| الناس | الثقافية |  وثائق |  ذكريات | صحف | مواقع | للاتصال بنا |

موقع الناس .. ملتقى لكل العراقيين /  ديمقراطي .. تقدمي .. علماني

 

 

صائب خليل
s.khalil@chello.nl

 

 

 

السبت 28/6/ 2008



لم الفزع من رفض المعاهدة؟
(3-
3)

صائب خليل

الدكتور عبد الخالق حسين ونظرية "الإستعمار الضرورة"!
رغماً عني، شاهدت قبل ايام في قناة الجزيرة – الإتجاه المعاكس – وكانت مجادلة بين ممثل السفارة الأمريكية في العراق وبين البعثي صلاح المختار...الأمريكي يتحدث بهدوء وثقة كأي غربي، وقد وضع خلفه علمي العراق وأميركا، وصلاح يجلس باعوجاج ويتحدث كأي صدامي...في تقديري لم يكن هناك أية أهمية لمن "يكسب" النقاش، فبغض النظر عن رأي المشاهد في نتيجة هذا النقاش، فأن الرسالة ستصل إلى عقله اللاواعي: "أما المعاهدة أو شلاتية البعث!" ولا شك عندي أنه كان القصد من البرنامج.
إنها واحدة من بضعة نغمات أساسية لمروجي المعاهدة، ولايشذ الدكتور عبد الخالق حسين عن ذلك حين يكتب"لولا أمريكا لبقي النظام البعثي جاثماً على صدور العراقيين إلى مستقبل غير منظور."(1)
إنها حقيقة، لكن ذكرها والسكوت عن الباقي يتطلب ان تكون لنا ذاكرة قصيرة تتيح لنا أن ننسى حقيقة أخرى أكبر منها هي أنه "لولا أمريكا لما جثم نظام البعث في العراق أصلاً" باعتراف قيادات بعثية، مثلما يعرف د. عبد الخالق ذلك أفضل من غيره، كما لاتدع مجالاً للشك قراءاته وكتاباته، القديمة منها على الأقل.

إضافة إلى إنتقائية الذاكرة الضرورية للدفاع عن موقف لايمكن الدفاع عنه بحيادية، يحتاج المدافعون عن الإتفاقية الأمريكية إلى إقناعنا بهول المخاطر التي تحيط بالعراق. يقول دكتور عبد الخالق: "هناك تكالب مسعور على العراق من بعض دول الجوار، ويمكن أن يقع عليه العدوان الخارجي في أي وقت"! إنه يتحدث وكأن لديه معلومات سرية عن هجوم وشيك! عبارته "يمكن أن يقع في أي وقت" تذكرنا بأكبر كذاب في تأريخ بريطانيا الذي قال إن صدام لديه أسلحته للدمار الشامل جاهزة للضرب خلال 45 دقيقة!

أرجو أن لا يعتبر القراء مقارنتي الدكتور عبد الخالق ببلير إهانةً للأول ، فحسب تقديري فإن الدكتور حسين سيعتبرها شرفاً له فقد قال عن بلير بأنه "سيكتب التأريخ اسمه بمداد من ذهب"! (2*). لانعرف من هو "التأريخ" المقصود لكنه بالتأكيد لن يكون التأريخ الذي سيكتبه مواطنوه. فلدى البريطانيين ارتبط اسم هذا الرجل بالكذب والتملق، واعتبره شعبه "كلب بوش" الذي يتبعه مهما اعترض البريطانيون.
هذا الذي يخجل منه أبناء وطنه قد: "أنقذ الشعب العراقي... كما أنقذ شعوب البلقان وتيمور الشرقية من قبل" كما يرى د. عبد الخالق. البريطانيون كلهم واهمون برأي د. عبد الخالق فـ "لم يكذب بلير حول ملف أسلحة الدمار الشامل كما يدعي البعض. بل هذه هي المعلومات التي وفرتها له الاستخبارات البريطانية والأمريكية"!
لا اتصور أن متابعاً بقي لايعلم أن بوش وتابعه بلير وحكومتيهما هما اللذان كانا يدفعان استخبارات بلديهما لتقديم حقائق مصطنعة لتبرير الحرب وليس بالعكس. أخيراً يقول د. عبد الخالق عن الرجل الذي اضطر بضغط من حزبه إلى ترك منصبه قبل نهاية فترة حكمه لشدة ما تسبب به من ضرر لسمعة حزبه، ولكي يعطي الحزب فرصة كافية لخليفته لمسح ذكراه من أذهان الناس ومحو ارتباطها بالحزب قبل الإنتخابات القادمة، ..عن هذا يقول د. عبد الخالق: "لقد تقاعد توني بلير مرفوع الرأس مكرماً ومعززاً "!
لو كانت هناك مسابقة لقلب الحقائق لما استطاع احد ان ينافس د. عبد الخالق في الفوز بها !

