| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأثنين 26 / 10 / 2020 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
"الحزبيّة" وتظاهرات تشرين
نصير عواد
(موقع الناس)
إنّ النظر لتظاهرات تشرين كما هي، لا كما تراها وتريدها الأحزاب السياسيّة، هو موضوع مقالنا. فمن خصائص هذه التظاهرات ان لا أحد، فرد أو مجموعة او حزب، زعم تنظيمها او قيادتها. وكل الذي نعرفه ان ثمة شباب من أصحاب الشهادات خرجوا يبحثون عن عمل، ساندتهم شرائح شبابية مهمشة تبحث عن دور لها وعن معنى لحياتها، ثم وقفت إلى جانبهم فئات من المثقفين والوطنيين الذين ملّوا وقوفهم شهودا على خراب بلدهم. كل هؤلاء تجمهروا في ساحة التحرير، قبل ان يصلوا إلى سوح أخرى، بلا حزب يمثلهم ولا ناطق رسميّ يلقي بياناتهم ولا قناة فضائيّة تنقل أخبارهم. كان تجمهرهم اشبه بردِ فعل على سياسة الخراب والنهب والتجهيل التي مارستها حكومات ما بعد الاحتلال، طالبوا بحقوق بسيطة في العمل والخدمات والحياة الكريمة، ولكن بعد ان وُوجهوا بالرصاص والقنابل المسيلة للدموع، سقط فيها شهداء وجرحى، انتقلوا من رد الفعل إلى الفعل، أغلقوا الشوارع ونصبوا الخيام وتسلحوا بوعي وعناد مخزونيّن في الذاكرة العراقيّة. فبعد عجز الحكومات العراقيّة عن توفير الأمن والازدهار، وفشل الأحزاب السياسيّة في التقليل من خيبة العراقييّن من العملية السياسيّة الطائفية التي صنعها الاحتلال، لم يتبقَ للمواطنين سوى العودة إلى ذاتهم والبحث عن صيغِ جديدةِ لمواجهة الفوضى والعنف السائدين بالبلد. ولكن انبثاق التظاهرات من الشارع لا من الحزب، من المواطن لا من السياسيّ، هو الذي أربك المعادلة السياسيّة المتوافقة شكليّا، ودفع احزاب الحكومة للبحث عن طرق اسكاتها وقمعها وشرائها. في حين بقيت الأحزاب المعارضة للحكومة متردّدة، وغير قادرة على التخلص من فكرة (ان الشباب غير ناضجين بما فيه الكفاية لقيادة تظاهرات) وانه لا بد من الاستعانة بالآباء وبالخبرات القديمة. في حين ان التظاهرات الشعبيّة المعبرة عن حاجات الناس اليوميّة لا يمكن على الدوام صنعها بمزاج هذا الحزب أو برعاية من ذاك، وهذا هو طابع تظاهرات تشرين. ولو كان للأحزاب السياسيّة دور في التنظيم المسبق لتظاهرات تشرين، لاتخذت التظاهرات على الأرض أسلوبا وشكلا آخرين. فالأحزاب الإسلاميّة التي لها أذرع مسلحة لها أسلوب في تنظيم التظاهرات، ولليساريين والمدنيين خبرتهم وأسلوبهم في الدعوة للتظاهر، وللمستقلين والعاطلين والمهمشين الذين اهلكهم الفقر والبطالة كذلك لهم اسلوبهم الجماهيريّ المختلف. ولذلك فإن غياب "الحزب" السياسيّ عن قيادة تظاهرات تشرين، والذي دفع الكثير من الحريصين للخوف عليها من التراجع والضعف، أثبت هو الآخر