| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 5 / 1 / 2019 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
الهويّات الفرعيّة،
ليست "خلايا نائمة"
نصير عواد
(موقع الناس)
نُولد بجنسيةٍ عراقيّةٍ واحدة ثم سرعان ما نجد أنفسنا وسط عدة هويّات فرعيّة، قوميّة وعرقيّة ودينيّة اُكتِسبت بالولادة، بعضها جلب الويل لأصحابه. هويّات تناسلت إلى ولاءات ريفيّة وحزبيّة وايدولوجيّة، إلى جانب بقع طائفيّة كلّ همّها شرعنة السلاح. ألهى ذلك أهل العراق وذهب باستقرارهم ووسع المسافة التي كانت تفصلهم عن مصطلح الــ"مواطن". فعندما يطغي الفرعيّ على المركزيّ، وينشغل المجتمع بصراعات ومطالب فئوية ليس لها أدنى علاقة بالبناء التنمويّ والديموقراطيّ، الذي يتطلع إليه الجميع، ستبدأ الهوية الوطنية الجامعة بالتفكك.
على الرغم من النوايا الطيبة في كسب رضى المكونات العراقيّة، فإنّ لوحة الدلالة التي رُفعت مؤخرا فوق مبنى مديرية السفر والجنسيّة بمدينة كركوك بأربعِ لغات (العربيّة، الكرديّة، التركمانيّة، السريانيّة) لا تخفي بين سطورها حقيقة القلق الإنسانيّ الذي تعيشه هذه الأقليّات، فلقد سبق لها ان عانت مجازر إبادة وحملات تهجير وتهميش باسم شعارات دينيّة وقوميّة مخزية، لسنا بموضع إيرادها لكثرتها وبشاعتها. الهويّات التي رُفعت على مبنى المديرية كان أكثرها حتى وقت قريب من دون وضعية قانونيّة "مؤثرة" في بنية الدولة، اشبه بالجمرةِ تحت الرماد، ولكن بعد سقوط الصنم تبدل حالها، طرقت باب الدولة حاملة معها مطالبها ومفاهيمها التي تتفق مع، او تختلف عن، مفاهيم الدولة. الهويّات العراقيّة كان لها وجود تاريخيّ وثقافيّ واجتماعيّ محسوس، ولكن بعد سقوط الديكتاتور ولجت السياسة بقوة، انتقلت من الأطراف إلى المركز، صارت أكثر تعقيدا. النُخب الهوياتية من جهتها استثمرت الوضع الجديد ووظفته لأغراضها في إيجاد مكان لها داخل نسق الدولة ومؤسساتها، تجلى في تأسيسها أحزاب هوياتيّة وفي بحثها عن حضور سياسيّ، أكثر منه اقتصاديّ وثقافيّ وتعليميّ وصحيّ يساهم في تحسين حياة الناس، وهو ما عدّه المراقبون خطوة أخرى في توسيع الهوة بين المكونات وإضعاف مصطلح الــ"مواطن". ونحن هنا لا نتحدث فقط عن الهويّات الصغيرة التي كانت تعيش حالة استقرار نسبي كــ(التركمان والمسيحيين والصابئيين والأيزيديين...) والتي انهكتها ممارسات سلطة الدولة القمعية وجعلتها اشبه بالدراهم الممسوحة، بل حتى الكورد، القومية الثانية بالبلد، التي عانت القهر والتنظيف القوميّ طوال القرن الفائت ولم تستطعْ الوصول إلى أروقة الدولة بهذا الثقل إلا بعد سقوط الديكتاتور، نجد نُخبها السياسيّة لم تنتظر طويلا وسارعت إلى تحصين لغتها وثقافتها، وترسيم حدودها القومية، والمطالبة بحقوقها السياسية، وصولا للمطالبة بالانفصال. دافعة إلى الخانة الخلفية بمصلحة وطن بأكمله، ومتناسية خطابات كانت ترددها عن الاخوّة والجيرة والتاريخ المشترك. ولا نأتي بجديد في قولنا إن استفتاء اقليم كردستان على الانفصال من الدولة العراقيّة كان من أوضح الصفعات التي وجُهت إلى مصطلح الــ"مواطن".
