| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

الأربعاء 30/4/ 2008

 

الليبرالية ثورة عمال سرقتها الشركات وقلبتها على رأسها

صائب خليل

ليس غريباً التعاطف اليساري التقدمي مع اللّيبرالية الداعية الى منع الدولة من التدخل في الإقتصاد، والذي يرنُّ جرساً محبباً لدى اليسار فيخلط الّيبرالية مع الأناركية (القريبة من اليسار)، حيث يفترض مبدئياً أن يقوم الناس بإدارة أعمالهم بلا سلطة دولة، أو أية سلطة اخرى.
لنقرأ مبادئ تلك اللّيبرالية من فم أحد أعمدتها في القرن الثامن عشر، الكساندر فون هومبولت (
Alexander von Humboldt ): "البحث والخلق – هذان هما المركزان اللّذان تدور حولهما جميع نشاطات الإنسان....إن أي شيء لاينطلق من الخيار الحر للإنسان، بل كان نتيجة الإستجابة للتعليمات والقيادة، سيبقى غريباً عن طبيعته الحقيقية. إن الإنسان لن ينفذ تلك النشاطات بطاقات إنسانية حقيقية، وإنما بدقة ميكانيكية فحسب". ومن هذا يستنتج هومبولت ضرورة تحرير العمل من تدخل الدولة ليأخذ شكله الطبيعي.
هذا الطرح قريب جداً مما قاله كارل ماركس الذي ولد بعد نصف قرن: " يشعر العامل بتغريب عن عمله، عندما يكون هذا العمل نتيجة أمر خارجي بالنسبة للعامل (...).وليس جزءاً من طبيعته، وهذا لايتيح للعامل أن يفخر بعمله بل ان يتنكر لنفسه فيه....ويجعله مرهقا ً جسدياً وهابطاً ذهنياً".

كذلك فأن موقف ماركس من الدولة ليس غريباً ابداً عن موقف اللّيبرالية الرافض لها. يكتب محمد الزبيدي في الحوار المتمدن أن ماركس عندما ناقش مسألة الدولة رأى:
"أولاً: أن الدولة لم تنشأ مباشرة مع نشوء المجتمع البشري. وإنما ظهرت في مرحلة محددة من مراحل تطور هذا المجتمع، عندما انقسم إلى طبقات متناحرة مع ظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وظهور مستثمِرين ومستثمَرين. وبالتالي، كان لا بد للمستثمِرين من أداة تحافظ على مصالحهم، وكانت هذه الأداة هي الدولة (.....)
ثانيا: بما أن الدولة لم تكن موجودة في ظرف تاريخي محدد، وأن وجود المجتمع البشري قد سبق وجود الدولة، وأن عدم وجود طبقات اجتماعية متناحرة في المجتمع، ينسف أساس وجود الدولة، كما كانت الحال في المجتمعات المشاعية، فإن الدولة إذا، هي ظاهرة تاريخية مشروطة بظروف محددة، وتضمحل هذه الدولة بزوال هذه الظروف، أو، الشروط. أي، إن وجود الدولة ليس عملية مطلقة.
ثالثا: لقد رأى ماركس، أن الدولة كانت سمة للمجتمعات الطبقية، بدءًا من مجتمع الرق، وانتهاءً بالمجتمع البرجوازي، وأن هذا المجتمع هو آخر المجتمعات الطبقية، وسيأتي بعده المجتمع الشيوعي الخالي من الطبقات، والقائم على أرضية قوى منتجة عالية التطور، وستزول آنذاك الدولة(ستضمحل)، وسيحل محلها أشكال من التنظيم الاجتماعي العالي المستوى، لم يتحدث عنه ماركس بالتفصيل. تلك هي باختصار نظرية ماركس عن الدولة. (1)