خطله، بعد ان بانت التظاهرات المجتمعيّة انها أكثر جدوى من التظاهرات الحزبيّة، وأثبتت ان الوعي السياسيّ يكمن في روح المعاناة، وان الشارع العراقيّ أكثر حيوية من احزابه السياسيّة، وانه قادر على الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها المواجهات اليوميّة، إن كان ذلك في التعامل مع القنابل المسيلة للدموع أو معالجة الجرحى أو جمع أزبال سوح التظاهر أو صياغة الشعارات والمواقف السياسيّة. بكلام آخر ان مشروعية تظاهرات تشرين جاءت من دعم فئات وشرائح اجتماعيّة واسعة لها، ولم تأتِ بقرار من حزب أو بفتوى من مراجع دين أو بقرار من جهات رسمية عليا، الامر الذي جعلها عصية على الجميع. ولذلك ألتف حولها كثيرون، وصار يحق للوطنيّين العراقيّين في شتى أصقاع الأرض ان يساندوها ويفخروا بها، وأن يروا في فعل الشباب بسوح التظاهر رائعا وعظيما، بعد ان أعاد لهم الأمل بوطن حر، وأشار إلى ان تضحيات العراقييّن لم تذهب سدى. لقد خرج التشرينيون لمواجهة سبعة عشر عام من الفساد والخراب، كسروا حاجز الخوف وأذابوا كتلة الخنوع المتخثرة في ذاكرة الناس، وحققوا إنجازات كبيرة، قد يكون الأكثر حضورا بينها هو بعث الروح الوطنيّة في الشارع من جديد، بعد ان طمرتها الحروب والصراعات. بمعنى إن استمرار التظاهرات هو تعميق للوطنيّة العراقيّة من جهة، ومن جهة أخرى هو أداة فاعلة بيد الشارع لمواجهة سلطة الحكومة. ولذلك على الأحزاب الوطنيّة واليساريّة ان لا تحزن وتبتئس لأن المتظاهرين وجدوا المعنى في استقلالهم، وان حراكهم غير المنظم اعطى نتائج على الأرض أفضل من تلك التي عملوا هم من اجلها. فالمتظاهرون اليوم ليسوا خالين، بعد ان زوّدهم الشارع بوعي مختلف عمن سبقوهم، سيعينهم مستقبلا في ترتيب اوراقهم السياسيّة والانتخابيّة التي لا تذهب بعيدا عن حراك الشارع. وعلى الأحزاب الوطنية التحلي بالصبر والوقوف إلى جانبهم دون شروط، وان لا يثقلوا عليهم بتجاربهم ونظرياتهم الايدولوجية، وان لا يعاجلوهم بتشكيل حزب او تيار، بتسمية قادة وناطقين. ففي العراق اليوم يوجد أكثر من (230) حزب وتيار سياسيّ، نصفها مفبرك، حيّرت المواطن من تشابه أسماءها وتطابق خطابها وتكرار وجوهها. وبالتالي فان أي حزب جديد يتشكّل سوف لن يكون سوى رقم في الفوضى السياسيّة الحاصلة بالبلد، ولذلك فإن بقاء تظاهرات تشرين شعبيّة وسلميّة هو أجدى وأنفع في الحسابات السياسيّة البعيدة. وعلى الأحزاب المعارضة للحكومة الاستفادة من حركة الشارع، من المعاني والمواقف والقيم التي صاحبتها طوال عام طويل من الشهداء والجرحى والمعوقين، وإعادة انتاجها بما يخدم المجتمع. كان ماو تسي تونغ في ثورته الصينيّة يقول (علينا ان نعلّم الجماهير بدقة، ما تعلّمناه منها بصورة مشوشة).
