار العراقي البطل - عبدالله لعيبي - المشهورة قصة شجاعته ، والذي تم مؤخرا تهديمه لا نقله ، باسلوب لا ينم عن احترام للذاكرة الفنية ، كما وتكررت الحال مع اكثر من نصب منها (التضامن)!
وعلى اثر انجاز نصب الفانوس السحري في 24-12-2011 تابع الأعلام العراقي التعليق بالقول (بدأت الحياة تدبّ في المشهد الثقافي العراقي. وما هذه النصب الآ انعكاس لقدرة الشعب العراقي في مواجهة التحديات وليثبت العراقيون ان الثقافة والفن انما يجريان في دمائهم).
كأغلب اعماله نلمس بصمة الفنان من حيث الأسلوب وقوة المخيال الشعري فتأثير الريح في الكتلة جلي كما في طيّات رداء نصب المتنبي في شارع النهر ورداء كهرمانة ، تعود لتظهر في حركة الدخان الذي يرافق انبعاث شبيه الجني من داخل الفانوس .
وكما ظهر في تشكيل نصُبه كـ ( الختم الأسطواني ) من حيث السواعد الخمسة التي استنفرت للأنقاذ ، فأن سواعد الشعب تتطاول في تشكيلها الجماعي من قاعدة النصب بهدف الوصول الى جسم الفانوس أملا بفركه. واذن من يفرك الفانوس ليست يدٌ واحدةٌ بل مجموع كل السواعد العراقية – ثمانية سواعد تظهر في تشكيل النصب في دلالة على التنوع الأثني والقومي والديني المكوّن للشعب. علما ان الرقم 8 اقترن عند قدامى الأغريق بالمقدرة ( كل الأشياء هي الثمانية) وهو رقم العدالة لأمكانية تقسيمه الى أقسام متساوية وهو يعني الأدراك الحسي والأنسجام العالمي. وفي القرآن الكريم " { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } سورة الحاقّة الآية 17 بدلالة الى الملائكة والعناية المسؤولة.
على ان النصب بكليته لا يتيح للناظر التعرف على كامل تفاصيل الفانوس في جزئه العلوي ، ربما امكنه ذلك اذا ما تطلع من شبابيك فندق مجاور.
الجدير بالملاحظة ان حراكا يمور في تشكيل الفانوس يوحي للرائي بأكثر من تشكيل – وهو جانب فني عالي الرقيّ يحسب له- ، فيذكّر مرة بحمامة تتطلع الى ما يدور، أو هو أشبه بطاووس او قارب من قوارب الأهوار المعروفة أو سفينة قديمة وحتى دعامة لجسرٍ للعبور. وهو بمثابة زهرة عملاقة بدليل الورقة الظاهرة والحاضنة اسفل جسم الفانوس. ثمة فصين ذهبيين يوحيان بعينيّ مخلوق فضائي ، ربما (E.T.) الذي بمجرد لمسة سحرية من اصبعه حتى يُحال اليباسُ الى خضرة دائمة. على ان وجود زخرفة لشمس مشرقة بين الفصيّن الذهبيين قد تدلل على الشمس البابلية وعلى حضارة بغداد. اما ما يلفت الأنتباه بشكل أخاذ فهو نقوش الكتابة القديمة والتراثية التي توزعت على جانبي الفانوس.
من جهة أخرى وظّف الفنان فتحة املاء الوقود – برمزية مقصودة – حيث البترول، بما يماثل الجني، ينطلق من عقاله اثر فرك الفانوس خلافا لما هو معروف من الفتحة التي في مقدمة الفانوس حتى بدا الجني الفعلي بمثابة قزم مقابل فعل البترول ، في دلالة امكانية ان يحقق هذا الأخير اماني من يمتلكه وهي ومضة قصدية لأهمية امتلاك الشعب لثرواته كي يحقق الكثير من طموحاته وليس مجرد حلم بسيط فحسب . كما يوفر ايضا قراءة اخرى في مثل تلكم الأنثيالات وحراك التكتلات المتزاحمة المتشاكلة بما مفاده ان قوة البترول الحقيقية تكمن في تكاتف الجماهير وتلاحمها والتي يفترض أن ترص صفوفها قوةﹰ تضاهي ما يقدمه البترول الرائح الى نضوب وزوال . امام هكذا الفة وتآلف سيغدو لهب الفانوس كفنار يقود السفين الى ضفة الأمان ( المتمثل بحمامة تبرز من تشكيل اللهب في مقدمة الفانوس) ، أي تثوير رائع لمهمة البترول/ الجماهير قد ابتدعتها وأبدعتها مخيلة الشاعر – الفنان ، وأي حكمة في كل هذا!
برأيي ، بلوغا لجمالية اكبر، حبذا لو جعل الفنان وضع الفانوس شبه مطروح على احد جانبيه دون الركون لتلك القاعدة الضخمة تأسيسا على ما تشكل في الذاكرة التراثية من عفوية حيثما عثر على الفانوس باديء ذي بدء وفقا لتداعيات الحكاية، وان يصار الى احاطة المساحة القائم عليها الفانوس بمادة الصلصال المعامل وعلى غرار تموجات رمال الساحل مع اضافة أنارة زرقاء أسفل الفانوس كي ما يبدو وقد قذفته مياه النهر ، ذلك سيكسب العمل اضافة الى ترميزاته قربه من أجواء الحكاية التي ما تزال تفعل سحرها في ذاكرة المتداول الحكائي لأجيال متجددة.
على ان فكرة عمل مثل هكذا نافورة بالأمكان توظيفها في خدمة سياحية تماثل نافورة الأماني (فونتانا دي تريفي) الشهيرة في روما عام 1762 كملتقى جميل للسياح .حبذا لو تم الأعتناء بحوض نافورة الفانوس لا ان تقلص بهذا الوضع الذي لا يتناسب وحجم الفانوس . متى نستثمر نصبنا توافقا مع ما تحمله من فكر ودلالة حضارية وتراث وجمال ؟
أما لغز الفانوس او( الحكمة) فأظنه يكمن في رموز تلك الكتابة التراثية ، السؤال المقلق الذي يبتغي جوابا من عند فاختة الفنان التي لما تزل تنوح في عقر عشته الأبدية.. ولعلّ يوما ما سيعثر احدهم ويفرك لغز الكتابة تلك ويجيب على ما كان يقلق ذلك السومري البغدادي !