| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الخميس 20 / 12 / 2018 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
السرديّة الانصاريّة،
ملاحظات أوليّة (1)
نصير عواد
(موقع الناس)
على العموم يمكننا القول ان الكتابة عن تجربة الكفاح المسلّح بكوردستان العراق، التي وقعت احداثها في ثمانينيات القرن الفائت، انحسرت بين الأنصار، وانحسر ظهورها في وسائل الاعلام المحسوبة على اليسار، لكنها بقيت حاضرة ولها خصوصيتها وقرائها ومتابعيها من السياسيّين والمؤرخين والمعنيّين، إلى جانب نسبة قليلة من الأجيال الجديدة التي ترعرعت بعد سقوط الديكتاتور. خصوصية هذه الكتابة تكمن في ان صنّاع التجربة هم مادتها ورواتها، وأن الحوادث التي وقعت بكوردستان اثناء حرب الأنصار، شكّلت لحمتها وسداها. الامر الذي صنع مناخها العام وهويتها، رغم المدة الزمنية القصيرة التي شغلتها التجربة. الحديث عن خصوصية الكتابة الانصاريّة لا يعني فقط الحديث عن اللغة وأسلوب السرد وشخصية الراوي بل يعني كذلك طبيعة التعامل مع العناصر الداخلية للحادثة، في الزمان والمكان والافراد. فالعزلة ومواجهة الموت وانتظار المجهول جدران مرعبة تلقي بظلها على طريقة تفكير الراوي وعلاقته بما حوله، تنشط فيها كثيرا مخيلة المجموعة المعزولة.
الكتابة الانصاريّة ابنة المنفى، أنتج ذلك لغة متأثرة بمفردات الحرية الاوربيّة وبطبيعة حياة المنفيّين المليئة بالعزلة والبرد والمعاناة. أي ان الكتابة مبادرة فردية، ظهرت ضمن ذاكرة أوسع وأعمق هي ذاكرة الأنصار، تجلى في غياب الحوادث الفرديّة وفي استعانة الكثير من الانصار ببعضهم، لتصحيح اسم او تحديد زمان أو مكان وقوع الامر. إنّ رواية النصير للحادثة من زاويته لا يعني بأي حال احتكارها، ولم نصادف من جيّر حادثة لنفسه فقط، إلا في حالة ان يكون هو بطلها الوحيد. يحدث ان يميل بعضهم إلى دمج الحادثة بموقفه الشخصيّ، أو ليّها لإبراز دوره فيها، عبر تقديم وتأخير في سلّم أولوياتها. ولكن لم يحدث استيلاء معلن على الحادثة يُخرجها من سياقها ويُهمّش أبطالها. فذاكرة الأنصار، حتى وهي في خريفها، لا تسمح بذلك، خصوصا ان الكثير من المقاتلين ما زالوا احياء، وحيويّين، يصعب تجاوزهم.
الحادثة ليست ملكاً لأحد. فبعد وقوعها تكون ملكا لجميع الأنصار المتواجدين، يروونها كلٌّ من زاويته. وحين تنتقل إلى مواقع انصاريّة أخرى ستلبس أثواب أخرى، وعندما تصل اخبارها القرى الكوردية المجاورة ستكون مفتوحة الضفاف وسيتضاعف حينها عدد الشهداء وساعات القتال، وسيتطوع بعض الفلاحين بالحديث عن معارك شاهدوها بأعينهم وقبور حفروها بأيديهم. فذاكرة القرويين الشفاهيّة معروفة بالمبالغة والسرعة في نقل اخبار القتال في الجبال، إلاّ ان رواية الأنصار بقيت لها خصوصيتها، وأنها نجحت في ان تكون سبباً لبقاء وتوثيق الكثير من الحوادث التي داهمها النسيان.
