|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

الأربعاء   10 / 4 / 2019                                 صائب خليل                                  كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

في ذكرى استشهاده – لنكن اقل نفاقاً أمام السيد باقر الصدر واقتصاده!

صائب خليل
(موقع الناس)

بمناسبة استشهاد السيد محمد باقر الصدر، توالت المنشورات التي تقدسه وتبالغ في تقديسه، فمنها ما ذكر انه كتب اعظم كتاب في الاقتصاد وآخر أكد ان السيد الصدر حل لغز الاستقراء الذي عجز عنه الفلاسفة منذ ارسطو، ولأكثر من الفي عام، الخ.

دعوني أكشف لكم سراً اكتشفته قبل بضعة سنوات، وهو أن "تقديس الشخص" والمبالغة في ذلك، غالباً ما تكون مناورة للتخلص من اتباع تعاليمه وارشاداته!

وليس هذا الأمر غريب جداً، لو امعنّا التفكير فيه. فعندما نرفع شخص ما إلى مرتبة عظيمة فوق البشر، فلن يطالبنا أحد بأن نفعل مثله! فيقول الشيعي من أنا لأقلد الإمام الحسين في شجاعته، او الإمام علي في زهده وحكمته؟ ويقول السني من أنا لأقلد عمر في عدله؟ والمسيحي أيضا لن يفكر ان يكون بتضحية المسيح وتسامحه. فهذه مطالب فوق بشرية، ونحن بالتالي نعفي انفسنا منها. ويذهب الإعفاء اننا لا نحاول حتى ان نقلد ما نستطيع. إذن مسموح لنا ان نطلق لكل مشاعرنا التي تناقض من نقدس او نبجل أو نحترم، وأن نبقى ندعي تبعيتنا لهؤلاء، وبدون ان نشعر، نلقي بأنفسنا في تهمة: "النفاق"!

عودة الى السيد محمد باقر الصدر. انا قرأت كتابه لأني لم اكن اقدسه، بل سمعت عنه ما يجعلني احترمه وأريد قراءة ما كتب، فالتقطت كتابه: "اقتصادنا". ولم اكن أتوقع ان اجد امامي كتاباً عجيبا خاليا من الخطأ والنقص، فالكاتب بشر في نهاية الأمر، ولولا ذلك لفقدت ثقتي بالكتاب والكاتب من أول نقطة لم اقتنع فيها بما كتب. انا لم أقرأه لكي اقدسه ولا لكي اعجب به، بل ببساطة: لكي اتعلم منه شيئا. والحقيقة اني لم اكن حتى متأكداً اني سأتعلم منه شيء! لكني كنت مخطئاً جداً في هذا!

لم اتفق مع السيد محمد باقر الصدر في كل ما جاء في الكتاب، بل اني لاحظت ان بعض النقاط التي أوردها في نقده لماركس، ان هناك بعض عدم الوضوح في الطريقة التي فهم بها "رأس المال". ومع ذلك فربما كان "اقتصادنا" أكثر كتاب اثار دهشتي في السنوات الأخيرة، بل وسعادتي أيضاً. فالكتاب يبين بشكل رائع أن الاقتصاد الإسلامي اقتصاد اجتماعي جميل ومتطور، وليس اقتصاداً يهدف الى إثراء فئة وافقار أخرى، ولا يسمح بذلك. وبالتالي وجدته قريباً أخلاقيا من الاشتراكية وان اختلف معها في بعض التفاصيل، اما موقفه من الرأسمالية فهو النقيض الأخلاقي شبه التام لها. فالاشتراكية والاقتصاد الإسلامي يهدفان الى خير المجتمع، اما الرأسمالية فتهدف في حقيقتها الى خير أفراد، وتتيح لهم الفرصة في حقيقة الأمر لتحطيم المجتمع في النهاية، ما لم يجدوا من يردعهم. ووجدت في الكتاب كنزاً تطبيقياً ثميناً يمكن له أن ينقذ المجتمع الذي يطبق فيه من غول الرأسمالية المنفلتة الذي يفترسه اليوم.

