|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الجمعة  17 / 6 / 2016                                 صائب خليل                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

هل خسرنا العراق؟ هل فات الأوان؟

صائب خليل
(موقع الناس)

في الأيام الماضية خسرت من الأقارب والأصدقاء الأشد قرباً وحميمية من جراء الكتابة، ما لم اخسره في حياتي كلها! وهذا لا يصيبني بالحزن فقط، وإنما ايضاً بالخوف، بل بالرعب. وما يسبب لي الرعب ليس خسارتي بالذات على حجمها، وإنما فكرة أن يكون الإعلام قد تمكن من تحطيم هذه الصلة بيننا، وليس بيننا أي طائفي، وليس بيننا أي شخص مغفل او بسيط التعليم وليس بيننا أي مشكلة ثقة على الإطلاق وليس بيننا أي اختلاف مذهبي او قومي يساعد على تفسير ما وصلنا اليه. ورغم ذلك فأن مجرد نشري لفيديو عن تقديم أحد الجوامع الإيرانية لوجبة طعام يومية للفقراء في رمضان، مشروع أعجبني تنظيمه، كان كافياً أن يستفز أحد أقدم واعز أصدقائي ليكتب لي كلاماً جارحاً وانتهى الأمر بقطع علاقة امتدت لأكثر من ثلث قرن بلا أية إشكالات! وبقية القصص لا تختلف كثيراً، فذاك يرى في أردوغان أملا، وأنا أرآه أحد أبشع وأخطر عملاء إسرائيل، وذاك يرى في إسرائيل الخطر الثاني بعد "التشيع" (الذي هو الخطر الأول في نظره) واضطراري لحظر ثلاثة من الفيسبوك أحدهم يقول انه من اقاربي لتحولهم إلى عناصر استفزاز في صفحتي لمجرد أني كتبت أسباب تشككي بفلم ضرب الفلوجيين، ودون أن يقدم أي من هؤلاء أية ملاحظة على النقاط التي أوردتها عن الفلم أو عن أي شيء كتبته سابقاً. هناك فقط: غضب واتهام غير مفهوم حل محل علاقات ود طويلة الأمد.

كيف زرعوا كل هذه الكراهية للحشد والخوف منه بين السنة، ومعظم افراد الحشد أناس جاءوا ليضحوا بحياتهم من أجل ما يرونه واجبهم الوطني والديني في انقاذ مدنهم من يد داعش، حتى لو افترضنا أن في الحشد مندسين ارتكبوا الجرائم؟ ما حجم هذه الجرائم مقارنة بداعش، وما حجم تلك الخسائر مقارنة بخسائر اية حرب متوقعة؟ هل يمكن ان يعادي إنسان، انسان آخر جاء بقصد إنقاذه؟

نعم، إن تم إقناع الأول بأن الثاني جاء لأذاه! إن تعرض الأول لفترة كافية من سموم الإعلام الموجه والمدروس من أسلحة بث الهلوسة.

في الفلم الإيطالي "ساعي البريد" (الدقيقة 1:07 في الفلم) (1)
يقول القس للعريسين الشابين، وهو يبرر رفضه لشهادة بابلو نيرودا لزواجهما: "ان الشيوعيين يأكلون أطفالهم الرضع في روسيا"! وكان يكفيه دليلا على هذا الافتراض الرهيب، ان بابلو نيرودا ليس لديه أطفال رغم انه متزوج!