المعروف عن الحادثة انها تقع ثم تنتهي، ولا يمكن ان نضيف إليها شيئا. ولكن استمرارها على ألسن الرواة، وانتقالها من مكان إلى آخر، هو الذي يجعلها مفتوحة الضفاف، قد يضعف فيها عنصر او يقوى فيها عنصر آخر حسب أغراض الروي. أما إذا رُويت الحادثة بعد عشرات السنين من وقوعها، كما هو حاصل مع الأنصار بالمنفى، فستكون الحادثة مسرحا للانتهاك عن قصد او دونه، وقد يكون ذلك عن حبٍ وحرصٍ حقيقيّين. بدليل ان الكثير من الكتابات التي ظهرت عن تجربة الأنصار الشيوعيّين حصلت حولها خلافات بين الأنصار أنفسهم، بسبب غياب اسم او حدوث ثلم في بنية الحادثة.
رغم الظروف الصعبة التي عاشها الأنصار، بما فيها عدد الشهداء وطعنات الأصدقاء وشراسة الديكتاتوريّة، إلا إنهم لم يلبسوا ثوب الضحية أو تُروى سرديتهم على انها فقط حكاية الضحايا، بل على العكس من ذلك نجد روايتهم تستند إلى خلفية مليئة بالمواجهة والمقاومة، والعناد أحيانا. رواية الضحايا تستعين بالذاكرة الشفاهية المرتبطة بالماضي والأمنيات والعواطف، وقد لا تُعرف فيها وجوه أصحابها أو تُسمع مطالبهم. في حين ان رواية الأنصار الشيوعيّين اعتمدت التوثيق وتسمية الأشياء بأسمائها، لم يخفوا فيها مواقفهم واعداد شهدائهم واهدافهم في اسقاط الديكتاتورية، لا في أيام القتال ولا حتى بعد عقود من انتهائه.
نسبة قليلة من كتابات الأنصار اعتمدت يوميات وقصاصات كان البعض قد احتفظ بها أعوام في المنفى، وقسم آخر من الكتابات عوّلت على الذاكرة الفرديّة في توثيق الاحداث، وقسم ثالث منها استعان اصحابها باللقاءات ووثائق الحزب الشيوعيّ العراقيّ لتدعيم سرديتهم، الامر الذي صنع بطبيعته اختلافات في الرؤى وتنوعا في السرد والمواقف. بعض الكتابات اٌغرقت بالسياسة وبالدفاع عن نضالات الحزب الشيوعيّ العراقيّ، الذي احتضن وقاد التجربة. وكتابات اختصت بالمعارك وبشهداء الحركة الانصاريّة، فهناك الكثير من الديون يتوجب على الأنصار تسديدها للشهداء. وكتابات هيمنت عليها النرجسيّة والدراما الفرديّة. وكتابات تقصدت نشر الغسيل الوسخ وتصفية حسابات متأخرة، لم تضِف الكثير لأصحابها. وكتابات دافعت عن وجهات نظر أصحابها من الصراع الداخلي المحتدم يومذاك. ولكن الاعم الاغلب من هذه الكتابات سار بقدمين: إدامة التاريخ والوفاء للشهداء.
كتابات الانصار ليست مصادفة إعلاميّة، ولم يأتِ ظهورها نتيجة نزوة أو أزمة أو قرار حزبي، بل هي ضرورة انصارية تأخر ظهورها لأسباب موضوعية. الأنصار بالمنفى لم تصدأ أرواحهم او يستكينوا بل كانوا على الدوام حاضرين ومساهمين في الحراك الوطني، من بينها الكتابة عن حركة الأنصار الشيوعيّين باعتبارها جزء من تاريخ ونضال الشعب العراقي. قد تأتي كتاباتهم ردة فعل على خلل في رواية معينة، وقد تأتي بسبب الحاح من مقربين لتوضيح الحقائق، فهناك الكثير من الأنصار يتسنمون مواقع سياسيّة رفيعة ويمتلكون حقائق دامغة أو يتمتعون بذاكرة ذهبية تساهم في تصويب الرأي وحسم الجدل حول الامور المختلف عليها. ولكن هذا لا يقلل من حقيقة ان الكثير من كتابات الأنصار قد لفّها النسيان، خصوصا المقالات المنفردة والخواطر وردود الأفعال السريعة على المقالات. وفي ذات الوقت توجد كتابات امتلكت حظ التوثيق والبقاء في الذاكرة عبر كتب تأرخة ومذكرات وسيّر ودراسات. أما الكتابات المنشورة على حلقات وفصول في موقع "الينابيع" الخاص بالأنصار الشيوعيّين، فمن الواضح ان جهدا بُذل في صفها وتوثيق تفاصيلها. تحدّث أصحابها عن انها فصول من كتاب، أو مشروع كتاب، في حين ان نشرها على شكل حلقات متباعدة زمنيا أفقدها التلقائية التي يتمتع بها الكتاب، فالقارئ لا يستطيع على الدوام المتابعة والربط بين الحوادث.
ليس من أولويات الانصار انتقاء الحوادث أو تفضيل هذه على تلك، بل رواية الحوادث التي عاشوها، كل مقاتل من موقعه. ولذلك نجد رواياتهم تضج بمفردات يومية مكررة عن الطعام والتحطيب ونوبات الحراسة وجلب التموين وحِران البغل وجر "الباكردان" على سطح الدار... بلا شك هذه المفردات الحياتية هي حقائق يومية عاشها النصير في ظروف صعبة، ولكنها تبقى حقائق ركيكة، لأن التكرار يضعف الألية التي تحوّل الحراك اليومي إلى حادثة مهمة، ما لم يطرأ ما يربك رتابتها. ومع ذلك تبقى مفردات الحياة اليومية حاضرة في كتابات الأنصار، فهي قريبة من روحهم وذاكرتهم. في الظروف الاعتيادية تكون طبيعة الحادثة هي التي تصنع حضورها ومدة بقاءها في الذاكرة ولكن عند المجموعة المعزولة قصدا تنشط المخيلة باتجاه آخر، وقد تحجز أصغر التفاصيل مكان لها في الذاكرة، يرى فيها الراوي ما لا يراه القارئ. بمعنى ان الأنصار لم ينتقوا الحوادث لأنهم لم يفترضوا معرفة القارئ بها، بل افترضوا العكس، فلجأوا إلى سرد تفاصيل الحياة اليومية حتى يُدرك القارئ طبيعة الظروف التي عاشها الانصار.
إضافة إلى مفردات الحياة اليومية شهدت الكتابة الانصارية الكثير من المشتركات بين سطورها كــ(الجبل، السلاح، الشهداء، المعارك...) وكل كتابة لها اسلوبها وخصوصيتها. من المشتركات التي تكرّرت في كتابات الأنصار، والتي ليس لها علاقة لا بمفردات الحياة اليومية ولا بغيرها، هي حكاية "اليوم الأول" لصعودهم الجبل. لعنة تصيب النصير مرة واحدة فقط، تلتصق بذاكرته، تجعله يبتسم بحب وعذاب وسخرية كلما مر ذكرها. إنّ تواجد الأنصار في قرى وجبال كوردستان، بعيدا عن الشارع العراقي وصراعاته المجتمعية، جعل من الحوادث في كتاباتهم شبه معزولة، لم يسمع بها الآخرون داخل الوطن او خارجه، وبالتالي فإن حكاية "اليوم الأول" التي عانى منها جميع الأنصار، قد لا تعني الكثير لمن هم على الضفة الأخرى للنهر. ذلك لا يعني ان ضعفا في بنية وعناصر الحادثة، أو حوادث اليوم الأول، ولكن الذاكرة المحاصرة غالبا ما تنتج، وتُعيد انتاج، الحادثة على شاكلتها. تنهمك بالتفاصيل الصغيرة وتروي المهم والعابر منها.