إذن فموقف الماركسية من النقطتين الجوهريتين من أهداف اللّيبرالية في العمل والدولة، موقف يكاد يكون متطابقاً ويبرر كل الحماس اليساري للتحالف مع اللّيبراليين. لكن.من الناحية الأخرى، يدرك اليساريون أن اللّيبرالية الجديدة الحالية متمثلة بأحزابها السياسية في كل مكان، تضغط باستمرار باتجاه "أمركة" علاقات العمل وتقليص الضرائب وخصخصة المؤسسات والشركات الحكومية، وإعطاء الشركات صلاحيات إضافية وتحريرها من التزامها بشروط البيئة وتأمين العمال وضمانهم. الأحزاب اللّيبرالية هي التي تدفع دائماً باتجاه الغاء الدعم عن المواد الأساسية في دول العالم الثالث, وهي التي تدفع باتجاه تسهيل قوانين الطرد من العمل (تحت اسم "مرونة العمل") وإلغاء النقابات، وهذه كلها تصب في إتجاه معاكس تماماً لكل أهداف اليسار الإجتماعية، وتصوراته للمستقبل.

من هذا يقف اليسار موقفاً مضاداً صريحاً، ويسعى في هذه المرحلة إلى الدفاع عن مكتسبات الناس في علاقتهم مع الشركات. هذا "الدفاع" أثار تساؤلات في الغرب عن تحول اليسار من عنصر تغيير إلى عنصر محافظ. لكن هذه المقالق سخيفة ببساطة لأن هدف اليسار ليس التغيير بل التقدم نحو علاقات أكثر إنسانية، وعندما تكون الحركة الوحيدة الممكنة هي التراجع، فإن المحافظة والثبات تكونان جهداً تقدمياً بالضرورة.

لا يدرك المراقبون لأوروبا من خارجها ـ حتى اليساريون منهم ـ دور اليسار في خلق بلد الرفاه الإجتماعي الرحيم بأبنائه، المحترم لقيمتهم حتى في الدول الرأسمالية الأوروبية، فيتصورون أن الفضل في ذلك يعود إلى إنجازات الشركات الرأسمالية وحدها. والحقيقة هي أن الشركات قدّمت الثروة من خلال الإنتاج الغزير (والسرقات أيضاً) بينما أصرّ اليسار الأوروبي على توزيعها بشكل يضمن الحد الأدنى من الإنسانية والحقوق للجميع. وهكذا ترى فرقاً واضحاً بين مجتمع أوروبا الغربية ومجتمع الولايات المتحدة حيث سحق اليسار بعنف أكبر. إنه نفس الفرق في دول العالم الثالث بين تلك التي تمكن اليسار من أن يضع بعض بصماته على سياستها وبين التي استسلمت لرأسمالية وحشية كاملة.

وما أن يحقق اللّيبراليون انتصاراً ليبرالياً في بلد ما حتى تسارع الشركات في البلدان الأخرى للمطالبة به. قبل بضع سنوات ثارت ضجة في هولندا موضوعها ضغط الشركات على النقابات بقبول العمل ساعات إضافية بدون أجر. وكانت حجة الشركات والأحزاب اللّيبرالية التي تدعمها أن هذا الإجراء ضروري لأن الشركات المنافسة لهم في بلدان اخرى مثل امريكا وبريطانيا تفعل ذلك وتقلل كلف إنتاجها، واننا إن لم نسر في نفس الطريق فإن مصيرنا إغلاق شركاتنا. وبالفعل قبل العمال في بعض الشركات المهددة بهذا التنازل الذي يعود بحقوق العمال قروناً الى الوراء حين ثبتوا عدد ساعات يوم العمل بثمان ٍ. المهزلة كانت واضحة عندما حاول بنك (
ABN-AMRO ) أن يستفيد هو الآخر من مثل هذه الإجراءات، رغم انه كان قد حقق ارباحاً قياسية ذلك العام ولم يكن هناك اي تهديد اقتصادي له، وهو ما دفع النقابة الى رفض أي مناقشة للموضوع رفضاً قاطعاً، فتراجعت الإدارة في النهاية.

