|  الناس  |  المقالات  |  الثقافية  |  ذكريات  |  المكتبة  |  كتّاب الناس  |
 

     
 

السبت  29  / 4  / 2023                                نصير عواد                                 كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس

 
 

 

 السلاح الموازي متعدّد الاستعمالات

نصير عواد
(موقع الناس)

ما يحدث بالسودان من اقْتتال داخليّ مؤلم، بين رأسين حكومييّن، لم يكن سوى طبعة أخرى من طبعات الاقتتال التي شهدناها بلبنان وسورية واليمن وليبيا والعراق.. فهذه الدول التي بات مسلحوها أكثر حضورا من عمالها وأطباءها وعلماءها اصبحت دولاً خربة ومعزولة، حتى لو كثرت فيها الملاحم والتضحيّات والمواقف البطوليّة، بسبب ان فوضى السلاح ترمز إلى كل شيء غير طبيعي في الشارع، وان الغلبة فيه ستكون دائما لمن يحمل السلاح وليس للمنطق والعقل والحكمة. وسيصاحب هذه الغلبة تزايد في اعداد الضحايا وهروب الشركات ورؤوس الأموال وتراجع مستوى المعيشة وتبخر النخب وسوء سمعة البلد. وفيما يخص بلدنا العراق فإن التاريخ القريب يشير إلى ان ظاهرة التسلّح ارتبطت بالإحباط الذي عانى منه المواطن طوال نصف قرن، وان الصراعات على المال والنفوذ بين الأحزاب التي جاءت مع الح تل الأمريكي ساهمت بدورها في اشاعت هذه الظاهرة، وبحثت لها عن تبريرات شرعيّة وقانونيّة وسياسيّة لغرض الهيمنة على الشارع، ما أدى إلى ابطاء تحوّل العراق إلى دولةٍ مستقرة تستثمر مواردها وطاقات شعبها.

عراق ما بعد الاحتلال هو عراق طوائف وقبائل وقوميّات وأحزاب ودكاكين، محاط بدول إقليميّة تشيل ما استطاعت من بيت محترق، وبالتالي لا يمكن تخيل عدد الافراد والمجموعات التي ترى بحمل السلاح وتشكيل فصائل ضرورة وجودية. وكان انشطار الأحزاب وتناسل الفصائل قد أدى إلى اشتعال التنافس على المال والنفوذ تجلى في مناوشات إعلاميّة وصدامات مسلّحة تحت شعارات شتى.

ووسط هذه الفوضى البدائيّة تلمع حقيقة صغيرة يراها الجميع، ولكن الاخذ بها لا يخدم مصالحهم، وهي ان لا أحد يضمن نتائج الانفجار العام فيما لو حدث. إنّ غياب الإرادة السياسيّة في السيطرة على فوضى السلاح بالعراق أدى إلى تعاظمه وتعدّد استعمالاته، فهو اُستخدم ضد الاحتلال والارهاب بشراسة، وبعد ان عجزت الدولة عن احتوائه تحوّل إلى قصف مطاراتها ومؤسساتها الرسمية، ولاحقا وضع بين مهماته قمع نشطاء تشرين واغتيال الصحفييّن والمثقفين، إضافة إلى تهديد دول جارة. ومن يظن ان هذه الفصائل ستلقي سلاحها بعد تحقيق كامل أهدافها في هزيمة الإرهاب والاحتلال، وفي السيطرة الكاملة على مفاصل الدولة العراقيّة، وفي تحرير فلسطين كذلك.. سيكون واهما، بسبب ان وجود هذه الفصائل ارتبط منذ البداية بالسلاح وتظن ان وجودها رهنا بوجوده، ناهيك عن ان قادة الفصائل ذاقوا طعم المكاسب الاقتصاديّة والسياسيّة التي حققها السلاح ولا يمكنهم التخلي عنها. بالطبع لا جدال في ان حمل الشعب السلاح في مواجهة الإرهاب والاحتلال ظاهرة صحية ينبغي دعمها واحترامها، ولكن إذا سُمح للسلاح بالاستمرار دون مبررات منطقية ووطنية فقد يرتبط بالعنف والتهديد المجتمعي، لأن استمرار استخدام السلاح يضعف حساسية المقاتل إزاء الضحايا، إزاء الدولة والمجتمع. وقديما كان الروس ينصحون الاباء بتشغيل أبنائهم رعاة حتى يكونوا رجالا، على ان لا يتركوهم طويلا مع الغنم.