لا نظنه من الانصاف ألقاء اللوم على الهويّات الفرعيّة ونسيان حقيقة ان الدولة العراقيّة في ظل سلطة البعثيّين كانت هي مصنع البلايا، فهي لم تهتم كثيرا بموضوع الهويّات وفي حق مواطنيها بالتعبير عن أنفسهم، ولم تتعاطَ مع ثقافة الاختلاف داخل خيمة الوطن، ولجأت بدلا عن ذلك إلى معالجة كلّ المشكلات بلغتها وأدواتها القمعية، أدى ذلك إلى مجازر وهجرات وانتهاكات لا حصر لها. أمّا بعد سقوط سلطة البعث اشتغل ساسة الاحتلال على جعل العراق شبه دولة، وصار انفجار المكبوتات الفرعيّة مسألة وقت، فالأمر لا يحتاج أكثر من حكومة ضعيفة يقودها أميون مسلحون حديثو نعمة. أردنا القول ان خراب البلد وانسداد الأفق السياسيّ فيه عاملان خصبان لصنع الفراغ، ولنشاط الهويّات الفرعيّة. ولو كان هذا النشاط نشاطاً فكريا يستند إلى مرجعيات ومقاربات تعبّر عن مصالح المجموعة الثقافيّة والسياسيّة والاقتصاديّة، والمساهمة في البناء التنموي للبلد، لهان الامر، ولكن هذا النشاط أنتج نُخبٌ سياسيّة تفتقد الخبرة والمخيلة، وتفتقد الخطاب الذي تواجه به الآخر المختلف لغويّا ودينيّا وجغرافيّا توضح فيه الحالة الموجعة التي وصلت إليها هويته، وفي ذات الوقت فشلت هذه النُخب في توفير الامن والرخاء والعمل لأفرادها، ولجأت بدلا عن ذلك إلى نبش التاريخ والتقاليد والشعائر، لكسب الوقت وكسب الأصوات الانتخابية. نُخب صارت تمتلك بمرور الأعوام علامة مسجلة لوجوه سياسية لا تتغير ولا تترك كراسيها رغم الحروب والخراب الاقتصاديّ\الاجتماعيّ الذي حل بالبلد.
إنّ من بين خصائصنا التاريخيّة بالعراق هي انّنا لسنا بلداً عربيّا خالصا، حتى لو كانت الأغلبية فيه تتحدث اللغة العربيّة. بل بلد هويّات وألسن. فنشوء البلدان وتشكّل الهويّات لا يمكن اختزاله فقط باللغة، هناك الجغرافيا والتاريخ والثقافة والانتماء الديني. وفي موضوعنا نجد ان الهوية ليست معطى ثابت، وهي قد تتأثر بما حولها من تطورات اقتصاديّة وعلميّة وثقافيّة، وقد تكون الحروب الداخليّة، كما هو حادث بالعراق، مفصلا اساسيا في تغيير وجهة الهوية، قد يستعين رجالاتها بالسلاح أو بدول الجوار أو بمنضمات إنسانية ودولية لدعمها. من بين خصائصنا كذلك انّنا لسنا بلداً إسلاميّا خالصا، حتى لو كانت الأكثريّة تدين بالإسلام، وأن دين الدولة الإسلام. فهناك المسيحي والصابئي والأيزيدي، بل حتى الإسلام يعيش بين نصلين، شيعي وسني، إلى جانب أقليات دينية مهمّشة كــ (الكاكائية والبهائية واليارسان...) وضُعت كلّها قسرا تحت عنوان "مسلم" في الجنسية العراقيّة. ولذلك عندما نجعل من الدين، أي دين، ديناً للدولة فهذا يعني إضعاف التعدّدية وتعميق ظاهرة القلق المترسبة في ذاكرة الهويّات الفرعيّة. صحيح أننا لو بحثنا في حضور وصراع الهويّات الفرعيّة المحتدم من اعوام فأننا لا نستطيع ابعاد الدين عن المعادلة، ولذلك ظن البعض بان الدين هو مصدر الهوية، أو على الأقل هو الممثل والحاضن الأكبر لها. هذا فيه الكثير من الصحة ولكن في ذات الوقت مفهوم الهوية، الذي بُني على العلاقة بالآخر، أعمق من ذلك بكثير، وان بعض هذه الهويات سبق الأديان في ظهوره، وما زالت هذه الهويّات حاضرة وتبحث عن سبل لتوكيد ذاتها. ولو حيّدنا التاريخ البعيد وعُدنا إلى الحاضر المعاش سنجد ان الإسلاميّين ليس من أولوياتهم نشر ثقافة الاختلاف والحفاظ على حقوق الأقليات. فهم في حرصهم على معتقداتهم ونشر مبادئهم غالبا ما يلجؤون إلى الحد من حرية الآخر، وإلغائه إن تطلب الأمر. وما حديث المرجعيّات الدينيّة بالعراق، عن منع المسلم تهنئة المسيحي بالسنة الميلاديّة، عنا ببعيد. أردنا القول ان العراق بلد اقوام واعراق وأديان قديمة ترجع بداياتها إلى ما قبل التاريخ المكتوب، تقاسمت المجال الجغرافيّ والتاريخيّ، وتعرضت إلى تبدلات وهجرات، لكنها في النهاية استطاعت التكيّف والبقاء. فهذه الاقوام، التي صارت إلى أقليّات، تمتلك ذاكرة تاريخيّة مثل الاكثريّات، وغالبا ما يكون تاريخها أعمق وأقدم، وبالتالي لا يمكن بأي حال تهميشها واغفال التراكم الثقافيّ والاجتماعيّ الذي حققته، والذي ترك أثاره في بنية المجتمع العراقيّ.