نتيجة هذه الضغوط على العمل والأجور ظهر لأول مرة في التأريخ الحديث لهولندا ما يسمى بـ"الفقراء العاملين"، وهو مفهوم غريب على البلاد التي اشتهرت بأن حتى عاطليها عن العمل يحصلون على ما يكفيهم. هؤلاء "الفقراء العاملون" صاروا ينافسون العاطلين عن العمل في استجداء حصة أغذية تموينية مجانية تقدمها مؤسسات انسانية تعتمد على التبرعات، وهو أمر لم يكن احد يتخيل امكانية حدوثه في هولندا قبلاً!

كيف تحول هذا الإنسجام في المبادئ السابق ذكره بين اليسار واللّيبرالية الى هذه النتائج المؤلمة التعارض؟ كيف تحولت اللّيبرالية من داعية إلى أنسنة العمل لتصبح اقوى دعاة وحشيته وغربته عن الإنسان العامل؟

في محاضرة له عام 1970 طبعت فيما بعد بشكل كتيب بإسم "حكومة المستقبل" (2)، يرى جومسكي أن "أفكار اللّيبرالية الكلاسيكية في روحها مضادة للرأسمالية بشكل أساسي، رغم أن تطورها سار باتجاه اخر، أي بالإتجاه الرأسمالي. فالدارس لروح تلك المبادئ الأولى يرى أنها كانت تهدف بالفعل إلى تحرير الإنسان لتمكينه من أن يقوم بعمله إنطلاقاً من طبيعته المحبة للإكتشاف والإبداع . وفي ذلك الوقت كان المعرقل الرئيسي لهذا الهدف هو سلطة الحكومة التي تفرض على الفرد العمل كما تشتهي هي، ولذا اعترضت اللّيبرالية على تدخل الحكومة.
لم يكن يخطر ببال هومبولت قبل قرنين وربع أن الشركات ستتطور بهذا الشكل وتصبح لها سلطة مخيفة بهذا الحجم الذي يزيد على سلطة الكثير من الحكومات، وأن أحلامه التي كان مؤمناً بها من عدالة الظروف وتساوي الفرص سوف تتحطم على ارض واقع علاقات العمل الرأسمالية وأن أي تقدم تجاه تلك الإهداف لن يتحقق بل ان العالم سيبتعد عنها أكثر فأكثر. إضافة إلى تضاعف سلطة الشركات فإن أيديولوجية الرأسمالية في تحقيق أعلى الأرباح بأي ثمن، هو أكثر قسوة وضغطاً على العمال من الحكومات إلا أشدها تطرفاً. فالحكومات، رغم بعض آثارها السلبية التي لاتنكر على كفاءة الإنتاج، لا تجد عادة في تحديد ساعات العمل وتحسين ظروفه والحفاظ على البيئة، تهديداً لها وعراقيل يجب إزالتها كما تفرض أيديولوجية الربح الأقصى للشركات مثلاً.

لم يكن ممكناً أن تحقق الرأسمالية طموحات اللّيبرالية في تحرير الإنسان من العمل الإستعبادي، لأن الرأسمالية تعامل العمل، وبالتالي العامل، كـ "سلعة"، فكيف نتوقع ممن يعامل الإنسان هكذا أن يهتم براحته وطبيعته؟ يقول "بولانيي": ليس للسلعة أن تقرر أين يجب أن يتم عرضها للبيع، ولأي غرض يجب أن تستعمل، وبأي ثمن يمكن تبادلها، وبأية طريقة يتم استهلاكها او إتلافها".

لقد كان هدف اللّيبرالية الأول هدفاً نبيلاً هو تحرير عمل الإنسان من أي معيق ليصبح سعيداً بالعمل الحر المبدع المنسجم مع طبيعته الخلاقة، فاستغلت الرأسمالية هذا الشعار لإسقاط الإنسان بين براثن سلطتها الأكثر جوراً وقسوة، فكان الإنسان حين علق آماله في العمل على اللّيبرالية، وسمح بإضعاف دور الحكومة ليسقط تحت رحمة الشركات، كمن استعان على الرمضاء بالنار!