لم تكن هذه اللقطة من إبداع مخرج الفلم او السيناريست، فقد تم بالفعل بث هذه الفكرة العجيبة واللاعقلانية بالذات في إيطاليا واليونان وغيرهما من الدول التي كان الشيوعيون يكتسحون الشارع فيها ببطولاتهم في مقارعة النازية وفي دعواتهم الاجتماعية وفي اخلاقيتهم العالية. وفي النهاية تمكنت هذه السموم، وبالتعاون مع الإرهاب والاغتيال والتهديد بالتجويع وبملايين الرسائل المدفوعة الطوابع من قبل السي آي اي، التي أرسلها أقارب هؤلاء من المهاجرين في أميركا، إلى أهلهم واصدقاءهم في ايطاليا، تمكنوا من إقناع الناس ان الشيوعيين في روسيا يأكلون أطفالهم! فهل من غرابة ان يقنعوا السنة أن الخطر الأول الذي يهددهم هو "التشيع"؟

هكذا إذن وبهذه الأداة التي يجيدون استعمالها، اوصلونا إلى ان نكره بعضنا ونخاف من بعضنا البعض، حتى صار أحدنا لا يطيق الآخر، بل لا يطيق أي حديث عن الآخر! فصرنا كالأرنب الملدوغ في قصتي "مبدأ الكوبرا":(2)
"أنظر إلى عينيه وهو يراقب مفترسه...إنها لم تعد نظرة خوف، بل هي أقرب إلى الرجاء...لقد غرست الكوبرا السم في كل مفصل من جسد الفريسة وتركته يطبخها ويشويها وهي تراقب من بعيد. ... الكوبرا لا تبتلع فريستها بضربة واحدة، بل تترك الوقت للسم أن يقنعها أولاً! ... إن أجزاء جسدها التي صارت تحرق بعضها البعض، ترفس الجسد وتريد الانفصال عنه... السم يسري إلى الدم فيغليه وإلى الأعصاب فيحطمها وإلى العينين فيملأها بالأشباح المرعبة وإلى المخ فيقلب مقاييسه ليرى الحشائش ثعابيناً، والثعبان صديقاً، والحياة موتاً والموت حياةً... إنها صداقة الكوبرا التي تعقدها مع فرائسها وتعمدها بالسم الرعاف والألم الساحق... "

هكذا صارت أجزاء الجسم العراقي الذي حقنت فيه سموم مزجت الإعلام والإرهاب بوصفة شيطانية منذ ثلاثة عشر عاماً، تدفع بعضها البعض بعيداً، وتشتاق التمزق.

وإن كان من حظ الإيطاليين وبقية الأوروبيين الذين سقطوا تحت سلطة ذات الثعبان، انه كان يخطط لعلاقته معهم انطلاقا من دور لهم تحكمه حربه الباردة ضد السوفييت، فأن خطط الأمريكان للعلاقة مع الشعوب العربية والإسلامية تحكمه الأجندة الإسرائيلية، التي ترى (بحق) أن ظهور أي شعب عربي يتمتع بوطن حقيقي وكرامة إنسانية ترفض التمييز ضده، سيكون كابوساً عليها. وقد أدركوا ذلك منذ زمن طويل ولم يتردد قادتهم بالتصريح به، وبالتحديد بالنسبة للعراق وسوريا..

وهاهم وقد قطعوا شوطاً طويلا في خطتهم لتدمير لسوريا، يرون ان دور العراق قد جاء الآن. ومن اجل ذلك لا بد أن يقتنع العراقيون بأن الخطر الأول عليهم ليس إسرائيل وفرقها الإرهابية داعش، بل هو "التشيع"، مثلما كان لا بد للإيطاليين لكي ينتخبوا عصابات المافيا والمرتشين من الساسة الذين ارادتهم اميركا لحكمهم، أن يقتنعوا ان الشيوعيين الروس يأكلون أطفالهم الرضع!

إزاء كل هذا، ورغم تفاؤلي الذي امتد لأكثر من عقد من السنين الصعبة، فإن السؤال الذي لم أستطع الهرب منه خلال الأيام الماضية، ورغم الانتصارات في جبهة الفلوجة، هو: هل إننا نخسر العراق؟ هل فات الأوان؟


(1) صائب خليل - "ساعي البريد" فلم رائع..
https://www.facebook.com/saiebkhalil/posts/1097713340285734 
(2) صائب خليل: مبدأ الكوبرا
https://www.facebook.com/saiebkhalil/photos/a.350693164987759.83177.320945874629155/1111433792247022/?type=3&theater




 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter