| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الثلاثاء 6/1/ 2009



المسير في تظاهرة ساخنة في شوارع أمستردام المثلجة

صائب خليل

تحطم الهدوء الممل لشوارع مركز مدينة أمستردام السبت الماضي على وقع أقدام وأصوات هتافات غاضبة انطلقت من تظاهرتنا التي اخترقتها هادرة ومسالمة.
لم تكن تلك التظاهرة إلا واحدة من ضمن سلسلة التظاهرات الحاشدة المناهظة للهجوم الوحشي الإسرائيلي الأخير على غزة، والتي ملأت شوارع مدن أوروبا والعالم. انطلقنا من بارك ساحة المتاحف في قلب امستردام لتبعث خطواتنا وحناجرنا الحرارة والحركة في شوارع المدينة الباردة بالهتافات المنددة بإسرائيل وعملائها من القادة العرب. لست خبيراً في تقدير العدد، لكننا كنا حسب تقديري حوالي أربعة ألاف شخص من مختلف الجنسيات والأصناف والأعمار، رغم أن اصدقائي الفلسطينيين قدروها بأكثر من ذلك.

كانت الأعلام الفلسطينية هي الأكثر كما هو متوقع، وكان هناك عدد من الأعلام اللبنانية واعلام عربية اخرى، ولم يكن العلم العراقي غائباً لحسن الحظ، او لسؤ حظ ذلك العراقي الذي كتب يوماً ان العراق لم يتحرك، واعتبر تلك علامة "تحضر"! لكن العراق كان قد تحرك، والعراقيين في مختلف انحاء العالم تحركوا ورفضوا هذا "التحضر" العجيب الذي لم يسمع بمثله أحد من قبل!

ولم يتخلف الرمز العراقي الجديد المتحضر فعلاً للإحتجاج ورفض القتلة عن الحضور: "حذاء منتظر" الذي رفعه متظاهرون هنا وهناك! فكرت: لمَ نسيت ذلك! في المرة القادمة عندما تكون هناك تظاهرة ولم نكن قد حضرنا لافتات مناسبة، سيكون لدينا لافتة سهلة ومعبرة وجاهزة دائماً: عصا بطول متر وزوج أحذية قديمة، وسيفهم الجميع ما تريد قوله فوراً!

فتاة طويلة كانت تسير امامنا وتلفت النظر، لفت نفسها بعلم تركي كبير، والأتراك حريصون على التعريف بانفسهم، فعلمهم لا يكتفي بالتواجد كما الآخرين بل تواجد بشكل ربطات رأس وقطع ملابس ورسوم على الوجه. وعندما تحدث الشاب الذي يسير قربنا مع صديقته، علمت انهما من إيران. وكان هناك عدد كبير من الهولنديين المدافعين عن الحق الفلسطيني، بعضهم يفعل ذلك شعوراً منه بالذنب على ما قدم في فترات سابقة من دعم لإسرائيل حين كان التصور العام في هولندا انها دولة مظلومة يهاجمها العرب المتوحشون.
ومن تجاربي هنا، عرفت أن هؤلاء الأوروبيين هم من أجمل الأمثلة على حسن الخلق والمعشر والأكثر انسانية وثقافة في مجتمعاتهم، وهم بشكل عام من بيئة سياسية إشتراكية.
والشيء بالشيء يذكر، فنذكر هنا ان أحد البرلمانيين الإشتراكيين الهولنديين دعا إلى انتفاضة ثالثة إثر اخبار غزة.

ورغم ان حكومة هولندا مازالت من اكثر الحكومات الأوروبية حماساً لإسرائيل، فأن شعبها كان الأكثر انتقاداً لتلك الدولة من أي شعب آخر من شعوب اوروبا الغربية حيث صوت بنسبة هائلة (74%) باعتبارها أشد الدول خطراً على السلام قبل خمسة سنوات، لذا يشعر الهولنديون بخيبة أمل من حكومتهم عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، وهم يشعرون أن اللوبي الإسرائيلي قوي وخطر في هولندا، لذا كثرما يحدثك زميلك الهولندي بصوت منخفض إن أراد انتقاد إسرائيل في مكان عام.