إلا ان سعادتي باكتشافي لكتاب السيد باقر الصدر لم تدم. فسرعان ما جاء التساؤل: "لماذا لا يحاول احد تطبيقه، او تطبيق ما يمكن منه"؟ وهنا صدمت بحقيقة أن من يقدس الصدر لا يقرأه وكتبت مقالة كان عنوانها : "يقدسونه ولا يقرأونه". كما كتبت مقالة أخرى او اثنتين عن اقتصادنا، املا بتحفيز اهتمام الناس لتطبيقه.

من أسباب الرفض كانت حجة أنه "لا يصلح لهذا العصر". وهذا يفضح حقيقة ان من يقول ذلك لم يقرأه. ففي الاقتصاد الإسلامي الذي شرحه الكتاب بوضوح ما يسمى "منطقة فراغ" تتيح للمشرع ان يضع فيها ما يجعل الاقتصاد مناسباً للعصر الذي هو فيه وللظرف الذي يعيشه، دون ان يحيد عن الهدف الاجتماعي الأسمى لاقتصاد يليق ان يسمى اقتصادا إسلاميا. والحقيقة هي ان هؤلاء لا يريدون تطبيق مثل هذا الاقتصاد، فهو، على العكس من حرية السوق والخصخصة والبنوك الدولية وقروضها، لا يتيح لهم الفساد العظيم والسرقات المدمرة التي يتمتعون بها الآن.

إن "اقتصادنا" ليس اشتراكياً بمعنى ما، لكنه بدون أي شك، اقل رأسمالية بكثير مما يتبنى الحزب الشيوعي اليوم بقيادته الأشد نفاقاً وقلة حياء حين تمتدح اقتصاد السوق ومبادئ الرأسمالية وتحتفظ بـ "عمامة" الشيوعية كما يحتفظ بعمامة الدين كل منافق بعيد عن الدين.

الكتاب يزخر بالمبادئ المدهشة الرائعة للاقتصاد الإسلامي، مثل مبدأ "لا أجر بلا عمل" و "ملكية الأمة" ذلك المبدأ المدهش الذي يتفوق في حرصه الاجتماعي حتى على الماركسية، ومبدأ "منطقة الفراغ" الذي يؤمن إمكانية تطبيقه في ظروف مختلفة ويتيح للدارس المرونة الكافية لإيجاد الطريق الى التطبيق، والشرط الوحيد هو أن لا يحيد عن المبادئ الاجتماعية للدين الإسلامي، والتي تؤكد رعاية جميع المواطنين (مسلمون وغير مسلمين) وتأمين مشاركتهم في المجتمع، ومنع التبذير وغيرها من الأخلاقيات التي لا يستطيع مجتمع ان يتواجد بدونها، فهي ليست عوائق لأي اقتصاد هدفه المجتمع.

لذلك كله، ادعوكم اليوم، وخاصة من يدعي محبة أو تقديس السيد باقر الصدر، إلى قراءته أولا لمن استطاع، والى السعي لتطبيقه. وسواء تمت قراءته ام لا، يجب على من يحترم الصدر، طرح الأسئلة على الساسة ومحاصرتهم بها عما فعلوا من أجل تطبيق كتابه في الاقتصاد. إنها دعوة لكم لنفي حالة التقديس المنافقة التي يكون هدفها التهرب من اتباع مبدأ المقدس والاسترشاد بفعله، والتحول إلى هدف ابسط، وهو ان نقترب منه خطوة بأن نبذل بعض الجهد لنفهمه أولا، وأن نطالب الساسة الكذابين ورجال الدين الكذابين ونسألهم لماذا لا يطبقونه او يقتربون منه! فما فائدة "اعظم اقتصادي" و "اعظم مفكر" إن كنا نقف عند هذه الكلمات ونهمله هو وما كتب؟ هل ينم هذا عن احترام حقاً، ام مراوغة غير امينة؟

لنقترب منه ومن أفكاره فإن فعلنا، ولننظر ما يمكن ان تنفعنا به في الحياة، فهذا هو الاحترام الحقيقي له، وهو خير ما نهديه لروحه في مناسبة استشهاده هذه، وهي في الحقيقة هدية لنا وليست هدية له. دعونا نلقي نظرة مبسطة على تلك المبادئ، لعلها تفتح شهيتكم لقراءة المزيد وربما المساهمة يوما بالضغط من أجل تطبيق مبادئ "اقتصادنا". والمادة التالية من مقالتي " محمد باقر الصدر – يقدسونه ولا يقرأونه"! .. ارجو لكم وقتا ممتعا ومفيداً مع هذه الباقة من المبادئ الجميلة:
*******************************
لا أجر بلا عمل

يؤكد الصدر في أكثر من مكان أن لا أجر في الإسلام بلا عمل! وهو في هذا يذهب بعيداً في قربه من المبادئ الماركسية الاجتماعية، فهو لا يجيز للمالك أن يحصل على جزء من أرباح انتاج لم يبذل به جهد إيجابي انتاجي! وكان هذا الأمر جدير بإثارة شهية اليساريين لدراسته بتمعن!

أنظروا كيف يحل هذا المبدأ أيضاً إحدى مشاكل حالة الفساد العراقي هذا اليوم، وهي ظاهرة المقاولات المتتالية. فنجد أن الإسلام يمنع أن يكسب المقاول مالا بان يبيع عقده لمقاول آخر بفارق مالي، دون ان يبذل جهداً تنفيذيا انتاجيا بنفسه. فعندما يقوم المقاول بتحويل المقاولة إلى مقاول آخر والتربح من فارق السعر، يعني أنه يتربح مما يسميه الصدر "جهد تسلط واحتكار". أي انه يحصل على المال فقط لأنه كان السباق بوساطاته للحصول على المقاولة واحتكارها، وهو محرم في الإسلام، حسب الصدر. ومن الواضح أن هذه الطريقة هي طريقة فساد تقوم على أساس المحسوبية والمنسوبية والرشاوى وليس لها علاقة بالعمل الإنتاجي.

مبدأ "ملكية الأمة" الرائع

وفكرة أخرى رائعة هي فكرة "ملكية الأمة". فهي تذهب أبعد من التقسيم المعتاد بين "الملكية الخاصة" و "الملكية العامة"، إلى ملكية اجتماعية ثالثة للمجتمع لا يسمح حتى للحكومة أن تتصرف بها تصرفا حراً. وفي هذا يعبر الاقتصاد الإسلامي عن إدراك بأن هناك فرق بين الحكومة والمجتمع وأن مصالحهما قد تختلف! ولذلك فمن الضروري حماية مصالح المجتمع حتى من الحكومة نفسها. و"ملكية الأمة"، التي توضع تحتها الثروات الطبيعية عادة، تعكس وعياً شديداً لأهمية الثروة المادية للمجتمع وخطر قيمتها على مستقبله، فلا تأتمنها تماما حتى للحكومة. إن العلاقة بين "ملكية الدولة" و "ملكية الأمة" أشبه بالعلاقة بين "القانون" و "الدستور". ففي الوقت الذي يسمح للحكومة بكتابة وتغيير نصوص القوانين، فإنها محدودة الصلاحية فيما يتعلق بكتابة الدستور وتغييره، حيث يشترط ذلك موافقة مجلس النواب بأغلبية الثلثين في العادة، بينما يتطلب تشريع القانون الأغلبية البسيطة عادة. فالدستور هو الضمان الأخير للشعب من تسلط حاكميه ومؤسساته، وكذلك فأن "ملكية الأمة"، وهي ما يفترض أن يبقى للأمة واجيالها من ضمان لا يتم التلاعب به مثل الثروات الطبيعية الأساسية.

