| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
الأحد 16 / 6 / 2019 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
الذّاكرة العراقيّة ليست بخير
نصير عواد
(موقع الناس)
يوم فكرنا بالكتابة عن تاريخ المدينة، ذهبنا للبحث عن أرشيفها القديم، الذي تركه العثمانيون بعد سقوط خلافتهم الباهتة، ففوجئنا بأنهم تخلّصوا من تلك الوثائق والأوراق المركونة لعشرات الاعوام، وأرسلوها إلى المعمل لغرض إعادة تحويلها إلى عجينة تُصنع منها كعوب الأحذية. هذا السخاء البائس بما فيه من اعتداء على الذاكرة الاجتماعيّة وإهانة لما تركه الاسلاف، نستطيع البحث له عن عذر بسبب ما يحدث بالعراق من تجهيل وفوضى وحروب، ولكن السخاء المستمر والمنظّم للتخلص من أرث البلد وتغيير أسماء امكنته وهدم تماثيله هو الذي يستدعي التوقف. فكلّ وثيقة أثر، وكلّ مكان له حكاية وتاريخ.
قبل ان تتسرب المرارة إلى موضوعنا نذكّر بحقيقة أن معالم باريس التي يزورها ملايين البشر، وشوارع مدينة لندن القديمة التي رُصفت بالحجارة لسير عربات الملوك، وكنائس موسكو وساحتها الحمراء التي شهدت الثورات والانتكاسات، وقصور مدينة براغ الفارهة المنتشرة على التلال، كلها معالم تاريخيّة بناها القياصرة والطغاة الذين آذوا شعوبهم. بل حتى قصور الاندلس والشام، ومساجدها الاثرية، هي الأخرى بناها الملوك والامراء العرب لتخليد اسمائهم. والسؤال هو ماذا سيحدث لو ان الشعوب، وقواها الفاعلة، هدمت معالم المدن التاريخية، وغيرت أسماء شوارعها وساحاتها لغرض محو أثار الطغاة؟
لقد ظن ديكتاتور العراق السابق بأنه باق على كرسيّ السلطة إلى الابد، وسيرثه أولاده من بعده، وان بضعة عقود كافية لمحو الأسماء وليّ الذاكرة العراقيّة. فبعد ان طمر اهوار الجنوب ودمر عشرات القرى في كوردستان، استحوذ على الشارع العراقيّ عبر استيلاء حزبه على المجال السياسيّ ووسائل التلفزة والاعلام. جرى ذلك ببطءٍ مدروس استخدم فيه المال والقانون والقمع السياسيّ لتغيير أسماء المدن والاحياء والشوارع، بل وتغيير علم العراق واسم الدولة بعد ان حوّله من (الجمهورية العراقية إلى جمهورية العراق). وبما ان ديكتاتور العراق انشغل ببعث الماضي البعيد، لا الماضي القريب، عمد إلى اتلاف الوثائق والأفلام والخطب التي تذكّر الناس بمن هم أفضل منه، وبالذات فترة حكم عبد الكريم قاسم، فغيّر أسماء الأمكنة التي أنشأها الزعيم، وأوعز إلى اصدار العشرات من الكتب والنشرات والأفلام التي تقلل من دوره في انقلاب تموز عام 1958، وتصوير عملية قتله من دون محاكمة، بطولة ومأثرة.
إنّ الدعوة التي أطلقها حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ لإعادة كتابة التاريخ، في الثلث الأخير من القرن الفائت، اثبتت فشلها وسذاجتها، فالانتقائية في كتابة التاريخ لها معضلاتها أيضا. صاحب تلك الدعوة انفلات في تغيير أسماء الأمكنة، فقد أُطلق أسم "صدام" على مدن ومطارات وجسور وقصور ومستشفيات وجامعات وشوارع، بعد ان أُلغيت الأسماء القديمة. وذهبت الرومانسية بالديكتاتور حد انه أطلق اسمه على أكثر من حيّ سكنيّ في العاصمة بغداد (حيّ صدام في البياع، ومدينة صدام، مدينة الثورة سابقا) ثم ألغى اسم الكرادة وحوله إلى ياسر عرفات، مع ان الوثائق تروي ان الحي نشأ نهاية القرن التاسع عشر، وانه سُميّ بـــ (حيّ الكراده) بسبب ان اغلب ساكنيه من المزارعين الذين يستخدمون (الكرد \الجرد ) في اسقاء اراضيهم. إنّ التعامل مع المكان على هذا النحو يعني، أول ما يعنيه، هو ان لا علاقة بين الاسم وبين المكان، وان الحيّ ليس له أدنى علاقة بالرئيس الفلسطيني. ولكن شاءت الظروف ان يبقى "حيّ الكراده" حاضرا في الذاكرة، ليؤكد حقيقة ان الحيّ ليس فقط احجارا ودكاكين وشوارع يمكن إعادة عنونتها بقرارات فوقية، بقدر ما هو مكان واقعي حاضن لعلاقات وصراعات واحلام المتواجدين فيه أعوام طويلة.
إنّ أسماء المدن والاحياء جزء من تاريخ البلد، أغلبها شُيد على أسس تاريخيّة او جغرافيّة، بعضها شُيد على اسم شخص معروف أو سوق مشهورة أو حادثة معلومة شكّلت بمرور الأعوام هوية المكان وخصوصيته. بمعنى انها اسماء لها دلالات مختلفة، لم تأتِ من فراغ، صارت جزء من حكاية المكان، تردّدها الذاكرة الشفاهية عن دراية أو جهل. وبالتالي فإن تغيير اسم المكان، من دون ضرورات ملحة ومن دون سؤال الساكنين بالمكان، هو الخطوة الأولى لإضعاف هويته، حتى لو جرى تغليف ذلك بسيلوفان المحافظة على اللغة وبعث الروح القوميّة.
لا أحد منّا يجهل اسم مكانه، وكلنا يدرك ان تغيير اسم المكان والتلاعب بحروفه ونطقه قد يثلم خصوصيته ويقلل من حضوره، ولكنه لا يستطيع اسقاطه نهائيا من ذاكرتنا. ولكن هذه الحقيقة استوطنت فقط ذاكرتنا ولم نستطعْ إيقاف ممارسات السلطة الفوقية في تعديل الأسماء وربطها إكراها بالتاريخ والصراعات الحزبية، كما حدث مع مدينة تكريت التي جرى تغيير اسمها إلى مدينة (صلاح الدين) نسبة إلى صلاح الدين الايوبي. وتحويل محافظة كركوك إلى (محافظة التأميم) نسبة إلى تأميم شركات النفط العراقي. بعض المدن تستوقفنا بسبب الدلالة العميقة والواقعيّة لأسمها، كمدينة "الديوانيّة" التي جرى تحويل اسمها، اثناء الحرب العراقيّة\الإيرانيّة إلى (محافظة القادسيّة) نسبة إلى معركة القادسيّة التي انتصر فيها العرب على الفرس. ولكن صمود القيّم والاجتماعيّة حافظ على الاسم القديم "الديوانيّة" باعتباره جزء من حكاية المدينة، فالذاكرة الشفاهية ما زالت تروي حتى اليوم حكاية نزول الشيخ "حمد آل حمود" عند ضفة الفرات في القرن الثامن عشر، في مكان كان يُسمى "الحسكة". بنى لنفسه يومذاك "ديوانية" تليق بمكانته وبضيوفه، ثم تناثرت بيوت الفلاحين حول ديوانية الشيخ، وعلى ضفتيّ الشط، لتأخذ بعد أعوام اسم مدينة الديوانيّة.
كان تغيير اسماء الأمكنة جزء من تغيّر وانهيار القيّم الاجتماعيّة\السياسيّة في البلد، وايذان بدخوله موجة حروب داخلية وخارجية لا آخر لها، تجلت باحتلال العراق وظهور شرائح سياسيّة جديدة تسرق وتخرب، وفي ذات الوقت تشكو ظلم أربعة عشر قرن. ضحايا الديكتاتور اشاعوا حكاية ان صدام حسين ديكتاتور ومجرم وأن العمل ضده عبادة وخيار وطنيّ، بما فيها تهديم النصب وتغيير أسماء الجسور والاحياء والمدن. ثم سرعان ما كشفت كذبة المظلوميّة التاريخيّة حقيقة ان الضحية حين تمُارس ممارسات جلادها ستكون طبعةً أكثر سوءً، لأنها ستتذكّر ما فعل الجلاد وتنسى ما فعلته هي. وسط الفوضى السياسيّة التي خلّفها الاحتلال أزال الضحايا، سياسيو الصدفة، تماثيل صدام وصوره من الشوارع، غيروا أسماء المستشفيات والجسور والجامعات التي كانت باسمه، وعملوا على محو كل ما يُذكّر بحقبة الديكتاتور. حتى ان بعض المليشيات المسلّحة كانت تبادر من تلقاء نفسها إلى تغيير اسم الشارع والحيّ أكثر من مرة، حسب طبيعة الصراع الذي يفرض هذا الحزب او ذاك. ضحايا الديكتاتور حين يزيلون التماثيل ويغيرون اسماء الأمكنة لا يمارسون عملا عفويا، بل هم يحاولون إحلال ذاكرة محل أخرى. ونستطيع القول انهم فاقوا جلادهم في عملية الاستحواذ على الذاكرة الاجتماعية، وسارعوا إلى تغيير الأسماء والعناوين التي أُطلقت زمن الديكتاتور، وكذلك الأسماء التي سبقت الديكتاتور، قد تكون مدينة الفقراء التي بناها الزعيم عبد الكريم قاسم اسوأ مثال على ذلك. فهي لبست بدلة العمال في حياة الزعيم "مدينة الثورة" ثم لبست الزيتوني في حياة الديكتاتور "مدينة صدام" ثم لبست العمامة مع قدوم الاحتلال "مدينة الصدر" وقد تلبس زياً رابعاً وخامساً في ظل ما يحدث بالعراق، وقد تغيّر في طريقها أسماء أحياء أخرى، فعندما لا يواجه تغيير الأسماء اعتراض سيتبع بعضه بعضا، وستتغير أسماء كثيرة. أردنا القول ان الأسباب السياسيّة والدينيّة هي الأكثر تأثيرا في تغيير أسماء المدن والاحياء، وإذا كان صدام حسين استخدم خطابا قوميّا موشى بمفردات القبيلة، فان ضحاياه كانوا أكثر دهاء، واستخدموا خطابا دينيّا مشحون بمفردات المظلوميّة، ووظّفوا عملية إنعاش الذاكرة لأغراض طائفيّة ليس لها أدنى علاقة بالحفاظ على الذاكرة الاجتماعيّة، ولم تكن مؤسسات الشهداء والسجناء والمغيبين والمعوقين والرفحاويين، سوى تلوين آخر لاستبدال ذاكرة بأخرى، عبر عملية قطع ولصق. لا نأتي بجديد في قولنا ان عراق اليوم غارق في ثقافة القبور، ومن أولوياته بأطلاق أسماء الأئمة والشهداء على الشوارع والمحلات والمستشفيات، لزيادة جرعة الحزن التي غلّفت حياة العراقيين. وتساوقا مع ذلك لبست المحلات التجارية والمؤسسات الخاصة أثواب دينيّة وطائفيّة شتى، بعد أن كانت تحمل أسماء أصحابها، او أسماء مرتبطة بطبيعة المهنة. أما الأسماء المتجذرة التي لم يستطيعوا تغييرها وتوظيفها لجأوا إلى اهمالها وتهميشها واحاطتها بالأزبال، مع إبقاء الاسم فقط، كما يحدث في شارع الرشيد ومساجده وأزقته، على سبيل المثال لا الحصر.
في بلد متعدد الأعراق والاقوام والأديان، كما هو حال العراق، نحتاج بالضرورة إلى هوية وطنية مرنة لا تقف فقط عند السلبي والإيجابي، عند الأبيض والأسود، بل تبحث في مصالح الناس وفيما يدعم هويتهم، بعيدا عن تهديم النصب وتغيير أسماء المدن والاحياء والشوارع، خصوصا وانه لا يوجد ما يؤكد ان هدم التماثيل له أثر إيجابي في ثقافة المواطن، ولا يوجد ما يؤكد ان تغيير أسماء الاحياء والمدن قد أدى إلى تغيير في حياة الساكنين. حتى ان فكرة إنصاف الضحايا والتخفيف من معاناتهم عبر تهديم نصب الديكتاتور وتغيير أسماء المدن والاحياء التي حوت اسمه، فكرة فيها الكثير من السذاجة، خصوصا وان هذه الافعال لا يصاحبها رؤية معمارية او ضرورات اقتصادية او تبريرات مقنعة، بقدر ما ترتبط بثارات شخصية ومصالح سياسية وصراخ عن مظلومية وقعت. والملفت ان الأعلى صوتا بين "المظلومين" المنادين بالهدم وبالتغييرات "الشرعية" غالبا ما يكون بلا تاريخ او ذاكرة، وتراه يتجنب الحديث عن الدروس وأخذ العِبر مما فعله جلادهم في ظروف سابقة.
إنّ عملية هدم، أو تعديل، الذاكرة الاجتماعيّة عملية نسبية لا يصاحبها النجاح دوما، ولكن هذا لا يعني ان فعل الهدم سيمر من دون خسائر على الأرض وفي الذاكرة، فعندما لا تكون محاولات سلب الهوية الاجتماعيّة مؤثرة على المستوى القريب من الزمن، فإنها قد لا تكون كذلك على المستوى البعيد منه، فمن بين الخصال السيئة للإنسان انه يعتاد على الأشياء ويستمتع بالنسيان احيانا. نحن شهدنا بالعراق محاولات تبعيث الأسماء نهاية القرن الماضي، وسط صمت العراقيين، وشهدنا محاولات تسنينها وتشييعها بداية القرن الجاري. وشهدنا كيف سكت المواطن في الماضي بسبب خوفه، ونشهد سكوته اليوم بسبب يأسه ولا أباليته إزاء ما يحدث من خراب وتخريب. نختم بالقول ان الأمكنة لساكنيها، وان الحديث عن الأمكنة هو الحديث عن الجماعات التي تسكنها، وان عملية توظيف المكان، واعتباره امتدادا لهذا الفكر القومي، أو ذاك الديني، من دون الاخذ برأي المعنيين والمعمارين والمؤرخين وكبار السن والساكنين بالمكان، سيكون فيه الكثير من التسلّط على البشر والتجاهل لنشاطهم الاجتماعيّ. فـــ (ماذا تكون المدينة سوى البشر) كما يقول شكسبير.