لم يكن الأمر كذلك قبل عقد أو عقدين من الزمان، حيث كانت هولندا تدعم إسرائيل شعباً وحكومةً، لكن الحال تغير. فقد قرأت مرة مقالاً في جريدة "فولكس كرانت" اليومية الواسعة الإنتشار، عن تراجع شعبية إسرائيل والبحث عن حل لها، جاء فيه ان الافاً من الهولنديين المتحمسين لإسرائيل كانوا يزورونها كل عام من أجل العمل التطوعي فيها، ليعودوا وقد اتخذوا منها موقفاً مضاداً بعد أن رأوا بأعينهم غير ما كانوا يتوقعون. الصحف مازالت تكتب متحيزة لإسرائيل، لكنك تلاحظ ان تعليقات القراء تميل إلى الكفة الفلسطينية بوضوح.

ولم يقتصر التحول الى التأييد الشديد للحق الفلسطيني على عامة الناس, ولم يكتف الجميع بالتأييد السلبي الخائف، بل ان البعض، وخير مثال عليهم الناشطة الرائعة "كريتا دوازنبرخ", زوجة رئيس البنك الأوروبي السابق, والذي رحل قبل بضعة سنوات. وقفت كريتا، والتي لقبت "بفتاة العلم" لأنها جلبت الغضب الصهيوني عليها حين علقت علماً فلسطينياً كبيراً في شرفة بيتها في أمستردام على إثر الإنتفاضة الفلسطينية الثانية، وقفت موقفاً إنسانياً رائعاً تحملت بسببه مضايقات تستطيع ان تسبب الإنهيار للإنسان الإعتيادي.
لاحقتها الجالية الإسرائيلية بأشكال مختلفة لتضايقها حتى عندما تجلس في مطعم عام، ولتثير حولها الكثير من اللغط والقضايا الفارغة.
وأشهر تلك القضايا كانت حين جلست كريتا تجمع التواقيع لوقف هجوم وحشي إسرائيلي آخر، فسألها صحفي عن عدد التواقيع التي جمعتها فقالت: حوالي ستة ألاف توقيع. فسأل الصحفي: وكم تأملين أن تجمعي؟ فأجابته: ربما ستة ملايين. وهنا أقامت التنظيمات الإسرائيلية "الإرهابية" بكل ما في الكلمة من معنى، الدنيا ولم تقعدها، فنشرت في هولندا ان كريتا كانت تسخر من الملايين الستة من اليهود الذين ذهبوا ضحايا للمحرقة النازية! ولم تنفع توكيدات كريتا على أن الأمر لا علاقة له بذلك, وانه ارتبط بالصدفة بالرقم ستة الاف، فقد دارت وسائل الإعلام تلوك ومضخ "الخبر" الكبير، ولم يعد الحديث عن كريتا يخلو في أية مناسبة من إضافة سخريتها من ضحايا المحرقة النازية!!

ولم تكتف المنظمات الإسرائيلية بذلك فأقامت عليها دعوى قضائية كانت مهزلة القضاء الهولندي، فحين لم يجد القاضي ما يدينها به، قام بـ "توبيخها"!! متجاوزاً كل مفاهيم القضاء في العالم!

لكن شجاعة "فتاة العلم" لم تخنها وبقيت تدافع عن ما تراه صحيحاً، وعن حقها في ان تقول ما تراه صحيحاً. وأذكر أني رأيتها في تظاهرة سابقة تلقي كلمة قالت فيها: "إنهم يتهموني بالتحيز، وأنا أقول نعم أنا متحيزة للحق الفلسطيني، فلست محايدة بين الحق والظلم. أن من حررني من النازية لم يكن محايداً بين المعتدي والمعتدى عليه, وأنا اليوم أيضاً لست كذلك".

وقبل دوازبرخ، أذكر العجوز "خاجو" الذي رأيته في مناسبة سابقة, فتقدمت منه وقدمت نفسي واعلمته أني ترجمت له مقالة كان قد كتبها في صحيفة "تراو" تحت عنوان: "أعمال إسرائيل تذكر بالنازية".
وخاجو من منظمة "صوت يهودي آخر" او هو مؤسسها، وقد ذكر في مقابلة صحفية أن اللوبي الإسرائيلي تابعه وضايقه وهدده كثيراً واتهمه بالخيانة، رغم انه من الناجين من معسكرات النازية! قال انه يفضل ان يتهم بالخيانة على السكوت عن الحق، فإن كانت تهمة الخيانة هي الخيار الوحيد الممكن فلتكن!