لا نأتي بجديد في قولنا ان الأحزاب السياسيّة بالعراق، بالذات الأحزاب الإسلاميّة، هي التي صنعت الفوضى المجتمعيّة خلال سبعة عشر عام، وان امتلاكها للسلاح والمال السياسيّ لا يؤمنان ابسط شروط العمل السياسيّ، ولا يسمحان بأجراء عملية انتخابيّة نزيهة تضمن وصول وجوه جديدة لقبة البرلمان. ورغم اعتراف قادة الأحزاب الإسلاميّة بمسؤوليتهم المباشرة عن خراب العراق، إلا أنهم لا يستطيعون سوى الاستمرار على ذات النهج، مزيد من النهب والتسلّح واستنساخ الاحزاب واضعاف الدولة. كان من الطبيعي، بعد ان قضى ديكتاتور العراق السابق على الحياة السياسيّة بالبلد، تأسيس احزاب لملئ الفراغ، واستقطاب شرائح اجتماعية كانت مغيبة عن العمل السياسيّ. ولكن رغم تكاثر هذه الأحزاب، وتنامي حضورها السياسيّ بفعل الواقع الجديد، إلا انها لم تنجح في صنع وعي سياسي يحمل أفكار وبرامج تعبر عن مصالح كل البلد. بدت فيه هذه الاحزاب انها طبخت على عجل، بلا هوية طبقيّة او وطنيّة، ولم تصنعها ضرورات صراعية. أحزاب اشبه بثكنات سياسيّة، يسودها ضعف التنظيم والارتباك والتشظي، ويغلب عليها الطابع العشائري او الطائفي او المناطقي او الشخصي. صنعت منظومة غير قادرة هي نفسها على فهمها والسيطرة عليها، وغير قادرة على توقع مستقبلها وحجم أرباحها وخسائرها. والمضحك\المبكي ان البلد ينهار اقتصاديّا وعلميّا وصحيّا وثقافيّا، في حين تتكاثر الأحزاب السياسية كالفطر المسموم. ومع كل دورة انتخابية تتفاقم مشكلات العراق، من دون ان يؤثر ذلك على تزايد اعداد الأحزاب السياسيّة. تتراجع نسب المصوتين في الانتخابات وتنهار بوصلة الولاءات في الشارع، ومع ذلك تتشكّل أحزاب جديدة، هي نسخ من أحزاب قديمة، لها ذات الخطاب والاسماء، وكأنها تنتمي لعائلة واحدة. والسؤال هو في ظل هذا الوضع السياسي المشوّه من أين للمتظاهرين السلمييّن مواجهة السلاح والمال السياسي؟ وهل تشكيل حزب او تيار او منظمة تمثل المتظاهرين هو الحل الآن؟
من المعروف ان تظاهرات تشرين لم تأتِ من فراغ، فلقد سبقتها عدة جولات للمدنييّن واليسارييّن، جرى قمعها بوحشية. يومذاك كان المتظاهرون يردّدون (موعدنا الجمعة، موعدنا في ساحة التحرير) أما تظاهرات تشرين (2019) فهي خارج تسميات المكان والزمان، تنشط دون توقع، وتنتقل من ساحة التحرير إلى سوح ومدن أخرى. وكل ذلك حدث بغياب الساسة والمعممين والاحزاب، الأمر الذي دفع البعض إلى تصويرها كنوع من "العفويّة" الناشطة على حدود الفوضى، في حين ان ديناميكية استقلال التظاهرات وقدوم الشباب من جميع مشارب الحياة والمعاناة، زوّد الانتفاضة بنمطٍ من التجدّد والتطور، وفتح لها افاق واسعة، وجذب للميادين شرائح من كافة الأعراق لإدامة زخمها وحضورها. إنّ تعبيرات "العفوية، الشبابية، الفوضوية" التي دأب السياسيون على اطلاقها لتوصيف تظاهرات تشرين، والتي تخبئ في طياتها الكثير من النوايا والاهداف، هي في المحصلة من ضمن مفردات الصراعات الحزبيّة لاحتواء سوح التظاهر. أما على الارض فإن التظاهرات مستمرة للعام الثاني، بزخم وأمل كبيرين، بدعم من الوطنييّن العراقييّن الذين اكتووا بنظام المحاصصة الطائفيّة. وأخيرا نقول انه حتى لو صدق توصيف المتحزبين لتظاهرات تشرين بالــ" العفويّة" فإنه ما من عفوية تخلو تماما من الوعي، وما من تظاهرة "عفوية" تستمر عام كامل وتعطي مئات الشهداء وآلاف الجرحى، تلفت نظر المجتمع الدولي وتستقطب شرائح اجتماعية كانت حتى الامس القريب يائسة ومتشككة، وتبقى على عفويتها.