المعارضة للمعاهدة تأتي من إيران
مثل "مثال الآلوسي" وكروكر ينسب د. عبد الخالق حسين المعارضة العراقية للمعاهدة بشكل رئيس إلى إيران مكرراً ما قاله السفير الأمريكي: "والأهم من كل ذلك، أن الجهة التي تقود جوقة المعارضة، وتصعِّد الصراخ والعويل ضد هذه الاتفاقية هي إيران بعد أن أعطت الإشارة إلى أقدامها الاخطبوطية الممتدة في البلاد العربية، جيش المهدي في العراق، وحزب الله في لبنان، وحماس في غزة." (2) غاضاً النظر عن حقائق هامة آخرها خبر تازة عن رفض المؤتمر الآشوري العام للمعاهدة وضم صوته إلى معارضيها (3)، ثم أن الجهات الأقرب إلى إيران هي الأقرب إلى تأييد المعاهدة حتى ضمن الطيف السياسي الشيعي، والعكس صحيح،... وما أكثر ما يكون "العكس صحيح" في مقالات الدكتور حسين!
لايستطيع المرء أن يجعل من الخصم صديقاً ومن المهاجم رجل سلام دون قلب المنطق والتأريخ، ويستمر حسين في منطقه المقلوب فيقول: "هناك تاريخ من العدوان يمتد إلى خمسة قرون عندما اتخذت الدولتان، إيران الصفوية، وتركيا العثمانية، من العراق ساحة لحروبهما واستعماره على التناوب لقرون، وإثارة الفتن الطائفية فيه إضافة إلى أطماع دول الجوار الأخرى مثل سوريا البعثية. فالعراق مهدد من قبل هاتين الدولتين الآن كما كان مهدداً في السابق، ولهذا فمن مصلحة العراق أن يرتبط باتفاقية أمنية مع الدولة العظمى، أمريكا، لحمايته من أعدائه التاريخيين والجدد".
طبعاً "سوريا" التي لاتحبها أميركا وإسرائيل هي التي ينصبها د. عبد الخالق كـ "أعداء العراق الجدد" أما الدول التي قضمت كل منها قطعة من أرض العراق ومازالت آثار اسنانها واضحة على الحدود لمن يقارن خارطة العراق في السبعينات والتسعينات فليسوا كذلك: هم أحباب أميركا لذلك فهم "طيبون" بالضرورة. أما "أعداء العراق التأريخيون" فطبعاً إيران وربما تركيا، ولست أفهم أي سبب خاص لهذا الإعتبار، فلم يكن العراق "امبراطورية" لتناصبها تلك الأمبراطوريتان العداء المعتاد، بل أن كلا منهما اعتبرته جزءً منها يوماً، وإن كان ساحة لحروبهما فلأنه يقع على حدودهما ولا يعقل أن يتفقا على القتال في قبرص لإبقاء العراق بعيداً عن حروبهما!
يمكننا اعتبار كلا من تركيا وأيران أعداء "تأريخيين" لبعضهما كما هي العلاقة بين فرنسا وبريطانيا، فصفة "العداء التأريخي" لاتصح إلا بين طرفين لهما وزن متقارب تأريخياً، ومع ذلك فليس هناك من يعلق في العالم إهتماما على "العداء التأريخي" كما يفعل د. عبد الخالق بل يركزون على علاقات حاضرة سليمة كما تفعل كل من فرنسا وبريطانيا وإيران وتركيا..الحقيقة المزعجة للدكتور عبد الخالق هي أنه من الصعب إتهام أي من هاتين الدولتين بالإعتداء على أية دولة "منذ قرون"، وأكثر منها إزعاجاً هي أن من لديه تأريخ "يمتد" خمسة قرون من الإعتداءات بالضبط، ليس سوى أميركا، كما يعبر عنه عنوان كتاب جومسكي الشهير:" 501 عاماً والغزو مستمر" يشرح كيف زرعت بلاده خلالها الأذى في كل متر وصلت إليه من الأرض. وحتى حين ارتكبت هاتان الدولتان أعمالاً "عدائية" مثل التجسس على جارهما السوفيتي ونصب الصواريخ ضده، فقد حدث بشكل رئيسي حين كانت حكومتاهما تحت التأثير الأمريكي خاصة بالنسبة لإيران التي أعادة لها أميركا حكم الشاه الوحشي بعد انقلاب مصدق وحكمه البرلماني، وقد نمت الديمقراطية في كل منهما بعد زوال حكومتيهما شبه العميلة لأميركا.
يعاني المروجون من الصعوبة في حشر قائمة المعارضين بالعمالة لإيران والأجانب و"فلول البعث"، لسعتها وتنوعها، لذا يقول الدكتور حسين: "المعترضين على الاتفاقية ليسوا أجانب فقط، بل وحتى من قبل بعض (!) العراقيين."
لهذه الظاهرة "العجيبة"، ظاهرة إختلاف "بعض" العراقيين عما يراه يجد الدكتور حسين تفسيراً مبدعاً هو أن العراقيين "أدمنوا معارضة الحكومة"! وهنا اجدني اقف على رأسي ثانية لأرى ما يرى الدكتور حسين، فأنا اعتقد أن العراقيين أدمنوا "عدم الإعتراض على الحكومة" وكثيرا ما يسكتون حتى حين يتوجب الإعتراض، لأنهم تربوا تحت تأثير الدكتاتورية حيث يكلف فتح الفم كثيراً, وأرى إننا يجب أن نعيد تربية أنفسنا لنجرؤ أكثر على الإعتراض كما يفعل الغربيون وكما فعل الكوريون الجنوبيون حين تظاهروا قبل أيام على قرار حكومتهم استيراد اللحوم الأمريكية على الضد من رغبتهم، وليس من أجل أن نكون أكثر أدباً تجاه حكومتنا. فإذا كان العراقيون مدمني اعتراض، فلا شك أن د. حسين يرى أن الغربيين الكوريين "محششي إعتراض"!
لدى د. حسين قاعدة تساعده على تقييمه للأشياء يشرحها لنا هنا: "أما اعتراضات إيران على الاتفاقية، فهي الشهادة على أن الاتفاقية في صالح العراق، فلو كانت ضد العراق لصفقت لها إيران وكل الدول العربية." إنها قاعدة تصور الأمر وكأن إيران وكل (!) الدول العربية متفقة بينها، وأنها ليست لأي منها مصالح خاصة توجه مواقفه ولا ضغوط تحددها، وإنما توجه جهود دراستها إلى العراق، فإذا كان الأمر ضارا له، أيدته, وإن كان مفيداً عارضته! يا لها من قاعدة بسيطة تعفينا من التفكير وتغنينا عن كل هموم حسابات العقل والمنطق: ننتظر إيران و(كل) الدول العربية لتتخذ موقفاً فنذهب مطمئنين بالإتجاه المعاكس حيث الخير. المشكلة هي إذا اختلفت إحدى الدول العربية أو إيران في موقفها عن "الإجماع العربي الفارسي" المتفرغ لأذية العراق، فماذا نفعل؟ والمشكلة الثانية هي أنه لو أن غالبية العراقيين صدقوا قاعدة الدكتور حسين لسهل على إيران خداعهم بتأييد ما فيه خيرهم، ولو تظاهراً، ليسيروا إلى ما فيه شرهم، فتحقق إيران أسمى اهدافها!