"اقتصادنا" والنفط

نستنج من هذا أن النفط بالنسبة للعراق مثلا باعتباره الثروة الكبرى وشريان الحياة للأمة، سيكون وفق الاقتصاد الإسلامي وفق قراءة الصدر، ضمن "ملكيات الأمة". ولأن هذه الملكية تشترط استفادة "كل" الأمة من تلك الملكية، فلا يحق للحكومة أن تخص البعض من أبناء الشعب (فضلا عن الشركات الأجنبية) باستثماره او تشركهم في إنتاجه. وهو ما يعني أن خصخصة حقول النفط (كما يدعو إليه أمثال عادل عبد المهدي) وحكرها على جهة أو شركة معينة سواء بشكل كامل او بشكل جزئي، محرم في الشرع الاقتصادي الإسلامي. وبلغة العصر الحديث، فأن "عقود المشاركة" التي تسعى إليها الشركات وتجهد حتى اليوم بدفع العراق إليها، مخالفة لتعاليم الإسلام، إضافة إلى مخالفتها لنص الدستور الذي أقر بأن النفط ملك للشعب العراقي. وبالتالي فأن العقود الشرعية الوحيدة إسلامياً هي "عقود الخدمة"، تقدم فيها الشركات خدماتها وتأخذ أجورها وتذهب في حال سبيلها عند انتهائها.

وقد كانت عقود كردستان من نوع "مشاركة الإنتاج" المناسبة للشركات، وكانت جميع عقود التراخيص من نوع "الخدمة". ولكن هذا لا يناسب الشركات، لذلك تشن اليوم حملة تسقيط لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق لتشويه سمعة تلك العقود والضغط لتغييرها إلى عقود مشاركة إنتاج. وتتربص حكومة العبادي التي جاء بها الأمريكان لهذا الغرض ضمن أغراض أخرى، الفرص لإنجاز هذا التحويل في أقرب فرصة، وجعلها مثل عقود كردستان التي أعطت الشركات أربعة أضعاف الأرباح الطبيعية.

مبدأ "منطقة الفراغ" – المرونة للتطور

أما القول بأن "اقتصادنا" لا يصلح لهذا العصر، فهو أيضا نتيجة عدم قراءة الكتاب. إنهم يفترضون أن السيد باقر الصدر قد دعا لتطبيق اقتصاد كتب قبل 1400 سنة بشكل مباشر، وهم بذلك يفضحون هذا الفهم السطحي له، بل وعدم قراءته. فمن قرأ "اقتصادنا" لن تفوته رؤية مبدأ "منطقة الفراغ". وهذا المبدأ يقسم تعاليم الاقتصاد إلى قسمين: المبادئ الاجتماعية للاقتصاد، والمستوحاة من مبادئ الإسلام، ومنطقة حرية التصرف للحكومة (دون الخروج عن المبادئ الإسلامية الأساسية في العدالة ورفاه المجتمع وعدم تجمع الثروة، الخ). وحرية التصرف هذه في "منطقة الفراغ" هي كل ما يحتاجه الاقتصاد من مرونة يتحرك ضمنها دون ان يخرج عن هدفه الإسلامي: خدمة المجتمع!

"اقتصادنا" يخدم المجتمع

إن "اقتصادنا" مليء بالمبادئ والأفكار الرائعة والحديثة وأهم من ذلك، الإنسانية الهادفة إلى خدمة المجتمع وليس لتجميع الثروة بيد أثريائه وإفقار الباقين وفق مبدأ "ما متع غني إلا بما حرم فقير". وفيه المرونة اللازمة لمتابعة تطورات العصر، ما لم تكن تلك التطورات لا إنسانية. وإن كل ما يقال من حجج عن عدم صلاحية هذا الاقتصاد للمجتمع الحديث محض هراء واحتيال لمن لا يناسبهم ان تذهب الثروة إلى المجتمع، بل يريدونها للصوصه!

التحدي

إن على من يقدس الإسلام ومبادئه، ومن يحترم السيد محمد باقر الصدر حقاً ومن يؤمن من اليساريين بأن ثروة البلد يجب أن تستخدم لبناء مجتمعه لا أن تهدر للأثرياء والشركات الأجنبية كما في دول الخليج وغيرها، يجب أن يسعوا بحزم وشجاعة إلى العمل على دراسة هذا الموضوع وطرح "اقتصادنا" كبديل لاقتصاد السوق الشره والمدمر للبلاد، وأن يحرجوا مدعي الدين ومدعي اليسار أن يجيبوا على السؤال، وعلى شجاعتهم وحزمهم في طرح قضيتهم، قد يعتمد مستقبل بلادهم ومصير مجتمعهم. السؤال مطروح عليك .. انت!


10 نيسان 2019


 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter