| الناس | المقالات | الثقافية | ذكريات | المكتبة | كتّاب الناس |
السبت 15 / 8 / 2020 نصير عواد كتابات أخرى للكاتب على موقع الناس
ساعة الانتخابات العراقيّة
لا تدق للجميع
نصير عواد
(موقع الناس)
دعونا نسبق الاحداث بخطوة ونقول ان الكثير من اليساريّين والمدنيّين والديموقراطيّين العراقيّين ما زالوا يشكّكون بخطوات رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي "الترقيعيّة" وبعضهم يحضّر من الآن للتشكيك بالانتخابات القادمة وفرش الأرضية لمقاطعتها، وسوف لن يغلب أحدا في البحث عن المبرّرات التي خلّفتها العمليّة السياسيّة الطائفيّة، تؤكد شكوكه ودعوته للمقاطعة. فبالنظر إلى ما حدث في الدورات الانتخابيّة السابقة، لا غرابة في ان تكون الدورة القادمة مشابهة لها، أو أسوَأ منها، خصوصا وان حظوظ المال السياسيّ والسلاح المنفلت، إضافة إلى الجهل المتفشي بالبلد منذ عقود، ما زالت داعمة لنتائج اية انتخابات قادمة، تقودها وتسيطر على مفوضيتها ذات الأحزاب التي سبق لها ان اجترحت ثقافة سياسيّة مقيتة قائمة على الاستقطاب الطائفيّ، سعت عبرها إلى رشوة فقراء العراق وشراء أصواتهم وصمتهم. وفي ظل هذا الوضع المرتبك سياسيّا وأمنيّا واقتصاديّا، وفي ظل فقدان الثقة المتزايد بين المواطن وبين المؤسّسات السياسيّة والدينيّة والقانونيّة، يتساءل المواطن عن جدوى المشاركة في الانتخابات؛ لِمَن يصوت في غياب البديل؟ وهل الخط الثاني او الثالث للسياسيّين هما أفضل حالا ممن سبقوهم؟ أم ينبغي المقاطعة والجلوس على الطل أعوام أخرى للتفرج على احفاد "بريمر" وهم يغيرون جلودهم ويفعلون ما يشاؤون؟ هذه الأسئلة، وغيرها كثير، تدور في ذهن المواطن بعد ان امست العمليّة السياسيّة الطائفيّة غير قادرة على إنتاج الحلول لمشكلات العراق المتفاقمة، ووضعت المواطن في حالةِ امتحانٍ دائم، فرص الفشل فيه أكثر من فرص النجاح. على الجهة الأخرى للأزمة، لا وجود لمقدمات ثوريّة لتغيير جذري للأوضاع بالعراق، بعد ان تم تقويض الحياة السياسيّة طوال نصف قرن. ولا توجد ظروف مهيئة لتغييرٍ فوقيّ عبر انقلاب عسكريّ، بعد انتشار السلاح وتكاثر الفصائل المسلّحة. ولا توجد قناعة بالتغييرات التي تأتي من خلف الحدود، بعد ان أدت كلها إلى إضعاف وتدمير البلد. وبالتالي ليس لدينا سوى عملية سياسيّة طائفيّة مُهلْهلة، وديموقراطيّة صورية وضع أسسها المحتل، تسمح بهامشٍ ضعيف للوطنيّين العراقيّين بأحداث تغيير بسيط يُلهيهم عما هم فيه.