...لا أجد وصفاً لهذا المنطق .. يصلح للكتابة!

السيادة
عندما يقول أحدهم في العراق: "الله لايجعلها غيبة" يعلم مستمعوه أنه يحضر لـ "غيبة" كبيرة! وكذلك حين يبدأ أحد مؤيدي المعاهدة حديثه بالقول بأنه حريص على السيادة، نعلم أن عاصفة هجومية قادمة ضد السيادة. الدكتور عبد الخالق حسين قال أولاً:"بالطبع ليس هناك أي عراقي مخلص لبلاده وشعبه، لا يحرص على السيادة الوطنية" ثم الحق كلامه، كما هو متوقع تماماً، بهجوم طويل وعنيف على "الوطنية" و "السيادة" التي يحرص عليها المخلصون لبلادهم وشعبهم (1)

هاهو يشن حملة للإساءة الى كلمة "السيادة" وكأنها مسؤولة عن كل ما ارتكب باسمها: "ففي ظل تلك السيادة الوطنية العراقية في عهد صدام كان الشعب العراقي محروماً من ثرواته.... وفي ظل تلك السيادة الوطنية أحال النظام البعثي أرض العراق إلى أكبر مقبرة جماعية، وأكبر سجن لشعبه، حيث قتل منهم نحو مليونين في حروبه الخارجية والداخلية، مثل الأنفال وحلبجة، إضافة إلى الملايين من الأرامل والأيتام والمعوقين، وتشريده خمسة ملايين من العراقيين إلى الشتات. فهل حقاً كان العراقيون يتمتعون بسيادة وطنية كاملة، أم كان وطنهم مقبرة جماعية للأحياء منهم والأموات على حد سواء؟ وفي هذه الحالة البائسة، ما قيمة هذه السيادة إن وجدت للمواطن؟"... " كما وأذكِّر الأخ القارئ، أن كرامة الجندي العراقي كانت مهانة والسيادة العراقية منتهكة في عهد حكم البعث أكثر من أي وقت آخر في تاريخ العراق، فقد أهينت كرامة العراقي بفظاعة في عهد "القائد الضرورة" صدام حسين".

هكذا يخلط د. عبد الخالق الحابل بالنابل فيصور الأمر وكأن "السيادة الوطنية" هي التي كانت تقود البلاد (" ففي ظل تلك السيادة الوطنية") وأن ما حدث من كوارث كان نتيجة لتلك القيادة، ليتساءل:"ما قيمة هذه السيادة إن وجدت للمواطن؟". وطبعاً لاقيمة لها ولكن... كالعادة من المفيد أن نطبق قاعدة أن نقلب ما يقال لنرى إن كان سيصبح أكثر مصداقية، وهي كذلك في الكثير جداً مما يكتب د. عبد الخالق. الحقيقة هي أن تلك السيادة لم تكن موجودة، ولو كانت لما سمح الشعب لأحد أن يسلبه ثرواته وأن يدمر حياته. الحقيقة البسيطة هي أن السيادة كانت مستلبة من قبل الدكتاتورية, واليوم يدعو د. عبد الخالق لأن نسلمها إلى الإحتلال، باعتبار أنها لم تكن في يد أمينة مع الدكتاتور، وكأن سيادة الشعب والوطن يجب أن تكون في يد أحد ما، على أن لايكون الشعب نفسه، وبما أن الكرامة انتهكت سابقاً فلا تثيروا الكثير من الضجيج عليها اليوم!
إنه يذكر العراقيين بمذلتهم السابقة "في حرب تحرير الكويت من احتلاله الغاشم، عندما ركع الجندي العراقي على بسطال (جزمة) الجندي الأمريكي في الصحراء السعودية، وهو في حالة يرثى لها من عذاب وذل وهوان" لينتقل بلا خجل إلى الإستنتاج الغريب: "نعم جاء الجنود الأمريكان فخلَّصوا هذا الجندي والشعب العراقي من ظلم وجور الفاشية"!
لانتوقع من د. عبد الخالق أن يحدثنا عن الحقيقة البسيطة وهي أن تلك المهانة كانت بين الدكتاتورية والأمريكان حيث شكلوا كماشة مرعبة سقط المواطن العراقي والجندي العراقي بين فكيها وذاق بسببها أشد الهوان، ولم يكن أي منهما بريئا من تلك الجريمة الشنيعة! و لا ينتظر من د. عبد الخالق طبعاً أن يتذكر مئات العراقيين والعراقيات الذين انتهك الامريكي كرامتهم وحتى أعراضهم في سجن أبو غريب وباقي سجون الاحتلال، ولا يوجد لعبير وعائلتها أي مكان في ذاكرته الرائعة!
ولكي يشجعنا د. عبد الخالق على التخلي عن السيادة "السيئة" يضرب لنا أمثلة مشجعة قائلاً: "فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك 27 دولة أوربية تخلت عن الكثير من سيادتها الوطنية، وانضمت إلى الوحدة الأوربية لأنها وجدت بالتخلي عن جزء من سيادتها الوطنية تحقيق مصالح اقتصادية وأمنية أكثر لشعوبها.... ولحد الآن تخلت 12 دولة من أعضاء الاتحاد الأوربي عن عملتها التي هي رمز سيادتها الوطنية ودولتها القومية، وتبنت اليورو كعملة موحدة لهذه الدول. وأنا واثق أن في نهاية المطاف لا بد وأن تتخلى جميع دول الوحدة الأوربية عن عملتها الوطنية وتتبنى اليورو. فعن أية سيادة نتحدث بعد كل هذا؟"

