| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الخميس 20 / 7 / 2023 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
ديموقراطية الفوضى، خمسمائة حزب عراقي
نصير عواد
(موقع الناس)
ما مغزى ان تتكاثر الأحزاب السياسيّة وتتراجع اعداد الناخبين في فترات الانتخابات؟ وما هي التطورات التي حدثت في حياة العراق والعراقييّن واستدعت تشكيل عشرات الاحزاب قبل شهور فقط من انتخابات مجالس المحافظات؟ وهل أدى، أو سيؤدي، هذا التكاثر إلى تعميق الحياة الحزبيّة أم ان له مهمات غير مكتوبة لا علاقة لها بالعمل الحزبي؟ للوهلة الأولى يبدو ان تزايد الأحزاب ظاهرة صحية وجزء من عملية ديموقراطيّة وليدة في بلدٍ خارج توا من أربعة عقود من الظلم ومن غياب الحياة السياسيّة، وإنه من حق أي فرد او مجموعة المساهمة في صنع القرار الوطني ضمن القوانين المعمول بها.هنا ليس ثمّة اشكال بالمعنى القانونيّ والسياسيّ، ولكن حين تظهر فجأة عشرات التنظيمات المتشابهة العناوين والخطابات، قبل الاستحقاق الانتخابي، ثم تختفي بعد ظهور النتائج وتوزيع الحصص، يكون من الطبيعي وضع علامات الاستفهام خلف العناوين والاهداف. على الورق لا أحد يستطيع تتبع خيوط تشكيل وتمويل تنظيمات "الظل" فذلك من اسرار الدولة العميقة، ولكن على الأرض ووفق المعطيات السياسيّة يمكننا القول ان الأحزاب الوطنيّة والتنظيمات الناشئة، التي تعاني الحصار والتهميش والتخوين، غير قادرة على تمويل نفسها، وحاولت جاهدة تجميع شتاتها في قائمة واحدة لاختصار الوقت والجهد والمال، وبالتالي لا تستطيع تشكيل وتمويل أحزاب "ظل" في حين ان الأحزاب التي تملك السلطة والمال بدت هي الأكثر قدرة على صنع وتمويل تنظيمات وعناوين شتى للسيطرة على المشهد الانتخابي. وهي لعبة مكررة منذ انتخابات عام (2018) عندما شارك (204) حزب وتنظيم، وتكررت في انتخابات عام (2021) عندما زادت الاعداد إلى (235) حزب وتنظيم، وفي انتخابات مجالس المحافظات القادمة (18 ديسمبر، كانون الأول المقبل) .
وحسب المتحدث باسم دائرة الأحزاب في المفوضية العليا للانتخابات "هيمان حسن" فإن عدد الأحزاب السياسية المجازة بلغ "270" حزباً، فيما اضافت المتحدثة باسم المفوضية جمانة القروي إن (بلغ عدد طلبات تسجيل الأحزاب قيد التأسيس "77" حزباً. وأن عدد طلبات تسجيل الأحزاب المرفوضة بقرار مجلس المفوضين "151" حزباً، وعدد طلبات تسجيل الأحزاب التي تقدمت بسحب طلبها "18" حزباً، فيما بلغ عدد الأحزاب التي حلّت نفسها "3" أحزاب، والتي تم تجميد نشاطها حزبين). إنّ اتساع الظاهرة الحزبيّة الكارتونية مع كل دورة انتخابيّة يشير إلى ان الاحزاب التي تملك المال والسلطة ما زالت تلعب ذات اللعبة، معولة على ذاكرة العراقييّن القصيرة، وعلى سلبية الوطنيّين ويأسهم من العملية الانتخابيّة. ونستطيع القول انه مع غياب القوانين التي تحدد عدد الأحزاب في البلد أو تمنع العبث السياسيّ ودور المال الفاسد في تشكيل تنظيمات "انتخابية" تختفي بعد ظهور النتائج، فإن اللعب الانتخابي سيستمر طويلا، وقد تحدث طفرات في اعداد الأحزاب والتنظيمات في المستقبل تتجاوز تلك المار ذكرها. أمّا المواطن العراقي فهو يعرف بالتجربة ان كثرة البهارات تفسد الطعام. ولم يعدْ يهمه عدد الأحزاب، زاد ام نقص، كما كان يهتم بعد سقوط الديكتاتور، فلقد اصابه الملل من ذات السياسات وذات الوجوه التي شاخت وفقدت كرامتها عند كرسيّ السلطة.
المتتبع للتحضيرات الجارية قبل انتخابات مجالس المحافظات سيشهد تسابق الأحزاب الكبيرة التي تسيطر على المشهد السياسيّ في تشكيل احزاب وتنظيمات صورية، ودعمها بالمال والدعاية والموقف السياسيّ، بذريعة توسيع رقعة العمل السياسيّ وإفساح المجال أمام وجوه جديدة. وللتذكير فقط ان هذه الاحزاب كانت على الدوام مناوئة للأحزاب الصغيرة والناشئة، بحجة ان كثرتها يعوق تشكيل الحكومة، ولكن ما ان يقترب كل استحقاق انتخابي حتى تبادر الأحزاب الكبيرة إلى إنشاء أحزاب صورية، لا برامج سياسية لها ولا مقرات ثابتة. ممّا لا شك فيه ان تأسيس الأحزاب حق كفله الدستور، ولكن ظهور خمسمائة حزب وتيار وتنظيم قد يضع العراق على أبواب موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، وفي ذات الوقت يضع الظاهرة الحزبية في قطاع عدم الاحترام. خصوصا وان أغلب تنظيمات "الظل" هذه تتمحور حول شخصيات سياسية هي من أوصلت البلد للخراب؛ نوري المالكي، هادي العامري، مقتدى الصدر، قيس الخزعلي.. وفي نظرة عامة على خارطة الاتجاهات السياسيّة العراقية سنجدها لا تتعدى أصابع اليدين (إسلامية، طائفية، يسارية، ليبرالية، قومية، وطنية..) ولو حسبنا لكل اتجاه خمسة أحزاب، وأخذنا بنظر الاعتبار ميّل السياسيّين الدائم للانشقاق والتكتل، إضافة لظهور مجموعات عرقيّة وطائفيّة وقبليّة وعائليّة، فسوف لن نصل الأربعين حزبا، الأمر الذي يبقي تضخم الأحزاب بهذه الطريقة المهولة مصدر شكوك وأسئلة عن طبيعة العمل السياسي وعن حاجة العراق لهذا العدد الهائل من الأحزاب، في ظل عملية سياسية فاشلة بكل المقاييس. فلقد اثبتت تجربة العراق بعد عقدين من الزمن ان الأحزاب التي تنشأ في ظروف الانقسامات المجتمعيّة وانفلات السلاح ستكون عامل آزمة أكثر منها عامل حل، وستنتج اثناء خلافاتها تنظيمات أكثر عنفا وتطرفا. وبالتالي فإن أي حديث عن استقرار مجتمعيّ ونزاهة انتخابيّة في ظل انفلات السلاح وبقاء ذات الوجوه على هرم السلطة سيكون نكتة باردة.
إن ارتباط أحزاب السلطة بالفساد وبالسيطرة على المنافذ الحدودية وتجارة المخدرات وتهريب النفط يؤكد بما لا يقبل الشك ان استخدام المال السياسي بات جزء من المنافسة الانتخابيّة بالبلد. العراقيون أدركوا حقيقة ضياع أموالهم ومستقبل ابنائهم، وهو ما أدى إلى تراجع الحضور "الكاريزمي" لقادة الأحزاب الكبيرة وإلى فضح شعاراتهم ومشاريعهم القديمة، الأمر الذي دفع قادة هذه الاحزاب إلى توظيف المال الفاسد في تشكيل وتمويل أحزاب كرتونية تنفذ سياساتهم وتضمن عدم المساس بشخصهم، وهو نشاط مضمون في المستوى القريب، وفي ذات الوقت هو عمل لا يعارض القانون على الرغم من الجنبة الماليّة والأخلاقيّة التي تصاحبه. هؤلاء الذين يقفون خلف هذه الأفكار الشيطانيّة، مستعينين بخبرات إيرانيّة ولبنانيّة، لا يشغلهم ان هذه الفوضى الحزبيّة قد تؤدي إلى تراجع نسبة المشاركة الشعبيّة وفقدان العمل السياسي بالعراق مصداقيته، ولا يهمهم كثيرا تشابه عناوين وخطابات الاحزاب التي شكّلوها قبل الانتخابات، ولا حتى فوزها او خسارتها. هم يريدون من ذلك تشتيت الأصوات والتشويش على الأحزاب الوطنيّة وتغذية حالة اليأس بالشارع لأرباك العملية الانتخابيّة وإبقاء التوازن الانتخابي على ما هو عليه. في الحقيقة ظاهرة تصنيع الأحزاب الكارتونية ليست موجهة فقط للتشويش على الأحزاب الوطنيّة والتنظيمات الناشئة، فأحيانا تظهر قوائم انتخابية "مستقلة" نتيجة صراع بين الكتل الكبيرة، كما هو حادث الآن بين الإطار التنسيقي وبين التيار الصدري، فالفوضى السياسيّة لا توفر أحدا وقد تخرج أحيانا عن توقعات مَن خطّطوا وموّلوا. وتأسيسا على التجارب الانتخابيّة السابقة نستطيع القول ان اغلب أحزاب "الظل" التي جرى تشكيلها قبل انتخابات مجالس المحافظات القادمة ستمر عناوينها مرور الكرام، وستتحول إلى أرقام ومقاعد انتخابية تبقي الوضع على ما هو عليه، أو أسوء مما هو عليه الآن. بل حتى لو تدارك ضباع العملية السياسيّة الأمر في الأمتار الأخيرة قبل الانتخابات المحليّة وفكروا بتغيير جلدهم عبر تأسيس أحزاب وتحالفات تتحاشى الأسماء الدينيّة "وجوه مدنيّة، كوادر مستقلة، أيدي نظيفة" فلن يحدث تغييرا جذريا يغطي على فشل السياسات التنمويّة والاقتصاديّة عبر عقدين من الزمن تسببت به ذات المنظومة السياسيّة الطائفيّة التي كانت وما زالت تتغذى على الفساد والمحسوبية وإضعاف مؤسسات الدولة. ووسط هذه الفوضى الحزبيّة سيكون من السذاجة الظن بأن أحزاب الدولة العميقة، التي تنعمت بالمال والسلطة، ستقبل بفقدان جزء من حصتها للأحزاب التي شكّلوها على عجل. بل حتى التنظيمات التي شكّلوها وقدّر لها ان تحقق حضورا انتخابيّا جيدا سيتعاملون معها كنوع من التعدديّة الحزبيّة ولكن ضمن الاحزاب التي موّلتها، أي لا استقلاليّة ولا برامج سياسيّة خاصة بها، الأمر الذي سيؤدي إلى اختفاء الكثير من هذه الأحزاب والتنظيمات دون ان نلحق بمعرفة برامجها وشخوصها.