ورغم ان قائمة "المرتدين" قد تطول، لكن مرورها دون ذكر السياسي الهولندي الكبير "دريس فان آخت" يعتبر نقصاً يصعب التسامح معه. هذا الرجل الذي وقف مع إسرائيل بقوة خلال رئاسته لحكومتين متتاليتين، صار يعتبر أشد اعداء إسرائيل وسلطت عليه سهام دعاتها وكأنه لم يكن يوماً ذلك الصديق لها. فان آخت قال انه اكتشف الحقيقة حين تحدث مع بعض الفلسطينيين في جامعة بيت لحم عن الأوضاع في البلاد:"عندها أدركت لأول مرة أنني في بلاد محتلة"!

تذكرت كل هؤلاء والتظاهرة الصاخبة تقطع شوارع أمستردام, وبعض النسوة يحيوننا من خلف زجاج شققهم القديمة وآخرين يتفرجون بهدوء، لكن الجو كان ودياً ومنظماً إلى ابعد الحدود، فقد تعلم الأخوة الفلسطينيون تنظيم التظاهرات حتى أجادوها هنا!
دارت التظاهرة لتعود قافلة إلى البارك الذي انطلقت منه حيث نصب مسرح جوال صغير تغني فوق خشبته فرقة أطفال. والقت سيدة تركية تمثل منظمة نسائية تركية كلمة بالمناسبة وكلمة أخرى لناشط هولندي ولم يتخلف صديقي الدكتور الجراح والفنان السياسي الموهوب طارق شديد في القاء كلمته، وهو الذي كان قد ألف خلال فترة قياسية أغنية سياسية عن حذاء منتظر ووضعها على الإنترنيت وترجمها موقع "ينابيع العراق" .

لم تقتصر مواهب طارق على الجراحة وتأليف الأغاني السياسية وغناءها، بل كان رائعاً في خطابه الذي انهاه بمثال قال فيه: "حين أسر الرومان العبيد الثائرين سألوا من منكم سبارتاكوس؟ فتقدم الجميع يقول: "أنا سبارتاكوس" وانا أدعوكم الآن ان تقولوا: "أنا فلسطينيني" بوجه كل من يحاول إنكار الوجود والإنسانية الفلسطينية" فكرر الجمهور خلفه: "أنا فلسطيني، أنا فلسطيني". وكان طارق وصديق آخر قد اتفقا معي في فترة سابقة على محاولة (لم يكتب لها النجاح) لإقامة مشروع لصالح أطفال العراق، وهذان الصديقان يتفهمان مشاعر الشعب العراقي جيداً ويدينان دكتاتورية صدام بنفس الشدة التي يدينان فيها الإحتلال الأمريكي.

إنفضت التظاهرة بسلام تام فلم يحدث أي شيء من قبل المتظاهرين ما قد تستغله الصحافة المتحفزة للإساءة اليهم، لكن طارق أخبرنا عن القاء الشرطة القبض على متظاهرة هولندية كانت تحمل لافتة كتب عليها: "هولوكوست غزة" ثم اطلق سراحها بعد ان تم تفتيشها وتجريدها حتى من ملابسها الداخلية من قبل الشرطة، مما سبب لها حالة صدمة والم شديد.

عدت مع صديقي إلى روتردام وصرخات الفتيان الفلسطينيين وأكثر منهم الفتيات الفلسطينيات ترن في رأسي بهتافاتهم وحماسهم ووطنيتهم الكبيرة ونخوتهم لإبناء بلدهم واحتجاجهم على الظلم الشديد الذي يتعرضون له، والإمتعاض من الصمت الدولي والتواطؤ العربي مع تلك المذبحة المقززة. وبقيت في ذهني أيضاً صورة اؤلئك الذين لا تجمعهم مع الضحايا سوى الوحدة الإنسانية. عدت بمشاعر مختلطة من إحساس بالخوف من عالم يصم أذنه عن صرخات اطفال يذبحون، واطمئنان أشاعته في نفسي تلك الحناجر المحتجة على ذلك العالم والرافضة له، والمصرة على أن لاتدع عالمها ينحدر إليه.


(*) صور من مذبحة غزة: http://www.elfarra.org/gallery/gaza.htm 
 


6 كانون الثاني 2009

 



 


 

free web counter