عندما نتحدث عن الحادثة المعزولة فإننا لا نتحدث فقط عن بعدها عن الحواضر المدنية بل كذلك نعني عزلتها عن الحوادث التي تقع في الجبل أحيانا، بسبب انتشار المقرات والجبال والمفارز على مساحة شاسعة، ولذلك نجد بعض الرواة الذين حاولوا إيجاد علاقات سببية بين الحوادث التي وقعت في قواطع القتال لم ينجحوا في إعطاء صورة متكاملة عنها، تجلى في سرد متقطع وبناء افقي مبعثر للأحداث، فكل قاطع له قائده وخطته ومقاتليه وظروفه. نحن ما زلنا نتحدث عن رواية الأنصار لا السياسي، فهذا الأخير قادر على افتعال العلاقات السببية بين الحوادث التي تقع بكوردستان وبغداد وموسكو وبرلين، وربطها ذهنيا او تشبيهها بغيرها، عبر لغة تختزلها بموقف سياسيّ.
إنّ كثرة الكتابات الانصاريّة، والّتي تكون أحيانا اشبه بالفزعة، لا يعني امتلاكها كلها شروط الكتابة. بعضها ضعيف الملامح ويغيب عنه جنس الكتابة، لا نعرف هل هو مقالة او رد أو تصحيح لمعلومة. مقالات ينشرها أصحابها بلهجة مفصحة فيها الكثير من مزاج الراوي الذي كان يتمتع به اثناء وجوده بين رفاقه بالجبل. يطيلون فيها الوقوف عند الجوانب الإنسانيّة، ويرشون الماء على السطور لتخفيف المناخ السياسيّ في الكتابة، ولكن واقع الحال يقول ان لحمة التجربة وسداها هو الحزب الشيوعي العراقي، وأن السياسة تبقى خلفية دائمة للمشهد. ومع ذلك نوكد ان تعامل الأنصار مع الحادثة يختلف كثيرا عنه عند السياسي. فهذا الأخير يتعامل مع عناصر الحادثة كمفردات تخدم، أو لا تخدم، أغراضه السياسيّة، وبالتالي فإن اضعاف عنصر او تقوية آخر يأتي من باب دعم الافكار لا الحادثة؛ بمعنى ان السياسيّ المنشغل بأفكاره يحلّل الحادثة لا يرويها. في حين ان الأنصار قدّموا رواية الحادثة على تحليلها واعطوا دورا كبيرا لعناصر الحادثة، قد يكون العنصر الأهم في روايتهم هو "البطل" إن كان فردا او مجموعة. الــ"البطل" هنا لا نقصد به السارد بقدر ما نقصد به صنّاع الحادثة، إنْ كانوا شهداء أو أحياء يرزقون. في الجبل كان نكران الذات والقدرة على التضحية من المفردات الأساسيّة في حياة الأنصار الشيوعيّين، ولذلك ليس غريبا ان نشهد ضعف الانا وغياب ضمير المتكلم في كتاباتهم، كذلك غياب سيرة الطفولة وتفاصيل الحياة الشخصية عنها، بل بعضهم ما زال حتى اليوم يكتب باسمه الذي تعارف عليه في الجبل وليس باسمه الحقيقي. رغم ان المبادئ السياسيّة العامة للأنصار أكدت على دور المجموعة لا الفرد، وأن حياتهم في الجبل كانت هي الأخرى شبيهة بحياة القطعان، في النوم والطعام والسير في المفارز، إلا أنهم في روايتهم للحوادث يعطون أهمية واضحة للفرد، يسمون المقاتلين بأسمائهم، وأحيانا يسمون البغال بأسمائها لما لها من دور في حياتهم اليوميّة. ومع ذلك لا يمكن انكار حقيقة ان وجود الفرد في السرديّة الانصاريّة جرى رسمه أحيانا برومانتيكية مبالغ فيها، حتى اننا بصعوبة نجد حالات ضعف أو مواقف سلبية للأنصار في كتاباتهم، فهل رقق ركض السنين بالمنفى عواطف الرواة وجعلهم يبحثون عن أكثر من عذر لرفاقهم؟ إنّ الحوادث الانصاريّة، بسبب جسامتها وقسوتها، لا يمكن تناولها من دون أسماء وابطال، وبالذات أسماء الشهداء. فوجودهم يسلّح الحادثة بمقاومة النسيان وبعدم القدرة على التشكيك فيها. والمتتبع للكتابة الانصاريّة سيجد نسبة كبيرة منها تناول حياة وظروف استشهاد المقاتلين بالتفصيل، وقد نقرأ عدة مقالات لكتّاب مختلفين عن شهيد واحد. الشهيد له حضور خاص في ذاكرة الأنصار، جرى تناول موضوعه بقدسية، تحيط به النزاهة والعاطفة والحزن والبطولة، ولا يمكن بأي حال رواية غير ذلك.
مَن عايش حركة الأنصار الشيوعيّين يتذكر جيدا حقيقة ان اغلب الأنصار يومذاك ما كانوا يدنون النار لرغيفهم والحديث عن بطولاتهم، وكانت قلّة الكلام ونكرن الذات والقدرة على التضحية أوضح صفاتهم. ولكن بعد انتهاء التجربة وسقوط الديكتاتور وانفلات وسائل التواصل الاجتماعيّ، حدث استرخاء في القيّم وبات البعض يبحث في رماد السنين عن أصغر البطولات للنفخ فيها، وذهب آخرون للحديث عن بطولات هم ليسوا ورائها، وجلس بعض ثالث على التل يحصون هفوات الآخرين. وأحيانا يخرج علينا نصير غاضب بحفنة سطور على "الفيسبوك" يلعن تاريخه ويشتم بلده، ثم يختفي من على الشاشة. بالطبع لكل نصير ثقافته التي تختلف عن الآخرين، والتي ستؤدي بالضرورة إلى اختلاف في الأسلوب والهدف، ولكن المشكل هو ان يلغي أحدهم رواية صاحبه أو يلجأ للتشكيك بها بسبب اختلاف في زاوية الرؤية لعناصر الحادثة في الزمان والمكان والابطال. والمتتبع لكتابات الأنصار سيجد أحيانا حادثة واحدة قد رويت بعدد المشاركين فيها. فالرواة يهتمون برواياتهم في حين ان الحادثة هي من يوزع المعلومات عليهم. الحادثة تقع أولا، وتنتهي، ثم يجري توزيعها على ألسن الرواة. تاركة لهم حرية الروي وتقديم عنصر على آخر، حسب الغرض.
لا نأتي بجديد في قولنا إن سيادة فعل الماضي على الكتابة الانصارية يُعد من أبرز سماتها. فمن الواضح ان النصير قبل ان يدحرج الحادثة صوب النشر يعمل كثيرا على توثيق عناصرها من الأنصار الذين ما زالوا احياء، وبالذات التحديدات الزمنية. الامر الذي جعل الزمن هو الأكثر دقة من بين عناصر الحادثة الأخرى. من النادر ان يتجاوز الراوي زمن وقوع الحادثة إلى أزمنة أخرى، كالطفولة أو أيام الدراسة، فتحديد الزمن عنده جزء من اقناع القارئ بحقيقة وقوع الامر. ولكن هذا لا يمنع من أن يلجأ بعض الرواة، بعد عقود من وقوع الامر وضعف الذاكرة، إلى تحديدات عامة للزمن (في عام كذا ... أو في شتاء عام...). الملفت إن الزمن لم يكن من أولويات الأنصار اثناء تواجدهم في الجبل، فالعزلة وأطباع الفلاحين الكورد أثرا يومذاك في تعامل الأنصار مع الزمن. وفي كثير من الكتابات نقرأ عن معاناة الذين صعدوا توا للجبل عندما تطول بهم الرحلة أيام واسابيع، وكيف يتحدث قائد المفرزة عن ساعات، وأن نبع الماء على مسافة دقائق.
المكان يحتضن الحادثة ويشارك في صنعها، هذا ما اعتدنا عليه، ولكننا في رواية الأنصار نجد الحادثة تضم أكثر من مكان، فقد ينتقل المقاتلين من القرية إلى السهل وإلى الجبل، إلى حين انتهاء المعركة، أو الحادثة. بمعنى ان الحادثة قد تقع في مكان وتنتهي في آخر. المتابع للكتابة سيجد ان الاحداث التي رواها الانصار قليلة، مؤلمة وخاصة بهم، ولذلك نجدهم على مهلهم يروون وسط المكان والزمان، لا بمحاذاتهما. المكان يشكل أحد الاعمدة الأساسية في الكتابة الانصارية، وهناك الكثير من الكتابات تبدأ بالمكان (قرية بيبان في قلب سهل نينوى.. رغم خطورة موقعها حيث يخترقها الشارع العام.. كانت من اوائل القرى التي شهدت تحركات مجاميع الانصار الأولى). صحيح ان المفردات المكانية مكررة ومتشابهة احيانا، الجبل والسهل والاشكفتة والمطبخ...، ولكن هناك مفردات داخلية وأسماء قرى واودية وقمم مختلفة تسير مع الحادثة، يذكرها الأنصار في رواياتهم ويتنادون في توثيقها وتصحيح لفظها بلغتها الاصلية. قد تكون أوضح الأمكنة في الكتابة الانصاريّة هو الجبل، بثلوجه وغاباته وحيواناته. شغل مساحة واسعة من ذاكرتهم، فهو ليست كومة احجار وجدران بل هو حصنهم وملجأهم وسلاحهم الاحتياط، يعودون إليه عند اشتداد الازمات. الجبل، كفضاء ناء وعصيّ، يعطي الإحساس بالقوة والحرية ووسع المخيلة.
بعد أعوام من كتابات الانصار صار واضحا ان التجربة عظيمة، وقد آن الأوان لكي تخرج من دائرة الحكي والتكرار لترى ضوء الشمس وتشم هواء آخر. آن لها ان تخرج إلى ميدان الادب والفن والتاريخ، فالحياة أوسع من فكرة. بالطبع هذا الخروج، رغم حذره وحرصه ونداوته، سيجلب مشاكله معه. إنْ كان ذلك على مستوى الأدوات او الأغراض. فبعض الانصار يميل إلى تسمية الأشياء بأسمائها في رواية الاحداث ولا يستطيع هضم الرموز ودمج الشخوص أو الاشارة لها من بعيد، والبعض الآخر لا يحتمل عبور الحوادث والاسماء، بل ان أحدهم هاجم رواية بسبب غياب اسمه في احداثها، وآخر هاجم رواية أخرى لورود اسمه فيها؛ بمعنى ان مشاكل الكتابة ليست مادية وتقنية فقط، بل هي كذلك في نسيج الأنصار الشائك والصعب. الكل يتذكر جيدا عندما بدأت حركة الأنصار الشيوعيّين كيف كان جل مقاتليها من قاعدة الحزب المتمرسة بالنضال، بعد ان كان الحزب يمتلك سياجا جماهيريا يناضل به طوال نصف قرن من تاريخه. وهذه القاعدة الحزبيّة كانت مليئة بالكوادر الثقافية العلمية والسياسية الصعبة المراس، والتي لا تكف عن النبش والسؤال. قاعدة حزبية حافظت على ايقاعها بالمنفى، واستمرت تقرأ وتتابع وتحلل الظواهر، وتحاول ان تساهم بشكل يومي في الصراع الدائر الآن بالعراق. هذا الهم الوطني الرائع للأنصار يتضمن حقيقة ان أية فكرة أو رأي أو مشروع ثقافي جديد لا ينسجم مع تطلعاتهم سيكون في مرمى سهامهم، ويستطيع القارئ النبيه إدراك سبب غياب الاسماء والعناوين في مقالنا.
(1) هي ملاحظات أوليّة لأن الكتابة الانصاريّة لم تكتمل ملامحها بعد ولم تتحوّل إلى مشروع. من جهة أخرى نحن توقفنا فقط عند النصوص النثرية التي اطلعنا عليها في وسائل النشر، وما زالت هناك الكثير من القصائد والروايات والذكريات واللوحات والاشرطة السينمائية التي يمكن ادراجها ضمن سرديّة الأنصار، تحتاج أكثر من وقفة.