لقد عبّر شارلي شابلن بعبقرية عن علاقة الإنسان بالعمل في ظل الرأسمالية في فلمه "الأزمنة الحديثة" حيث يتحول الى آلة تقوم بحركات ميكانيكية متتالية بعيدة عن أي "خيار حر للإنسان" كما أمل هومبولت، بل ان الآلة كانت تدور لتعصره بين أسنانها وتحول إنسانيته الى عجلة من عجلاتها الدائرة بلا توقف. إن ما تدفعنا "أللّيبرالية الجديدة" اليوم بعزم وإكراه نحوه من حرية الشركات في إستغلال العاملين فيها، هو بالضبط هذا الكابوس الذي كان آباء اللّيبرالية ومؤسسوها يسعون الى إنقاذ الإنسان منه.

لذا يقف الطموح اللّيبرالي الجديد اليوم بالضّد تماماً من طموحات اليسار ويناصبها العداء ويسعى بتصميم لاهوادة فيه ليس فقط إلى حرمان العمال والموظفين من أي تطوير في علاقة العمل لصالحهم، بل إنتقل تدريجيا وعالمياً إلى الهجوم على ما حققوه من مكاسب خلال القرون الماضية، مستعيناً بما تمده العولمة من أسلحة إضافية. لذلك من الضروري أن يرى اليسار بوضوح تلك التغيرات في خارطة أصدقائه وأعدائه ليتخذ الموقف المناسب لمبادئه ورؤيته. ففي الوقت الذي مازال هناك بعض التقارب بين اليسار واللّيبرالية فيما يتعلق بالديمقراطية السياسية والحداثة فإن الهوة بينهما في النظرة الإقتصادية لايمكن ردمها إلا على جثة مبادئ اليسار. إن التقارب والتعاون في مجال النظرة الإقتصادية مستحيل تماماً بين اليسار واللّيبراليين الجدد، اللهم إلآ بشكل "وقف لإطلاق النار" بين جيشين في خندقين متقابلين، لتقليل الخسائر، لكن ايحاء أي طرف لجنوده بأن ذلك يعني أنهم اصبحوا أصدقاءً مع الطرف الآخر أو مؤتمنين منه، خطأ قد يكون قاتلاً.

على اليسار العراقي وفي المنطقة، أن يدرك هذه التفاصيل بوضوح حين يتحرك بين المطبّات في علاقاته السياسية، وأن يحاول جهده في تحقيق أكبر تنسيق ممكن في المجال الإقتصادي مع أية قوى بعيدة عن اللّيبرالية، حتى لو كانت قومية او دينية كما حدث بنجاح كبير في اميركا الوسطى والجنوبية. وله كذلك أن يجهد في التنسيق مع اللّيبراليين فيما يتعلق بالحداثة والديمقراطية، وفي كلتا الحالتين، دون أن يشوش خلافاته الأساسية مع أيّ منهما، أو يعطي أي انطباع بتبعيته لحلفائه هؤلاء أو التخلي عن خصوصيته. فكل شعب يحتاج الى أن يرى يسارييه دائماً وفي مكان واضح ومميز. فهم القادرين، بإنسانيتهم وغيريتهم وأيضاً بوضوح رؤيتهم، مهما كانوا ضعفاء، على إعطائه الأمل والثقة اللازمين لعبور الكوارث وإنقاذ مستقبله وبشكل خاص في الليلة الظلماء حين يفتقد البدر والبوصلة.

(1) محمد الزبيدي: هل سقطت موضوعة الدولة لماركس أم أنها لا تزال حية؟
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=122337

(2) موجز كتاب جومسكي: حكومة المستقبل (بالإنكليزية)
http://freethoughtweekly.blogspot.com/2006/06/book-review-government-in-future-by_09.html


30 نيسان 2008

 



 



 


 

Counters