إنّ تراجع أسهم الإرهاب والاحتلال من جانب، وتشكيل حكومة "محمد شياع السوداني" الاطارية وأزمة الدولار والاتفاق السعودي الإيراني وانكفاء خطابات التحريض العالية الصوت من جانب آخر، اعطى الانطباع بأن سلاح "المقاومة" أمسى ظاهرة خطابية تجاوزتها الاحداث، وأن عزلة الفصائل ستشتد مع تحسن الخدمات والاقتصاد. وهذه الإيجابية فيها مبالغة ومجافاة للواقع، ففي عقدين من الزمن كان السلاح أس المشكلات في البلد، وحين تبحث الفصائل المسلّحة في مشكلات البلد لا تبحث في حلها، بل في السكوت عليها. فتجدهم يعترفون بهذه المشاكل تارة وتارة أخرى يبررونها وثالثة يرحلونها، على ان لا يمس ذلك بسلاح "المقاومة". إن الاستعداد والمداومة والخبرة في الحوار التي تتصف بها الفصائل المسلّحة بالعراق جاءت من خلف الحدود، من لبنان وإيران. صارت بمرور الأعوام تعرف متى تزيد أو تقلل من كمية العنف بالبلد، كما حدث في تظاهرات تشرين ومقتل الخبير الأمني "هشام الهاشمي" وتعرف متى تقصف مطارات كوردستان وبيت رئيس الوزراء ببغداد العاصمة، وتعرف متى توسع عملياتها خارج البلد لدعم الجارة إيران في صراعاتها الإقليمية. وهذا الاستعمال المتعدد الأهداف للسلاح قد يجلب مساوئه معه، فهو زاد من عزلة العراق الخارجية، ودفع مدن عراقيّة إلى الاحتماء بجنود الاحتلال خوفا من سلاح الفصائل. ينبغي الإشارة هنا إلى خرافة مقاومة الاحتلال التي شرّموا بها آذاننا، فزرع قنابل على جوانب الطرق أو إطلاق صواريخ صدئة وطائرات مسيّرة متواضعة هو في الحقيقة لا يهدد جديّا الأمريكان، وأن عدد الذي سقطوا من جنود الاحتلال حتى الآن قليل جدا بالقياس إلى عدد "الغزوات" وعدد المواطنين الأبرياء الذين قتلوا، ولكن هذه الاستراتيجيّة الضعيفة المخاطر لها أهمية أخرى تهدف إلى الإعلان عن وجود "سلاح المقاومة" وتذكير الشارع العراقيّ بوجودهم، فتهديد الشارع أجدى من قتاله.

الدستور العراقي حظر بموجب "المادة 9ب" وجود ميليشيات مسلّحة غير حكومية. حظرٌ لم يمنع الأحزاب والتيارات التي تقود العملية السياسيّة من تشكيل فصائل مسلّحة حكوميّة وغير حكوميّة، تأخذ مرتباتها من خزينة الدولة العراقيّة وتعلن طاعتها لمرجعيّات من خارج الحدود. فصائل قادرة، حتى أضعفها تسليحا، على ليّ أذرع الحكومة واعاقتها عن تنفيذ اية سياسات داخليّة او خارجيّة لا تلبي مصالحها أولا. فصائل يستثمر قادتها في الفوضى والانقسام المجتمعي بدعاوى حماية الطائفة والمراقد ومواسم الشعائر.. ما يدفع بسطاء الناس إلى تجميد خلافاتهم، ففي الأزمات لا يمكن التشكيك بالفصائل والمطالبة بتقنين سلاحها، بل على العكس قد تزداد نسبة التأييد لها وسينظم شباب جدد لصفوفها. وبما أن العراق بلد ولاّد للأزمات فإن السلاح المنفلت سيبقى لأعوام قادمة منفلتا، ليس لأن ذلك يحفظ سيادة البلد ويخرج المحتلين ويحمي الطائفة، كما هو معلن لحد الملل، بل لأن الحكومات المتعاقبة بعد الاحتلال كانت على الدوام بحاجة إلى هذا السلاح، وتعمل بشكل معلن على تبرير وجوده ودعمه بالمال والقوانين. وما زالت الذاكرة طرية كيف استعانت حكومة عادل عبد المهدي بــ" الطرف الثالث" لقمع تظاهرات تشرين، ما أدى إلى قتل المئات وجرح الألاف من العراقييّن الذين خرجوا يطالبون بوطن، ثم تبين لاحقا ان "الطرف الثالث" هو ذاته سلاح "المقاومة" وهو ذاته سلاح "الحشد الشعبي" وهو سلاح الجيش العراقيّ الذي تسلّلت إليه الأحزاب الحاكمة. ولا نظنها مصادفة ان الشعب السوداني هو الآخر يتحدث من أعوام عن الــ "الطرف الثالث" وعن دوره في اختطاف واغتيال العشرات من المعارضين والناشطين السودانييّن.


 

 

 

 

 

 Since 17/01/05. 
free web counter
web counter