بعيدا عن المزاح، أعلن قادة أحزاب السلطة بالعراق انهم يدعمون الانتخابات ومطالب المتظاهرين في العمل وتحسين مستوى المعيشة وإعادة هيبة الدولة، في لفتة لا يمكن وصفها من دون ابتسامة صغيرة. الطبقة السياسيّة العراقيّة، الّتي تعوّل على ضعف ذاكرة العراقيّين، لم تكتفِ بالترحيب بالانتخابات، بل ذهبت للمزايدة؛ بعضهم يريدها انتخابات "مبكرة" والبعض الآخر يريدها "أبكر" في حين انهم يضمرون مواقف غير معلنة يتم تداولها خلف الأبواب المغلقة تناقض ذلك الترحيب، مواقف مغلفة بحجج عدم اكتمال قانون الانتخابات وبغياب التعداد السكانيّ وبانفلات السلاح، وغيرها من الحجج والعراقيل التي هم سببها بالأساس. إن السطو بهذه الطريقة الهزليّة على معاناة العراقيّين ومطالب المتظاهرين ودماء الشهداء يشير إلى ضحالة ما نحن فيه، فهذه النخب الحاكمة كانت حتى الامس القريب تسخر من المتظاهرين وتكيل لهم تهم العمالة والشذوذ، وتنشر بينهم مجموعات لنشر الفوضى، وتعمل على اصطياد الناشطين منهم. على ما يبدو إن نجاح التظاهرات في الصمود واسقاط حكومة عادل عبد المهدي الذيليّة وتحقيق بعض المطالب صنع لها آباء كثر، يتماهون مع خطابها ويدعمون مطالبها، لا حبا بها واحتراما لشهدائها، ولكنهم يناورون لغرض اختراق صفوفها استعدادا للانتخابات القادمة. إنّ ترحيب احزاب السلطة المزيف بتحديد تاريخ الانتخابات القادمة يحتوي مخاوفهم من فقدان شرعيتهم السياسيّة، فلقد أدركوا انهم باتوا أعجز وأعجز عن تعديل ميزان القوى، وان مطالب وشعارات المتظاهرين التي فضحت فسادهم سيكون لها تأثير بالانتخابات القادمة، وان النسب العددية التي حصلوا عليها في الجولات الانتخابيّة السابقة قد لا يحصلون عليها في المرة القادمة. الجزء الآخر من الترحيب المصطنع بالانتخابات القادمة يشير إلى ان أحزاب السلطة ما زال لديها القدرة على المناورة والتمهيد لجمع قواهم المبعثرة استعدادا للانتخابات القادمة. وسيتحركون، كما فعلوا في الانتخابات السابقة، لاستمالة شخصيات دينيّة ورؤساء قبائل، وتجنيد أساتذة وأكاديميين بصفة "مستقلين" وتشكيل جماعات ضغط إعلاميّة. كل ذلك مدعوم سلفا بالمال السياسيّ وبسلاح المليشيّات، معطوف على الخبرة الإيرانية في شراء الذمم وجمع ما لا يجتمع، كما لموا "نوري المالكي وخميس الخنجر".
من خارج المشهد يبدو العراق مجتمعاً طائفيّاً لا يمكن اختراقه او اصلاحه، ولكن أعوام الفشل والتدافع على الغنائم ترك أثاره على أكتاف المشهد؛ انشقاقات حزبيّة ونكوص جماهيريّ وتخبطات ناتجة عن خلل في بنية وسياسة الاحزاب الحاكمة. ولكن مع ذلك يبقى المشهد ضبابيّا، يعطي الانطباع بأن الانتخابات ليست حلا لعراق اليوم، وان التغيير المتوقع لا تتجاوز نسبته (15%) في أحسن الاحوال. فالمشهد السياسيّ العام لا يطمئن احدا، وان أسباب الأزمات التي خرّبت العراق ما زالت ماثلة في الشارع، وليس لدينا سوى خطوات خجولة بادر إليها رئيس الوزراء "مصطفى الكاظمي" لم ترقَ إلى مصافِ الحلول الوطنيّة، لم تواجه الفساد ولم تقلّل من انفلات السلاح. ووسط هذا الغموض لا توجد لدينا بدائل كثيرة، ولذلك نمسك بخيط الانتخابات القادمة، ونحن في حالة تلفت دائم. فلقد دلّتنا التجارب السابقة كيف أدّى العزوف عن الانتخابات إلى فسحِ المجال