إنّ الحديث عن هوية عراقيّة، وطنيّة جامعة، قد يكون فيه اليوم الكثير من المبالغة. وفي نظرة سريعة على الصراعات الاجتماعيّة نستطيع رؤية ان التنوّع الذي كان سائدا قبل دخول الاحتلال، والذي كثر الحديث عنه باعتباره مصدر ثراء ثقافيّ وإنسانيّ، قد فقد الكثير من انسجامه بعد دخول الاحتلال، وأُعيد فيه ترتيب المجموعات والأحزاب والقبائل، ومن ثم التسلّح بالوجدانيات والايدولوجيات والشعائر، الامر الذي اشعرنا بأننا نبتعد كل يوم عن ان يحل مصطلح "مواطن" بدل الهويّات الفرعيّة. وإنّ الذي زاد من هزال مصطلح الــ"مواطن" هو انه في الأعوام الأخيرة تعقّد الصراع كثيرا، وتحوّل من خلاف بين الهويّات الفرعيّة وبين المركز إلى خلاف بين الهويّات الفرعيّة ذاتها، تجلى في تناحرها الحزبيّ وتسلّح أفرادها وتناقض خطابها وتشظي منظومتها الفكريّة، وإن لفي كركوك أوضح مثال. فالحصار والتهميش والتفريغ الذي عانت منه الهويّات الفرعيّة، أدى إلى إعادة إنتاجه في العلاقة مع الهويات الأضعف، الامر الذي جعل من المدينة اشبه ببرميل بارود متجول. فالنزاعات التي قد تحدث بين الهويّات الفرعيّة في غياب الدولة، هي عادة ما تكون اسوء النزاعات، لأنها لن تنتهي بعام او اثنين، وقد تبقى نازفة لعشرات الاعوام، تلوكها الألسن والقصائد والذاكرات.
إنّ المبالغة بالتسلّح وتشكيل المليشيات للدفاع عن النفس، وهو ما يحدث بين الهويّات العراقيّة، سيرهب الآخر، وسيدفعه لا محالة للتسلّح وتشكيل مليشيا للدفاع عن نفسه، وقد يدفعه إلى التعامل مع شيطان عبر الحدود. ولكن أسوء ما في الكلام انه حين تصطدم هذه الهويّات الفرعيّة فيما بينها، وتسيل الدماء البريئة بالشوارع، نرى الهويّات كلها مجروحة ومهدّدة وتلبس ثوب الضحية، وفي ذات الوقت تبحث عمن تعلق عليه مأساتها. وفي أغلب الأحيان يعلقونها برقبة الهوية الأكبر، أو المركز، وإذا لم يفلحوا في ذلك سيلقون باللوم على دول الجوار التي تقاسمت القرار الوطنيّ، ثم ينتهون إلى الطريقة العراقيّة الدارجة في شتم الامبرياليّة ونظام العولمة الذي فتح الاسْواق والحدود وأضعف الخصوصيات المجتمعيّة للأقليّات، فمن دون عدو افتراضي لا تستطيع النُخب الهويّاتيّة البقاء وتسويق اغراضها.