أن تشبيه المعاهدة الأمريكية المزمعة مع اتفاقيات الإتحاد الأوربي لايزيد في منطقه عن اضحوكة مشهورة لدى مروجي المعاهدة هي تشبيه العراق باليابان والمانيا اللتين ينتظر إن تحولنا تلك المعاهدة إلى مثال لها! ألإتحاد الأوربي إتحاد طوعي بين دول متجاورة (نسبياً) ومعظمها متقارب الحجم والقوة وله أهداف تطوير ذاتي لدوله وليس له طموح للسيطرة على العالم، ومع ذلك فقد اعترض الكثيرون على "نقص السيادة" الذي يمكن أن يتسبب به فرفضه الهولنديون وبضعة آخرون مما عرقل تكوينه وتطوره حتى اليوم. وحتى في اليورو الموحد حرصت هذه الدول على رمز لسيادتها فيورو كل دولة يختلف مع الباقين في ما يوضع عليه من نص وصورة رغم أن قيمته واحدة. فاليورو الهولندي مثلاً يحمل صورة ملكة هولندا وكذلك تحمل بقية يوروات بقية الدول رموزاً خاصة بها. الطريقة التي صمم بها اليورو جعلته رمزاً لحرص الدول على عنوان سيادتها حين تضطر إلى ما قد يوحي بالتخلي عنها!

يرى عبد الخالق أن جرائم الجيش الأمريكي المتكررة على المواطنين العراقيين أنها مجرد " تجاوزات"..."قد تحصل بين حين وآخر من قبل بعض الجنود الأمريكان ضد العراقيين، ولكن نسبة هؤلاء قليلة جداً، ويعاقبون بشدة بفضحهم من قبل الأمريكان أنفسهم، وتقديمهم للمحاكم العسكرية الأمريكية، بينما الغالبية العظمى من الجيش الأمريكي في علاقات طبيعية بناءة مع الشعب العراقي، يخوضون حرباً ضروساً ضد الإرهاب دفاعاً عن سلامة العراقيين وأمنه".
يا للأثرة الرائعة...لا أدري لماذا إذن تريد غالبية ساحقة من العراقيين خروج هذا الجيش الأمريكي الذي يضحي من أجلهم بحياته ويتمتعون مع غالبيته بـ "علاقات طبيعية بناءة"، بل أن نصف العراقيين يؤيد العمليات العسكرية ضده!

إن وصف جرائم ألجنود الأمريكان ضد المواطنين العراقيين بـ "التجاوزات" يدل على مدى احترام د. عبد الخالق لهؤلاء المواطنين وكرامتهم، أما "العقوبات الشديدة" التي يحصل عليها الجنود الأمريكان بسبب تلك "التجاوزات" فنطالع أمثلة لها بين الحين وألآخر ولعل هذه كانت آخرها: (4)، مذكراً بأن كلمات وتعابير د. عبد الخالق لها مشابهات في التأريخ:
"ما يسمى اساءة المعامله والتعذيب في مراكز الاعتقال ، والقصص التي نشرت في كل مكان في صفوف الشعب ، وفيما بعد من جانب السجناء الذين افرج عنهم، لم تكن، كما افترض البعض، قد حدثت بشكل منهجي، بل كانت تجاوزات إرتكبها بضعة افراد من حراس السجن والمساعدين ورجال تصرفوا بقسوة مع المعتقلين"
(
رودولف هوس قائد الـ "إس إس" النازي في معسكر اعتقال اوشفيتز)

القبول والرفض دون قراءة
أسوة بغيره من مروجي المعاهدة ينتقد الدكتور عبد الخالق "معظم كتاب هذه المقالات (الذين) شنوا عليها هجوماً عنيفاً مع اعترافهم بعدم إطلاعهم عليها" و منهم " الدكتور علي علاوي في نفس الصحيفة (نشر) مقالاً، مع اعترافه بعدم إطلاعه على الاتفاقية، (إدعى) أنها تهدد استقلال العراق وسيادته الوطنية، لأنها تشبه، على حد قوله، معاهدة عام 1930".
ويقول "وكالعادة في مثل هذه الحالات، دخلت وسائل الإعلام العربية على الخط، فهي الأخرى ضد الاتفاقية ولأسباب مختلفة، ورغم جهلها ببنودها".
وفي مقالة أخرى يكرر.."الملاحظ أن معظم الرافضين للمعاهدة الاستراتيجية المزمع عقدها بين العراق وأمريكا، رفضوها منذ الوهلة الأولى لمجرد سماعهم بها، حيث بدؤوا حملة جمع التواقيع عبر البريد الإلكتروني والانترنت احتجاجاً ضدها."
لنفاجأ بعد كل هذا باعترافه يقول: " قال البعض من المعترضين على الإتفاقية، وحتى بعض الأصدقاء الذين يشاركونني الرأي في ضرورتها، أني وقعت في نفس المطب الذي وقع فيه المعارضون، وذلك لأني أيدت الاتفاقية دون الإطلاع على بنودها"!!

يدافع د. عبد الخالق عن موقفه مستشهداً بمدافع عنه "أن الكاتب لم يقف مع اتفاقية لم يقرأ بنودها.. إذ يعرف القاصي والداني بان دول الجوار دون استثناء لا تريد للعراق أن يكون فيه أمن و استقرار، لأنها تعتقد بأن أمن العراق واستقراره يهدد مصالحها القومية والقبلية..الخ" ليضيف "أود أن أقول أني أيدت الاتفاقية حتى قبل قراءتها بناءً على ما أعرفه من تاريخ أمريكا في عقدها اتفاقيات مماثلة مع اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها، حيث لم تفرض أمريكا معاهداتها على تلك الدول بما يسئ إلى استقلالها وسيادتها. وفي جميع الأحوال، كانت الدول تلك هي المستفيدة أكثر."
إذن كان تأييد ودفاع عبد الخالق عن المعاهدة نتيجة ثقة عمياء بطيبة أميركا، وثقة عمياء أخرى بشر دول الجوار، فليس مهما بعد ذلك ما يكتب في المعاهدة. د. عبد الخالق مستعد للتوقيع على بياض!

لكن من الأمانة أن نشير إلى أن لدى د. عبد الخالق من الشجاعة أن يعترف "بقبوله لنفسه ما ينكره على الآخرين" فيحق له أن يحكم على الإتفاقية انطلاقاً من حكمه على المقابل، دون أن يمنح هذا الحق للمختلفين معه، وهو التعريف الرسمي للنفاق. لكني أجد ما قاله مبرراً مقلوباً هو الآخر، فسمعة دول الجوار مهما كانت ليست بوساخة سمعة الولايات المتحدة وتأريخها في الأذى ليس بغنى تأريخ الولايات به, ولا بأي شيء قريب منه، ولا غرابة أن جميع هذه الدول وقعت الإتفاقات في ظروف احتلال وضيق ففرضت أميركا عليها النظام السياسي القادم كله ومن هي الجهات التي يسمح لها أن تشارك في الحكومات، وتراوحت الضغوط بين التهديد بالتجويع وبين التآمر العسكري بالإستفادة من القوات الأمريكية الموجودة في تلك الدول أو الدول المجاورة لها، وفي العديد من الأحوال بنتائج دموية في معظم البلدان وفي كتاب "قتل الأمل" لوليام بلوم خير سجل لذلك. لكن من لا يريد أن يقرأ التأريخ ليس بحاجة إلى أن يزعج نفسه بالحقائق.

هناك نقطة أخرى هامة يجب أن تقال هنا، وهي أن رفض الشيء دون قراءته ليس "نفس المطب" في قبوله قبل قراءته. فلو عرض علي لص، أو شخص لا أثق به، أن يشاركني في تجارة فأني استطيع أن أرفض ذلك دون أن أقرأ تفاصيل عرضه، ودون أن اتهم بنقص الموضوعيه، لسبب بسيط هو أني لا أثق به ولا أثق بأن مثل هذه الشراكة ستثمر خيراً، ولست بحاجة لقراءة نص العرض لأصل إلى قراري. فالمعاهدة نص وتنفيذ، ويكفي أن يسيء أي منهما لتسوء كلها. لكن العكس ليس صحيحا ، فليس من المعقول أن تقبل عرضاً دون قراءته حتى من قبل شخص تثق به، فقد لايكون العرض مناسباً لك حتى إن حسنت نية المقابل. لذلك فقبول د. عبد الخالق المعاهدة قبل قراءتها ليس "نفس المطب" كما يقول وإنما حالة شاذة ليست مبررة...إلا في حالات العشق والهيام بين الطرفين!

70 دولة فيها قواعد أمريكية: لماذا؟
وفي موضوع "لسنا وحدنا" من نوقع، كتب د. عبد الخالق: "خلاصة القول، لأمريكا قواعد عسكرية في أكثر من سبعين دولة" وأن "الاتفاقية الأمنية العراقية-الأمريكية هي في صالح العراق، وليس فيها أي ضرر على العراق، بل هي فرصة ذهبية وضرورة تاريخية يجب عدم التفريط بها." (2) إنها "في صالح العراق...وفرصة ذهبية" رغم انه اعترف بأنه لم يقرأها!
أما وجود القواعد العسكرية الأمريكية في "أكثر من 70 دولة" فيعني أولاً ان هناك اكثر من ضعف هذا الرقم من الدول التي ليس فيها قواعد عسكرية أمريكية، لذلك إن كان "حشر مع الناس عيد" يصلح للدفاع عن المعاهدة، فهو يصلح بضعف ذلك للتخلي عنها!
ولكن السؤال الأهم الذي يتم تجاهله هنا مرة ثانية هو: لماذا تريد هذه الدولة كل هذه القواعد العسكرية في كل هذه الدول؟ لدينا جواب بسيط وربما ساذج وهو أنها تريد السيطرة على العالم (5) (6) ، فهل لدى د. عبد الخالق جواب آخر أكثر إقناعاً منه؟

حسين في مواقف اخرى...أمريكية
لا يتبين "الحب الأعمى" الذي أصاب د. عبد الخالق تجاه أميركا من موقفه من المعاهدة فقط, ودعمه الغريب لـ توني بلير، كما بينا أعلاه بل يتعدى ذلك إلى التهجم حتى على "الإندبندنت" لأنها نشرت التسريبات، ثم هو يكتب عن الأهوال التي ينتظرها العراق والعالم "لو نجح أوباما" فيقول " أما سلبيات فوز أوباما فيما لو صار رئيساً للدولة العظمى ونفذ ما أعلنه في برنامجه الانتخابي، فهي كثيرة وكارثية في معظمها، ليس على أمريكا وحدها، ولا على العراق ومنطقة الشرق الأوسط فحسب، بل وعلى العالم أجمع بصورة عامة".(7)
" يتمزق العراق إلى مستعمرات ودويلات تابعة لدول الجوار، فستقوم تركيا باحتلال كردستان، ومن ضمنها كركوك والموصل ... وستقوم إيران باحتلال المنطقة التي غالبيتها من الشيعة .... وستقوم سوريا باحتلال المثلث السني وإقامة حكم البعث التابع لها....إن فوز أوباما سيكون انتصاراً لإيران وحليفتها سوريا، وستتاح لها الفرصة بتحقيق برنامجها النووي، وستصبح الدولة النووية العظمى في الشرق الأوسط تهدد الثوابت الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة.... ستصبح الدول الخليجية أسيرة لبلطجة إيران، كما وستتمكن إيران من ابتزاز العالم المتحضر بفرض شروطها عليها وخاصة الدول الغربية وذلك بتهديدها بوقف تدفق النفط عنها ما لم تستجب لشروطها.... سيصبح العالم غابة من الدول النووية وستصبح الحياة البشرية مهددة بالفناء بالحروب النووية في أية لحظة. "
المقالة كلها تستحق القراءة، بل جميع مقالات د. حسين لما فيها من مثل هذه "الأهوال"...المقلوبة كالعادة! هاهو يكتب مقالتين يؤكد فيها "دور الإنفجار السكاني في حروب الإبادة" دون أن يذكر كلمة "استعمار" على الإطلاق: فالغربيون الذين هاجروا إلى أميركا الفارغة من السكان عانوا في تلك الأراضي الشاسعة على مايبدو من "إنفجار سكاني" ولذلك أبادوا الهنود الحمر، وكذلك فعل الأسبان في أميركا الجنوبية! إنها حقائق غير مناسبة لذا يسهل التغاضي عنها حتى في "دراسات" د. عبد الخالق، حتى وإن كانت بحجم الجبال!
الإستعمار لايستحق اللوم بل من وقف ضده. لايراوغ د. عبد الخالق في رأيه هذا فيكتب بصراحة: "وقد ساهم قادة الشيعة الدينيين في هذا التمييز أيضاً بسبب مواقفهم الخاطئة من الإنكليز الذين حرروا العراق من الإستعمار التركي العثماني، وتبنوا سياسة معاداة الدولة الوليدة وعدم دعمها كما يعمل السنة العرب اليوم."

الإستعمار الضرورة
إنها ليست حيلة جديدة، تلك التي تدعو الناس للخوف والإحتماء بصاحب السلطة واعطائه أمتيازاته. فهي نفس المقولة التي رددها جميع المحتلين لإخضاع الشعوب، واستعملها كل الدكتاتوريين في التأريخ تجاه شعبهم وكل من يود التسلط على الناس، سواء كان المتسلط من العلمانيين أو رجال الدين بمختلف مشاربهم. الم يخطب البابا الأخير:"أرى الناس خرافاً تائهة في الصحراء، لكن لا تخافوا فأنا سأهديكم الى الطريق"!
اليس هو نفس"القائد الضرورة" الذي حاول حثالات صدام إقناعنا أن البلد سيحترق بدونه؟ وهل هناك فرق عما يحاول الدكتور عبد الخالق حسين وصحبه من ترويجه لـ "الإستعمار الضرورة" الذي لا أمل لنا بدونه؟


(1) عبدالخالق حسين: الاتفاقية العراقية-الأمريكية، مرة أخرى
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/15usa2.htm
(2*) عبدالخالق حسين: " توني بلير سيخلده التاريخ بمداد من ذهب"
 http://www.al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/19blir.htm
(2) عبدالخالق حسين: الاتفاقية العراقية-الأمريكية، ضرر أم ضرورة؟
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/10usa3.htm
(3) المؤتمر الاشوري العام يصدر بيانا يرفض فيه المعاهدة الامنية مع الاحتلال
http://iraq-ina.com/showthis.php?type=1&tnid=30335
(4) إسقاط التهم عن مقدّم أمريكي بقضية مقتل 24 عراقياً في "حديثة"
http://arabic.cnn.com/2008/middle_east/6/18/officer.chessani/index.html
(5) America's Empire of Bases
http://www.commondreams.org/views04/0115-08.htm
(6) See the world’s foreign military bases from outer space
http://www.caab.org.uk/artic2007-3/2007-09-01see.htm
(7) عبدالخالق حسين: "لو نجح أوباما؟"
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/10usa2.htm
(8) عبدالخالق حسين "دور الإنفجار السكاني في حروب الإبادة"
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/20mm.htm
http://www.al-nnas.com/ARTICLE/KhHussen/24mm2.htm


28 حزيران 2008

¤ الجزء الثاني
¤ الجزء الأول


 


 

free web counter