للطائفيّين وأمراء الحروب في ان يتصدروا المشهد السياسيّ من جديد، واستمرار الوضع المتأزم على ما هو عليه أعوام طوال. ونرى، في حال اكتمال قانون الانتخابات واستتباب الامن والظروف المناسبة لأقامة الانتخابات، عدم الاكتفاء بالتذمّر وكيل الشتائم للسياسيّين وفضح سرقاتهم واجترار التحليلات عن الدور المؤذي للقوى الإقليميّة، علينا كذلك التركيز على ما بأيدينا من أوراق نعمق فيها الشعور الوطني وننقذ ما يمكن انقاذه. علينا اجتراح الخطط التي تمكننا من الوصول إلى الشرائح الأكثر تضرّرا من العمليّة السياسيّة الطائفيّة ودعوتهم لانتخاب أصحاب المشاريع الوطنيّة، وأن نفكر مليّا في كيفية اقناع المتردّدين بجدوى الانتخابات، وان نتواجد بكثافة في منابر الآخرين ونصنع منظومة علاقات مع الفقراء الذين دخلوا من الأبواب الخلفية للأحزاب الطائفيّة. فالشعب العراقيّ تعرض إلى عملية تجهيل طويلة، صار يجفل من المصطلحات والأفكار الغريبة عنه، يخاف مشاريع العنف التي ما زال يدفع اثمانها. بالطبع ستتعرض هذه الخطوات إلى نجاحات وإخفاقات، إلى شتائم وسخريات، إلى اتهامات واغتيالات، ولكن ليس لنا سوى الاستمرار، فكسب الأصوات القليلة له ثقله في فترة الانتخابات. أردنا القول ان التغيير ينبغي ان يبدأ منّا نحن الذين ابتلينا بالتذمر والتشكيك والاعتراض على كل شيء. ولو كان كل منّا يخطو خطوة واحدة للأمام، يتحدث فيها إلى عائلته وأصدقائه وجيرانه لحققنا خطوات صغيرات، لكن مذهلات. خطوات يمكن توظيفها لمصلحة العمليّة الانتخابيّة القادمة التي يستعد لها الجميع. والشيء بالشيء يُذكر، عندما خرج الحزب الشيوعيّ العراقيّ خال الوفاض من الانتخابات الأولى والثانية تحدث أحد المناضلين الدراويش بمرارة قائلا (لو ان عوائل الشهداء فقط خرجوا للتصويت لحصل الحزب على مقعدين في البرلمان) وهذه الجملة المؤلمة تشير بوضوح إلى ان الحزب كان بعيدا عن الشارع، وانه لم يستعِن حتى بأقرب الناس إليه.
واحدة من مشكلاتنا الفكريّة، وهنّ كُثر، اننا كنّا نتعامل مع الواقع العراقيّ كما هو في افكارنا ومخيّلاتنا، وليس كما هو على الأرض. متوسلين فقط لونيّ الأبيض والأسود للقفز مباشرة إلى الأهداف والحلول الجذريّة. ولذلك لا غرابة في اننا لم نتأمل كثيرا الجملة المثيرة للمفكر الفرنسي "جوزيف برودون" في قوله (المهم الحركة وليس الهدف) وكنّا قد وصمناه أيام المد الثوريّ بجملة "البرجوازيّ الصغير" التي كان كارل ماركس قد نعته بها في مؤلفه "بؤس الفلسفة" على الرغم من ان الرجل، برودون، وقف في الصفوف الأماميّة لمواجهة البرجوازيّة الفرنسيّة، سُجن ونُفي بسبب ذلك. أردنا القول انه في بلد مثل العراق، تم تدميره بالكامل، علينا العمل أولا، قبل التفكير بالتغيير الجذري وبالأهداف النهائيّة. علينا العمل من القاعدة لا من القمة. فالشارع يعلمنا كل يوم ان الحركة هي الفعل، وأن فيها بعض من ملامح الهدف. ويعلمنا أيضا ان القفز إلى الهدف النهائي والادعاء بالتغيير الجذري فيه عجالة، وغطرسة، لأن الواقع العراقيّ اشبه بالرمال المتحركة التي لا تثبت عليها المواقف ولا تنطبق عليها المفاهيم. عراقٌ ليس فيه شكل محدّد للصراع السياسيّ/الاجتماعيّ، ليس فيه رجال دولة او رجال دين يمكن محاورتهم بالعقل، وليس فيه أحزاب يمكن مسائلتها عن برامجها ومصادر تمويلها. لدينا شيء آخر، شيء مختلف عن حواضنه السياسيّة/الطائفيّة بإيران ولبنان، شيء لزج وراكد لا يمكن فهمه حتى في حال التعامل معه يوم بيوم، يعطي الانطباع أحيانا بضعف الديناميكيّة الاجتماعيّة المنتجة للحلول. ومن يتحدث عن فهمه الكامل للواقع العراقيّ، وعن قدرته في التغيير الجذري لهذا الواقع، عليه التريث قليلا لأنه سيصطدم لا محالة بواقع سرياليّ مرير، تتكدس فيه كل عناصر الإيمان والفوضى والعنف. فالكل بات يعرف ان العراق يعيش ازمة مستفحلة، فيه أضواء باهتة تشير إلى الطريق، وفيه احزاب تعيش حالة تخادم في المصالح لا تناغم في السياسات، يخفي ذلك تدافع وتوترات داخليّة تنعكس على أمن واستقرار الشارع العراقيّ، كامنة وجاهزة فيه كل عناصر الحرب الاهليّة. وفي مثل هذا المأزق البالغ التعقيد يكون اللجوء إلى السلاح، كشكل ما اشكال الحلول الجذرية، هو الدفع بها للأسوَأ. فباستثناء المليشيّات المسلّحة وأمراء الحرب والذيول المرتبطين بأجندات خارجيّة، ليس بمستطاع العراقيّين، ولا من مصلحتهم كذلك، الذهاب إلى الحرب، سيما وهم يسمعون أخبار الجارة سوريا كل يوم. إنّ مشكلة العراق المزمنة ليس فقط سببها الأحزاب السياسيّة المتحاصصة طائفيّا وعرقيّا، وليس فقط الأطراف الاقليميّة والدوليّة، المشكلة أعمق من ذلك بكثير، وإذا أردنا الخوض في مفردات كــ "الفساد والعنف وتدهور الحياة السياسيّة" يتعين علينا استحضار تاريخ الدولة العراقيّة التي لم تستطِع فيه التناغم مع والاستجابة لطموحات العراقيّين.
إنّ ابتعاد الوطنيّين عن بعضهم البعض، وتصادم خطاباتهم السياسيّة احيانا، ساهم من جانبه في ارباك الشارع العراقي. وهناك الكثير من اليساريّين، الذين ناضلوا وضحّوا من أجل شعبهم، لم يصغوا بعمقٍ إلى ما يحدث بالشارع، واستمروا يختلفون فيما بينهم على أصغر التفاصيل، الأمر الذي انعكس على ضعف الأداء العام. على الأرض يمكن تفهم خلاف اليساريّين الدائم مع أحزاب السلطة التي نهبت البلد ودمرت مستقبل أبنائه، ولكن كيف يمكن فهم الخلاف المتجدد، عن حرصٍ يدعي اصحابه، مع المتظاهرين الذين ينزفون دما وعرقا في سوح التظاهر. تارة يختلفون معهم على الشعارات المرفوعة وتارة أخرى على الوجوه التي يفرزها الحراك، وثالثة على غياب المشروع والقيادات واللجان التي تنضم العمل. في حين كان على اليساريّين دعم التظاهرات دون شروط وجعلها بوابتهم للتغيير المنشود، عليهم عرض وجهات نظرهم بتواضع واحترام للواقفين عند الساتر الأول. فمن ينزف ويصمد شهور طوال، في حر الـــ وبرد الــ، ليس عاجزا عن فهم ما يجري حوله واتخاذ قرار بشأنه. فلقد اثبتت الأيام ان سوح التظاهر مدارس للشجاعة والثقافة والوعيّ الوطنيّ، وان المتظاهرين يدركون وضعهم أفضل منّا ومن الأحزاب المعزولة ومن المثقفين الذين يتحاورون في غرف بعيدة. فهم، المتظاهرون، لم يتعجلوا في عرض مواقفهم، ولم يرفعوا شعارا إلا وله أسبابه على الأرض، ولم يركضوا خلف عظمة تلقيها عادة أحزاب السلطة لرعاياها. وكانت تحركهم حاجات سوح التظاهر قبل ان تحركهم المواقف الشخصيّة والتوجيهات السياسيّة، الأمر الذي جعل التظاهرات أقل ميلا للأحزاب، وأكثر شفافيّة واحترام لوجهات النظر المختلفة، وبالتالي أكثر قدرة على الاستمرار.